كيف فقد لبنان قُوْتَه؟ 

  • وضعت أسس النمط السائد للنشاط الاقتصادي خلال فترة الانتداب، وتعزّز وفقاً لنموذج الاقتصاد الحرّ، بحيث حُلَّت كل السياسات الحمائية القائمة لصالح التداول الحرّ لرؤوس الأموال والسلع.
     
  • استُخدمت المساعدات الزراعية الضئيلة ومشاريع التنمية التي ترعاها الدولة لخدمة مصالح كبار ملّاك الأراضي أو في المنتجات الصناعية، ولا سيّما التبغ.
     
  • على الرغم من أن الحرب الأهلية غيّرت بشكل كبير تركيبة البرجوازية اللبنانية، إلّا أن هذه التغييرات، بما فيها صعود اقتصاد الميليشيات، حدثت في إطار النموذج الاقتصادي المفتوح الذي رُسِّي في المرحلة السابقة.

منذ خريف 2019، يشهد لبنان ما وصفه البنك الدولي بأنّه ثالث أصعب أزمة اقتصادية في التاريخ العالمي للرأسمالية منذ منتصف القرن التاسع عشر. بالتوازي مع الظلام الذي يلفّ الشوارع، وجدت الأزمة أكثر رموزها بلاغةً في الطوابير الطويلة لتأمين الوقود والخبز، الذي أصبح النقص الدوري فيهما بمثابة سيف مُسلط على رقاب الناس ويهدّد معيشتهم. 

لم تكن هشاشة الأمن الغذائي في لبنان مفاجِئة. في الواقع، اعتمدت البلاد باستمرار، ومنذ أكثر من قرن، على الاستيراد لتلبية احتياجاتها الغذائية المحلّية نتيجة انتشار نمط من التنمية الزراعية يعتمد على التخصّص المُفرط. زُرِعت البذور الأولى لهذا النموذج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين اندمج جبل لبنان بشكل تبعي في الاقتصاد الفرنسي عبر تجارة الحرير. مع ذلك لم تظهر السياسات الاقتصادية والأشكال السائدة للرأسمالية الزراعية التي تُشكِّل أساس العجز الغذائي الراهن إلّا في فترة ما بعد الاستقلال. 

من خلال استعادة الديناميكيات الرئيسية التي شكّلت التنمية الزراعية الرأسمالية في لبنان، تهدف هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على المواقيت والطرائق وأسس المنطق السياسي التي أفقدت لبنان قُوْتَ أيامه.

شبح المجاعة: الأمن الغذائي وولادة لبنان المستقل

عندما وصلت تداعيات الحرب العالمية الأولى في عام 1915 إلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، كانت معظم الأراضي اللبنانية تقع ضمن متصرفية جبل لبنان، وهي منطقة تتمتّع بنوع من الحكم الذاتي، مُحاطة ببلاد الشام، وتابعة للسلطنة العثمانية، وتمتد من البترون إلى الشوف وتضمّ ما بينهما من مناطق جبلية نائية. تمحورت الحياة الاقتصادية لهذه المنطقة حول إنتاج الحرير الخام لتغذية صناعة النسيج الفرنسية، التي شكّلت المحرّك الأساسي للتحوّل الرأسمالي التبعي للبنان، وكذلك لعبت دور الممرّ للتغلغل الإمبريالي الفرنسي في المنطقة. ازدهرت صناعة الحرير في منتصف القرن التاسع عشر، ووصلت إلى ذروتها عام 1911 مع تخصيص نحو 80% من الأراضي الصالحة للزراعة في المتصرفية لزراعة التوت (Firro 1990). في مواجهة تآكل القدرة الإنتاجية الغذائية في جبل لبنان، بدأ استيراد الحبوب والبقوليات من المحافظات السورية المجاورة، ما عزّز نمطاً من التبادل الاعتمادي، إذ ذهبت الأموال التي راكمها فلّاحو الجبال من زراعة الحرير لدعم الصادرات السورية، أي زراعة الحبوب في المناطق السورية النائية، وأبرزها حوران وحمص وحماة والبقاع، أمّا الفاكهة والخضروات فقد كانت تأتي بشكل أساسي من المناطق الساحلية الجنوبية الممتدّة بين صيدا وصور، وكذلك من الجليل الأعلى.

