التضخّم العالمي: الأسباب الهيكلية والتوقّعات
- دفع التشخيص الخاطئ السلطات النقدية إلى التحرّك بشكل متأخّر جدّاً لكبح جماح التضخّم، بعد أن خرج عن سيطرتها وباتت مصداقية المصارف المركزية على المحك، وكان الركود هو الممرّ الإلزامي لاحتوائه.
- يعمل الفيدرالي الأميركي على استراتيجية رفع الفائدة فوق معدّل التضخّم الأساسي عند 5.25%، على أن تستمرّ لفترة خلال 2023، قبل أن يعاود خفضها.
- يعمل المركزي الأوروبي على رفع أسعار الفائدة إلى مستوياتها المحايدة (2 إلى 2.5%) وتشديد الشروط النقدية لسحب فائض السيولة، فيما تقدّم السلطات المالية حزمات دعم لتخفيض وطأة صدمة الطاقة وحماية القدرة الشرائية.
يُعدُّ استقرار الأسعار أحد أهم أعمدة السياسات النقدية للمصارف المركزية بحيث أصبح استهدافها ملزماً بقوة القانون. مثلاً منذ عام 1993، وعطفاً على مبادئ تايلور، عُرّفت مهمّة المجلس الفيدرالي الأميركي وحُصِرت بالحفاظ على استقرار الأسعار مع مراعاة العمالة القصوى (سوق العمل)، التي تعتبر الذراع الأقوى لتحقيق النمو. وعلى الرغم من أن فيلبس اعتبر هذا الهدف تحكيمياً وبالتالي لا يمكن الوصول إلى التوازن المُطلق الذي دعا إليه تايلور إلّا باختلال أحد العاملين، إلّا أن الأزمة الأخيرة أثبتت صحة ملاحظات فيلبس.
لتحقيق هذه المهمّة، تضع المصارف المركزية استهدافات للتضخّم على المدى الطويل عند مستوى 2%. إذا ارتفع (انخفض) التضخّم فوق (تحت) هذه النسبة، تتدخّل السياسات النقدية عن طريق أداتها الرئيسية، أي أسعار الفائدة قصيرة الأجل رفعاً (خفضاً) للتأثير على الشروط المالية للأسواق (أي أسعار الفائدة طويلة الأمد - 10 سنوات)، بما يؤدّي إلى سحب الكتلة النقدية الفائضة وانخفاض التضخّم.
يحصل ذلك في حال كان التضخّم ناتجاً عن فائض في الطلب الداخلي، أي في حال كان هناك تضخّم في الكتلة النقدية وفائض في القدرة الشرائية للمواطنين. ولذلك يُسمي التضخّم الأساسي (مثل التضخّم الحالي في الولايات المتحدة). أمّا إذا كان التضخّم ناتجاً عن عوامل خارجية ظرفية مثل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء أو عن ارتفاع تكاليف الإنتاج، عندها تنخفض قدرة السياسات النقدية على التحكّم في التضخّم، ويصبح رفع أسعار الفائدة، في هذه الحالة، مضرّاً أكثر للأنشطة الاقتصادية وسوق العمل (ستغلتز)، عندها تتدخّل السياسة المالية عبر حزمات الدعم لتخفيف وطأة التأثير على القدرة الشرائية للمواطنين، وبالتالي وقف حدّة جموح التضخّم وإنقاذ النموّ جزئياً (مثل التضخّم الأوروبي الحالي). لذلك يعتبر التضخّم الكلّي مزيجاً من التضخّم الأساسي تضاف إليه التقلّبات الناتجة عن العناصر الخارجية.
