Preview الطوائف واقتصاد السوق

الطوائف واقتصاد السوق
كيف تعمل المؤسّسات الطوائفية مع الرأسمال على إعادة إنتاج تشكيلة اجتماعية مُتهافتة؟

  • تجسّد الطوائف، خارج الإطار «الروحي» الخاص بكلّ منها، مؤسّسات رئيسة، خدمية متنوّعة وعقارية وتجارية مُكرّسة قانوناً، وهي بهذه الصفة تحديداً تشكّل جزءاً مُكوّناً في تركيب السوق وآليّاته على السواء. ولا يمنعها كلّ ذلك، بالتأكيد، من الاهتمام، ولو المحدود، بالشأن الاجتماعي والمعيشي والصحّي لرعاياها.
  • تبدو الرأسمالية اللبنانية مُستَقبِلاً مُسهِّلاً لتحوّل الطوائف إلى فاعل اقتصادي: ففي حين تدعم المؤسّسات الطوائفية الأبرز الرأسمال الكبير لتعزيز مواقعه الاحتكارية في السوق، يدعم الرأسمال الكبير، بدوره، مؤسّسات الطوائف في تعزيز مواقعها الاقتصادية.

نحاول في هذا النصّ أن نتعامل مع الطوائف بصفتها فاعلاً مؤسّسياً رئيساً يؤدّي دوراً هاماً (رئيساً بالأحرى) في حياة المؤمنين وخلافهم. كما هو الأمر كذلك لحظة مغادرتهم الحياة. وهي تعمل، من حيث الأساس، على تسهيل المقبولية (باعتماد الصبر والاحتكام للصلاة والدعاء بالفرج) بنتائج الأزمة العامة للنظام الاقتصادي - الاجتماعي في لبنان، باعتبارها تحذيراً ما ورائي من متابعة التأفّف والاعتراض على ذوي السلطان والثروة. إذ إنّ ما أتيح لهؤلاء في الأرض سيتاح أفضل منه للناس «البسطاء» في الآخرة على الرغم من قلّته.

وفي مواجهة العصف المعيشي، والحياتي عموماً، الذي يطال أكثرية موصوفة من اللبنانيات واللبنانيين وخلافهم من المقيمين والعاملين في ربوعه (السابقة)، لا تملك الطوائف سوى «القليل» لتقديمه، وأهمّه الوعد بالجنّة لمن يسكت على ضيم السلطة والرأسمال والإفقار. ولكن الغالبية من الناس، التي تقيم في مدار عصف اجتماعي وصحّي ومالي واقتصادي وسياسي ومواطني (الهجرة المُتعاظمة ولو بتوسيط المخاطرة بالحياة) ما زالت «تحلم» بالأرض ملاذاً عاشته، وخبرت خيره وشرّه. وهي الآن تعرف، بالتجربة، أن الخير بعيد ولكن الشرّ معروف: نظام لم يفتقر فيه غني ولم يغتنِ فيه، ما عدا استثناءات اختارها أصحاب السلطة الطوائفية، فقير.

يحدث ذلك في الوقت الذي يتفادى فيه من يتحدّث باسم الطوائف وأولويّاتها، بصفتها وعاءً يغلب فيه الانتماء والتحيّز «للكبار»، أي نقد للنظام الريعي - التوزيعي السائد. وهو لا يقترب، تالياً من مسؤوليّة هذا النظام وأهله عن الانهيار المُعمّم ونتائجه على من بقي وجوده مرهوناً لأجرٍ لا حدّ لتآكله أو لدخلٍ لكفافٍ. وليس لواهمٍ أن يتفاجأ بذلك. فقد بادر أهل النظام من ممثّلي الطوائف والسياسيين، ناهيك عن المصرفيين بالتأكيد، إلى تشخيص الأزمة (غير المؤقتة) الناشئة عن خيارات وسياسات «صحيحة» حدّد مسارها ونتائجها حاكم البنك المركزي. فإذ هي ناشئة عن عطب «مؤقّت» سببه تمويل الموازنة العامّة، التي كان يفترض أن تعوِّض ذلك بمزيدٍ من الضرائب تطال الأفقر طبعاً.

تشكّل الطوائف مكوّناً بارزاً من مكوّنات الرأسمال والاقتصاد عموماً في لبنان. هكذا كان الوضع قبل الانهيار. وهكذا يستمرّ في سياقه، ولكن مع تعاظم مفاعيلهغير إنّ أموال الأفقر لم تكفِ في وقتٍ كانت أموال المُكتنزين، أصحاب ثروات وسياسيين ومصرفيين، قد أصبحت، للفطنة، خارج لبنان. وهكذا بادر الحاكم، وهو المُنهك وطالب الراحة بعد إنجازاته التي لا حصر لها، إلى إدارة الأزمة النقدية - المالية بالمزيد من إفقاد العملة اللبنانية قيمتها الشرائية. إذ هو، كما بدا في سياق إدارته للأزمة النقدية، رغب بأن لا يبقى لبنانياً ولبنانية من دون أن يحمل لقب «مليونير». والحاكم هذا لم يألف الاحتكام فقط لصفته الفردية أو المؤسّسية، وإنّما بادر أيضاً إلى العمل بصفته وكيل أهل النظام من ممثّلي الطوائف ومعهم، والأرجح قبلهم، ممثّلي الرأسمال الريعي والخدمي - التجاري بالأخص. ولا همّ بعد ذلك أن يرتبك وضع الطبقات «الوسطى» ولا، بالأخص، أن يصبح الجوع والإملاق رفيقا دربٍ لمن لم ينل من النظام سوى البطالة والإفقار والتهميش.

***

وفي حين تعاظم الانهيار وأنتج أوقاتاً حرجة اجتماعياً ومعيشياً، وإن متفاوتة تبعاً للموقع الطبقي، وتوسّع معه الإفقار منذ سنوات أربع، اعتادت المرجعيّات الدينيّة بالأخص أن تخصّص «المحرومين»، كل منها ضمن طائفتها و«جماعتها»، ببعض عطاءاتها وأن تدعوهم إلى الصبر والصلاة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. لكنّها في الأزمة العامة الراهنة للنظام ارتأت أن تحافظ على رصانتها وتكتفي بالصلاة والدعوة إلى الصبر... على أهل المال والسلطة.

