معاينة CIA

أدوات الإمبراطورية

  • مراجعة لكتاب هيو ويلفورد «وكالة الاستخبارات المركزية: تاريخ إمبراطوري» الذي يعد تصحيحاً للسرديات التبريرية عن وكالة الاستخبارات المركزية، متتبعاً جذورها منذ بداياتها في قمع التمرّد ضد الاستعماري الوحشي في الفلبين وصولاً إلى تحوّلها بعد الحرب العالمية الثانية إلى الذراع السرية لواشنطن في الحفاظ على الهيمنة العالمية.

يكثر في حقل الدراسات التاريخية المتعلقة بأجهزة الاستخبارات الانحيازُ الأيديولوجيّ وضيق الرؤية. وفي السياق الأميركي تحديداً، تسود رواية مفادُها أن التفويض الديمقراطي الذي تأسست بموجبه وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه)، عبر قانون الأمن القومي للعام 1947، قد تعرّض لإساءة استخدام متكرّرة من رؤساء أميركيين متعاقبين، أوعزوا إلى عناصر الوكالة بتنفيذ عمليات الإطاحة بحكومات أجنبية، واغتيال الخصوم السياسيين، وانتزاع المعلومات بالتعذيب، فأفسدوا بذلك مهمّتها الأصلية المتمثّلة في جمع المعلومات وتحليلها. هذه الرواية نفسها أعاد سردَها المؤرخ رودري جيفريز-جونز، من جامعة إدنبرة، في كتابه الذي أعيد طبعه مراراً: «وكالة الاستخبارات المركزية والديمقراطية الأميركية» (1989)، وأعمال أخرى له. كما تتكرّر الفكرة الجوهرية ذاتها عند مؤرخين آخرين يُفترض فيهم قدر أكبر من الحس النقدي، من أمثال ريتشارد إيمرمان في كتابه «اليد الخفية» (2014)، أو بأسلوب أجرأ وأوقع في كتاب تيم وينر، الصحافي في نيويورك تايمز، «إرث من رماد» (2007).

ينطلق كتاب هيو ويلفورد «وكالة الاستخبارات المركزية: تاريخ إمبراطوري» من نقطة تفترق عن السائد في هذا الحقل. يرى ويلفورد أنّ الكثير قد كُتب عن تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية، وكُتِب أكثر منها عن تاريخ الإمبراطورية الأميركية، لكن قلّما نجد محاولات لقراءة هذين التاريخين في علاقة واحدهما بالآخر. هدفه، إذن، هو جمع التاريخين معاً، لتعميق فهمنا لكل منهما. وهذا الكتاب خامس دراسات ويلفورد عن وكالة الاستخبارات الأميركية في حقبة الحرب الباردة، وأكثرُها اتساعاً حتى الآن. وحاله حال كل مؤرخي جهاز الاستخبارات الأميركي، اضطر ويلفورد إلى الالتفاف حول حقيقة أنّ المصدر الأغنى (أرشيف الوكالة الرسمي) لا يزال في معظمه مغلقاً وبعيداً من متناول الباحثين. لذا، لجأ إلى منهجية خاصة تقوم على القراءة المكثّفة للمذكرات الشخصية والأوراق الخاصة، والوثائق الصادرة عن البنتاغون والمخابرات البريطانية، لتكوين سردٍ تفصيلي ودقيق يتمحور حول شخصيات فردية عملت في نقطة التقاطع بين السلطة السياسية السرية والممارسة الثقافية. وُلد ويلفورد في بريطانيا، وحصل على الدكتوراه من جامعة إكستر، عن موضوع الأوساط الفكرية المتحلقة حول مجلة بارتيزان ريفيو (Partisan Review)، في أثناء تحوّلها بعد الحرب العالمية الثانية نحو معاداة الشيوعية، والانخراط مع «مجلس الحرية الثقافية» (Congress for Cultural Freedom). نُشرت أطروحته في العام 1995 تحت عنوان «مثقفو نيويورك: من الطليعة إلى المؤسسة». وانتقل ويلفورد بُعيدها إلى جامعة كاليفورنيا في لونغ بيتش، وفيها يواصل التدريس إلى يومنا هذا. أما كتابه الثاني، «وكالة الاستخبارات المركزية، واليسار البريطاني، والحرب الباردة» (2003)، فقد تناول أطلسية رموز بارزة من يمين حزب العمال البريطاني من أمثال غيتسكل وكروسلاند. أما كتابه الأشهر «الأورغن العظيم» (2008)، فقد تناول المنظمات (الواجهات) الثقافية التي أمكن لوكالة الاستخبارات المركزية، حسبما يتفاخر أحد كبار مسؤوليها، أن تعزف عليها أي لحن تريد. ثم صدر له كتاب «اللعبة الأميركية الكبرى» (2013)، ويستكشف فيه العصر الذهبي القصير لمستعربي وكالة الاستخبارات في الخمسينيات، قبل أن تتحوّل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالكامل إلى الالتصاق بالصهيونية.

