
سادة المال ودروس الثلاثينيات: هل يمكننا تجنّب الكساد العظيم المقبل؟
في كل مرة تتصدّر فيها أخبار الاضطرابات الاقتصادية عناوين الصحف، يطل علينا الكساد العظيم كمقياس اقتصادي لتحديد حجم المخاطر والأضرار لأي أزمة مالية تلوح في الأفق، على نحو جعل الخبير الاقتصادي بن برنانكي1 يصف أهمية فهم أسباب الكساد العظيم وسبب استمراره لعقد من الزمن (1929-1939) بأنّه "الهدف الأسمى للاقتصاد الكلي" حتى لا تتكرر المأساة. وحين سألته «لجنة التحقيق في الأزمة المالية العالمية»2 عن توصياته للقراءة لعام 2010، رشح كتاباً واحداً بعنوان: «سادة المال: المصرفيون الذين أفلسوا العالم» (Lords of Finance: The Bankers Who Broke the World) لمؤلفه لياقت أحمد3، الذي قدّم منظوراً مغايراً لحقبة الكساد العظيم إحدى أشد الكوارث الاقتصادية في التاريخ الحديث؛ إذ انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 30% في الولايات المتحدة، و25% في ألمانيا، و20% في بريطانيا. وكان أكثر من 5 ملايين رجل يبحثون عن عمل في الولايات المتحدة، و4.5 مليون آخرين في ألمانيا، ومليونين في بريطانيا، وسقط النظام المصرفي العالمي إلى الحضيض، واضطر الناس في أثرى أمة في العالم إلى مغادرة منازلهم للعيش في مدن الصفيح4، وانتشرت الأزمة في كل مكان كالنار في الهشيم.
فهم أسباب الكساد العظيم من منظور مغاير
إتباعاً لمقولة السياسي البريطاني بنجامين دزرائيلي5: «لا تقرأ أي تاريخ، لا شيء إلا السيّر الذاتية؛ لأن تلك هي الحياة من دون نظرية» سعى لياقت أحمد في كتابه «سادة المال»، الصادر في العام 2009، إلى تقفي السيّر المهنية لمحافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى (إنكلترا، ونيويورك، وألمانيا، وفرنسا) في خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، مِمَن وصفوا في زمانهم بأنهم «أعضاء النادي الأكثر تميزاً في العالم»، وسرد قصصهم في إعادة بناء النظام المالي العالمي في خلال فترة ما بعد الحربين العالميتين، كنخبة اقتصادية حظيت بسلطة استثنائية، تجاوزت أحياناً سلطة حكومات بلادهم، لكنها كانت نخبة قلقة، عانت من تبعات الخوف والتردد، وهم: مونتاغو نورمان محافظ بنك إنكلترا، وبنجامين سترونغ محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وهجالمار شاخت محافظ بنك ألمانيا، وإميل مورو محافظ بنك فرنسا.
استهل لياقت أحمد كتابه «سادة المال» بالتأكيد على أن فهم أيديولوجيات محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى في العالم، الذين حددوا السياسة النقدية في خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، يُعَدّ مفتاحاً أساسياً لاستيعاب كيف تطورت أشد الكوارث الاقتصادية في التاريخ الحديث، وكشف كيف شكلت شخصيات كبار مصرفي العالم آنذاك وخلفياتهم ومعتقداتهم وقراراتهم الاقتصادية المدفوعة بمصالحهم القومية الضيقة وعواقبها غير المقصودة المسار الاقتصادي للقرن العشرين، فقال عنهم: «جسّد مونتاغو نورمان، باعتماده المُفرط على حدسه الخاطئ، بريطانيا العالقة في الماضي، التي لم تتصالح بعد مع مكانتها المتضائلة حديثاً في العالم. بينما عكس إميل مورو بدقة متناهية، عبر عزلته وحقده، صورة فرنسا التي انطوت على نفسها، تلعق جراح الحرب الرهيبة. في حين كان بنيامين سترونغ، رجل الأفعال، الذي يمثل جيلاً جديداً في أميركا، منخرطاً بجد في بسط قوته المالية على الشؤون العالمية. فيما بدا هيلمار شاخت، في غطرسته الغاضبة، الوحيد غير المتوافق مع ألمانيا الضعيفة المهزومة التي كان يتحدث باسمها، على الرغم من أنه ربما كان يعبر ببساطة عن حقيقة خفية، حول المزاج الأعمق للأمة».
