
إنه الوقت المثالي للبحث في العلاقة بين التكنولوجيا والرأسمالية
مراجعة لكتاب جاثان سادوفسكي « الميكانيكي واللاضي» الذي يدعو فيه إلى نقد جذري للتكنولوجيا يكشف ارتباطها العميق بالرأسمالية، ويرفض التجميل الأخلاقي الذي تروّج له الشركات. باختصار الكتاب هو دعوة لإعادة التفكير في التكنولوجيا كأداة استغلال لا كمشكلة تقنية فقط.
في ظلّ التفكك الجاري لبنية الدولة الإدارية الأميركية على أيدي مبرمجين محدودي الرؤية، تبدو اللحظة الحالية إعلاناً صريحاً عن إخفاق نقد التكنولوجيا. سعى أكاديميو العلوم الاجتماعية والإنسانية لعقود طويلة إلى بناء مشروع نقدي يواجه الهيمنة الثقافية التي تقوم عليها صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وهي صناعة تأسست على خرافات الخيال العلمي والافتراضات الطوباوية والأحلام «العقلانية»، وسلسلة لا تنتهي من حلول تكنولوجية مختزِلة. واليوم، بات مجال «أمان الذكاء الاصطناعي» مثالاً جديداً لإنتاج معرفي أسير لمصالح الشركات الكبرى. لا أحمّل النقّاد المسؤولية الكاملة، لكن اللحظة تستدعي وقفة: ما الذي نفعله؟ لقد استُنزفت جهودنا في تسجيل فظائع العصر الرقمي، من دون أن نفلح في إيقاف انفلاته الأخطر. نحن بحاجة إلى إعادة صياغة المشروع برمّته، وإلى تصور مختلف لكيفية توصيف مشكلات التكنولوجيا من دون الاتكال على وعود الشركات أو المشرّعين.
يقدّم جاثان سادوفسكي في كتابه الجديد «الميكانيكي واللاضي»1 تصوراً لنمط من «النقد الصارم» القادر على مواجهة التحدّيات المطروحة. ويشرح كيف أن كثيراً من الأكاديميين أنتجوا نقداً منفصلاً عن البنية التي تولّد المشاكل ذاتها: «غالبية ما يُقدَّم اليوم من نقد للتكنولوجيا يتجاهل، أو يتغافل عمداً، عن الارتباط البنيوي بين التكنولوجيا والرأسمالية. ويتجلّى هذا الطابع المهادِن في الطفرة الأخيرة لأبحاث «أخلاقيات الذكاء الاصطناعي»، التي تقف عند حلول تجميلية كتحسين بيانات التدريب، من دون أي مساءلة لآليات توظيف تلك الخوارزميات أو مبررات وجودها أصلاً» (ص 24). يدعو سادوفسكي بدلاً من ذلك إلى تحليل مادي للتكنولوجيا والإنترنت، أي إلى تبنّي نهج ماركسي صريح.
طريقة تعامل الشركات والرأسماليين مع البيانات تشبه تعاملهم مع أي رأس مال آخر: جمع البيانات من دون تفكير، بهدف التراكم فقط
مع أن نقد التكنولوجيا بات شائعاً، إلا أن أغلبه يتجنّب الإعلان الصريح عن موقف مناهض للرأسمالية بشكل مباشر. غالباً ما يُلقى عبء الربط بين التكنولوجيا والنظام الاقتصادي على القارئ. وفي حالات أخرى، يركّز الباحثون على مظاهر انحراف معينة يرون أن معالجتها كافية لاستعادة التوازن الاجتماعي العام. يبيّن سادوفسكي محدودية هذه الطروحات النظرية:
«إضافة أوصاف إلى الرأسمالية مثل الريعية أو القائمة على المنصات أو الرقابية تُفيد حين نرغب في تحليل خصائص بعينها داخل النظام. لكن هذه التعديلات قد تقيّد رؤيتنا إذا دفعتنا إلى اختزال الكل في جزء، أو تجاهل ترابط الحاضر بالماضي. عندها، يتحوّل نقدنا للمُلاك الريعيين أو للشركات المنصاتية أو لأنظمة الرقابة إلى تمنّ رجعي بعودة الرأسمالية كما كانت قبل أن تفسدها تلك الخصوصية التي ركّزنا عليها» (ص 142).