والحال، فإنّ هذه الطوائف تجسّدها، خارج الإطار «الروحي» الخاص بكلّ منها، مؤسّسات رئيسة، خدمية متنوّعة وعقارية وتجارية مُكرّسة قانوناً. وهي بهذه الصفة تحديداً تشكّل جزءاً مكوّناً في تركيب السوق وآليّاتها على السواء. ولا يمنعها كلّ ذلك، بالتأكيد، من بذل الاهتمام، ولو المحدود، بالشأن الاجتماعي والمعيشي والصحّي لرعاياها بالأخص في زمنٍ لم تعد المواطَنة فيه تكفل سوى جواز السفر. لكنّ «عقلانيّة» الطوائف لا تفترق، كما تأكّد، عن «عقلانية» الرأسمال. فهي في زمن الانهيار معنيّة بالآخرة من حيث الأساس. أمّا الحاضر فهو من شأن الناس. والذي لا حماية له في دنيا الطوائف نبقة له الآخرة والله أعلم.

***

في سياق ما تقدّم، سنطرح سؤلاً مُحدّداً تشكّل المحاولة هذه مشروع إجابة عليه: إذا كانت الطوائف هذه، في جانبها النظامي (أحزاب، حركات، منظّمات، تجمّعات يجمعها، معاً، عالما السلطة والثروة) في جانب هامٍّ من تكوينها وممارساتها غير الدينية البحت، تقوم بنشاط ينتمي إلى اقتصاد السوق ويخضع لآليّاته، كما هو واقع مؤسّساتها المُتعدّدة والمتنوّعة وظيفياً أي خدمياً (مستشفيات، مدارس، دور رعاية، مدافن، مشاغل، إدارة عقارات، تسويق، إلخ.)، فإنّها بالتأكيد تمرّست بـ«مغادرة» عالم الإيمان، «مؤقتاً»، بهدف القيام بزيارة ملحّة إلى أرض البشر. وفي الحالة المُفترضة هذه فانّ خدماتها المُتعدّدة، وذات الشأن والنوعية أحياناً، إنّما تخضع، خدمة للسماء، لقانون (بالأحرى: لا قانون) السوق. ولكنّها، على الرغم من ذلك، لا تجد حرجاً - على الرغم من الإيمان وإلزاماته - في التعامل مع هذه السوق وفقاً لقانون هذه الأخيرة. وبذلك، تشكّل الطوائف مكوّناً بارزاً من مكوّنات الرأسمال والاقتصاد عموماً في لبنان. هكذا كان الوضع قبل الانهيار. وهكذا يستمرّ في سياقه، ولكن مع تعاظم مفاعيله.

تبدو الطائفة، في وجهها المؤسّسي، وكأنّها في طبيعة الأشياء: قبول «عفوي» بها لا يسمح حتّى بمساءلة الدور الذي تقوم به بصفتها مؤسسة «من نوع خاص»وعليه، فإنّ السؤال الذي لا بدّ من طرحه كي يوجّه مآل هذه المحاولة هو: لماذا لا يحضر «الاقتصاد الطوائفي» في الخطاب السائد بحثاً وتحليلاً في لبنان، عندما يتعلّق الأمر بـ«عالم الخدمات الاجتماعية المُتعدّدة» من مصدر ديني؟ وبالأحرى، لماذا يحضر، إن حضر، بصفته تعبيراً صريحاً عن حضور «رعوي»، وليس بصفته تعميماً لعلاقات السوق، عبر المؤسّسات الدينية من جهة، وتشجيعاً (تغطية) لغياب الدولة عن أحد حقولها الأهمّ مواطنياً، أي الحقل الاجتماعي، من جهة ثانية؟

***

في نقده للمقاربة النيو-فيبيرية - نسبة لماكس فيبر Max Weber، يلاحظ Maucourant1 أنّ لبنان المعاصر يقدّم مثالاً على خصوبة المقاربة ما بعد-الفيبيرية التي تبّين أهمّية مفهوم الدولة «التوريثي-الجديد» néo-patrimonial. فالدولة هنا ترتدي كل الأشكال الاحتفالية للدولة البيروقراطية العقلانية. ولكنّها لا تمارس أشكال العقلنة تلك التي يمكن أن تساهم بتكوين مجتمع «حديث». إذ إلى جانب العوامل الدولية - كما الداخلية بالأخص - التي تفسِّر جزئياً مراوحة العقدين ما بين 1990-2010، يفترض أصحاب هذه المقاربة أنّ العقلانية «الناقصة» للدولة اللبنانية هي سبب بارز للضعف الاقتصادي. وهذه العقلانية الناقصة هي نتيجة اعتماد نموذج «الجمهورية التجارية» في ثلاثينات القرن المنصرم، والذي اعتبر أنه يوّلد البحبوحة. أما الشأن الاجتماعي فقد اعتبر من مهام الهياكل الرعوية الطوائفية.

وفي المقاربة الماركسية «المُعدّلة»، التي يقترحها دوبار ونصر2 ، يؤول التحليل الاجتماعي - الاقتصادي إلى إبراز البنيات الاجتماعية التي تتداخل مع الجهاز الطائفي المُتعدّد. وهذه طريقة أخرى في قراءة وتأويل الوقائع. إذ إنّها تنطوي، هي أيضاً، على ترتيب جديد للوقائع عينها التي تنتظم على هذا النحو منذ اللحظة التي تتشكّل وتتخصّص فيها البورجوازية الوسيطة التي تكمن وظيفتها (في دعم) الرأسمالية الأوروبية عندما تدمج نشاطات الشغيلة والمنتجين في لبنان في مسالكها التجارية الدولية.

في المقاربتين الآنفتين ثمّة نقطة انطلاق في التحليل تتمثّل في انسيابية العلاقة ما بين مستويات البنية الاجتماعية المختلفة: الثقافة (الطائفة) والسياسة والاقتصاد. وهي المستويات التي يتشكّل بفعل جبلتها الخاصّة التشكيل المجتمعي اللبناني.