بدأت التقاليد الاستخباراتية والعسكرية الأميركية المحلية مع تقارير المستطلعين والجواسيس في «الأراضي الهندية»، وتعمّقت على يد طوبوغرافيي الجيش وقوات الاستطلاع والعملاء المحليين الذين سهّلوا الاستيلاء على أراض شاسعة في الحرب المكسيكية في العام 

في كتابه «وكالة الاستخبارات المركزية: تاريخ إمبراطوري»، يتخلّص هيو ويلفورد من الخرافة القائلة إنّ دولة الأمن القومي الأميركي جاءت مجرد ردّ فعل دفاعي على هجوم بيرل هاربر أو التوسع السوفياتي. إذ على الرغم من التاريخ الطويل للولايات المتحدة في «إنكار الإمبراطورية»، يرى ويلفورد أنّ جذور التوسع الإمبراطوري الأميركي تعود إلى الاستعمار الاستيطاني لأوائل المهاجرين الأوروبيين. فقد بدأت التقاليد الاستخباراتية والعسكرية الأميركية المحلية مع تقارير المستطلعين والجواسيس في «الأراضي الهندية»، وتعمّقت على يد طوبوغرافيي الجيش وقوات الاستطلاع والعملاء المحليين الذين سهّلوا الاستيلاء على أراض شاسعة في الحرب المكسيكية في العام 1846. كما كان لتحليل المعلومات المجمّعة من استجواب جنود الكونفدرالية والعبيد الهاربين دور حاسم في تحقيق انتصارات جيش الاتحاد في غيتيسبيرغ وأبوماتوكس. لكن يرى ويلفورد أن تشكّل بيروقراطية استخباراتية أميركية حديثة بدأ مع الإمبريالية الجديدة في تسعينيات القرن التاسع عشر، بالتزامن مع تصاعد حدّة النضالات العمالية محلياً. يبدأ كتابه بمشهد بانورامي لممارسات الاستخبارات الاستعمارية الأوروبية في تلك الحقبة، من الهند البريطانية وترانسڨال إلى الهند الصينية الفرنسية ومدغشقر ومنطقة الريف المغربي. وحين دخلت الولايات المتحدة الساحة بضمّ الفلبين في العام 1898، كانت تُعيد في بعض الجوانب إنتاج أساليب غزوها السابقة لأراضي السكان الأصليين: من النقل القسري، والاستجواب تحت التعذيب، إلى المذابح الجماعية للسكان العزّل؛ لكنها أضافت إلى ذلك استحواذها على مؤسسات الاستعمار الإسباني القائمة وشبكات الشرطة والسجون. قاد هذه الجهود الاستخباراتية ضابط عسكري متخرّج من هارفارد يُدعى رالف فان ديمان، وكان قد تسيّس في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر كمعارض شرس لإضرابات عمال المناجم الأميركيين. وفي مانيلا، تولى فان ديمان سجلات الشرطة الاستعمارية ليؤسس قاعدة بيانات ضخمة على شكل بطاقات تعريفية بالمقاومة الفلبينية، مكوّناً بذلك أول وحدة استخبارات أميركية خارجية، وواضعاً في الوقت نفسه الأساس لما يسمّيه ويلفورد دولة الرقابة الاستعمارية.

حين عاد فان ديمان إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، بدأ بإقناع رؤسائه في الجيش بضرورة إنشاء جهاز استخبارات مركزي، على غرار ما شرعت بريطانيا في تأسيسه عبر مكتب الخدمات السرية. ومع استعداد إدارة ويلسون لخوض الحرب في أوروبا في العام 1917، عُيّن فان ديمان رئيساً لجهاز الاستخبارات العسكرية الأميركية حديث النشأة، وأقام ضمن هذا الجهاز مجموعة من الوحدات المتخصّصة بجمع المعلومات والترجمة وفك الشيفرات، والإشراف على المُلحقين العسكريين في السفارات الأميركية، وإجراء الدراسات الأمنية لأفراد في الجيش والحكومة بحثاً عن عناصر تخريبية من أصول ألمانية أو إيرلندية أو أفريقية، مستلهِماً في ذلك نماذج فرنسية وبريطانية. ويجادل ويلفورد بأنّ التجربة الإمبراطورية لهذا الجيل الأول من ضباط الاستخبارات الخارجية كانت بالغة الأهمية لخلفائهم في الأربعينيات. فقد بدأ مكتب الخدمات الاستراتيجية، المؤسّس في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم وكالة الاستخبارات المركزية منذ العام 1947، بصفته جهازاً عصبياً مركزياً لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة، بتوظيف نخبة أنغلوفيلية تربّت في معاهد غروتون وهارفارد وسواهما. وكان هؤلاء الرجال الأوائل في وكالة الاستخبارات المركزية يعارضون الاستعمار معارضة فاترة (على الطريقة الأميركية)، ولكنهم كانوا أشد معاداة للشيوعية، وقد نشأوا على قراءة رواية كيبلينغ «كيم»، وكتاب لورنس «أعمدة الحكمة السبعة»، ولذلك شعروا بألفة تامّة في الڨيلات ذات الأعمدة والأروقة الفاخرة، ونوادي النخبة والفنادق الفخمة في بيروت (فندق سان جورج)، والقاهرة (نادي الجزيرة الرياضي)، وسايغون (فندق كونتيننتال)، بُعَيد أن غادرها كل من الفرنسيين والبريطانيين.