ناقشتُ في وقت سابق إخفاقاً مشابهاً في تحليلي لكتاب «عصر رأسمالية المراقبة» لشوشانا زوبوف، الذي ينطلق من افتراض أنّ جني الأرباح من «مخلّفات البيانات» ليس إلا انحرافاً طارئاً يمكن عكسه. كذلك، قدّم باحثون في الاقتصاد السياسي الرقمي، مثل نِك سرنِك، مقاربة ترى في غوغل وفايسبوك تجسيداً لمرحلة «رأسمالية المنصات»، باعتبارها حقبة جديدة تقودها فئة مختلفة من الفاعلين الاقتصاديين. لكن المفارقة أن الأدوات نفسها التي استخدموها للفت الانتباه إلى ما هو جديد، جعلتهم يعجزون عن مساءلة المفهوم الجوهري الذي يدّعون تحليله: الرأسمالية. لذا لم تلبث هذه المشاريع أن خضعت لجاذبية النظام الرأسمالي ذاته الذي أرادت تجاوزه.
يحاول سادوفسكي، في كتابه «الميكانيكي واللاضي»، أن يقدّم منهجاً للتفكير النقدي أكثر مما يطرح أطروحة ضد شكل بعينه من العلاقة بين التكنولوجيا والرأسمالية. ولذلك، فإن بنيته أقرب إلى موسوعة فكرية موسّعة منها إلى تفكيك استراتيجي مباشر. يستعرض الكتاب طيفاً واسعاً من القضايا: خطابات الابتكار التي تُستخدم لتبرير تمويلات رأس المال المغامر؛ تحوّل البيانات إلى شكل جديد من رأس المال؛ تآكل قيمة العمل بفعل التشغيل الآلي؛ تحكّم المستثمرين الريعيين في البنية التحتية للإنترنت؛ وتحويل المخاطر اللاعقلانية إلى فرص استثمارية حتمية تبرّر المضاربة التكنولوجية.
قد لا تبدو الطروحات التي يعرضها سادوفسكي مبتكرة بذاتها، بالنسبة إلى الباحثين والنقّاد الذين واكبوا قضايا التكنولوجيا لسنوات، لكنه ينجح في تلخيص عقدٍ من أبحاث التكنولوجيا والمجتمع بلغة منهجية واضحة. وفي كل دراساته، يعتمد استراتيجية مادية تقليدية: التركيز على البنية التحتية الاقتصادية بدل الانشغال بالبنى الفوقية الإيديولوجية. لا ينخرط في الجدل التنظيري عن تفاصيل هذه المفاهيم في التطبيق، بل يفترض خلفية أكاديمية لدى جمهوره، ويقدّم عرضاً تمهيدياً لفهم الماركسيين لآليات الاستغلال الرأسمالي، ليؤسس عليه نقاشاته اللاحقة، مستعيناً بأدوات تحليلية مجرّبة يوظفها بتمكّن.
كل كمية صغيرة من رأس المال تُساعد على تجميع المزيد ومن لا يُراكم كفاية يتراجع عن موقعه. من هنا، تُصبح مراكمة البيانات مجرد شكل جديد من هذا السلوك المدمر
على سبيل المثال، يشرح سادوفسكي استناداً إلى دراسة سابقة له، كيف أصبحت البيانات تُستخدم في الاقتصاد الحديث كنوع من رأس المال، وليس فقط كسلعة أو مورد. يقول: «الجدل الدائم حول ما إذا كانت البيانات تُشبه النفط أو الذهب أو الماء يدل على ارتباك كبير في فهم شيء أساسي لفهم الرأسمالية اليوم» (ص 79). ويُظهر كيف أن طريقة تعامل الشركات والرأسماليين مع البيانات تشبه تعاملهم مع أي رأس مال آخر: جمع البيانات من دون تفكير، بهدف التراكم فقط. وهذا التراكم ضرورة قسرية في النظام الرأسمالي، مثل معضلة السجين: كل كمية صغيرة من رأس المال تُساعد على تجميع المزيد ومن لا يُراكم كفاية يتراجع عن موقعه. من هنا، تُصبح مراكمة البيانات مجرد شكل جديد من هذا السلوك المدمر.
