Preview بدائل التقشّف

بدائل التقشّف

  • هناك حاجة ملحّة لخلق حيّز مالي أكبر من أي وقت مضى في ظلّ السياسات التقشّفية المتبعة والأزمات المتلاحقة. ومن الضروري أن تستكشف الحكومات جميع بدائل التمويل المُمكنة لتعزيز التعافي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
  • معظم الدول تجمع بين خيارات عدّة. وعادة تبدأ الحكومات بتحسين الحيّز المالي من خلال تخصيص مبالغ قليلة من كلّ خيار مُمكن، ومن ثمّ زيادة الإجراءات التي تنوي تنفيذها تدريجياً في السنوات التالية.

يزعم البعض أنّ التقشّف ضرورة لا بدّ منها. ولكن هذه ليست الحال. يقدّم هذا المقال تسعة بدائل لتجنّب التقشّف. إنّ القرارات المُتعلّقة بتخصيص النفقات وخفض الموازنات وتقليص مصادر التمويل تؤثّر على حياة الملايين من الناس، لذلك لا يجب اتخاذها من وراء الأبواب المُغلقة من بعض التكنوقراط في وزارات المالية أو موظّفي صندوق النقد والبنك الدوليين، بل إخضاعها لحوار وطني.

التقشّف ليس مسألة حتمية؛ هناك بدائل عنه حتى في الدول الأكثر فقراً. فالسكّان ليسوا مضطرين لتحمّل خفض الإنفاق، إذ يمكن للحكومات أن تزيد الإيرادات لتمويل التعافي. هناك خيارات واسعة وكثيرة لتوسيع الحيّز المالي وتوليد الإيرادات، وهي خيارات مدعومة من منظّمات الأمم المتّحدة، مثل منظّمة العمل الدولية، واليونيسف وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، بالإضافة إلى صندوق النقد ومنظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرهم. طبَّقت العديد من الحكومات هذه التدابير لعقودٍ، وبيّنت عن وجود مكامن وخيارات مختلفة لزيادة الإيرادات. من المهمّ الفهم أن تقلّص الحيّز المالي في فترات الانكماش سببه عدم اكتشاف الحكومات كلّ مصادر التمويل المُمكنة. وعلى الرغم من ورود بعض هذه البدائل في نقاشات السياسات الحديثة، هناك حاجة لتزويد البلدان بالتمويل المطلوب للخروج من جائحة كوفيد-19 وتحقيق أهداف التنمية المُستدامة.

تبنّي مقاربات تقدّمية تقضي بتكليف أصحاب المداخيل العالية، وتجنّب الضرائب على الاستهلاك التي تعدُّ تراجعية بطبيعتها وتقوّض الارتقاء الاجتماعيترتكز المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان على استخدام الدول أكبر قدر من الموارد لضمان احترام حقوق الإنسان. والخيارات الرئيسة لتجنّب التقشّف وتمويل الإجراءات التي تضمن حقوق الإنسان وتنفيذ أهداف التنمية المُستدامة، هي:

1. زيادة إيرادات الضريبة التصاعدية

يعتبر هذا الخيار من القنوات الرئيسة لتوليد الإيرادت، عبر تغيير معدّلات الضريبة على أرباح الشركات والأشطة المالية والثروة والملكية والاستيراد والتصدير والموارد الطبيعية والخدمات الرقمية، فضلاً عن إغلاق المناطق الاقتصادية الخاصّة، ووقف الإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى. ونظراً لتفاقم مستويات اللامساواة، من المهم تبنّي مقاربات تقدّمية تقضي بتكليف أصحاب المداخيل العالية، وتجنّب الضرائب على الاستهلاك التي تعدُّ تراجعية بطبيعتها وتقوّض الارتقاء الاجتماعي. كذلك يوصى بوضع حدّ أدنى للضريبة على الشركات لا يقل عن 25% تماشياً مع توصيات الأمم المتّحدة فيما يتعلّق بالمحاسبة المالية والشفافية والنزاهة. ومن المهمّ تعزيز فعالية طرق تحصيل الضرائب والامتثال الضريبي، ومن ضمنها مكافحة التهرّب الضريبي الدولي والتهرّب الضريبي للشركات. تلجأ العديد من الحكومات إلى رفع الضرائب لتنفيذ الاستثمارات الاجتماعية الكبرى. على سبيل المثال، تموّل بوليفيا ومنغوليا وزامبيا برامج للمعاشات التقاعدية الشاملة ورعاية الأطفال من خلال الضرائب على المناجم والغاز، أيضاً أدخلت الملديف وغانا وليبيريا ضرائب على السياحة لدعم برامج اجتماعية، أمّا بلجيكا وكندا وفرنسا والهند وأندونيسيا وكينيا ونيوزيلاندا وتونس وتركيا فقد فرضت ضرائب على الخدمات الرقمية، في حين لجأ كلٌّ من الجزائر وأنغولا وأستراليا وكندا وكازاخستان وإيطاليا وموريتانيا والموزامبيق والنروج وباباو وغينيا الجديدة وروسيا والسعودية وبريطانيا إلى فرض ضرائب على الأرباح الضخمة في قطاع الطاقة. في المقابل فرضت هنغاريا وإسبانيا ضرائب على الأرباح المصرفية الضخمة. أمّا الأرجنتين والبرازيل فقد لجأت إلى الضرائب على العمليات المالية لتوسيع التغطية الاجتماعية. أيضاً أدخلت الأرجنتين وآيسلندا وإسبانيا ضرائب على الثروة. هناك اقتراحات عدّة لفرض ضرائب على الثروة وأرباح الشركات غير المتوقّعة باعتبارها من السياسات الفضلى للتعافي بعد الجائحة.

2. إعادة هيكلة الديون أو إلغاؤها

بالنسبة لغالبية البلدان المديونة، ولا سيّما تلك التي تمرّ بأزمة ديون، يُعدُّ تخفيض الدين القائم أو إلغاؤه مُمكناً ومُبرّراً في حال التشكيك بشرعية هذه الديون أو تسبّبها بزيادة حرمان السكّان، أي إذا انطوت خدمة الدَّيْن على تقويض حقوق الإنسان والتنمية، على قول رئيس تنزانيا السابق يوليوس نييريري في خلال أزمة الديون في الثمانينيات: «هل علينا تجويع أطفالنا لدفع ديوننا؟». ينظر مفهوم الديون غير الشرعية إلى المسؤولية من وجهة نظر المدينين لا الدائنين فحسب. لذلك يشكّل التدقيق في الدَّيْن العام من قبل المواطنين والمواطنات أداة مفيدة لتعزيز الشفافية واتخاذ الإجراءات التي تؤدّي إلى إلغاء الديون غير الشرعية.

في السنوات الأخيرة، نجح أكثر من 60 بلداً في إعادة التفاوض على الديون، وقايض أكثر من 50 بلداً ديونه، فيما تخلّف أكثر من 20 بلداً عن دفع الديون أو رفض دفعهاهناك خمسة خيارات رئيسة مُتاحة أمام الحكومات لتقليص أو إلغاء الديون السيادية: 1) إلغاء الديون أو تخفيفها، 2) إعادة التفاوض على الديون، 3) مقايضة الديون أو تحويلها، 4) رفض دفع الديون، 5) التخلّف عن الدفع. في السنوات الأخيرة، نجح أكثر من 60 بلداً في إعادة التفاوض على الديون، وقايض أكثر من 50 بلداً ديونه، فيما تخلّف أكثر من 20 بلداً عن دفع الديون أو رفض دفعها مثل الإكوادور وآيسلندا والعراق، الذين استثمروا المبالغ المتأتية من عدم دفع خدمة الدَّيْن في برامج اجتماعية. إلى ذلك، ثمّة حاجة لمسار عادل وشفّاف للتحكيم بين الدائنين والمدينين، ووضع آليّة عالمية للتعامل مع الديون. منذ جائحة كوفيد-19، سمحت «مبادرة تعليق سداد خدمة الدَّيْن» التي أطلقتها دول العشرين، وبالتوازي مع «الصندوق الاستئماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون» التابع لصندوق النقد، بتخفيف خدمة الدَّيْن مؤقتاً في البلدان الفقيرة المديونة. وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، ولو أنّ هناك حاجة أكبر لخفض المزيد من الديون.