  1. فالطائفة تبدو، في وجهها المؤسّسي، وكأنّها في طبيعة الأشياء: قبول «عفوي» بها لا يسمح حتّى بمساءلة الدور الذي تقوم به بصفتها مؤسسة «من نوع خاص». وهذا ما يبرز بالأخص على صعيد الخدمة الاجتماعية كما على صعيد صيرورة الطائفة فاعلاً اقتصادياً رأسمالياً مباشراً ولو على شاكلة رأسمال ريعي.
  2. ويمكن أن ندعم النتيجتين هاتين بملاحظة مصدرها الأنثروبولوجيا. فطبقاً لملاحظة ثاقبة3 ، تبدو الثقافة الدينية مُحرّكاً استهلاكياً من نوعٍ خاص.
  3. إلى ذلك، يتوازى الطلب المُتصاعد على «السلع» الدينية مع سيطرة الانفعال «الطوائفي» والتأكيد على «الهويات القاتلة»4 .
  4. وحيث تحظى الطوائف بوضع تمثيلي مؤسّسي احتكاري يسبق فعلياً التمثيل المواطني، كما هو الوضع في لبنان، يمكن للطوائف أن تحدّد، أو في الأقل يمكنها أن تقرّر وضعيّة أسواق معيّنة، مثل سوق «المنتجات الدينية» وسوق التعليم والخدمات الاجتماعية والصحّية مثلاً. وهذه الوضعيّة شبه الاحتكاريّة التي يضفيها الاعتراف الدستوري والقانوني بالطوائف بصفتها كيانات تحتكر حقوقاً مُحدّدة. وهي حقوق تسمح لها بتكوين «سوق للمنتجات والخدمات الدينية» إلى جانب تمتّعها بوضعٍ شبه مُهيمن على أسواق مخصّصة مثل التعليم في مراحله المختلفة والخدمات الصحّية والاجتماعية (هي الآن في حالة منافسة مع المنظّمات المُسمّاة «غير حكومية»).
  5. نقصد بـ«سوق المنتجات والخدمات الدينية» السوق التي تحدّد شروط العرض المُتحكّمة بالطلب فيها المؤسّسة الدينية (الطوائفية) المعنية، مثل: ما الذي يعرض فيها من منتجات خاصّة، بأي شروط، بأي ثمن وبأي كمّية، إلخ.

وهذا التحكّم بشروط العرض، ومعه الطلب، ناشئ عن انتفاء ميلي للمنافسة. ولذلك، فإنّ هامش الربح والعائد عموماً يتحدّدان بوضعية احتكارية أو، في الأقل، شبه احتكارية.

يؤدّي هذا السعي، في حالة الاقتصاد «الديني» إلى وضع احتكاري، كما هو الوضع في سوق الخدمات الدينية المدفوعة مثل الزواج والطلاق والإرث، السياحة الدينية، التعليم الديني، الأوقافوفي مطلق الأحوال، فإنّ ثمة توافقاً ما بين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين على أن التدين يؤثّر على الاستهلاك الثقافي5 ، كما إنّ الطوائف تستخدم الاستهلاك للتعبير عن هويّتها الجمعية ولنا في الحالة اللبنانية ترجمة فعّالة لهذه المعادلة.6

لذلك يصحّ القول بإنّ «أفعال المؤسّسة الدينية والجسم الكهنوتي (بالمعنى الديني العام وليس بتخصيص دين أو طائفة مُحدّدة) يمكن اعتبارها منطقية بصفتها أجوبة «عقلانية» على قيود وفرص يُعثر عليها في السوق الدينية»، كما يلاحظ L.R. Lannacone.7

***

ولنبدأ، بعد هذا التقديم المُختصر بطرح بعض التحديدات الضرورية:

ما المقصود هنا بالمؤسّسة الطوائفية في لبنان؟

المقصود بها هو الكيان المؤسّسي والحقوقي الذي تكرّس بصفته سلطة مرجعية لأبناء الطائفة التي تمثّل حسب النصوص التأسيسيّة (نظام المِلل العثماني، قرار المندوب السامي في العام 1936 الذي كرّس الاعتراف بسبع عشر طائفة في لبنان (أضيفت إليها لاحقاً الطائفة العلوية بعد اتفاق الطائف في العام 1989)، وكذلك فعل الدستور اللبناني. وإلى ما تقدّم ثمّة القوانين الناظمة لوضع الطوائف وحدود استقلاليّتها وفعلها بالقياس إلى الدستور والقوانين النافذة). كما إنّ المؤسّسة الطوائفيّة هي التي أُعطيت من خلال النصّ القانوني صلاحيّات ومبادرات وحقوق خاصّة بما في ذلك في الميدان الاقتصادي.

ما المقصود بالحقوق الخاصة بالممارسة الطوائفية في اقتصاد السوق؟

المقصود بذلك هو، ببساطة، الاقتصاد الذي تسوسه آليّات العرض والطلب وبالأخص آليّة السعي وراء الربح وتعظيم التراكم من خلال تطبيق «عقلانية» الحساب والإدارة في الأنشطة النظامية الدينية. ولا بأس أن يؤدّي هذا السعي، في حالة الاقتصاد «الديني» (وغيره) إلى وضع احتكاري، كما هو الوضع في سوق الخدمات الدينية المدفوعة مثل الزواج والطلاق والإرث، السياحة الدينية، التعليم الديني، الأوقاف، إلخ).