ذكّرتنا دراسات البيانات النقدية في عقد الـ 2010 بأن إنتاج البيانات هو بالضرورة عملية اختزالية. لا وجود لبيانات خام، بل هي دائماً معدة سلفاً. لكن هذا التذكير دفع نقّاد التكنولوجيا إلى تكرار هذه الحقيقة وكأنها اكتشاف جديد. تحويل الإنسان إلى خلية في جدول إكسل فعل عنيف، وهذا العنف هو المقصد. هذه التجريدات العنيفة تتيح، كما يرى سادوفسكي، تحويل البيانات إلى رأس مال: «لا يمكن للبيانات أن تمثّل كل خيط في كينونة الشخص، أو أن تعكس كل تعقيد في حياته. لكن هذا ليس هدف البيانات ولا قيمتها. فبدل أن نعتبر هذا الاختزال فشلاً في النظام، علينا أن نراه سمة جوهرية ومفيدة لعملية التجريد. الفكرة كلّها تكمن في تحويل الكائنات البشرية المتكاملة إلى كائنات بيانات مجزأة» (ص 88). والأسوأ، أن منطق الرأسمالية يَعِد بأن وتيرة إنتاج البيانات ستواصل التصاعد. ينبغي أن نعيش في عالم لا تُحدّد فيه مصائرنا بحسب قدرتنا على الانضغاط داخل خانة، لكن لا يمكننا أيضاً توقّع التعاطف من آلة.
لا يقترح سادوفسكي، ضمن مشروعه النقدي الصارم، حلولاً محددة للأوضاع التي ينتقدها – سوى الدعوة إلى تجاوز الرأسمالية. أقصى ما يقترحه هو توسيع نطاق فاعلية نموذجين نقديين يمثّلان عنوان كتابه:
«الميكانيكي يفهم بُنية الآلة وآلية عملها وطبيعة المهام التي تؤديها. في المقابل، يُدرك اللاضي دوافع تصنيعها والمصالح التي تخدمها ومتى يجب تعطيلها – سواء بالتوقيف أو بالاستحواذ، بالتحطيم أو التأميم» (ص 34).
لا تُفرض هذه الشخصيات كنماذج جاهزة، بل تظهر كرموز عابرة ومؤثرة في خلفية السرد. نبدو عاجزين أمام أشكال جديدة من الاستغلال الرقمي، غير أن سادوفسكي يذكّرنا أن هذا العجز صُنع بالتعلّم – ويمكن قلبه. لعلّ هذا النموذج يتحوّل إلى قاعدة يتوسّع عليها نقّاد آخرون من أجل إعادة صياغة نقد التكنولوجيا ليصير أداة حقيقية للتغيير.
نُشِرت هذه المراجعة في 24 آذار/مارس 2025 في LSE Review of Books بموجب رخصة المشاع الإبداعي.
- 1
اللاضية، أو Luddism، هي حركة اجتماعية ظهرت في إنكلترا بين عامي 1811 و1816، كرد فعل من الحرفيين والعمال المهرة على الثورة الصناعية التي أدت إلى إدخال الآلات في المصانع، ما هدّد مصادر رزقهم. نُسبت الحركة إلى شخصية رمزية تُدعى «نِد لَد» (Ned Ludd)، والتي أصبحت رمزاً للمقاومة ضد الأتمتة والتكنولوجيا التي كانت تُعتبر سبباً في البطالة وتدهور ظروف العمل.