3. الحدّ من التدفّقات المالية غير المشروعة

تقدّر التدفّقات المالية غير المشروعة بأكثر من عشرة أضعاف حجم المساعدات التنموية، وهي تشكّل حجماً كبيراً من الموارد التي تخرج من البلدان النامية سنوياً. حتّى اليوم، لم يتحقّق أي تقدّم في مكافحة هذه التدفّقات، وهو ما يحتّم على صانعي السياسات إيلاء اهتمام أكبر لمحاربة تبييض لأموال والرشاوى والتهرّب الضريبي والغشّ الجمركي، وغيرها من الجرائم المالية التي تعتبر غير مشروعة وتحرم الحكومات من الإيرادات التي تحتاجها للإنفاق على التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

4. زيادة مخصّصات الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي

من المهمّ زيادة المخصّصات المرصودة للحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي عبر زيادة مساهمات أصحاب العمل وتنظيم العمالة عبر عقود عمل لائقة. بالنسبة للحماية الاجتماعية، تُعدّ زيادة معدّل مساهمات أصحاب العمل في الضمان الاجتماعي، وتوسيع التغطية، وكذلك جباية الاشتراكات الجديدة من الطرق المستدامة لتمويل الحماية الاجتماعية التي تساعد على تنظيم وحماية العمّال في الاقتصاد اللانظامي، وتؤمّن لهم عقود عمل بظروفٍ لائقة. يمكن العثور على أمثلة ملائمة في كلّ من الأرجنتين والبرازيل والأورغواي. وكذلك تُعد هذه التدابير مهمّة للنساء لتشيجعهن على الانخراط في القوى العاملة والعمالة النظامية.

تقدّر التدفّقات المالية غير المشروعة بأكثر من عشرة أضعاف حجم المساعدات التنموية، وهي تشكّل حجماً كبيراً من الموارد التي تخرج من البلدان النامية سنوياً

5. استخدام احتياطات الخزانة والعملات الصعبة لدى المصارف المركزية

تمتلك معظم البلدان احتياطات ضخمة غير مُستخدمة في مصارفها المركزية أو في صناديقها العامّة، يمكن استخدامها لتمويل متطلّبات حقوق الإنسان والتنمية. ويتضمّن هذا الخيار استخدام المدّخرات المالية وإيرادات الدولة المحفوظة في الصنادق السيادية أو صناديق أخرى، أو استخدام فائض احتياطي العملات الأجنبية المُتراكمة في البنك المركزي لتمويل التنمية المحلّية والمناطقية من خلال مصارف التنمية الوطنية على سبيل المثال. تُعدُّ الصناديق السيادية بمثابة صناديق استثمارية مملوكة من الدولة، وهي تأسّست بالمبدأ بهدف دعم الاستقرار أو صناديق الادخار والمعاشات التقاعدية. مع ذلك، يتساءل كثيرون عن المنطق من استخدام هذه الصناديق العامّة لدعم نمو الأسواق الرأسمالية، التي تستثمر أموالها عادة في أسواق الأسهم العالمية في وول ستريت ولندن وطوكيو، بدلاً من إعطاء الأولية للبرامج العامّة المحلّية. أمّا فيما يتعلّق بقيمة احتياطي العملات الأجنبية الموجود لدى المصرف المركزي، فيجب الحفاظ على مستوى موازي لثلاثة أشهر من الاستيراد، إلّا أن غالبية الحكومات تراكم مستويات أعلى بشكل احترازي لمواجهة الصدمات، في حين يمكن استثمار هذه الموارد في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

6. إعادة تخصيص الإنفاق العام

يتضمّن ذلك تعديل أولويات الموازنة العامة و/أو استبدال الاستثمارات المكلفة وذات الأثر الاجتماعي الضئيل، مثل الإنفاق على الدفاع والتسلّح ودعم الشركات الخاصة، باستثمارات ذات تأثير اجتماعي أكبر. ويمكن تحقيق المزيد من الادخارات من خلال تحسين عمليّات الشراء العام واتباع الخطوات اللازمة لمكافحة الفساد وسوء إدارة المال العام. على سبيل المثال، خفّضت تايلاندا الإنفاق العسكري لتمويل خدمات التغطية الصحّية الشاملة، فيما ألغت كوستاريكا الجيش واستخدمت النفقات التي كانت تخصّص له من أجل تمويل البيئة والصحّة والتعليم.