ولنتحوّل الآن ناحية الأسئلة التوجيهية منهجياً ونظرياً:

كيف تتشكّل المؤسّسة الدينية بصفتها مكوّناً من مكوّنات السوق في لبنان؟

  1. المعطى التاريخي: الحيّز الممنوح للطوائف منذ الإمبراطورية العثمانية، نظام المِلل والصلاحيّات الموقوفة ممارستها على المؤسّسة الطائفية فيما يتّصل بالأحوال الشخصية لأعضائها، الأوقاف، المؤسّسات الخدمية للطائفة المعنية، وغيرها.
    هذا المعطى التاريخي تحوّل إلى معطى دستوري منذ أيام الانتداب وتعزّز في التعديلات التي أتى بها اتفاق الطائف.
  2. المعطى السياسي: السياسة بصفتها ممارسة طائفية: توزيع السلطة على قاعدة طوائفية، التوازنات التوزيعية في الوظائف الرسمية والعامّة، موازين القوى الطوائفية و«حقوق الطوائف»، النزعة الكيانية لدى الجماعات الطائفية، إلخ.
  3. المعطى الاقتصادي: ملكيّة المؤسّسات الطائفية (الأوقاف، العقارات، المؤسّسات التعليمية والصحّية – الاستشفائية – والخدمية المجتمعية، بالأخص. بالإضافة إلى الاستثمارات وعائداتها: مثال الاستثمار في سوليدير، إلخ، ناهيك عن الملكيّات العقارية والاستثمارات المصرفية.
  4. المعطى الثقافي: استثمار الخصوصية الدينية/الطائفية بهدف تأكيد «الأنا» الجمعية بمقابل المُحدّد المواطني. يعني ذلك، أن البعد «الطائفي»، بصفته هويّة ثقافية، يُقرِّر أبعاد الهوية المواطنية إلى حدّ كبير. هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية، فثمّة استثمار الهوية (الخصوصية) الطائفية بصفتها علاقة انتماء أولى (وهي الكيفية التي تقرّر توزيع السلطات الدستورية تبعاً للمقرّر الطائفي. كما تقرّر توزيع المستويات المُقرّرة في إدارات الدولة وأجهزتها المختلفة، بالإضافة إلى القطاعين العام والمستقلّ وما يوازيهما من أطر مؤسّسية عديدة تستخدم عشرات الآلاف من الموظّفين والمستخدمين.

لكن فيما يتعدّى ما أتينا على ذكره للتوّ، فإنّ الأهمّية الاستثنائية للحضور الطوائفي واقتصاده تتضح في اللحظة التي يوضع الديني والثقافي في دائرة التداول المربح في السوق. إذ ثمّة مثلاً الخصوصية المميّزة لكلّ طائفة: أعيادها، مناسباتها، رموزها، ناهيك عن «حقوقها ومكتسباتها». وثمة، ثانياً، عدم تشريع الزواج المدني مع إلزامية الزواج الطوائفي ضمن لبنان، إلخ. وبالإضافة إلى ما تقدّم هناك الاقتصاد الطوائفي: المزارات، اللباس، التزيّن بسلاسل وخواتم تحمل إشارات خاصّة بدين أو طائفة تحديداً، إلخ.

استمرّت المؤسّسات الطوائفية إطاراً حمائياً (طبقياً) للشرائح الأكثر تحكّماً بالسوق في اقتصاد يلعب الاستيراد فيه دوراً مُقرّراًومن جهة المؤسّسة الطوائفية بالذات ثمّة الاستخدام المكثّف للوضع الشخصي (statut personnel/personal status) في جوانبه المُتعدّدة في حالات وأوضاع حصرية مُرتبطة بأوضاع شخصية تستدعي حكماً تدخّل المرجع الطوائفي: الزواج، الطلاق، الانفصال والهجر، الوفاة، التبني، إلخ. هذا بالإضافة إلى ما يرتبط بها جميعاً من خدمات مؤسّسية مدفوعة (التعاقد مع مؤسّسات مُحدّدة تتعهد مراسم الزواج والوفاة مثلاً).

وعلى مستوى مجتمعي أعمّ ثمة الربط المباشر ما بين الخير العمومي من جهة والمصلحة الحصرية، أي الطائفية، التي يوكل إليها إدارة أو استثمار هذا الخير العمومي من جهة ثانية. والمثال الأبرز الذي يجسد هذا الربط في الحالة المعنية هنا هو ذلك الذي «تكرّس» بعد اتفاق الطائف (1989) في المجال العمومي. والمقصود هنا هو توزيع المؤسّسات العامة التي اصطبغت، عبر الآليّة التي اعتمدت «توافقياً»، بلون يجعل كلّ منها «حصّة مُكرّسة» لإحدى الطوائف حصراً وليس بصفتها حقاً عمومياً وتداولياً مفتوحاً لمن تملك/يملك المؤهّلات والكفاءة الملائمتين من المواطنات والمواطنين.

كيف دخلت المؤسّسات الطوائفية إلى عالم السوق ومن أية أبواب؟ وكيف تعزّز وضعها في هذه السوق؟

توزيع الأدوار: أولاً، ثمّة المؤسّسات الطوائفية ودورها الحمائي للبيوتات التي تحتكر منذ أوائل القرن العشرين الاستيراد وتجارة الجملة والمصارف وخدمات السوق الرئيسة8 في مقابل الدور الضروري الذي نهضت به المؤسّسات الطوائفية بصفتها جهاز دولة أيديولوجي (L. Althusser)9 يختصّ بـ«التدجين» عبر التنشئة التربوية والقيمية والأخلاقية بواسطة المدرسة والخدمة الخيرية الاجتماعية. ولكنّه تدجين من نوع خاصّ. إذ يعمل في الوجهتين: الوجهة الأفقية حيث تعمل المدرسة عموماً، وبالأخص منها تلك المُقتصرة على فئات «متجانسة» ثقافياً واجتماعياً. وكذلك من خلال الرعاية الموجّهة لفئات اجتماعية خاصّة تقع، عادة، في أسفل السلم الطبقي، بحيث يمكن تشكيلها بالبناء على ما استقرّ عليه وضعها الاجتماعي الهشّ المُعزّز بـ«ذهنية توافقية»، إلخ.