على الرغم من أن الأمن الغذائي والاكتفاء الزراعي كانا من العوامل الحيوية لوضع حدود لبنان الكبير، إلّا أنهما لم يكونا أبداً هدفاً جادّاً للمستعمرين الفرنسيين أو للكتلة اللبنانية المُمسكة بالسلطة
تصدّع هذا النمط الموحّد بشكل كارثي مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ضربت مجاعة غير مسبوقة جبل لبنان وجزءاً كبيراً من سوريا. على الرغم من أن المسؤولية عن المجاعة لا تزال تُنسب في الخيال اللبناني إلى السياسات العثمانية، مثل التجنيد الإجباري ومراقبة الحدود التي طُبِّقت طوال فترة الصراع، إلّا أن هناك إجماع واسع بين المؤرخّين على أن هذه المجاعة التي ضربت المنطقة بين عامي 1915 و1918 كانت نتاج عدد من الظواهر الظرفية، التي ارتبط تأثيرها المدمّر بشكل وثيق بأنماط التبعية الزراعية التي ترسّخت في خلال العقود السابقة، وقد كان أبرزها طاعون الجراد الذي أصاب منطقة الشام بأكملها عام 1915، فدمّر أولاً المحاصيل الكاملة للفواكه والخضروات في المناطق الساحلية، ثمّ قضى على جزء كبير من الحبوب في المناطق النائية السورية (Foster 2015). وتكفّلت بالباقي سياسات الحلفاء الحدودية، وضعف الاستجابة العثمانية لترشيد الإمدادات الغذائية المتبقية، والمضاربات التي انتهجها المرابون وتجّار الحبوب. تفاقمت آثار المجاعة مع انتشار أمراض فتّاكة مثل التيفوس والكوليرا مدفوعة بالظروف المعيشية والصحّية البائسة. كانت الحصيلة النهائية دراماتيكية. تراوحت تقديرات الخسائر في بيروت وجبل لبنان وحدهما بين 150 ألف و300 ألف مواطن من مجمل عدد السكان المُقدّر بنحو 400 ألف إلى 600 ألف مواطن (Thompson 2000, 19-24). وبمستوى الأهمية نفسه، تركت صدمة المجاعة والبؤس ندبة لا يمكن محوها في ذاكرة جيل الحرب العالمية الأولى، وأثّرت بعمق على التنمية المستقبلية اللاحقة في البلاد. يُعدّ الدور المحوري الذي لعبته المجاعة في ترسيم حدود البلاد من أكثر الأمور المحفوفة بالعواقب.

في الواقع، وبعد أنّ أصبح الانهيار الحتمي للإمبراطورية العثمانية وشيكاً، انقسمت النخب الوطنية اللبنانية بين اتجاهين رئيسيين. من ناحية، برز تيّار ذو نزعة عربية اعتبر لبنان جزءاً لا ينفصل عن العالم العربي الإسلامي ونادى بضمّ الأراضي اللبنانية إلى نظام حكم عربي مستقلّ أوسع، وتحديداً إلى سوريا الكبرى. ومن ناحية أخرى، برزت نزعة لبنانوية تقودها النخب المارونية التي نشأت في ظلّ نظام المتصرفية في أوائل القرن العشرين ووكلائهم الفرنسيين، دفعت باتجاه تبنّي نظام حكم مستقلّ ومنفصل عن المناطق النائية السورية، وتسلّح هؤلاء بدور تاريخي مزعوم للبنان بوصفه ملجأ للأقلّيات الدينية (Firro 2004). مع تقدّم مسارات الحرب العالمية الأولى، اكتسب خيار لبنان الكبير الذي يضمّ البقاع وأراضي الشمال والجنوب الأسبقية على لبنان "الأصغر" (أي أراضي المتصرفية ومعها بيروت). بُنِي الأساس المنطقي لهذا الخيار على الدروس المُستقاة من المجاعة، والتي بيّنت لهذه النخب البُعد الاستراتيجي المركزي لضمان امتلاك الدولة المتخيّلة قاعدة زراعية، وقد شاركتهم السلطات الفرنسية المنظور نفسه، بحيث منحت خيار لبنان الكبير أهمّية مركزية في إطار الخطط السرّية التي وضعتها مع الأمبراطورية البريطانية في عام 1916 لتقاسم أراضي بلاد الشام التابعة للإمبراطورية العثمانية (إتفاقية سايكس-بيكو)، بما يؤمّن هيمنتهما الاستعمارية في المنطقة. أصبح هذا الخيار حقيقة بعد مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920، الذي وضع الأراضي السورية-اللبنانية تحت الانتداب الفرنسي، ومهّد الطريق أمام فرنسا لترسيم الحدود وإعلان ولادة لبنان الكبير في شهر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه.