7. تبنّي إطار اقتصادي كلّي أكثر ملاءمة

يتطلّب ذلك السماح بخوض مسارات لمستويات أعلى من العجز المالي في الموازنة، أو السماح برفع معدّل التضخّم، إنّما من دون تعريض استقرار الاقتصاد الكلّي للخطر، وبالتالي السماح للمصرف المركزي بتمويل الإنفاق الحكومي. لجأ عدد كبير من البلدان النامية إلى الإنفاق بالعجز وأطر الاقتصاد الكلّي الأكثر ملاءمة  في خلال الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، من أجل تلبية الطلبات الملحّة في ظلّ انخفاض النمو، ودعم التعافي الاجتماعي والاقتصادي. في البلدان المرتفعة الدخل، استخدمت حكومات عدّة التيسير الكمّي، وهي سياسة نقدية يشتري بموجبها البنك المركزي السندات الحكومية أو الأصول المالية الأخرى من أجل ضخّ الأموال في الاقتصاد وتوسيع النشاط الاقتصادي، علماً أنها من السياسات التي تفيد المؤسّسات المالية بشكل أساسي، فيما الخيار الأفضل هو اللجوء إلى سياسات أكثر إنصافاً. شكّلت هذه الإجراءات الاستجابات الأكثر شيوعاً في المراحل المُبكرة من التصدّي لتفشّي جائحة كوفيد-19.

تمتلك معظم البلدان احتياطات ضخمة غير مُستخدمة في مصارفها المركزية أو في صناديقها العامّة، يمكن استخدامها لتمويل متطلّبات حقوق الإنسان والتنمية

8. الضغط من أجل حشد المساعدات الإنمائية الرسمية والتحويلات

هذا الخياران دوليان، ويتطلّبان اتفاقات ثنائية أو متعدّدة الأطراف. وفي هذه الحالة، يجب التعامل مع مختلف الحكومات المانحة والمؤسّسات المالية الدولية والمنظّمات الإقليمية لتكثيف التحويلات من الشمال إلى الجنوب، وبين بلدان الجنوب نفسها، أو التحويلات الإقليمية، ومن الأفضل أن يجري ذلك من خلال المنح والقروض الميسّرة. مع ذلك، يُعدُّ هذا الخيار محدوداً نظراً للشوائب التي تتضمّنها المساعدات الإنمائية الرسمية، بما فيها قيمها المنخفضة، وارتفاع كلفة التحويلات، ومحدودية القدرة على التنبؤ بثبات تدفّقها، عدا عن تقييدها وتركّزها ومشروطيتها، بالإضافة إلى تخصيصها مؤخراً لدعم اللاجئين، وفي المستقبل لإعادة إعمار أوكرانيا، ممّا يحرم البلدان النامية منها.

9. حقوق السحب الخاصة

لتلبية احتياجات التمويل الإنمائي للبلدان، تُعدُّ مخصّصات حقوق السحب الخاصة خياراً يحظى بمزيد من الاهتمام. تعدُّ حقوق السحب الخاصة نوع من المال الصادر عن المؤسّسات المالية الدولية. وزّع صندوق النقد الدولي في آب/أغسطس 2021 على جميع البلدان، حزمة استثنائية من حقوق السحب الخاصة بقيمة 650 مليار دولار أميركي، للتصدّي لجائحة كوفيد-19. يمكن للحكومات أن تستخدم هذه الأصول لدعم احتياطياتها واستقرار عملاتها وسداد الديون و/أو دعم الموازنة العامّة، بما فيها السياسات الاجتماعية أو الاقتصادية. ومع ذلك، قوبلت الآليّة التي أنشأها صندوق النقد الدولي لتوزيع هذه المخصّصات بانتقادات شديدية، لأنّها حوّلت حقوق السحب الخاصّة من أصل احتياطي دولي (يمكن تحويله إلى عملة صعبة) إلى قروض وبرامج يجب سدادها ومربوطة بمشروطية الصندوق، فضلاً عن تخصيص حوالي ثلثي المبلغ الموزّع (420 مليار دولار أميركي) للاقتصادات المتقدّمة، فيما هناك حاجة ملحة لتوجيه حقوق السحب الخاصة إلى البلدان النامية بشكل دوري لمواجهة نقص التنمية المزمن فيها. لذلك، من الضروري الوصول إلى آليّة أفضل لا تؤدّي إلى زيادة الديون والشروط، وتسمح بتوزيع عادل ودوري لحقوق السحب الخاصة.