وفي الوقت ذاته، يرى ويلفورد وجود أسبابٍ بنيوية جعلت وكالة الاستخبارات المركزية تؤدي دور رأس الحربة في ما يُسمّيه «الإمبراطورية السرّية» لأميركا. وجوهر أطروحته أنّ واشنطن، حين سعت لإدارة الدول الجديدة الناشئة عن الحكم الاستعماري الأوروبي، كانت مقيّدة بعاملين رئيسيّين هما الخوف من إشعال حرب نووية مع موسكو، والموقف الشعبي الأميركي الرافض علناً للاستعمار. وبالتالي كان اللجوء إلى العمل السرّي جزءاً من الحلّ، أي استخدام وكالة الاستخبارات المركزية لدعم الأنظمة الموالية لواشنطن وسحق القوى اليسارية الساعية للسيادة الوطنية. ويدعم ويلفورد هذه الأطروحة من خلال تحليل يجمع بين البُعدين المؤسسي والتاريخي لوظائف وكالة الاستخبارات المتعدّدة، بدءاً من مهمتها الأساسية المتمثلة في توفير معلومات استخباراتية عالمية للحكومة الأميركية. وعلى الرغم من التوسع الهائل لقسم العمليات السرّية في الوكالة إبان رئاسة كل من ترومان وأيزنهاور وكينيدي، إذ نما عدد قواعده من 7 في العام 1949 إلى 47 قاعدة في العام 1962، مع توظيف آلاف الموظفين والمتعاقدين، ظلّت الوحدة المركزية المعنية بتحليل المعلومات الاستخباراتية، المعروفة باسم «مكتب التقديرات الوطنية»، صغيرة الحجم ومحدودة العدد. إذ ضمّت حوالي 20 موظفاً فحسب، الكثير منهم اختيروا من جامعة ييل، حيث كان رئيس المكتب، شيرمان كِنت، يدرّس التاريخ الفرنسي قبل انضمامه إلى مكتب الخدمات الاستراتيجية في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت مهمتهم جمع المعلومات الإقليمية الواردة من ضباط الميدان وتحليلها، وصياغة تقارير إحاطة دورية تُقدّم إلى البيت الأبيض.

درّب ضبّاط الميدان، العاملون غالباً تحت ستار مناصب دبلوماسية في السفارة الأميركية، على استقطابِ شبكات من العملاء المحلّيين يرفدونهم بالمادة المطلوبة، فينتقون من أبناء البلد من يتيسّر له النفاذ إلى معلومات قيّمة - وزير حديث العهد أو ضابط في الجيش - ليرفعوها إلى مقرّ الوكالة. تمثّل التحدي الرئيس أمام هؤلاء في اقتناص مكامن ضعف العميل المحتمل ثمّ ابتكار السبل لاستغلالها، مع التنبّه الدائم لإمكان أن يكون المجنّد مزروع من العدوّ؛ ويعدّد دليل التدريب أبرز تكتيكات التجنيد بداية من المال مروراً بالابتزاز والإقناع الأيديولوجي وصولاً إلى التلاعب النفسي. ومرحلةُ التجنيد «أدقّ المراحل وأخطرها». فإذا قَبِل المستهدف تزويدهم بالمعلومات لقاء مال أو غيره، عُرِض على اختبارات تمحيص، ثم يُلقَن أصول التجسس، و«يستمر التعامل معه» أعواماً مديدة، حتّى يحين أوان الاستغناء عنه. وكان التورّط الوجداني مع العملاء أحد المخاطر الوظيفية على ضبّاط الميدان؛ إذ شبّه بعضهم تلك العلاقة بفتحٍ جنسي، ورآها آخرون ضرباً من الزواج، حسبما ينقل ويلفورد.

كان الدور السياسي لرئيس مكتب الـ«سي آي إيه» دور إمبراطوري مباشر، أو بتعبير نكروما دور «نيوكولونيالي»، إذ كان بمثابة قنصل غير رسمي. دأب رئيس مكتب الكونغو لاري دفلن على تناول الفطور كلّ صباح مع موبوتو، ذلك المستبد الفاسد، وفي الوقت نفسه تحويل البلاد إلى منصّة لعمليّات سرّية في أنغولا وجنوب أفريقيا وغيرها؛ قدّم الـ«سي آي إيه» الإخبارية التي أودت بمانديلا إلى السجن 27 عاماً. وفي الأردن، تقرّب جاك أوكونل، رئيس المكتب هناك، من الملك حسين الفتي حتى غدا موضع سرّه. أما في المكسيك العاصمة، فقد أقام وينستون سكوت صلته بالحزب الثوري المؤسّسي عبر «المال والمزاملة»، فابتاع سيّارات فارهة لعشيقات الوزراء. أمّا في الفلبين، فصبّ إدوارد لانسديل دولارات الوكالة في حملة رئاسيّة لرامون ماغسايساي، وكتب خطاباته، واقتنى له نشيداً إذاعياً جذّاباً بعنوان «مامبو ماغسايساي»؛ فكان اكتساح انتخابي هلّلت له صحافة أميركيّة بتدبير من الـ«سي آي إيه». (وقد كتب لانسديل إلى رؤسائه: «يا له من شرف أن نكذّب القائل إنّ الأبيض انتهى أمره في آسيا؛ نحن بالكاد بدأنا!». وبعد عقدٍ واحد، رأيناه يدعم نظام نغو دينه ديم في جنوب فيتنام. يصوّره ويلفورد يقضي عطلته على شاطئ قرب سايغون برفقة عشيقته الفلبينية والرئيس ونهو شقيق ديم والسيدة نهو ذائعة الصيت: «تتراشق النسوة بالماء وسط الموج والأميركي يلهو بلعبة «سكربل» مع نهو، فيما ديم يغطّ في سبات». وفي القاهرة، صاغ كيرميت «كيم» روزفلت (حفيد تيدي روزفلت) مذكّرة لعبد الناصر والضبّاط الأحرار عنوانها «ملاحظاتٌ في كيف تكون رئيس وزراء مصر»، وقد فعل لانسديل الأمر عينه لديم في سايغون.