إلاّ إنّه كلّما تعدّل تركيب السيطرة الاقتصادية أولاً لصالح التجّار الكبار ووكلاء الاستيراد الرئيسيين محلّياً، وتعدّلت معه دينامية الرأسمال تدريجياً لصالح الرأسمال المصرفي، كلما بدا التحوّل في التركيب الطبقي أكثر وضوحاً وتأثيراً. يشهد على ذلك توسّع حجم الشرائح الوسطى في التشكيل المجتمعي وتوسّع السوق الداخلية مع توسّع الطلب، اعتباراً من بداية التسعينات من القرن المنصرم. لكن هذا التحوّل لم يكن متاحاً بالضرورة لو لم يتحوّل الطلب الإقليمي العربي - المشرق العربي، السعودية والخليج - ناحية لبنان في سياق «إعادة الإعمار» الحريرية. وكما يبرهن العديد من الأعمال المنشورة والوقائع المؤكّدة فإن ازدياد وزن هذه السوق الإقليمية في إعادة تكوين الاقتصاد المحلّي من خلال الطلب على خدمات «لبنانية» مُحدّدة مثل التعليم العالي بالأخص، ومعه الخدمات الصحّية والترفيه والتملّك العقاري والخدمات المصرفية على الأخص - كان له تأثيراً كبيراً ومباشراً في تحوّل السيطرة إلى الرأسمال الريعي. وهذه السيطرة ستتفاقم مع الارتفاع المتواتر للتحويلات المُنتظمة والمتعاظمة للعمالة الموصوفة لعشرات آلاف الشابات والشباب اللبنانيين في بلاد الغاز والبترول العربية.

هذا التحول المتسارع والمتزايد بفعل التحويلات الآنفة الذكر، مضافاً إليها تلك الآتية من مصادر الهجرة اللبنانية عالمياً، آل إلى ازدياد الطلب على التعليم الجامعي المتوافقة مخرجاته مع الطلب في البلدان العربية المذكورة آنفاً. وقد آل هذا السياق إلى ازدياد «باهر» في عدد الجامعات الخاصّة في لبنان وبعضها كان تجاري الهوى، بحيث بلغ عددها تبعاً لـ«ويكيبيديا» سبع وأربعين جامعة. والمهم في هذا السياق أن ثمّة الثلث من عديد هذه الجامعات والمعاهد الجامعية يحمل هوية دينية أو طوائفية. لكن ذلك لا يسمح بالاستنتاج أنها، جميعها، طوائفية الهوى والهوية. إذ إنّ أبرز جامعتين وأعرقهما تأسّستا بمبادرة جمعية دينية أجنبية منذ ما يزيد على قرنٍ ونصف القرن. وفي الحالتين لم يعد الدين هو المقرّر الرئيس لهويتهما الجامعية.

وقد ظهرت أبشع نتائج التوسّع «التجاري» في سياق ترخيص جامعات حديثة النشأة. إذ تحوّل عدد منها إلى «مؤسسات» تمنح شهادتها لمن يدفع. وفي حالات عدّة كانت الجامعة المُخالفة تابعة لجمعية طوائفية. وبمعزل عن هذه الحالات الحدّية فإن «جمهرة» التعليم الجامعي آلت، بمساهمة نشطة من المؤسّسات الطوائفية بهدف تجاري، في سياق «توازن هشّ» دستورياً وسياسياً، إلى تعظيم البعد التجاري للتعليم الجامعي عموماً ولمخرجاته المرتبطة بالإنسانيات والاجتماعيات بالأخص وليس حصراً.

 يتحوّل التعليم، في غير مدارس «النخبة»، إلى تمرين على التكيّف مع الوضع المستمرّ منذ العام 1992 في كل فصوله وتقلّباته، وبالأخص منها حضور الديني-السياسي بمستوى مُقرّر، في التكوين المدرسي الموجّه لقبول الوضع القائم والإتكال على الغيب للتغييرما تقدّم يسمح، في حدود هذه المحاولة، بالاستنتاج أن الطوائفية، في الميدان التعليمي، هي آليّة توزيع تتحكّم فيه مُحدّدات وموازين قوى لا تخضع بالضرورة للمستوى السياسي وتناسب/لا تناسب القوى فيه. إذ إن السوق، مع امتداد مفاعيلها إلى التعليم الجامعي، وما دونه بالتأكيد، أنتجت وضعاً تنافسياً كبيراً فيما يتصل باستقطاب الطالبات والطلّاب في بلدٍ لا يمكن أن يكون فيها الطلب الداخلي كافياً لاشتغال 47 مؤسّسة جامعية. لذلك أصبح التميّز، أي عملية إعداد من يعلو الطلب على كفاءته المُتاحة، هو ما يسمح للمؤسّسة التعليمية أن تحصد نسبة عالية من الوافدين الجُدد إلى سوق التعليم العالي. هنا تبرز لحظة التمايز في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي الموسّعة. إذ إنّ الطلب على التعلّم، بهدف الهجرة للعمل في الخارج بالأخص، سيكون دافعه الأساس الحصول على الإعداد الذي يؤهّل التجاوب مع متطلّبات هذا الهدف.

ولذلك، فإن المؤسّسات الطوائفية التعليمية الوافدة حديثاً نسبياً، والجامعية منها بالأخص، لا تتمتّع بالحظوظ عينها فيما يتصل بالاستجابة للطلب. وعليه، فإنّ دور المؤسّسات الطوائفية ليس متساوياً لجهة إعداد النخب، أي لجهة تعظيم حظوظ مراكمة الثروة في سوق مُتطلّبة مثل تلك التي تشكّل الوجهة الأساس لغالبية المتخرّجين بمؤهّلات ملائمة مع الطلب فيها.