يُعتبر استقرار الأسعار عند المستويات المُستهدفة من الشروط الأساسية الضامنة لنمو الأنشطة الاقتصادية واستدامتها، علماً أن التضخّم الناتج عن اختلال التوازن في استقرار الأسعار ليس سيئاً في المطلق، ولذلك يُحدَّد الاستهداف بمعدّل 2% على اعتبار أن هذه النسبة ضرورية لدعم النموّ حتى ولو بشكل مصطنع. مثلاً، منذ أزمة 2008، عندما دخلت الاقتصاديات العالمية في انكماش، عملت المصارف المركزية على تضخيم الكتلة النقدية لدعم النمو اصطناعياً من خلال الدفع به نحو الاستهداف المُحدّد. أما اليوم، وبعد ارتفاع معدّلات التضخّم بشكل سريع وجامح إلى 10% في غالبية اقتصاديات المتقدّمة، أصبح لزاماً على السياسة النقدية التدخّل لكبح جماح التضخّم ووضع مقاربة لاستهدافاته على المدى الطويل.
تشخيص خاطئ وسياسات خاطئة
إن أهم ما في استخدام أدوات السياسة النقدية لمكافحة التضخّم أو تحفيز النموّ هو تشخيص الأسباب التي تحتم عليها تحديد الأداة. دأبت السلطات المالية والنقدية خلال السنتين الأخيرتين على تعليل التضخّم بأنه ناتج عن عوامل ظرفية مثل أزمة كوفيد-19، وانقطاع سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء الناتج عن الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى سياسة "صفر كوفيد" في الصين. لذلك، اعتبرت هذه السلطات التضخّم ظرفياً. أمّا اليوم فقد أصبح ظاهراً للقاصي والداني أن هذا التشخيص الخاطئ وقد دفع السلطات النقدية إلى التحرّك بشكل متأخّر جدّاً لكبح جماح التضخّم، بعد أن خرج عن سيطرتها وباتت مصداقية المصارف المركزية على المحك، بحيث أصبح الركود هو الممرّ الإلزامي لاحتوائه.
لكن الأسباب الظرفية التي رجّحت المصارف أنها وراء التضخّم لم تكن سوى ضوضاءً، وتختبئ خلفها أسباب بنيوية يمكن أن تؤثّر على توجّهات التضخّم خلال السنوات العشر المقبلة. إنّ سوء تقدير الأسباب البنيوية، مضاف إليها الأخطاء السياسية، دفعت التضخّم إلى معدّلات أعلى، أصبح التحكّم بها يرتّب تكاليف كبيرة. من بين هذه الأخطاء نذكر:
- خطأ في السياسة النقدية الحديثة. اعتمد أصحاب هذه النظرية على فكرة أن شراء الدين بدلاً من إصدار النقد لن ينتج عنه مخاطر تضخّمية كبيرة. ولاقاهم بلانشار باستنتاجاته حول قدرة السلطات المالية على الاستدانة بشكل مستدام من دون الإخلال بالتزاماتها لتالية: طالما أن التضخّم أقل من النمو. هكذا تكون محرّكات النموّ مبنية على هذه الدورة الكاملة. نجحت هذه الدورة في تحقيق أهدافها خلال السنوات الثلاثين الماضية، ولكن ما أن وقعت أزمة غير تقليدية، مثل أزمة كوفيد، حتى انهارت أساسيات هذه النظرية، وأصبح التضخّم ومن خلفه السياسة النقدية يهدّدان الاستقرار المالي للدول ذات المديونية المرتفعة.