كان اللجوء إلى العمل السرّي جزءاً من الحلّ، أي استخدام وكالة الاستخبارات المركزية لدعم الأنظمة الموالية لواشنطن وسحق القوى اليسارية الساعية للسيادة الوطنية

ارتهن بقاء هذه الأنظمة الموالية للولايات المتحدة بتعزيز أجهزتها الأمنية. لذا، ساعدتها وكالة الاستخبارات المركزية بالتمويل والتدريب، مستعينةً بخبرات قسم الإدارة الشرطية في جامعة ولاية ميشيغان لتحويل وحدات الحراسة المحلية إلى فرق موت محترفة قادرة على إرهاب المجتمع الريفي وتجنيد شبكاتها من المخبرين. وفي أنحاء أميركا اللاتينية والشرق الأوسط ووسط أفريقيا وجنوب شرق آسيا، زوّدت الوكالة الديكتاتوريات المحلية بمعلومات عن «المشتبه فيهم بالشيوعية»، مساعدةً إياها بتقنيات التنصت والمراقبة. وعلى الرغم من أنّ ويلفورد لا يستقصي هذه الصلات، فهو ينوّه إلى أنّ جهاز الموساد أدى دور «وكيل إقليمي» لأعمال مكافحة التمرد التابعة للوكالة، فدرّب الشرطة السياسية لحكومة هيلا سيلاسي وجلاوزة ساواک (منظمة الاستخبارات والأمن القومي) لدى الشاه. وكانت النتيجة الطبيعية لدعم الأنظمة الموالية لأميركا انقلاباتٌ نسقتها وكالة الاستخبارات للإطاحة بحكوماتٍ (منها حكومة مصدّق في إيران وحكومة أربينز في غواتيمالا) فضّلت مشروعات قومية-شعبية، مثل تأميم النفط أو الإصلاح الزراعي، على المصالح الأميركية. ويقدّم كتاب «وكالة الاستخبارات المركزية: تاريخ إمبراطوري» سرداً مفصّلاً لمؤامرات كيم روزفلت في إيران صيف العام 1953، إذ موّل جماعة لتقمّص دور مثيري الشغب الشيوعيين بهدف استثارة غضب جماعة إسلامية مضادة، فيما صوّرت صحيفة أميركية مخلصة إيران دولة «غير مستقرة بشكل خطير». ونُفّذ السيناريو نفسه في غواتيمالا.

تسببت فشل الهجوم على خليج الخنازير المدعوم من الوكالة بهدف الإطاحة بحكومة كاسترو بأول شرخٍ داخلي في درع الإمبراطورية السرية. بات يُذكر اسم «سي آي إيه» ويلقّى اللوم عليها صراحة في كتب مثل «استمع أيها اليانكي» لصموئيل رايت ميلز (1960). وانكشفت عباءة السرية حين نظم مناصرون لكوبا (من أمثال دبليو. إي. ب. دو بوا ومايا أنجيلو) اعتصامات أمام مقرها الجديد في لانغلي بولاية فيرجينيا. وفي فيتنام، كان برنامج فينيكس التابع للوكالة «مجزرة من التعذيب والاغتيالات»، واحتاجت جهودها في مكافحة التمرد إلى مزيد ومزيد من الدعم العسكري، حتى تحوّل الأمر إلى حرب شاملة. ثم كشفت مجلة رامبارتس، في العام 1967، سلسلة من الفضائح المتعلقة بالوكالة. وفي أوائل السبعينيات «دخلت معارضة الإمبريالية التيار السائد»، كما يكتب ويلفورد: نشرت واشنطن بوست أوراق البنتاغون، ونشرت نيويورك تايمز تقرير سايمور هيرش عن اختراق الوكالة لحركة الاحتجاج الطلابية ضد الحرب - وهي جوانب من «تأثير الارتداد الإمبراطوري» رصدتها آنا آرندت وإيمي سيزير. وبلغ نقد المؤسسة ذروته في لجنة تشيرش بمجلس الشيوخ التي فرضت على الوكالة سلسلة ضوابط، منها حظر الاغتيالات (دام وقتاً قصيراً). أعلن السيناتور تشيرش: «لا نحتاج إلى فوج من رجال العباءة والخنجر، يكسبون ترقياتهم بخطط مغامراتت جديدة في أنحاء العالم».

إنّ زيادة الرقابة الإعلامية والكونغرسية دفعت الوكالة إلى تفويض عمليّاتها «الإمبراطورية السرية» إلى متعهدين خارجيين، كما فعلت إدارة ريغان حين وجّهت تمويلاً سرّياً لعصابات الكونترا المعادية للشيوعية للإطاحة بالحكومة الساندينية في نيكاراغوا

لن تمنع هذه التحذيرات عملية الكوندور السرّية المدعومة من الوكالة، تلك الشبكة المسؤولة عن التعذيب و«إخفاء» اليساريين في أميركا اللاتينية ممن شهدوا رمي قادة الطلاب والنقابات من مروحيات عسكرية فوق مخروط الجنوب. ولن تردع كارتر وبريجنسكي عن إرسال مدرّبين من الوكالة وأموال وسلاح إلى جبال الهندو كوش. بل إنّ زيادة الرقابة الإعلامية والكونغرسية دفعت الوكالة إلى تفويض عمليّاتها «الإمبراطورية السرية» إلى متعهدين خارجيين، كما فعلت إدارة ريغان حين وجّهت تمويلاً سرّياً لعصابات الكونترا المعادية للشيوعية للإطاحة بالحكومة الساندينية في نيكاراغوا، تحت إشراف العقيد أوليفر نورث عضو مجلس الأمن القومي. وعيّن ريغان مديراً متشدداً للاستخبارات المركزية، بيل كيسي، فأعاد هيكلة واجهات الوكالة المشبوهة وأسّس مؤسسات جديدة منها «الوقف الوطني للديمقراطية» و«مؤسسة آسيا». ومن خلال الفاتيكان، نُقِلَت الأموال إلى زعيم النقابات ليخ فاونسا ومجموعات «تضامن» (Solidarnosč) المدعومة من الكنيسة في بولندا؛ ولم توجه بطبيعة الحال إلى نقابيّي البرازيل من أمثال لولا دا سيلفا ولا إلى شبكات لاهوت التحرير.