لم يكن الكساد العظيم مسألة قضاء وقدر، أو نتيجةً لتأثيرات حتمية لقانون اقتصادي طبيعي راسخ، بل كان نتيجةً لسلسلة من سوء التقدير من قِبل صانعي السياسات الاقتصادية
تقضي أطروحة لياقت أحمد بأن الخطأ البشري وسوء الإدارة المصرفية، وخصوصاً من قِبل صانعي السياسات الاقتصادية، أدّت دوراً محورياً في تفاقم الأزمة، وتحولها الدرامي من حالة ركود إلى كساد عالمي طويل الأمد، على الرغم من أنه «نادراً ما اعتمد التاريخ على أفعال وقرارات قلةٍ قليلة من الناس»، نافياً الفكرة الشائعة عن أن ما حدث كان نتيجة تلاقي أحداث عدة خارجة عن سيطرة أي شخص أو حكومة في العالم، فكتب: «لم يكن الكساد العظيم مسألة قضاء وقدر، أو نتيجةً لتأثيرات حتمية لقانون اقتصادي طبيعي راسخ، بل كان نتيجةً لسلسلة من سوء التقدير من قِبل صانعي السياسات الاقتصادية»، مشكلين بذلك العامل الحاسم - الذي غالباً ما يتجاهل - في فهم أسباب الكساد العظيم وكيفية تطوره طوال عقد من الزمن (بعض تقديرات المؤرخين الاقتصاديين تقر بأن آثاره لم تتلاشَ بشكل كامل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في العام 1946)، فغالباً ما عاشوا في أبراج عاجية، منعزلين عن بعضهم وعن الواقع المحيط بهم، يركضون بلا هوادة وراء تحقيق هدف الاستقرار في الأجل القصير، غير منتبهين إلى أنه مظلة ظاهرية مقيدة للاقتصاد.
قال لياقت أحمد في كتابه: «تعد قصة الكساد العظيم في جوهرها قصة 4 رجال... وكيف أدت قراراتهم الخاطئة إلى حدوث انهيار اقتصادي عالمي»، مؤكداً على أن الأزمات الاقتصادية من الممكن أن تنبع من غطرسة وكبرياء وسوء تقدير صانعي السياسات الاقتصادية، وعدم مراعاتهم للظروف المتغيرة وآثار عواقبها الإنسانية على حياة المواطنين، والتي يمكن أن تمتد عبر الأجيال، مجادلاً بأن التشبث بالمعتقدات الاقتصادية الجامدة في الأوقات الحرجة، غالباً ما ينتج عنه كوارث اقتصادية، حينما تكون السياسة مدفوعة بالعقائد بدلاً من البراغماتية، وبأننا في حاجة دائمة إلى وجود القيادة الاقتصادية المتكيفة مع الظروف المتغيرة التي تواجهها بين الحين والآخر حتى نتجنب الكساد العظيم القادم، فلا يزال السلوك البشري يُحرك الاقتصاد بقدر ما تُحركه البيانات.
وعليه، قَصَدَ بن برنانكي بترشيح قراءة ذلك الكتاب إلى لجنة التحقيق في الأزمة المالية العالمية الإشارة إلى أن أخطاء الإدارة المصرفية، والثقة المفرطة التي مُنحت حينها إلى كبار المصرفيين في العالم، مِمَن مارسوا نفوذاً هائلاً على السياسات المالية العالمية في خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، على الرغم من سياساتهم المهلهلة، وأفكارهم البالية، وقراراتهم الاقتصادية غير المنسقة، التي بُنيت على مصالح قومية ضيقة، حركها مزيج من القناعات الشخصية والقيود المؤسسية، تسببت بشكل رئيسي في تعميق وعولمة الكساد العظيم، الذي مهّدت آثاره السلبية الطريق أمام اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ وهو ما سبق وأن أوضحه بن برنانكي، قبل سنوات من نشر الكتاب، في كلمته التي ألقاها أثناء حضوره احتفالية عيد ميلاد الاقتصادي ميلتون فريدمان6 التسعين في خلال العام 2002، حينما قدم اعتذاره الشهير: «بالنسبة إلى الكساد العظيم، نحن من تسبب به. نعتذر. لن يتكرّر الأمر ثانية».