الزراعة في زمن الانتداب الفرنسي: غرس بذور الإهمال

على الرغم من أن الأمن الغذائي والاكتفاء الزراعي كانا من العوامل الحيوية لوضع حدود لبنان الكبير، إلّا أنهما "لم يكونا أبداً هدفاً جادّاً للمستعمرين الفرنسيين أو للكتلة اللبنانية المُمسكة بالسلطة" (Gates 1989, 21).

بعد فرض الانتداب الفرنسي، وصل المفوّض السامي غورو إلى بيروت ودمشق ومعه رؤية دقيقة ومتكاملة للوظيفة الاقتصادية للنظامين، والتي كانت جزءاً من مشروع أوسع للهيمنة الاقتصادية يهدف إلى ترسيخ الاقتصاد الفرنسي النيوماركنتيلي في الدولتين من خلال الحفاظ على المناطق النائية السورية كمستودع للسلع الفرنسية الجاهزة ولاستخراج المواد الخام، وبيروت كمركز تجاري-مالي لعمليّات التجارة بين أوروبا والشرق الأوسط. لهذه الغاية، وجِّه الجزء الأكبر من الاستثمارات في لبنان الكبير نحو توسيع القطاع المصرفي وتطوير البنية التحتية ومرافق الاتصالات في بيروت (توسيع المرفأ، بناء المطار، تعزيز خطوط الهاتف والتلغراف، إلخ...)، ونفّذت جميعها من خلال شركات الامتياز الفرنسية والمصالح المشتركة التي تحكّمت في الخدمات والأشغال العامة والأنشطة الاقتصادية الاستراتيجية الرئيسية (Gates 1998, 13-34). في المقابل، تُرِك تطوير الصناعة والزراعة لمبادرات القطاع الخاص، على الرغم من الخسائر الفادحة التي سبّبتها الحرب، وبمعزل عن الهدف الأساسي من إلحاق عشرات الكيلومترات المربّعة من الأراضي الصالحة للزراعة بالأراضي اللبنانية.

تعزّز هذا النمط الاستثماري من خلال سياسات التسليف الزراعي التي اعتمدتها المصارف الخاصّة، وأعطت امتيازات لكبار ملّاك الأراضي والمستثمرين على حساب صغار المزارعينتركّزت معظم جهود الانتداب المُبكرة على ترشيد ضريبة الأراضي ونظام الملكيّة بهدف زيادة العوائد الضريبية، وربّما المساهمة في بروز فئة من المزارعين المتوسطين لاستخدامهم كقاعدة اجتماعية (Williams 2015). لكن سرعان ما تمّ التخلّي عن هذا المشروع السياسي لصالح شكل أسهل من الرعاية تُقدّم مباشرة من الأعيان الريفيين مالكي الأراضي، الذين أصبحوا أيضاً المتلقّين الرئيسيين لمشاريع التنمية والمساعدات الزراعية النادرة بالأساس (المرجع نفسه). في هذا السياق، فشلت خطّة الإصلاح العقاري الطموحة في تحقيق قدر أكبر من المساواة الضريبية. في الواقع، كانت ضريبة الأراضي تُفرض كنسبة على قيمة ناتج الأرض، وهو ما أدّى إلى إلقاء المزيد من الضغوط الضريبية على صغار المزارعين المقيمين في المناطق الجبلية بشكل أساسي، والإخلال التدريجي في الأنظمة الجماعية لحيازة الأراضي (أو ما يُعرف بالمشاع) لصالح كبار ملّاك الأراضي التي ضُمّت إلى لبنان (حنا 2004).