أفضى انتصار أميركا في الحرب الباردة إلى إعادة تقييم الدعم لبعض المفضّلين لدى الـ«سي آي إيه»، كموبوتو وسوهارتو؛ فقد كانا ذات يوم ركيزتي «العالم الحرّ»، قبل أن يُنظر إليهما اليوم كديكتاتورين متقادمين يرفضان مجاراة العصر. ومع تعرض مقرّ لانغلي لخفض متكرر في الميزانية وتعاقب 5 مديرين جدد في 7 سنوات، شرعت الوكالة بحذر في فتح ملفات محدودة لتمكين التقييم المبدئي. وبحسب تقدير ورد في كتاب ليندسي أوروك «تغيير الأنظمة السري» (2018)، لم يكلّل سوى 39% من العمليات السرّية بالنجاح. وكان سجل الاستخبارات متبايناً، إذ أخفقت الـ«سي آي إيه» في توقع القنبلة السوفياتية والثورة الصينية والحرب الكورية وأزمة الصواريخ الكوبية والثورة الإيرانية وتفكك الاتحاد السوفياتي، كما لم تتنبأ بأحداث 11 أيلول/سبتمبر ولا الربيع العربي ولا 7 أكتوبر. وعلى الرغم من ذلك، كان بإمكان أسياد الجاسوسية الإشارة إلى دور الوكالة في ترسيخ الاستقرار بعد الحرب في إيطاليا واليابان عبر دعم الديمقراطيين المسيحيين والحزب الليبرالي الديمقراطي؛ وفي تراجع القومية العربية وتقوية الأنظمة الأمنية التي جعلت الشرق الأوسط موقعاً آمناً لإسرائيل؛ وفي القضاء على الحزب الشيوعي الإندونيسي وتعزيز الحكم المحافظ في تايلاند والفلبين، مع الإقرار بهزائمها في فيتنام وكمبوديا ولاوس. ولئن «ضاعت» كوبا، فقد «أُنقِذت» أميركا اللاتينية وفكّكت دكتاتورياتها بحذر، وسقط المعسكر السوفياتي أمام السوق الحرّ.

ليس في الكتاب الكثير عن إعادة تشكيل الاستخبارات الأميركية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، على الرغم من أنّ الخاتمة تتناول تحوّلات الوكالة في «الحرب العالمية على الإرهاب». فقد نُقل المحلّلون بعيداً من أقسام آسيا وروسيا إلى مركز مكافحة الإرهاب الذي كان قد تضاءل شأنه سابقاً؛ واستذكر أحد ضباط الوكالة عمله هناك «بغضب لا ينطفئ»، وقد استنزفته «شهوة انتقام مشتعلة، متجذرة في شعور بانتهاك مخزٍ». ولم يلبث ذلك أن مهّد لتحول الوكالة نحو عمليات التسليم خارج القانون والتعذيب في عهد بوش، وتوسّعها في الاغتيالات عبر الطائرات المسيرة في عهد أوباما. وقد طمأن رئيس مكافحة الإرهاب أوباما بأن الإرهابيين سرعان «ما سيصبحون وليمة للطيور». وعلى الرغم من أن توصيات لجنة 11 أيلول/سبتمبر قلّصت رسمياً من سلطة الوكالة، لم يعد مديرها رئيس الاستخبارات المركزية الشاملة، بل مجرد رئيس للـ«سي آي إيه» تحت إدارة المخابرات القومية الجديدة المكلفة بالإشراف على مجموعة من الأجهزة السرية. بيد أنّ تمويلها ارتفع إلى نحو 500 مليار دولار في عهد بوش، ثم إلى ما يُقدَّر بـ640 مليار دولار في عهد أوباما، ومع الانتشار الهائل للمراقبة الرقمية وبيانات الأقمار الصناعية، سيطرت الاستخبارات التقنية على نظيرتها البشرية. ويكتب ويلفورد أنّ جهازاً استخباراتيّاً يركز على التهديدات الحقيقية كان ليولي اهتماماً لمسائل مثل التفاوت العالمي والتغيّر المناخي وانتقال السكان والأوبئة، لكن «ما دامت الولايات المتحدة تتصرّف تصرف الإمبراطورية وهي تنكر ذلك، فستظل تستعين بالعمل السري أداةً في علاقاتها الخارجية»، مع ما يرافق ذلك من نتائج ضارة داخليّاً وخارجيّاً.

كتب ويلفورد أنّ جهازاً استخباراتيّاً يركز على التهديدات الحقيقية كان ليولي اهتماماً لمسائل مثل التفاوت العالمي والتغيّر المناخي وانتقال السكان والأوبئة، لكن «ما دامت الولايات المتحدة تتصرّف تصرف الإمبراطورية وهي تنكر ذلك، فستظل تستعين بالعمل السري أداةً في علاقاتها الخارجية»

والكتاب دراسة موجزة ممتعة، وقد يُنظر إليه على أنّه تتويج لمشروع ويلفورد، الساعي دوماً إلى النظر بمنظار جديد في تاريخ السياسة وجهاز الاستخبارات عبر صور فردية لرجاله وإعادة بناء عوالمهم الثقافية. يقوم الهيكل الكلي للكتاب على الترتيب الزمني والثيمات الكبرى، لكنّه في الوقت نفسه من الناحية السردية سيرة مصغّرة؛ إذ لا تقتصر اختياراته من رجال الـ«سي آي إيه» على كونها تجسيد لعمل الوكالة فحسب (شيرمان كِنت في تحليل المعلومات، وروزفلت في الانقلاب العسكري، وإدوارد لانسديل في مكافحة التمرد، وجيمس جيسوس أنغلتون في مكافحة التجسّس، وكورد ماير في البروباغندا)، بل حرص على أن تضيف كل منها حساسية خاصة إلى المهمة. والفصل الافتتاحي عن السلَف الأوروبي لرجال الوكالة يسير بطريقة مماثلةٍ: كيبلنغ يستدعي جنون العظمة الإمبراطوري، وتي. إي. لورنس الولاءات المتنازعة، وليوتي طموحات التهدئة التنموية مقرونة «بقسوة» القمع العسكري، وفان ديمان توطين الأساليب الإمبراطورية. ومن خلال هذه المقاربة، ينحاز ويلفورد إلى «الدور العاطفي» في كتابة تاريخ السياسة الخارجية الأميركية المعروضة في السيرة الحديثة لجورج كينان التي كتبها فرانك كوستيليولا.