الحرب والسلام والمزيد من الكساد
يُعَدّ النقد الذي قدمه لياقت أحمد لمبدأ «معيار الذهب»، ربيب علماء اقتصاد المدرسة الكلاسيكية، كقوة دافعة وراء تفاقم الأوضاع الاقتصادية في خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، أحد أبرز مساهمات الكتاب في فهم أسباب الكساد العظيم وكيفية تطوره، بعد أن حدّد معيار الذهب كمتهم رئيس في عولمة الكساد، وحاجج بأن السمة المشتركة بين تصرفات محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى آنذاك تمثلت في التزامهم الصارم بالمعدن الأصفر كأداة للتحوط ضد التضخّم، بعدما «أصبح معيار الذهب بمثابة قيد ذهبي، يُكبّل الحكومات بمذهب نقدي أرثوذكسي يُخنق اقتصاداتها»، على الرغم من تزايد الأدلة على أنه عمّق حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، كأن وصفه الاقتصادي جون مينارد7 كينز بأنه صنم من بقايا آثار الهمجية يعرقل حركة الاقتصاد، داعياً إلى اتباع سياسات نقدية أكثر مرونة، إلا أن صانعي السياسات الاقتصادية قابلوا تحذيراته بالتجاهل، وتشبثوا أكثر بالمعدن الأصفر، بعدما اعتبروه أساس السياسة النقدية السليمة، وضرورة للحفاظ على الاستقرار المالي، فبات لهم «إن التخلي عن الذهب يُعَدّ بمثابة تخلي عن الحضارة»، معتبرين ذلك خيانة للأصولية المالية، بعدما حظى معيار الذهب بالتبجيل بصورة شبه دينية، كما لو كان هبة إلهية أو مسألة أخلاقية تتجاوز حدود المكان والزمان، جراء عمل الاقتصاد العالمي بكامل طاقته قبل إندلاع الحرب العالمية الأولى، بطريقة بدا معها أن المعدن الأصفر يُعدّ تطوراً إيجابياً في تاريخ التمويل العالمي.
التشبث بالمعتقدات الاقتصادية الجامدة في الأوقات الحرجة، غالباً ما ينتج عنه كوارث اقتصادية، حينما تكون السياسة مدفوعة بالعقائد بدلاً من البراغماتية
بَيْدَ أنّ اندلاع أحداث الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وضع الدول المتحاربة في مأزق عدم توافر سيولة كافية لتمويل نفقات التسليح أو مجابهة الديون المحلية. بعيداً من الكارثة الإنسانية، بلغت ديون الدول المتحاربة ما يقارب 200 مليار دولار، أي ما يعادل 50% من إجمالي الناتج القومي لتلك الدول، فلجأ بعضها إلى الاقتراض بمعدلات فائدة مهولة، فيما لجأ البعض الأخر إلى تعطيل معيار الذهب، وطباعة المزيد من العملة الوطنية من دون غطاء، مثلما فعلت ألمانيا، فأخذت الأسعار في التضاعف حتى بات المارك الألماني بلا قيمة على أرض الواقع، وغرقت البلاد في التضخم المفرط.