إن سوء تقدير الأسباب البنيوية، مضاف إليها الأخطاء السياسية، دفعت التضخّم إلى معدّلات أعلى، أصبح التحكّم بها يرتّب تكاليف كبيرة - قصور في النظرية الكلاسيكية التي تعتمد على الرشادة (rationality) في توقّع التضخّم. خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، كانت المصارف المركزية لا تزال تعتقد أن التضخّم مؤقّت، وأنه سوف يعود إلى استهدافه (2%) خلال فترة قصيرة. تعكس هذه التوقّعات قصوراً في فهم طبيعة تطوّر التضخّم وديناميكيته، ولذلك أتت خاطئة في الغالب. إنّ نظرية الديناميكية العشوائية وعمادتها التوازن العام المستخدم في توقّع التضخّم، ينقصها قنوات ملموسة لتفسير تضخّم الرواتب على سبيل المثال والناتج عن تخطّي الطلب للعرض. تعتمد هذه النظرية في توقّعها على الرشادة، وأن المحرّك الفعلي للتضخّم ناتج من عوامل خارجية مثل الصدمات أو السياسات النقدية. لكن تغيب عن هذه النظرية عوامل داخلية مثل تفاعل العاملين والنقابات (Ratner & Sims, 2021). أي بمعنى آخر، السلوك المعرفي للأفراد في ظل المتغيّرات الاقتصادية الآنية والمعروفة بالمتغيّرات المخلّة بالتوازن. لذلك، يتألّف محرّك التضخّم من عوامل خارجية وداخلية وسلوكية مركبّة. وبالتالي، إن الاعتماد على واحدة وإهمال الأخرى يؤدّي دائماً إلى تقييم التضخّم بأقل من معدّلاته الفعلية. وهذا تحديداً ما يحدث راهناً. إذن، الأخطاء التي تحصل في توقّع التضخّم والقرارات التي تُبنى عليها تعود إلى قصورٍ في الأدوات التقليدية لشرح الظواهر ومقاربة تطوّرها في المستقبل. لذلك يجب إدخال متغيّرات سلوكية معرفية غير متزنة جديدة. ولإحداث التغيير، سوف تبقى التوقّعات تقريبية وتغذّي التقلّبات الحادّة في الأسواق.
- أخطاء سياسية. أولى هذه الأخطاء هو حزمة الرئيس الأميركي جون بايدن في آذار/ مارس 2021، وقد انتقدتها غالبية الاقتصاديين، ومن ضمنهم سامرز الذي اعتبرها السبب الرئيسي لجموح التضخّم في أميركا كونها حفّزت القدرة الشرائية، وأدّت إلى فائض في الطلب الداخلي بحيث ارتفع التضخّم الأساسي. يلي ذلك خطأ ثاني ارتُكِب في أيلول/سبتمبر 2021 عندما كانت المؤشّرات الاقتصادية تنذر بصعود التضخّم، وكان من المفترض البدء في رفع أسعار الفائدة. لكن تريّث جيروم باول لغاية كانون الثاني/ يناير، بسبب التجديد المُفترض لرئيس الفيدرالي الأميركي في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أدّى إلى تفويت قطار مكافحة التضخّم. يتشابه هذا الخطأ مع ما قام به رئيس المركزي البريطاني أندرو بايلي عندما اندلعت أزمة استقالة ليز تراس من رئاسة الحكومة البريطانية في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث كان من المفترض أن يرفع الفائدة بشكل كبير بالتوازي مع ضخّ السيولة، لكنّه فضّل ضخ السيولة فقط تفادياً لإلغاء الآثار الإيجابية لخطّة تراس. زاد هذا التخبّط الضغوطات على الفائدة طويلة الأمد في بريطانيا وأدّى إلى خسارة 60 مليار جنيه استرليني.
- تركّز الإنتاج وسوء تخصيص رأس المال. عزت معظم السلطات المالية والنقدية ارتفاع الأسعار إلى انقطاع سلاسل التوريد الذي سبّبته إغلاقات كورونا، ومن ثمّ ارتفاع أسعار الطاقة والأزمة الأوكرانية. لكن في الحقيقة، برهنت الأزمات أن المشكلة هي في شكل النظام الاقتصادي المعولم الذي حوّل الاقتصاديات الكبرى نحو النظام الخدماتي فيما ركّز الإنتاج في مناطق متدنية التكاليف للاستفادة من خفض تكاليف الإنتاج. وهذه حال أوروبا التي تعتمد على الغاز الروسي. من هنا، كشفت أزمات كوفيد-19 وأوكرانيا عن هشاشة هذا النظام، وضعف العرض في مواجهة الطلب العالمي، وبالتالي لم تكن الأسباب المزعومة للتضخّم سوى صواعق تفجير كشفت عن عمق الخلل في النظام الاقتصادي العالمي.