خلاصات

طبعاً لكلّ دولة مرتكزاتها الخاصّة، لذلك يجب معاينة الخيارات بعناية، بما فيها المخاطر المحتملة والمقايضات الممكنة. كخطوة أولى، من المهمّ تحديد إمكانات التمويل المُجدية على المديين القصير والمتوسط. فمعظم الدول تجمع بين خيارات عدّة. وعادة تبدأ الحكومات بتحسين الحيّز المالي من خلال تخصيص مبالغ قليلة من كلّ خيار مُمكن، ومن ثمّ زيادة الإجراءات التي تنوي تنفيذها تدريجياً في السنوات التالية.

يتطلّب إنشاء حيّز مالي ناجح فهم الفائزين والخاسرين جرّاء خيار معيّن ومناقشة الإيجابيات والسلبيات بشكل فعّال في حوار اجتماعي وطنيتعتمد الجدوى السياسية لهذه الخيارات، من بين أمور عدّة، على الإرادة السياسية، ووعي المواطنين والمواطنات بحقوقهم وواجباتهم، والضغوط السياسية الممارسة، وسلوك مجموعات المصالح على الصعيدين المحلّي والخارجي. على سبيل المثال، إن التوسّع في تغطية الضمان الاجتماعي من خلال تنظيم العمالة الموجودة في الاقتصاد اللانظامي يلقى ترحيباً سياسياً. مع ذلك، قد تواجه زيادة مساهمات الضمان الاجتماعي مقاومة من مجموعات أصحاب العمل. وبالمثل، إن زيادة الإيرادات من خلال رفع المعدّلات الضريبية قد تواجه تحدّيات من الذين يتعيّن عليهم دفع المزيد، تماماً كما ستعارض شركات الأسلحة خيارات إعادة تخصيص الموازنة العامّة الحكومية بعيداً من الإنفاق على التسلّح. من ناحية أخرى، يُعدُّ استخدام الاحتياطات المالية واحتياطات البنك المركزي وإصدار الديون الحكومية (السندات) من الخيارات أقل إثارة للجدل لأنها تخضع لتقدير الحكومات وحدها، ما لم تكن هناك قيود مالية. في النهاية، يتطلّب إنشاء حيّز مالي ناجح فهم الفائزين والخاسرين جرّاء خيار معيّن ومناقشة الإيجابيات والسلبيات بشكل فعّال في حوار اجتماعي وطني.

تؤثّر القرارات المالية على حياة الملايين من الناس ولا يجب أن تُتخذ خلف الأبواب المغلقة، بل بموجب حوار اجتماعي وطني. يتخذ عدد قليل من التكنوقراط في وزارات الماليّة قرارات تخفيض النفقات العامّة بدعم من صندوق النقد الدولي ومن دون أي تقييم للآثار الاجتماعية المترتبة عن هذه السياسات، ومن دون حوار وطني أو مناقشة خيارات السياسة البديلة. تؤثّر هذه القرارات على معظم المواطنين والمواطنات، ولذلك يجب الاتفاق عليها بشفافية ضمن حوار اجتماعي وطني. وهذا يعني أنه يجب على الحكومات التفاوض بشفافية بشأن هذه السياسات مع أصحاب المصلحة، بما فيهم نقابات العمّال واتحادات أصحاب العمل ومنظّمات المجتمع المدني.

من الضروري استكشاف جميع خيارات التمويل المُتاحة والمُمكنة لضمان التعافي. ومن المهمّ فهم أن تقلّص الحيّز المالي أثناء فترات الانكماش الاقتصادي، يحدّ من قدرة الموازنة العامّة في العديد من البلدان، بسبب عدم استكشاف الحكومات جميع مصادر التمويل المُمكنة. اليوم، هناك حاجة ملحّة لخلق حيّز مالي أكبر من أي وقت مضى في ظلّ السياسات التقشّفية المتبعة والأزمات المتلاحقة. ومن الضروري أن تستكشف الحكومات جميع بدائل التمويل المُمكنة لتعزيز التعافي بعد الجائحة، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

قدّمت هذه الورقة في إطار ورشة عمل حول التقشّف نظّمها ائتلاف آراب ووتش ومؤسسة فريدريش ايبرت في تونس في حزيران/ يونيو 2023.

إيزابيل أورتيز

مديرة البرنامج العالمي للعدالة الاجتماعية في «مبادرة جوزيف ستيغليتز للحوار السياسي» في جامعة كولومبيا. والمديرة السابقة لإدارة الحماية الاجتماعية في منظّمة العمل الدولية. كذلك عملت في اليونيسف مديرة مساعدة للسياسات والاستراتيجيات، ومستشارة لدى الأمم المتّحدة في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.