عقب انتهاء الحرب، سادت لدى كبار مصرفيي العالم رغبة حثيثة في إعادة بناء النظام المالي الدولي، واستعادة الأوضاع الاقتصادية والنقدية لما كانت عليه قبل الحرب، وعلى الرغم من اختلافاتهم الجوهرية، وحّدهم خوف واحد مشترك، ألا وهو التضخم، الذي يُعَدّ بمثابة التهديد الأكبر للرأسمالية وفقاً لعلماء المدرسة الكلاسيكية، فأجمعوا على أن الحل الأمثل يكمن في ضرورة العودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة العالم إلى معيار الذهب مرة أخرى، لكن هذه المرة عبر نسخة مطورة، تمثلت في «معيار تبادل الذهب»، الذي ربطت فيه الدول الملتزمة به عملاتها الوطنية بالعملات الرئيسة القابلة للتحويل إلى ذهب، مثل الجنيه الإسترليني والدولار الأميركي.
ولفترة وجيزة في منتصف عشرينيات القرن الماضي، بدا أنهم نجحوا بالفعل في تحقيق هدفهم، بعدما استقرت عملات العالم، وبدأ رأس المال يتدفق بحرية بين الحدود، «كانت عشرينيات القرن العشرين بمثابة عقد الأوهام، وهي الفترة التي اعتقد فيها العالم أنه تعلم دروس الحرب العظمى ودخل عصراً جديداً من الرخاء»، لكن بمرور الوقت ظهرت تصدعات عدة في النظام المالي، تبين معها أن معيار الذهب المطور، الذي ظن الجميع أنه سيوفر مظلة استقرار، ما هو إلا «قيداً مُقيّداً»، عانى من عيوب هيكلية، أدت إلى اختلال الميزان التجاري، وذبذبة أسعار الصرف، وارتفاع معدلات البطالة، بعدما ساهمت إجراءات محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى في العالم ولا سيما رفع معدلات الفائدة للدفاع عن احتياطيات الذهب، في تعميق الأزمة الاقتصادية في وقت كانت فيه الحاجة ماسة إلى تخفيض معدلات الفائدة، وبات الاقتصاد العالمي أكثر تقلباً من ذي قبل، وبدأ الدخول في دوامة الانحدار المروعة المعروفة باسم الكساد العظيم.
كانت عشرينيات القرن العشرين بمثابة عقد الأوهام، وهي الفترة التي اعتقد فيها العالم أنه تعلم دروس الحرب العظمى ودخل عصراً جديداً من الرخاء
وفي أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، سأل أحد الصحافيين كينز عما إذا كان قد حدث شيءٌ مشابه للكساد العظيم من قبل، فأجاب: «نعم، سُمّيَت عصور الظلام، واستمرت لمدة 400 عام»، ودفع تطور الأحداث كبار مصرفي العالم إلى التفكير جدياً في التخلي عن معيار الذهب، فبدأت الدول تدريجياً في الانسحاب منه، فخرجت عنه بريطانيا في العام 1931، تلتها الولايات المتحدة في 1933، وأثبتت التجربة أن التعافي لم يبدأ إلا في الدول التي تخلت عن معيار الذهب، ما سمح لها بخفض قيمة عملاتها، وتخفيف قيود السياسة النقدية، ودعم النمو والازدهار، فنجد أن الدول التي تخلت مبكراً من معيار الذهب تعافت أسرع من الدول الأخرى التي ظلت ملتزمة به، مثل فرنسا التي تمسكت به حتى العام 1935، ومن ثم شكل الالتزام الصارم بالمعتقدات الاقتصادية الجامدة في وقت الأزمات درساً قاسياً لصانعي السياسات، مِمَن أعطوا الأولوية للقواعد النقدية المجردة على حساب رفاهية المواطنين، حتى أن كينز نصحهم بقوله: «سوف يتعين على أصدقاء الذهب أن يكونوا في غاية الحكمة والاعتدال إذا أرادوا تجنب الثورة».