- ضيق العرض في أسواق العمل. أدّى تنامي النزعات الشعبوية إلى تراجع الهجرة والحدّ من تنقّل اليد العاملة الرخيصة التي تستخدمها الصناعات والخدمات. هناك كتلة كبيرة من العمّال في القطاعات كافة، وخصوصاً في قطاع الخدمات (صحة وسياحة…)، لم تعد إلى سوق العمل بعد انقضاء جائحة كورونا لأسباب عدّة. وهو ما أدّى إلى نمو في الأجور بشكل كبير فاق 6% في الولايات المتّحدة، فارتفع التضخّم الأساسي واضعاً الفيدرالي في مواجهة هذه الظاهرة، بحيث لجأ إلى سياسات نقدية كابحة لنموّ القدرة الشرائية.
- سياسة التحوّل نحو الطاقة البديلة. دأبت السلطات النقدية والاقتصادية، خصوصاً في أوروبا، إلى تحميل الحرب الأوكرانية مسؤولية ارتفاع أسعار الطاقة والتضخّم في أوروبا، إلّا أن الأزمة الفعلية تكمن في سياسة التحوّل نحو الطاقة البديلة، التي كانت تتجه بسرعة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لصالح مصادر طاقة بديلة غير ناضجة حتّى الآن، ومن دون الأخذ بالاعتبار التوازن بين العناصر المُنتجة للطاقة بشقّيها الأحفوري والبديل. وبما أن الطاقة البديلة غير كافية حتى الآن لتلبية حاجات أوروبا، وبما أن إنتاجها يعتمد على العوامل الطبيعية المتقلّبة، فقد أتى الإنتاج متقلّباً، ما عزّز الحاجة إلى الوقود الأحفوري مجدّداً. في الواقع، بدأت أزمة ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا في أيلول/سبتمبر 2021 على خلفية موسم الرياح الضعيف المُسجّل في ألمانيا في حينها، وزيادة الضغوط على أسواق الغاز، ويضاف إلى ذلك تركّز الاعتماد على مصادر الغاز من روسيا، وبالتالي ما أن اندلعت الحرب حتّى انفجرت الأزمة في أوروبا دون غيرها من العالم.
لطالما كانت الاقتصاديات الكبرى عرضة للأزمات نتيجة هذه العوامل البنيوية، وبالتالي أتت أزمة كورونا ومن بعدها الأزمة الأوكرانية لتكشف عن ثغرات يختلف تأثيرها باختلاف المكان والزمان. لذلك، نرى أن التضخّم له أسباب مختلفة ومعالجات مختلفة حتى داخل الاقتصاديات المتقدّمة. إلى ذلك، يختلف التضّخم المُسجّل في الولايات المتّحدة جذرياً عن التضخّم في أوروبا، وبالتالي معالجته مختلفة أيضاً. لذلك سوف أكتفي بتحليل وضع هاتين الدولتين نظراً لتناقض حالتيهما وطرق معالجتها.
متى يُوقف الفيدرالي دورة رفع أسعار الفائدة؟
في الولايات المتّحدة، نتج ارتفاع الأسعار بشكل أساسي عن فائض في القدرة الشرائية التي أدّت بدورها إلى قفزة في الطلب، وضيق العرض في سوق العمل، ما أدّى إلى نموّ الأجور (بالإضافة إلى ارتفاع جزئي في أسعار الطاقة وانقطاع سلاسل التوريد …). أدّت هذه العوامل إلى ارتفاع كبير في الأسعار، ولامس التضخّم معدّل 9.5%. اللافت أن التضخّم الأساسي يمثّل نحو ثلثي التضخّم العام. منذ بداية عام 2022 أظهر الفيدرالي تصميماً على مكافحة التضخّم واحتوائه وإعادته إلى استهدافاته طويلة الأمد عند 2% حتى ولو كان الركود طريقاً إليه.
تنبع مخاوف الفيدرالي وتفضيله الركود على التضخّم المُستدام من عاملين. في الركود، تستطيع السياسة النقدية التدخّل من جديد وتحفيز الاقتصاد. أمّا في التضخّم المستدام، فيدخل الاقتصاد في دوامة ارتفاع الأجور-الأسعار ويصبح معها الاقتصاد في انعدام توازن، فيصعب تحفيز النمو وإدخاله في دورة اقتصادية جديدة. لذلك، بدأ الفيدرالي بدورة رفع الفائدة تدريجياً للتأثير على الشروط المالية للأسواق (مبدأ تايلور لاحتواء التضخّم يقوم على ضرورة أن تكون سرعة نمو أسعار الفائدة أكبر من سرعة نمو التضخّم)، على أن ينتهي من دورته بوضع الفائدة فوق التضخّم الأساسي. بالتوازي، بدأ الفيدرالي بتخفيض ميزانيته بنحو 95 مليار دولار شهرياً.