والسؤال الذي يرد إلى الذهن مع حالة التفاوت ما بين جامعات وأخرى هو: لماذا تصرّ مؤسّسات جامعية على الحضور في سوق التعليم الذي يتولّى إعداد قوّة عمل موجّهة للعمل خارج لبنان في حين إن نتاجها التعليمي لا سوق له في البلدان المُستقطبة للعمالة المؤهّلة اللبنانية؟

يمكن لنا اقتراح الفرضية التالية. إن سوق التعليم الجامعي، الذي يتشكّل من 47 جامعة ومعهد جامعي لا يعمل بالضرورة طبقاً للمنطق عينه. ففي حين أن ثمّة عدداً محدوداً يمكنه أن يستجيب للطلب الخارجي على العمالة الجامعية ذات التأهيل الملائم (قوّة عمل مؤهّلة علمياً وتقنياً) تتوجّه الجامعات الأخرى إلى مهمّتين متداخلتين: إعادة الإنتاج الاجتماعي بكفاءة لا سوق لها إلّا السوق المحلّية الذي تفلح فيها القوى الداعمة لتوظيفها من جهة. وثمّة من ناحية أخرى، ارتفاع متواصل في أعداد الخرّيجين الجامعيين لا يمكن ملاقاة حاجته للعمل إلّا بالتحكّم الطوائفي في سوق قوّة العمل الرسمية (الدولة والمؤسّسات العامّة والمستقلة وما يوازيها بالتحديد القانوني والعملي)؟ هكذا يتدنّى، في حدود ضيّقة، هامش التفاوت ما بين نمط إعداد موصوف يملك من يتحصّل عليه فرصة العمل بشروط مميّزة خارج لبنان من جهة و(بالنسبة إلى لبنان). أمّا من يتخرّج بتأهيل غير موازي فينحصر همّه، غالباً، في إيجاد فرصة عمل محلّية. هنا يعود إلى الواجهة المُحدد الطوائفي في عملية التوظيف.

***

وفي اللحظات اللاهبة من تاريخ لبنان المُعاصر كان لهذه المؤسّسات أن توسّع دورها الخدماتي والاقتصادي بهدف التعامل مع النتائج المدمّرة لحروب 1975-1990. وفي هذا المعنى تلاحظ أعمال المجمع الماروني الذي عقد في مطالع هذه الألفية، ما يلي: «مادياً، ومن وحي مسؤوليّاتها تجاه شعبها، قامت الكنيسة المارونية بمبادرات خيّرة، إذ وضعت أراضيها قيد استثمار، أو لإنشاء تعاونيات إنتاجية، أو لإقامة مشاريع إسكانية؛ ومن الضرورة بمكانٍ أن تساعد الأبرشيات الغنية غيرها من الأبرشيات الفقيرة». (الملف الثالث، النصّ 20، «الكنيسة المارونيّة والشأن الاجتماعيّ»، ص. 394)

وإلى ما تقدّم، استمرّت المؤسّسات الطوائفية إطاراً حمائياً (طبقياً) للشرائح الأكثر تحكّماً بالسوق في اقتصاد يلعب الاستيراد فيه دوراً مُقرّراً. وفي هذا السياق، يشهد الموقف الصارم الذي التزمه البطريرك الماروني الراحل الكاردينال صفير، دعماً لمقاومة المستوردين إلغاء مرسوم التمثيل التجاري الاحتكاري. وآية ذلك تتمثّل في أنّ موقفاً إحسانياً إزاء «المعوزين والفقراء» لا يصرفه البتة عن موقف صارم فيما يتصل بدعم المكوّن الأبرز للرأسمال المُسيطر في لبنان.

أمّا لجهة تعاظم صلابة المؤسّسات الدينية الخدمية والتجارية والعقارية والاستثمارية فأنّها تعود إلى استفادتها من إعفاءات ضريبية مع تزايد كيانيتها - الطوائف المسيحية تتمتع بامتياز «خروجها» على الإكراه الذي يمثّله «انضباط» المؤسّسة الدينية المستفيدة من تمويل الميزانية العامة السنوية للدولة، كما هو أمر المؤسّسات الدينية المسلمة بكافة مذاهبها. فهذه الأخيرة تخضع إلى إكراهات قانونية ونظامية ومالية تقيّد، ضمن حدود، استقلاليّتها. وفي المحصلة فإنّ المؤسّسات المسيحية التي لا تستفيد من/ولا تخضع تالياً لهذا الإلزام، هي مؤسّسات دينية مستقلّة تماماً في كل ما يتصل بنشاطها العام: التربوي، الاقتصادي، الاجتماعي، العقاري والاستثماري. وهكذا فهي فاعل مستقل تماماً في السوق. ويبرز وضعها المستقل هذا من خلال مؤشرين في الأقل. الأول منهما يقع في استقلاليتها النظامية والمالية والمؤسّسية عن الدولة وليس عن الانتظام العام قانوناً. إذ هي تمارس الاستخدام في إطار قانوني العمل والعقود الجماعية بصفتها ربّ عمل مُستقل. هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية فإنّ استقلاليّتها تترجم بحضورها، مفاوضاً ومُقرّراً، فيما يتصل بعلاقات العمل باعتبارها طرفاً حاسماً في بعض الميادين (التعليم الخاص والصحّة مثلاً).

***

وهكذا، يبدو أنّ ما تقوم به المؤسّسات الطوائفية وكأنه في طبيعة الأشياء. لا بل إنّه يكتسب معنى الضرورة في ظرف الأزمة المُعمّمة المستمرّة ونتائجها المتعدّدة اجتماعياً. فهي تستفيد من توسّع الخدمات العمومية في الآن نفسه (عندما يتمّ اعتمادها في إيصال هذه الخدمات إلى «مستحقيها» و/أو عندما تعمل الإيديولوجيا السائدة على إبراز أرجحيّتها أو التخوّف على مصائر جماعاتها إذا ما تقلّص حجم تدخّلها لسببٍ ما).

والسؤال الذي يحضر للتوّ في هذه الحالة هو: لمن تتوجّه المؤسّسات الدينية في نشاطها المُربح هذا فيما يتصل بالطبقات/الفئات الاجتماعية والمجموعات العمرية والهوية الجنسية؟ وفي أي مناطق أو تجمّعات تتحدّد الأولويات؟ وبمعنى آخر، كيف تساهم هذه المؤسّسات بإعادة إنتاج «النظام الاجتماعي»/بالأحرى «التشكيلة الاجتماعية في لبنان»، أخذاً بالاعتبار السيطرة الذكورية شبه المطلقة المُتجذّرة؟ فعلى سبيل المثال، من المهمّ ملاحظة التشابك بين الميل لحماية الانتظام العائلي، وبالأخص السلطة الأبوية، وتعزّز الطلب على المدرسة الطائفية (أي سوق التعليم الطوائفي) والسيطرة الطبقية في آنٍ معاً.