في رواية ويلفورد، من النادر أن أراد القادة الحقيقيون في الوكالة تكرار الماضي الإمبراطوري. فقد صرّح لانسديل، أحد أبرز مهندسي مكافحة التمرد الأميركي في جنوب شرق آسيا، قائلاً: «كنت في المقام الأول مناهضاً للاستعمار». أما كيرميت روزفلت، عدوّ الديمقراطية السيادية في إيران، فقد ميّز في كتابه «العرب والنفط والتاريخ» (1947) بين «العلاقة الإمبراطورية» التي ربطت القوى الأوروبية بالشرق الأوسط، وبين علاقةٍ أخرى رأى أنّ أميركا وحدها قادرة على نسجها، «تقوم على المصالح المشتركة، وتُرعى من دون أن تُفرَض فيها مزيةٌ جائرة لأي من الطرفين». لكن يرى ويلفورد أنّ «أسباباً تاريخية، خارجة إلى حدّ ما عن إرادتهم، قادتهم في نهاية المطاف إلى» تكرار الماضي. يقدّم كتاب «تاريخ إمبراطوري» حجّةً وجيهة في إثبات أوجهٍ من الاستمرارية بين الاستعمار الأوروبي والممارسة الأميركية: من أداء رؤساء مكاتب الوكالة دور قناصل غير رسميين، إلى اعتماد النموذج البريطاني في تقارير التقديرات الوطنية، إلى علاقة الرفقة الذكورية التي جمعت عملاء الوكالة بالحكام التابعين، وصولاً إلى المغامرات الرومانسية الغرائبية بعيداً من رتابة الحياة المنزلية.

مع ذلك، يعطي ويلفورد للماضي الأوروبي في بعض الأحيان وزناً أكبر من اللازم بوصفه إطاراً ظهر في سياقه الحاضر الأميركي. ويعود ذلك في أحد أسبابه إلى خياره السردي في توصيفه العملية التي غلب فيها «الدافع الإمبراطوري» على ممارسات وكالة الاستخبارات المركزية المبكرة بأنّها تمارين أو بروفات استعمارية: «وجد ضباط الوكالة أنفسهم، بغضِّ النظر عن قناعاتهم الشخصية، يستخدمون باستمرار سكريبتات مستعارة من عصر الاستعمار لأداء مهمات جمع المعلومات والعمليات السرّية المكلفين بها». وعلى الرغم من أنّ عناصر الـ«سي آي إيه» ارتدوا في بعض الأحيان أزياءً أوروبية (وكما يبيّن تصويرهم السياسي والفكري الحيّ عند ويلفورد، فقد استمتعوا بأدوارهم الخيالية على الطريقة الكيبلنغية)، لم يكن الأمر مجرد تكرار للأسلوب الأنغلوفرنسي. بل تمتعوا بذاتية إمبراطورية أميركية متميّزةً تمزج القديم بالجديد. وليس من المفارقةً أن يزداد «الدافع الإمبراطوري» الأميركي قوةً مع تقدم عمليات تصفية الاستعمار؛ فقد كان هذا مسارَ التحوّل بذاته.

السلام الأميركي لم ينطوِ على جوانب سرية، لقد كان «نظام هيمنة عالمي في الجغرافيا السياسية والهيمنة الاقتصادية»

والموقف المناهض للاستعمار لدى رجال الـ«سي آي إيه» في رواية ويلفورد كان في نهاية الأمر موقفاً إمبراطورياً واعٍياً بنفسه، إذ عُدّ نفي الإمبراطوريات الأوروبية مكسباً للقوة الأميركية. وينطبق الأمر نفسه على عروبة كيم روزفلت، حتى في ذروة تعاطفه مع العرب. فقد كان ناصر عنده قبل 1955 «القائد الضرورة»، وسنداً محتملاً للمصالح الأميركية كما تفهمها واشنطن، ومجّدته مجلة تايم بوصفه «جنديّاً مخلصاً، قوي البنية، ذو مظهرٍ جاذب يشبه ربّاع كرة القدم الأميركي». ويستخدم ويلفورد مصطلحي «إمبراطوري» و«استعماري» بالتناوب، وقد يسبب هذا لبساً مفاهيميّاً وهو يتتبع تأثيرات الاستعمار الأوروبي على الفاعلين الإمبراطوريين الأميركيين. فوكالة الاستخبارات المركزية التي نشأت مع صعود أميركا إلى الهيمنة العالمية، كانت إمبراطورية لأنّها أميركية بالأساس، لا لأنّ ضباطها تلوّثوا بميراث الاستعماري الأوروبي، مهما أثّر ذلك الميراث في جيل ما بعد الحرب الباردة. وإعطاء أهمية زائدة إلى هذه البصمات الثقافية قد يخفي عن الأنظار جهود الـ«سي آي إيه» المبكرة لترسيخ القوة الأميركية داخل أوروبا نفسها، كما تبرهن دراسة ويلفورد عن غيتسكل وكروسلاند.