والسؤال اليوم هو متى يتوقّف الفيدرالي في دورة رفع أسعار الفائدة؟ لا سيما أن البيانات الاقتصادية بدأت مؤخّراً تعطي مؤشراً على تراجع حدّة نموّ التضخّم. على سبيل المثال، تراجع التبادل في سوق العقارات بنسبة 33%، وهي أكبر من النسبة المُسجّلة في عام 2008. أيضاً تراجعت الأنشطة الصناعية، وأسعار الإنتاج، والسلع والخدمات، وأسعار الاستهلاك، وادخار المواطنين، وأسعار السيّارات المستعملة، فيما انخفضت أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وكذلك سجّل انخفاض في مؤشّر صندوق النقد لقياس تأثير انقطاع سلاسل التوريد. تعطي كلّ هذه العوامل انطباعاً بأن ذروة التضخّم أصبحت خلفنا. لكن، هناك عاملان يؤرقان الفيدرالي؛ الأول هو نمو الأجور الذي لا يزال مرتفعاً عند مستوى 5%، والثاني هو فوبيا عامي 1966 و1981 حين حاول الفيدرالي تحاشي الركود، فأوقف مبكراً دورة رفع الأسعار وبدأ تخفيضها، إلّا أن الموجة الثانية من التضخّم والركود أتت كارثية. لذلك يعمل الفيدرالي على استراتيجية رفع الفائدة فوق التضخّم الأساسي عند 5.25%، على أن تبقى لفترة زمنية خلال 2023، قبل أن يعاود خفض الفائدة.
هل ينجح الفيدرالي في هذه الاستراتيجية لاحتواء التضخّم وإعادته إلى مستوى 2% في عام 1991، احتاج المركزي الفرنسي إلى فائدة تعادل ضعفي التضخّم الأساسي وإلى 8 فصول متتالية لاحتواء التضخّم. هذا ليس واقع الفيدرالي اليوم. بالإضافة إلى تعذّر امكانية إبقاء الفائدة مرتفعة لفترة طويلة لأسباب عدّة منها هشاشة سوق العقارات، والنقص الحادّ في سيولة الاقتصاد الحقيقي M2، وخسائر ميزانيته، والاستقرار المالي. لذلك، أعتقد أن الفيدرالي سوف يخفّض الفائدة في الفصل الأخير من عام 2023، على أن يكون التضخّم عند حدود 3% لفترة أطول باعتبار أنّ التضخّم المرتفع هو حاجة للدول ذات المديونية المرتفعة لتخفيفها. أخيراً يبقى السؤال، إذا كان الطريق لاحتواء التضخّم يمرّ في الركود، فما هو حجمه؟ للحصول على إجابة، يفترض النظر إلى سلوكيات السياسات النقدية وانعكاسها على الأسواق بين عامي 2001 و2002 (ما حصل في عام 2001 يتشابه مع عام 2022، ومن المتوقّع أن تكون تداعيات عام 2023 مشابهة لما حصل في 2002).
آلام أوروبا الاقتصادية
في أوروبا، يُعدُّ التضخم مختلفاً كلّياً عن نظيره في الولايات المتّحدة. وكذلك مهمّة المركزي أيضاً. فضلاً عن مهمّته في استقرار الأسعار واستهداف التضخّم عند 2%، تندرج ضمن مهام المركزي الأوروبي مهمّة حفظ الاستقرار المالي لمنطقة اليورو. لامس التضخّم في أوروبا 10.5% حالياً، وهو ناتج بثلثيه عن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وبربعه عن ارتفاع التكاليف، وبنسبة 15% عن الطلب الداخلي، وبنسبة 6% عن التضخّم المستورد.