كيف تتعامل هذه المؤسّسات مع العاملين فيها: من تستخدم هذه المؤسّسات (أصول اجتماعية، طائفية، مجالية، جنسية، إثنية، إلخ)؟ أي عقود عمل تعقدها معهم؟ هل ثمّة أنظمة حماية صحّية للعاملين لديها؟ هل تتمتّع كلّ فئات العاملين فيها من هذه الأنظمة إن توفّرت؟ كيف تعالج أزمات العمل فيها؟ هل ثمّة تنظيم نقابي يسمح له بتمثيل العاملين لديها (من غير المعلّمات والمعلّمين) والتفاوض مع المؤسّسات الطائفية؟ هل يتمتّع العمّال والعاملات من غير اللبنانيين بـ«المزايا والتقديمات» التي تتوفّر لمماثليهم من اللبنانيين واللبنانيات؟

رأس الكنيسة المارونية يدعم الرأسمال الكبير التقليدي في معركة حماية الوكالات التجارية، بينما تقف دار الإفتاء إلى جانب سوليدير ضدّ أصحاب الحقوق في وسط بيروتمن النافل القول إن الأسئلة هذه لا تنطبق على جزء محدود من مؤسّسات التعليم الخاص، المحلّي منها والأجنبي – حيث ثمّة موقع ودور للجان الأهل يتمثّلان في وضع معايير محكومة بالقانون النافذ من جهة ومعايير الطبقات «الوسطى» من جهة أخرى. وعلى هذا المستوى بالتحديد ثمّة ما يكشف الآليّة التي تعيد إنتاج الانقسامات الطبقية، سواء تعلّق الأمر بمستوى التعليم أو إجادة اللغات الأجنبية أو التحضير للولوج إلى جامعات محلّية أو أجنبية تسمح لمن يحمل شهاداتها بطرق باب سوق العمل من موقع تأهيلي ملائم ومفتوح على التقدّم المهني.

***

كيف تعزّز الطوائف بناء كيانيّتها من خلال سوق التعليم الخاص؟

يتمّ ذلك، عموماً، من خلال تعاظم دورها في إعادة الإنتاج الاجتماعي المُرتبط بتوسّع استجابتها لحاجات قطاعات وفروع مختلفة من النشاط الاقتصادي والاجتماعي والفني. والمعني بذلك، بالدرجة الأولى، هي المدارس التي «تخرج» عن المُقرّر الرسمي بمعناه الحرفي وتعمل، تالياً، على توسيع إطار إعدادها بحيث يشمل مخرجات غير مدرسية بالمعنى الضيّق. يشمل ذلك، من دون ادعاء الحصر، عالم التكنولوجيا الرقمية والتواصلية والموسيقى وميادين تحوز اهتمام «المنظّمات الدولية» وتلك غير الحكومية، ناهيك عن تملّك أكثر من لغة أجنبية معاً. ويقود كلّ ذلك إلى تعزّز التفاوت بالقياس إلى المدرسة العمومية والخاصة المجّانية أو ما يوازيها من مدارس تحت إشراف مؤسّسات دينية أو متحزّبة.

يبقى السؤال مشروعاً فيما يتصل بالسياسة الاجتماعية التي تعتمدها المدارس الطوائفية عموماً ومعها مستويات الأجور: هل تطبّق المعايير القانونية السائدة؟ هل تحترم أصول التعاقد وديمومة العقد وحقوق الصرف من العمل؟ هل لمستخدميها وعمّالها دور في قراراتها وأدائها المُتصل بحقوقهم؟ هل يستفيد هؤلاء من تقديماتها أو من مزايا ناشئة عن طبيعة نشاطها؟ هل يحقّ للعاملين بأجرٍ في مختلف أنشطتها الاقتصادية والمكتبية والإدارية أن ينتظموا نقابياً كما ينصّ على ذلك قانونا العمل والعقود الجماعية والوساطة والتحكيم؟).

العلاقة التاريخية بالرأسمال (السنّة والتجّار والموارنة والمصرف)

وفي هذا السياق يتداخل دور المؤسّسات الطوائفية بصفتها فاعلاً اقتصادياً مع دورها الفعّال والحسّاس في إعادة الإنتاج الاجتماعي الموسّع وبالأخص لجهة إنتاج فئات اجتماعية تتقبّل ما هي عليه وكأنه في طبيعة الأشياء.

إذ يطبع الغالبية العظمى من المدارس الخاصة المجّانية أو شبه المجّانية منسوب ميلها المحافظ من خلال حرصها على تعميم ثقافة محكومة بسلّم قيم «أخلاقي» يعمل على التخفيف من التعارض مع المحكات الأكثر فعالية في إعادة الإنتاج الاجتماعي في مداها غير الاقتصادي. إذ يغيب، عموماً، التعليم ببعده النقدي للوضع القائم في مستوياته المختلفة وبالأخص منها المستوى الاجتماعي/الطبقي. كما إن التعليم لا يشمل انغماسها في تنشيط الذهنية النقدية لدى التلاميذ، ولا بالتالي مساءلة الوضع القائم من خارج الثقافة السائدة بأبعادها الاجتماعية والثقافية والقيّمية. وهكذا يتحوّل التعليم، في غير مدارس «النخبة»، إلى تمرين على التكيّف مع الوضع المستمرّ منذ العام 1992 في كل فصوله وتقلّباته، وبالأخص منها حضور الديني-السياسي بمستوى مُقرّر، في التكوين المدرسي الموجّه لقبول الوضع القائم والإتكال على الغيب للتغيير.