ظهرت قلّة الاهتمام الفرنسي بالتنمية الزراعية في لبنان الكبير بشكل أوضح خلال الثلاثينيات، حين شهد اقتصاد الحرير تدهوراً مطرداً نتيجة المنافسة المحتدمة بين الصين واليابان، وظهور الألياف والأقمشة الاصطناعية، وخصوصاً حرير الرايون، لتتلقّى هذه الصناعة الضربة القاضية مع بدء الكساد الكبير. في مواجهة اندثار ما كان يمثّل المصدر الرئيسي لمعيشة سكّان الجبال طوال القرن الماضي، أتى الردّ الفرنسي بإعادة هندسة الوظيفة الاقتصادية للمناطق الجبلية بوصفها مقاصد سياحية، صيفية وشتوية، للبرجوازية الشامية الناشئة، التي استفادت من التحسين المستمرّ لشبكات النقل الدولي باتجاه بيروت وباتت تتنقّل بسهولة غير مسبوقة إلى لبنان. من ناحية أخرى، لم تجرِّ أي استثمارات بنيوية متناسقة لتشجيع استبدال التوت بمحاصيل زراعية جديدة سواء لتصديرها أو لتلبية الطلب الداخلي على الغذاء، الذي استمرّ يسجّل عجوزات متتالية. وفي حين ضُمَّ سهلا البقاع وعكار إلى لبنان الكبير لمنحه احتياطيات بالحبوب والخضروات، إلّا أن السلطات الفرنسية لم تبذل جهداً لتحسين أنظمة الريّ بانتظام وتعزيز المكننة في الزراعة، بل تركت لبنان يعتمد على سوريا بشكل كلّي للحصول على إمدادات الغذاء الأساسية. في الوقت نفسه، استُخدمت المساعدات الزراعية الضئيلة ومشاريع التنمية التي ترعاها الدولة لخدمة مصالح كبار ملّاك الأراضي أو في المنتجات الصناعية، ولا سيّما التبغ، الذي سيطرت على عملية زراعته وتصنيعه المصلحة الفرنسية المشتركة لإدارة حصر التبغ والتنباك. تعزّز هذا النمط الاستثماري من خلال سياسات التسليف الزراعي التي اعتمدتها المصارف الخاصّة، وأعطت امتيازات لكبار ملّاك الأراضي والمستثمرين على حساب صغار المزارعين. وهو ما وضع أسساً لنمط مزدوج من التنمية الزراعية، بحيث شهدت الصناعة الاستراتيجية (التبغ) والمحاصيل التصديرية (الفواكه) المُسيطر عليها من الفرنسيين أو كبار ملّاك الأراضي نمواً مهماً، بينما استمرّ باقي القطاع الزراعي بدائياً ومتخلّفاً ويعاني من التهميش التدريجي المدمّر.

استولت النخب التجارية والمالية في لبنان على السلطة السياسية وشكّلت السياسات الاقتصادية للبنان المستقل وفقاً لمصالحهاشهدت عملية الانفتاح والتهميش التي شهدها القطاع الزراعي اللبناني، وانطلقت خلال الانتداب، ارتداداً جزئياً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. في عام 1941، تمكّنت قوات الحلفاء بقيادة بريطانيا العظمى وفرنسا الحرّة من الاستيلاء على سوريا ولبنان من الإداريين الموالين لحكومة فيشي الذين سيطروا على السلطة عشية اندلاع الحرب. في العام التالي، عندما كُلِّف الجنرال إدوارد سبيرز بإدارة سوريا ولبنان، اندمجت الدولتان معاً في نظام اقتصاد الحرب الذي أُنشِئ على المستوى الإقليمي لترشيد توزيع الإمدادات الأساسية. نُسِّق هذا النظام من قبل مركز إمداد الشرق الأوسط ومقرّه القاهرة، وكان الهدف منه إطلاق مبادرات لزيادة الإنتاج المحلّي من المواد الغذائية الأساسية والسلع الجاهزة للاستهلاك لتلبية حاجات الحرب ومن ضمنها الاستهلاك المحلّي. بالنتيجة، تم ترشيد البنية الإنتاجية لسوريا ولبنان وإعادة توجيهها نحو الداخل وحاجاته، ما خلق مرحلة من النمو المرتفع نسبياً. فيما يتعلق بالصناعة، تركّزت معظم الجهود المبذولة لتحسين إنتاج المنسوجات والأسمنت والتبغ والمواد الغذائية وغيرها من الصناعات الأساسية، وفق منطق قضى باستبدال الواردات، وبالتالي قلّل اعتماد لبنان على المستوردات. في السياق نفسه، أعيد تحويل القطاع الزراعي لتحقيق هدف الاكتفاء الذاتي الغذائي، فوضعت خطّة واسعة لتمويل صغار المزارعين عبر قروض مُخصّصة، ولكنها لم تحلّ مشكلات جوهرية عدّة أبرزها استغلال الفلاحين من قبل المرابين، وتهالك أنظمة الريّ وعدم تطويرها، بالإضافة إلى عدم إدخال المكننة إلى عملية الإنتاج الزراعي وتأمين الاكتفاء الذاتي من الحبوب، وهو ما جعل لبنان يطوّر زراعة الفواكه والخضروات وبالتالي يعتمد عليها بشكل كلّي بحلول نهاية الحرب (Gates 1998, 35-60).