شدّد لياقت أحمد في كتابه على أن السياسات الاقتصادية التي اتبعها محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى لم تكن قائمة على فهم حقيقي للاقتصاد العالمي، على الرغم من ذكائهم وسلطتهم، بل كانت محكومة بمعتقدات تقليدية، أثبتت التجربة فشلها في التصدي للأزمات المالية في أوقات الحذر المالي، وجادل بأنهم لو كانوا تمتعوا بالمرونة النقدية، وتخلوا عن معتقد معيار الذهب، أو بدأوا تنسيق خطة تحفيز اقتصادي أوسع نطاقاً، لتجنب الاقتصاد العالمي الوقوع تحت وطأة أسوأ أزمة كساد في التاريخ الحديث، فكتب: «مراراً وتكراراً، اختار محافظي البنوك المركزية الدفاع عن معيار الذهب، بدلاً من تخفيف معاناة مواطنيهم»، ما يطرح السؤال: إلى أي مدى كانت ستختلف الأمور لو أن أشخاص آخرين هم من تولوا تلك المناصب الاقتصادية الحساسة؟، نظراً لأنهم كانوا سيواجهون القيود المؤسسية نفسها ويتعرضون للأحداث الاقتصادية نفسها، وهم لا يمتلكون إلا مجموعة مشابهة من الأدوات والنماذج العقلية.
يا سادة المال انتبهوا؛ التاريخ يعيد نفسه
في الواقع، لقد نشرت كتب عدة في أعقاب اندلاع الأزمة المالية العالمية، وأيّاً كانت مضامين تلك الكتب يتساءل المرء عما إذا كان من المفيد أن يعيد قراءتها بعد مرور 10 أو 20 عاماً، غير أن كتاب «سادة المال» يقدم رؤى صالحة لكل أزمة مالية جديدة. ففي جوهره، لا يقدّم الكتاب، طوال ما يقارب الـ 600 صفحة، مجرد استعراضٍ تاريخي للوقائع والأحداث الاقتصادية فحسب، بل يقدم دعوةٌ هامة إلى فهم أسباب الكساد العظيم من منظور مغاير، يمزج بين السرد التاريخي والرؤية الاقتصادية والتأمل النقدي لما جرى خلال فترة زمنية حرجة، بداية من عشية الحرب العالمية الأولى في العام 1914 وحتى توقيع إتفاقية بريتون وودز في العام 1944، ليستخلص دروساً قيّمة عن مخاطر التثبت بالمعتقدات الاقتصادية الجامدة، وعدم المرونة النقدية، وغياب التنسيق الدولي في الأوقات الحرجة، وهي قضايا لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
شكل الالتزام الصارم بالمعتقدات الاقتصادية الجامدة في وقت الأزمات درساً قاسياً لصانعي السياسات، مِمَن أعطوا الأولوية للقواعد النقدية المجردة على حساب رفاهية المواطنين
إذ لمعت فكرة كتاب «سادة المال» في عقل مؤلفه لياقت أحمد حين وقعت عيناه على مقالة قديمة، نشرت في «مجلة تايم» الأميركية في العام 1999 تحت عنوان: «لجنة إنقاذ العالم» (The Committee to Save the World)، توثق جهود كل من: آلان غرينسبان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي آنذاك، وروبرت روبين وزير الخزانة في عهد الرئيس بِل كلينتون، ولورانس سامرز نائب روبرت روبين في منع تفاقم الاضطرابات الناتجة عن سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتتالية التي وقعت في أواخر تسعينيات القرن العشرين8 من اجتياح العالم، وكيف نُظَر إليهم آنذاك على أنهم أبطال خارقين أنقذوا الاقتصاد العالمي من الغوص في الوحل، غير أن النتائج المترتبة على سياساتهم في الأجل الطويل أثارت النقاش بشأن جدوى إرثهم الاقتصادي عقب اندلاع أزمة الرهن العقاري الأميركية (2007)، تماماً كما حدث مع محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى في خلال فترة الكساد العظيم.
ففي حين أدّى آلان غرينسبان دوراً بارزاً في تشكيل السياسة النقدية للولايات المتحدة، نال عنه الكثير من الثناء في خلال تلك العقود، يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن سياساته النقدية المتساهلة، ورفضه التدخل الحكومي في تنظيم حركة الأسواق المالية، وثقته العمياء في أن آليات السوق الحرة قادرة على تنظيم نفسها تلقائياً لامتصاص الصدمة، كانت عوامل رئيسية في خلق أزمة الرهن العقاري، والتسبب في اندلاع الأزمة المالية العالمية، ليعترف غرينسبان فيما بعد أمام الكونغرس الأميركي بأنه أخطأ في توقع قدرة السوق على تصحيح نفسه، قائلاً: «لقد وجدتُ خطًأ في النموذج الذي كنت أراه يمثل أفضل طريقة لفهم كيفية عمل العالم».