لعل تعريف الإمبريالية الأميركية بأنّها «إمبراطورية سرية»، وهو تعريف مستعار من دراسة بريا ساتيا لعمليات الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين، جزءٌ من المشكلة هنا. والحال أنّ السلام الأميركي لم ينطوِ على جوانب سرية، لقد كان «نظام هيمنة عالمي في الجغرافيا السياسية والهيمنة الاقتصادية» على حد تعبير أندرس ستيفانسون. وفي إدارة هذا النظام، اضطلع رجال الظل بدور لا يُنكر، لكنهم لم يكونوا سوى ذراع قسري لإمبراطورية أميركية جديدة، لا جوهرها المحدّد. وحين يكتب ويلفورد أنّ الـ«سي آي إيه» أصبحت «رأس حربة القوة الأميركية في عالم ما بعد الاستعمار»، فهو لا يقارن تأثيرها بتأثير القوى الأوسع للهيمنة الأميركية - العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية. في نهاية المطاف، أعلنت واشنطن حضورها على مسرح التاريخ العالمي بتفجير قنبلتين ذريتين. وأقامت إمبراطوريتها على أساس النصر العسكري والاحتلال في اليابان وألمانيا، جناحي القارة الأوراسية الصناعيين، وطوّقت الكوكب بقواعد عسكرية تربطها المدارات الفضائية، بينما تجوب البحار حاملات طائراتها. واستمدت في المقام الثاني قوتها بعد الحرب من إعادة بناء اقتصادات رأسمالية وتركيب أنظمة برلمانية في دولٍ كانت فاشية (طبعاً بتدخل من السي آي إيه). وعبر نظرية التحديث، شكّل التطور الرأسمالي جزءاً مهماً من سياسة أميركا في العالم الثالث، بتمويل من دولارات النفط المعاد تدويرها؛ وحين انتهى هذا إلى أزمة ديون الثمانينيات أعيد هيكلة تلك الاقتصادات على يد صندوق النقد والبنك الدولي، لا على يد السي آي إيه. وعلى الصعيد الإيديولوجي، قدّمت الولايات المتحدة نموذج الثراء والحداثة (بالسيارات والكوكا كولا) إلى جانب الفصل العنصري والتخوين الأحمر (red-baiting). لم يضع ويلفورد «الإمبراطورية السرية» في سياق هذا الاستعراض العلني للقوة الأميركية.

شكّل التطور الرأسمالي جزءاً مهماً من سياسة أميركا في العالم الثالث، بتمويل من دولارات النفط المعاد تدويرها؛ وحين انتهى هذا إلى أزمة ديون الثمانينيات أعيد هيكلة تلك الاقتصادات على يد صندوق النقد والبنك الدولي

هذا الإخفاق في إدراك الوكالة أنّ منتج فريد من نوعه لإمبراطورية أميركا العالمية الصاعدة يزرع في صاحبه تهاوناً إزاء الروايات التبريرية التي يُفتَرض أنّ ويلفورد يستهدفها بالنقد. والكتابات التاريخية عند أمثال إيمرمان وجيفريز-جونز، الشعبية والأكاديمية على حدّ سواء، تعيد إنتاج ما يمكن تسميته وهم النوايا الأصلية: إذ كان الغرض الأصلي من إنشاء الـ«سي آي إيه»، بحسب نوايا مُنشئيها النبيلة، ممارسة حرفة تجميع المعلومات وتحليلها ببراءة، غير أنّ هذه المهمة النبيلة انحرفت عن مسارها بالتجاوزات، أو كما يعبّر إيمرمان، «قُُدِّمت قرباناً لتركيز خاطئ على المشروعات السرية وشبه العسكرية لم يُرِد مهندسوها الأوائل أن تتولّاها». وكما في الكثير من المراجعات المزعومة لممارسات الوكالة التي لا تُبرّر، فإنّ الادعاء هنا بوجود جوهر نقي يمكن استرداده ليس سوى مسلّمة إيمانية لا برهان عليها. وأما التقسيمات الزمنية الأحدث، بما في ذلك تلك التي عند خصوم الدولة العميقة المفترضين من أمثال توكر كارلسون وإلبريدج كولبي، فتُرجع «فساد» الوكالة إلى أحداث 11 أيلول/سبتمبر. قبل غراند زيرو، اقتصرت مهام عملاء الـ«سي آي إيه» في نظر كارلسون «على مهام الحرب الباردة، لا شيء شرّير على وجه التحديد». لكن انحرفت الأمور عن مسارها مع انطلاق الحرب العالمية على الإرهاب.

تقوم الروايات المماثلة في الغالب على فكرة أنّ دولة الأمن القومي نشأت من روح نقية للأمة، استجابة لهجوم بيرل هاربر. وأوضح النسخة القصوى من هذه الرواية دوغلاس ستيوارت، الزميل السابق في الناتو وعالم السياسة الدولية بكلية ديكنسون، في كتابه «إنشاء دولة الأمن القومي» (2012). درس ستيوارت النقاشات خلف قانون الأمن القومي للعام 1947، وطرح أن هجوم بيرل هاربر أزاح التصورات القديمة عن المصلحة الوطنية لصالح ترسيخ مفهوم «الأمن القومي» معياراً «لا يُطعن فيه تُوزن به كلّ قرارات السياسة الخارجية اللاحقة». فكان إسناد مسؤولية التنسيق الاستخباري إلى وكالة مركزية واحدة خطوة من المفترض أنّها دفاعية، الغرض منها إغلاق الباب أمام أي صدمات جديدة من الخارج.