ترسيخ الانفتاح: الزراعة في جمهورية التجّار

هذا المسار المهمّ الذي انطلق خلال الحرب توقّف فجأة مع بلوغ الاستقلال. يشير فوّاز طرابلسي إلى أن استقلال لبنان وصيغة الحكم الطائفية (أو ما يسمّى بالميثاق الوطني) المُصمّمة لدولة ما بعد الاستعمار كانا نتيجة مساومة بين النخب وسقطت فوق رؤوس المواطنين اللبنانيين كأمر واقع (طرابلسي 2011، 88-108). لقيادة العملية التي تأسّست خلال فترة الانتداب في ظل نظام اقتصادي مفتوح، استولت النخب التجارية-المالية على السلطة السياسية وشكّلت السياسات الاقتصادية للبنان المستقل وفقاً لمصالحها. بالنتيجة، استؤنف النمط السائد للنشاط الاقتصادي الذي وضِعت أسُسه خلال فترة الانتداب، وتعزّز وفقاً لنموذج الاقتصاد الحرّ، بحيث حُلَّت كل السياسات الحمائية القائمة بما فيها السياسات المالية والتسليفية والنقدية والجمركية لصالح التداول الحرّ لرؤوس الأموال والسلع. اقترن ذلك بتعزيز دور بيروت الوسيط، ووجّه الجزء الأكبر من الاستثمارات العامة والخاصّة لصالحه. في الجمهورية الأولى، خُصِّص ما لا يقل عن 70% من موازنة الدولة والقروض المصرفية لقطاع الخدمات. في المقابل، حصل القطاع الزراعي على أقل من 10%. بالنتيجة، قُتِل التطوّر الخجول للقطاعات الإنتاجية الذي أُطلق خلال الحرب العالمية الثانية في مهده، وأُخضِعت التنمية الصناعية والزراعية المستقبلية لمصالح القطاع المالي-التجاري المُهيمن. لا يعني ذلك، استمرار تهميش الصناعة والزراعة ضمن بنية الاقتصاد الوطني فحسب، بل إعادة تشكيل بنية عميقة لهذين القطاعين ترتّب عنها تداعيات أثّرت على سكّان الريف.

أعيد تشكيل بنية الزراعة اللبنانية من خلال التأثير المشترك للسياسات الجمركية وسياسات التسليف الزراعي التي وضعت خلال الحرب العالمية الثانية، وإنّما نفّذت في أعقاب الاستقلال. أثّرت هذه السياسات، بالتوازي مع نقص التمويل العام المزمن، على التنمية المستقبلية للقطاع الزراعي بطريقين رئيسين. تمثّلت الطريقة الأولى بالعودة السريعة إلى البنية التنموية الثنائية التي ظهرت خلال فترة الانتداب، واتسمت بتدهور زراعة الكفاف لصالح التخصّص المُفرط للقطاع الزراعي بمجموعة محدّدة من المحاصيل المخصّصة للتصدير، بحيث برزت زراعة الفاكهة على حساب الحبوب والخضروات الأقل ربحية. (نصر 1978، 6). أدّى توسّع الزراعات التصديرية إلى زيادة الطلب على الفاكهة من البلدان العربية النفطية المجاورة (المملكة العربية السعودية، العراق، الكويت)، التي امتصّت نحو 75% من الصادرات الزراعية اللبنانية، وأصبح الطلب عليها الموجِّه الرئيسي للقطاع الخاص الذي أعاد هيكلة قطاع الإنتاج الزراعي على حساب الحاجات المحلّية. بين عامي 1950 و1970، انخفضت المساحة المزروعة بالحبوب بنسبة 40%، وانخفض إنتاج الحبوب المُخصّص لتلبية الطلب الداخلي من 38% إلى 18% (المرجع نفسه). في المقابل، زاد إنتاج التفاح والحمضيات بنسبة 700% و230% على التوالي، ليساهما وحدهما بنسبة 7% في مجمل قيمة الصادرات اللبنانية، وبنسبة 95% من مجمل الإنتاج الزراعي الوطني الموجّه للتصدير. بالنتيجة، تضاعفت الحاجات الغذائية المحلّية، وأصبح لبنان بحلول أوائل السبعينيات يعتمد على الواردات لتأمين أكثر من 80% من استهلاكه من الحبوب، و60% من استهلاكه من اللحوم، و70% من منتجات الألبان والألبان (المرجع نفسه).