ولأن أولى القواعد التي يلقنها لنا الاقتصاديون المهوسون بالنماذج الاقتصادية ومخططات الرسم البياني هي: «إن التاريخ يعيد نفسه»، فقد شعر لياقت أحمد بعد انتهائه من قراءة المقالة أن ثمة قصة مشابهة لما قرأه يمكن روايتها عن ما حدث في خلال حقبة عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، تمكنا من فهم أسباب الكساد العظيم وكيفية تطوره، فأخذ إجازة من منصبه، وتفرغ لتدوين أوجه الشبه بين حقبة ما بين الحربين العالميتين، والشهرة والمصداقية التي اكتسبها محافظي البنوك المركزية الأربعة الكبرى آنذاك، والأدوار التي أدّوها في تشكيل الاقتصاد العالمي في خلال الفترة نفسها من جانب، والتحديات المالية التي واجهها العالم في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وكيف تصدى لها أعضاء «لجنة إنقاذ العالم»، ممن ووصفوا بأنهم مهندسي الاستقرار المالي في خلال حقبة مضطربة في اقتصاد سريع العولمة من جانب آخر، لضمان عدم نسيان دروس الماضي المؤلمة في عملية صنع القرار المالي اليوم.
يعترف غرينسبان فيما بعد أمام الكونغرس الأميركي بأنه أخطأ في توقع قدرة السوق على تصحيح نفسه، قائلاً: «لقد وجدتُ خطًأ في النموذج الذي كنت أراه يمثل أفضل طريقة لفهم كيفية عمل العالم»
ومن ثم تتضح أهمية كتاب «سادة المال» في الربط التاريخي بين أسباب الأزمات الاقتصادية على مر الزمن، لنرى كيف يمكن أن تتشابه أزمتنا الحالية مع أزمات الماضي، بعدما دفع التخوف من تكرار مأساة الكساد العظيم أثناء أزمة الرهن العقاري إلى لجوء بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى استخدام صلاحياته الطارئة للتدخل في إنقاذ الشركات المتعثرة، ومضاعفة القاعدة النقدية بأكثر من 4 أضعاف، في حين أذن الكونغرس الأميركي بإجراء عمليات إنقاذ إضافية باهظة، وحسّن من التدابير المتخذة لتجنب حدوث انكماش عالمي أكثر حدة، جراء شيوع أزمة جائحة كوفيد-19، ما ساعد على تجنب انهيار النظام المالي، بفضل الإدارة المصرفية الحكيمة والسماح بالتدخل الحكومي لامتصاص الصدمة. فهل كان من الممكن أن يتخذ الكساد العظيم منعطفاً مغايراً لما حدث لو كانت اتخذت مثل تلك الإجراءات آنذاك؟
- 1
بن برنانكي: اقتصادي أمريكي من مواليد عام 1953، فاز بجائزة نوبل عام 2022، يشتهر بدوره في صنع السياسات أكثر من مساهماته الأكاديمية، شغل منصب الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال الفترة من عام 2006 إلى عام 2014، وكان على رأس القيادة خلال الأزمة المالية لعام 2008، وأشرف على قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بالقرب من الصفر، ليعد بذلك رائداً في استخدام التسهيل الكمي في محاولة لمنع تكرار أزمة الكساد العظيم. يُعرّف عنه تحليله لأزمة الكساد العظيم باستخدام نماذج التحليل الإحصائي والمصادر التاريخية ضمن ورقة بحثية نشرها عام 1983، ساعدت في تشكيل استجابة أميركا تجاه الأزمة المالية العالمية عام 2008، بعدما أثبت فيها أن انهيار النظام المصرفي كان عاملاً حاسماً لتطور حالة الركود إلى كساد طويل الأمد، بما عزز استجابة بنك الاحتياطي الفيدرالي أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008، وساعد في تحسين التدابير المتخذة لتجنب حدوث انكماش عالمي أكثر حدة عندما ضربت جائحة كوفيد-19 العالم في عام 2020.