على الرغم من أنّ كتاب «تاريخ إمبراطوري» لا يتوقّف طويلاً عند خبايا تشريعات العام 1947، تُقدِّم سرديته دحضاً وجيهاً: كانت الاستخبارات القومية الأميركية توسعيّة منذ بداياتها، بدءاً من الغزوات داخل القارة وصولاً إلى ضمّ الفلبين، ولم يكن ثمّة فصلٌ واضح بين التحليل والعمل السري. وفي حيز الرؤى التأسيسية، رجحت كفة دعاة العمل السرّي، لا سيما نموذج مكتب الخدمات الاستراتيجية العسكري وما فيه من مجازفة مشهورة. إنّ غموض قانون الأمن القومي للعام 1947 حول حدود مسؤوليات وكالة الاستخبارات المركزية صك هذه الرؤية التوسعية في ميثاقها التأسيسي، إذ خوّلها «أداء أي وظائف وواجبات أخرى ذات صلة بالاستخبارات المتصلة بالأمن القومي وفقاً لتوجيهات الرئيس». وقد أُقِر هذا القانون في العام نفسه الذي دعت فيه عقيدة ترومان إلى إيصال جهود الحرب الباردة الأميركية إلى اليونان وتركيا. وفي أيار/مايو 1948، كما يبيّن ويلفورد في «الأرغن العظيم»، كان جورج كينان من أبرز مؤيدي قسم العمليات السرّية، وافتتح مذكرة جهاز تخطيط السياسات بإعلانه أنّ الحرب السياسية هي «التطبيق المنطقي لعقيدة كلاوزفيتز في زمن السلم» (وهو ما ندم عليه لاحقاً ووصفه بـ«أسوأ خطأ ارتكبته في الحكومة»). وبعد أسابيع صدرت توجيهات مجلس الأمن القومي رقم 10/2، مانحةً وكالة الاستخبارات المركزية تفويضاً واسعاً للشروع في أنشطة تُنفذها أو تموّلها هذه الحكومة ضد دولٍ أو جماعات أجنبية معادية، أو دعماً لدولٍ أو جماعات أجنبية صديقة، إلا أنّها تخطّط وتنفّذ بحيث لا يظهر لأيّ من غير المخوّلين أنّ للحكومة الأميركية أيّة مسؤولية عنها، وإذا انكشفت فستكون قادرةً على إنكار تبنّيها لها بطريقة مقنعة.

كانت الاستخبارات القومية الأميركية توسعيّة منذ بداياتها، بدءاً من الغزوات داخل القارة وصولاً إلى ضمّ الفلبين، ولم يكن ثمّة فصلٌ واضح بين التحليل والعمل السري

وبناءً عليه، يتضح أنَّ وهم النوايا الأصلية لم يكن أكثر من وهم.

تتمثّل إحدى أوجه القصور في كتاب «تاريخ إمبراطوري» بصفته دليلاً لفهم ممارسات القوة السرّية الأميركية الراهنة في إغفاله نسبياً لـ«التلاقي العسكري-الاستخباري»؛ أي تحول فروع من الجيش الأميركي إلى ما يشبه الـ«سي آي إيه»، وفي الوقت نفسه اتخاذ الوكالة طابع أقرب إلى الجيش الأميركي. طرح الباحث القانوني روبرت تشيسني أنّ هذا التقاطع بدأ يتبلور في الشرق الأوسط، في سياق الثورة الإيرانية، حين اشتكى فريق قوات العمليات الخاصة الأميركي من عدم وجود أي جهة قادرة على توفير «المعلومات الاستخبارية التكتيكية والدعم اللوجستي السري» اللازمين في أثناء أزمة الرهائن في طهران. ونتيجة لذلك، أجاز رئيس أركان الجيش الأميركي إنشاء وحدة أنشطة مخابرات الجيش لمأسسة هذه القدرات داخل القوات الخاصة، ليجلب بذلك إلى البنتاغون وظائف كانت إلى حدٍ بعيد حكراً على الـ«سي آي إيه». وفي الوقت نفسه، أسفر توسع عمليات مكافحة الإرهاب بعد تفجيرات بيروت 1983 التي استهدفت القوات الأميركية عن تزويد الوكالة بخيارات قتالية شبه عسكرية فتاكة كانت حكراً عادةً على القوات الخاصة.

تعمق التلاقي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، لا سيما بين قيادة العمليات الخاصة المشتركة والوكالة. ويُفرّق باحثو دولة الأمن القومي بين أبعاد تنافسية وأخرى تعاونية في هذه العملية، لكن يبدو البُعد التعاوني سائداً، على الرغم من طوارئ سياسية ظرفية، منها الازدراء المنقول عن رامسفيلد لكفاءة الوكالة وما نجم عنه من توسيع البنتاغون لشبكته الاستخبارية. تجسّد هذا التلاقي «التعاوني» في عمليات الاغتيال خارج نطاق القضاء، من قتل بن لادن في باكستان إلى أنور العولقي في اليمن، حتى إنّ هوليوود وظّفت هذه الأعمال «البطولية» لتبرير لجوء الـ«سي آي إيه» إلى التعذيب، كما في فيلم كاثرين بيغلو «Zero Dark Thirty». تكشف هذه التطورات ضعف آمال ويلفورد الختامية في تحويل الوكالة إلى جهاز أقلّ عنفاً يركّز على قضايا مثل التغير المناخي وعدم المساواة. وبالنظر إلى التاريخ الإمبراطوري للوكالة، كما بسطه بوضوح في كتابه، لا مجال لمثل هذه الالتباسات. فدولة الأمن القومي وعلى رأسها الوكالة تجسد مقتضيات إمبراطورية متماهية مع التزام ثنائي الحزب بالصدارة العالمية الأميركية. ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. وبينما تعمل الـ«سي آي إيه» على ترسيخ هذه المقتضيات وحمايتها من أي تحدّ ديمقراطي، فإنها تظل مجرد أداة لتنفيذها لا منبعها.

نُشِر هذا المقال في عدد آذار/مارس-نيسان/أبريل من مجلة New Left Review، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.