تمثّلت النتيجة الثانية، المرتبطة بشكل وثيق بالنتيجة الأولى، بزيادة المشاريع الرأسمالية الزراعية الاحتكارية التي اغتنمت الفرص التي يوفّرها القطاع الزراعي، وحدّدت مسارات تطوّره في ظلّ غياب الدولة والسياسات الزراعية الحمائية الموجّهة نحو الداخل. كانت ديناميات وطرائق الاختراق غير مُتجانسة. ففي منطقة جبل لبنان، التي تتميّز بغالبية ساحقة من صغار المالكين، حدث الاختراق الرأسمالي الاحتكاري من خلال السيطرة على تسويق المحاصيل وإدارة المرافق الزراعية. كان التفاح هو المحصول المُهيمن، وقد بدأت زراعته في الثلاثينيات كبديل عن التوت، ثم ازدهر بعد الاستقلال. في عام 1970، كان 25 وسيطاً يسيطرون على تسويق أكثر من ثلثي محصول التفاح، فيما يسيطر ثلاثة وسطاء رئيسيون على تسويق ربع المحصول.

حدث الاختراق الرأسمالي من خلال استحواذ الشركات الرأسمالية الكبرى بما فيها الشركات الغربية ورجال الاعمال المهاجرين والحضريين على العقارات الكبيرة من الملّاك الغائبين والمفقرينفي حالة البقاع وعكار وجنوب لبنان، حدث الاختراق الرأسمالي من خلال استحواذ الشركات الرأسمالية الكبرى بما فيها الشركات الغربية ورجال الأعمال المهاجرين والحضريين على العقارات الكبيرة من الملّاك الغائبين والمفقرين، وأيضاً من خلال السيطرة على المدخلات الزراعية الأساسية مثل استيراد الآليّات الزراعية والأسمدة والبذور. تجدر الإشارة إلى أن خطّة التنمية الريفية الطموحة المعروفة بالمشروع الأخضر، التي روّج لها الرئيس فؤاد شهاب في عام 1963 وأُجهضت لاحقاً بشكل جزئي، كانت المُسرّع الأهم لمسار الاختراق الرأسمالي للزراعة. في الواقع، كانت الخطة جزءاً من خطّة أوسع تقضي بإعادة تصحيح التفاوتات الاجتماعية والمناطقية العميقة التي نتجت عن الانتقال إلى "جمهورية التجّار"، ووضعت في صلب عملها التحسين الجوهري لقدرات الريّ الوطنية والبنى التحتية الريفية، فضلاً عن تقديم مجموعة من التسهيلات الائتمانية والقروض المدعومة لصغار المزارعين. مع ذلك، اصطدم تنفيذ الخطّة بسرعة مع مصالح المجمع التجاري-المالي المُهيمن، الذي نجح في الحفاظ على تخصيص الجزء الأكبر من استثمارات الدولة في قطاع الخدمات، لا سيما بعد إفلاس مصرف إنترا وما تبعه من تحوّل كبير في الاختراق الموجّه للعواصم الغربية في الاقتصاد اللبناني. بالنتيجة، لم تؤدِّ التحسينات المهمّة التي حقّقتها الخطّة في مجال البنية التحتية (مدّ شبكة الطرق الريفية وتوسيع شبكة الكهرباء) سوى إلى تسهيل وصول رأس المال إلى العقارات الجديدة المفتوحة وجعلها أكثر جاذبية للاستغلال الرأسمالي. تحقّقت هذه المهمّة بموافقة البرجوازية الحاكمة المالكة للأراضي، التي لم تستفد من مشاريع التنمية الزراعية التي موّلتها الدولة فحسب، بل كانت من بين المستفيدين الرئيسيين من ظهور الرأسمالية الزراعية الاحتكارية.