- 2
لجنة التحقيق في الأزمة المالية العالمية: لجنةً مؤلفةً من عشرة أعضاء، عيّنتها الحكومة الأمريكية للتحقيق في أسباب الأزمة المالية (2007-2010)، عُقدت أول جلسة استماع عامة لها في يناير 2010، وأصدرت تقريرها النهائي في يناير 2011.
- 3
لياقت أحمد: اقتصادي أمريكي من أصل جنوب آسيوي، ولد عام 1952، يعمل مدير استثمار محترف، يتمتع بخبرة تزيد عن 25 عاماً في القطاع المالي، حصل على شهادات في الاقتصاد من جامعتي هارفارد وكامبريدج، شغل منصب كبير مسؤولي الاستثمار في مؤسسة روكفلر والبنك الدولي، حاز كتابه "سادة المال" المنشور عام 2009 على جائزة بوليتزر وجائزة فاينانشال تايمز لأفضل كتاب أعمال لعام 2010.
- 4
مدن الصفيح: ملاجئ مؤقتة للمشردين من ضحايا الكساد العظيم، سميت (Hoovervilles) كسخرية من الرئيس الأمريكي هربرت هوفر، الذي بدأ الكساد العظيم في عهده.
- 5
بنجامين دزرائيلي (1804-1881): روائي ورجل دولة بريطاني، يُعدّ واحداً من السياسيين البريطانيين المرموقين الذين تولوا رئاسة الوزارة البريطانية لمرتين خلال عهد الملكة فيكتوريا (1837-1901).
- 6
ميلتون فريدمان (1912-2006): اقتصادي فاز بجائزة نوبل عام 1976، يعد من بين أكثر المفكرين الاقتصاديين تأثيراً في التاريخ، اشتهر بنظريته حول دور المعروض النقدي في التأثير على التضخم والنمو واستقرار العرض والطلب ومستويات الأسعار.
- 7
جون مينارد كينز (1883-1946): اقتصادياً وكاتباً ومسؤولاً عاماً بريطانياً، ويُعتبر على نطاق واسع أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في الفكر الاقتصادي الحديث، شكلت أفكاره المحرك للعديد من السياسات الحكومية أثناء وبعد الكساد العظيم، حتى صنفته مجلة تايم الأميركية ضمن أهم مائة شخصية في القرن العشرين، اشتهر بإعادة صياغة الفكر الاقتصادي عبر كتابه "النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال" (1936)، برز دوره كناقداً لمعيار الذهب في بريطانيا، الذي فرض عليها سياسة انكماشية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث دعا إلى ضرورة التدخل الحكومي باستخدام السياسات المالية والنقدية لتحفيز الاقتصاد، غير أنه فشل حينها في إقناع الحكومة البريطانية بمقدرة الاقتصاد على خلق رصيد دائن من دون دعم المعدن الأصفر.
- 8
كانت أواخر تسعينيات القرن العشرين فترة مضطربة في تاريخ الاقتصاد العالمي، لحدوث سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وهي:
أ) الأزمة المالية الآسيوية (1997-1998): حين واجهت العديد من اقتصادات شرق آسيا انهيارات العملة، وأزمات مصرفية، وركوداً حاداً.
ب) الأزمة المالية الروسية (1998): حين تخلفت روسيا عن سداد ديونها، وخفضت قيمة عملتها، مما أدى إلى صدمة في الأسواق العالمية.
ج) أزمة الإنقاذ الاضطراري لصندوق استثمار LTCM "إدارة رأس المال الطويل الأجل" (1998): حين واجه صندوق التحوط الرئيسي، LTCM، الذي كان يتمتع بقدر كبير من الروافع المالية، الانهيار، مما هدد بالمخاطر المالية النظامية.