من أبرز المفاعيل المجتمعية لتعمّم تحوّل المؤسّسات الطوائفية إلى فاعل هامً في اقتصاد السوق، انكفاء شبكة المستفيدين إلى حدود طائفة و/أو منطقة «الانتماء». أي إن ثمّة انكفاء مجالياً واجتماعياً-ثقافياً يتعزّز ويتعمّم على قاعدة توسّع اندراج المؤسّسات الطوائفية في اقتصاد السوق مع الانكفاء النسبي على مناطق متجانسة ثقافياً. وهذا الواقع هو، في حدّ ذاته مفارق. إذ إنّ دينامية السوق تميل للتوسّع وتجاوز الكوابح المادية والقانونية. فكيف تعمل هذه المؤسّسات الطوائفية على قاعدة انكفائية مجالياً واجتماعياً؟ وفي المقابل، يشكّل الاستقطاب المجتمعي على قاعدة طوائفية، مادية ورمزية، سنداً رئيساً لتحوّل الطوائف إلى فاعل اقتصادي، في عملية تبدو وكأنّها شبه دائرية وشبه مقفلة تؤول إلى تعزّز السمة الكيانية-الطوائفية! (جاك قبانجي، 2009. جماعات قويّة مقابل دولة ضعيفة؟ في جاك قبانجي (مُحرّر)، 2009. إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان. بيروت: دار الفارابي).

يتمّ ذلك في سياق تنامي الارتباط الطوائفي اللبناني بـ«عولمة دينية» متنامية تدفع المؤسّسات الطوائفية إلى الانغماس أكثر فأكثر في آليّات السوق بفعل تدفّق «المساعدات» إليها من مصادر دينية وطوائفية عربية وإقليمية ودولية.

في مقابل كل ذلك تبدو الرأسمالية اللبنانية مُستَقبِلاً مُسهِّلاً لتحوّل الطوائف إلى فاعل اقتصادي: ففي حين تدعم المؤسّسات الطوائفية الأبرز الرأسمال الكبير لتعزيز مواقعه الاحتكارية في السوق (رأس الكنيسة المارونية يدعم الرأسمال الكبير التقليدي في معركة حماية الوكالات التجارية، بينما تقف دار الإفتاء إلى جانب سوليدير ضدّ أصحاب الحقوق في وسط بيروت التجاري مقابل زيادة حصّة الوقف السني). ومن جهته يدعم الرأسمال الكبير، بدوره، مؤسّسات الطوائف في تعزيز مواقعها الاقتصادية (تسهيلات مصرفية، مزايا خاصّة لملكيّات الطوائف تبرز بالأخص من خلال ما يمكن تسميته «الريع الناشئ عن الامتياز الديني» كما حصل في صيانة الوضع الخاص للوقف الديني ضمن سوليدير، إلخ).

وهذه عملية يلاحظها مايكل ديفي عبر الوصف التالي10 : «لا شيء يثير الدهشة إذا ما كان وسط المدينة [بيروت]، فيما يتعدّى الرهانات المدنية والاقتصادية بالمعنى الضيّق، قد أدمج من ثمّ بالجماعة السنّية، إذ إنّ كل سياسة مواجهة أو تحالف مع ممثّلها [رفيق الحريري] اتخذت فوراً معنى طائفياً. وحتّى المفاوضة مع الروم الأرثوذكس أو الروم الكاثوليك – وهما جماعتان حاضرتين [في وسط المدينة] من خلال الملكيّة العقارية أو مراكز العبادة – لم يكن لها الدلالة نفسها التي للمفاوضة مع الشيعة أو الدروز، الغائبين عن وسط المدينة».

وفي السياق نفسه، يلاحظ جاك كولان11 ، المؤرّخ المميّز لتشكّل الطبقة العاملة والحركة النقابية اللبنانية، في مقال له: «إنّ التراتبيات الدينية تتمتّع إذاً بمسؤوليّات سياسية واقتصادية، وبغض النظر عن الطابع المحصور أو المُبعثر لتوضعها المجالي، فإنّ لحمتها تتعزّز لأنّها تؤمّن بالأخص الحمايات والحقوق والوصول إلى ممارسات اقتصادية».


المصادر الرئيسة لتمويل المؤسّسات الطائفية

المحاكم الروحية، الإرث والخمس والزكاة، الأوقاف، عائدات العقارات والأملاك، المدارس، مؤسّسات الصحة والاستشفاء، المزارات الدينية، مأسسة الذبح الحلال، المقاولة من الباطن لحساب أجهزة الدولة (وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الصحّة، وزارة التربية، الخ.)، المنظّمات غير الحكومية العائدة للمؤسّسة الدينية والتي تقاول لصالح مصادر التمويل الأجنبية، المؤسّسات التجارية والصناعية التابعة مباشرة للمؤسّسات الدينية مثل: المطابع، الكتب المدرسية، المنتوجات الحرفية، مخازن بيع التذكارات والرموز الدينية، شبكات توزيع المحروقات (كما كان الأمر مع السيد محمد حسين فضل الله بالإضافة إلى التبرّعات من المؤمنين)، تحويلات اللبنانيين المغتربين لمؤسّساتهم الطوائفية، إلخ.

  • 1Jérôme Maucourant, Commentaire : Max Weber et le néomodernisme. Les Cahiers du CRH, 34-;2004) وأيضاً: Albert Dagher, « État, administration bureaucratique et développement : le Liban depuis 1990 », octobre 2002, http://matisse.univ-paris1.fr/seminaires/
  • 2Claude Dubar et Salim Nasr, Les Classes sociales au Liban, Paris, 1976, Presses Fond, nat. se. po., 363 p., index, annexes. Préface de V. Isambert-Jamati
  • 3"religiosity affects cultural consumption" (Katz, 1992; Katz-Gerro and Shavit, 1998
  • 4Amin Maalouf, Les identités meurtrières
  • 5Katz, 1992; Katz-Gerro and Shavit, 1998
  • 6Stuart Hall, 1992; New Ethnicities', In Race, Culture and Difference Edited by A. Rattansi and J. Donald. Sage Publications
  • 7 L.R. Lannacone, “Voodoo Economics? Reviewing the Rational Choice Approach to religion".
  • 8فواز طرابلسي، 2008 : الصفحات: 101-103 و197-202 بالأخص
  • 9Louis Althusser, Idéologie et appareils idéologiques d’Étaté
  • 10M. Davie, De De l’utilité géopolitique des espaces libanais, p. 336
  • 11Couland, Jacques, « Liban : le choix de la guerre civile », La Pensée, n° 259, sept.-oct. 1987