الماضي في الحاضر: الترابط السياسي والاقتصادي

على الرغم من التغييرات العميقة التي مرّ بها لبنان منذ عام 1975، إلّا أن النموذج الاحتكاري للاستغلال الزراعي الذي رُسِّخ خلال الجمهورية الأولى لم يتغيّر. وهناك أسباب عديدة لاستمراره. أولاً، على الرغم من أن الحرب الأهلية غيّرت بشكل كبير تركيبة البرجوازية اللبنانية، إلّا أن هذه التغييرات، ومن ضمنها تلك الناجمة عن صعود اقتصاد الميليشيات وتدعيمه، حدثت في إطار النموذج الاقتصادي المفتوح الذي رُسِّي في المرحلة السابقة، لا بل كان هذا النموذج أساساً لاقتصاد الحرب، وقد تمكّن من الاستمرار بفضل السياق الإقليمي الملائم (نصر 1990). ثانياً، استمرّت البلاد بالاعتماد على الإمدادات الغذائية الأساسية السورية طوال سنوات الهيمنة السورية على لبنان التي تلت الحرب (1990-2005). أخيراً والأهم، أدّت التغييرات الطبقية التي أفرزتها الحرب وصراعاتها إلى خلق شروط مُسبقة للإمساك بالسلطة السياسية بعد الحرب من قبل كتلة حاكمة جديدة مؤلّفة من أمراء الحرب وبرجوازيي المقاولات، وترافقت مع إرساء أسس نيوليبرالية مطوّرة للنموذج الرأسمالي المنفتح لفترة ما قبل الحرب، وهو ما لعب دوراً محورياً في إعادة إنتاج الممارسات الاحتكارية والمحسوبية والزبائنية التي شكلت الاقتصاد اللبناني تاريخياً، ومن ضمنه الاقتصاد الزراعي. لعل المثال الأبرز هي السياسات الزراعية التي ينتهجها حزب الله سواء من خلال وزارة الزراعة ومن خارج الأطر الرسمية للدولة (ضاهر 2016، 66-72). ما يعني أنه على الرغم من الدعوات الشعبوية الأخيرة لممارسة "الجهاد الزراعي"، سيبقى الأمل بتأمين "القوت" معدوماً في ظلّ استمرار الاختراق الرأسمالي الحالي للقوة السياسية والاقتصادية.


المراجع

Daher, Joseph. 2016. Hezbollah: The Political Economy of the Party of God. Pluto Press

Firro, Kais. 1990. “Silk and Agrarian Changes in Lebanon, 1860-1914.” International Journal of Middle East Studies 22 (2): 151–69

---------------. 2004. “Lebanese Nationalism versus Arabism: From Bulus Nujaym to Michel Chiha.” Middle Eastern Studies 40 (5): 1–27

Foster, Zachary J. 2015. “The 1915 Locust Attack in Syria and Palestine and its Role in the Famine During the First World War.” Middle Eastern Studies 51 (3): 370-394, DOI: 10.1080/00263206.2014.976624

Gates, Carolyn. 1989. “The Historical Role of Political Economy in the Development of Modern Lebanon”. Centre for Lebanese Studies

———. 1998. The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy. I.B. Tauris

Hanna, Abdallah. 2004. “The Attitude of the French Mandatory Authorities Toward Land Ownership in Syria” in Nadine Mâeouchy and Peter Sluglett, Les Mandats Français Et Anglais Dans Une Perspective Comparative. BRILL. 457–76

Nasr, Salim. 1978. “Backdrop to Civil War: The Crisis of Lebanese Capitalism” MERIP Reports, n°73. 3- 10

Thompson, Elizabeth. 2000. Colonial Citizens: Republican Rights, Paternal Privilege, and Gender in French Syria and Lebanon. Columbia University Press

Traboulsi, Fawwaz.2012.  A History of Modern Lebanon. Pluto Press

Williams, Elizabeth. 2015. “Mapping the Cadastre, Producing the Fellah: Technologies and Discourses of Rule in French Mandate in Syria and Lebanon” in Cyrus Schayegh and Andrew Arsan, The Routledge Handbook of the History of the Middle East Mandates. Routledge. 170–82