من هنا، لا يمكن اعتبار رفع أسعار الفائدة الحلّ الأوحد لأسباب عدّة. عندما يكون التضخّم ناتجاً عن عوامل خارجية (طاقة وغذاء)، تنخفض قدرة السلطة النقدية على الاحتواء. كذلك الحال عندما يكون التضخّم الأساسي ناتجاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج (Gali). أضف أيضاً أن رفع أسعار الفائدة يهدِّد الاستقرار المالي للدول ذات المديونية المرتفعة في منطقة اليورو. الحل هو باعتماد سياسة مالية هادفة وداعمة للأسر المُحتاجة لتخفيف وطأة صدمة القدرة الشرائية، مع رفع أسعار الفائدة ووضعها عن حدود محايدة 2% (بحيث لا تكون السياسة النقدية محفّزة للاقتصاد ولا مقيّدة له). في موازاة ذلك، يعمل المركزي على تشديد الشروط النقدية لسحب فائض السيولة النقدية لدى البنوك عن طريق رفع فائدة سندات التمويل (TLTRO)، التي تقدر بـ2 تريليون يورو. إلى الآن، وبحسب الإحصائيات الأوروبية، نجحت هذه السياسة في تخفيف حدّة التضخّم بنحو 2%، وحماية النموّ المستقبلي بنحو 1.5%. لكن، من مساوئ هذه السياسة:
- أن سرعة تراجع التضخّم ستكون بطيئة في المستقبل، لأن السياسة المالية تبقى داعمة للطلب، بعكس الولايات المتحدة الأميركية حيث يتوقّع أن تشهد تراجعاً أسرع في التضخّم في النصف الثاني من عام 2023.
- لن تستطيع الاستمرار طويلاً لأنها تستنزف موازنات الدول وتزيد العجز، وبالتالي تكثّف الضغوط على أسواق السندات، بحيث ترتفع أسعار فائدة الدول المعنية نتيجة تسعير ما يُسمّى بمخاطر الميزانية (prime des risques budgétaires).
- عندما تنتهي سياسات الدعم من دون تغيير في شروط الأسواق، ستواجه أوروبا موجة ثانية من التضخّم، ما يزيد من احتمال الدخول في دوّامة ارتفاع الأجور/الأسعار. وهذا ما يريد المركزي تفاديه اليوم.
تحاول السلطات المالية والنقدية الأوروبية شراء الوقت إلى حين حصول الركود المتوقّع أو انتهاء الحرب الأوكرانية أو انخفاض أسعار الطاقة، أو توقّف دورة رفع أسعار الفائدة الأميركية لأنّه يحسّن اليورو ويقلّل التضخّم المستورد. ما لم يحدث هذا أو ذاك، وإذا لم تجد أوروبا حلاً لأزمة الطاقة في شتاء 2024، سنكون أمام موجة ثانية من التضخّم. لذلك، يُعدُّ وضع أوروبا أشدّ تعقيداً، والسياسات المالية الداعمة اليوم تنهك المالية العامّة وتزيد فجوة العجز العام. لسدّ هذه الفجوة أو لإعادة مقاربة العجز إلى مستوياته قبل أزمة كوفيد، سوف تضطر الدول إلى رفع الضرائب نظراً إلى صعوبة الاستدانة من الأسواق اليوم وتكاليفها المرتفعة. الأخطر أن هذا قد يحصل في ذروة الركود ما يزيد من آلام أوروبا الاقتصادية.
هل ستنجح هذه السياسات في تحقيق أهدافها؟
بعد هذا البحث المستفيض في أسباب التضخّم واستراتيجيات السياسات النقدية في احتوائه وإعادته إلى حدود 2% على المدى القصير، يبقى السؤال هل ستنجح هذه السياسات في تحقيق أهدافها؟ وما مدى سرعة تباطؤ نمو الأسعار؟
تشكّك معظم مراكز البحث وصناديق الاستثمار في العالم في إمكانيّة المصارف المركزية ضبط التضخّم عند 2% في خلال السنوات الثلاث المقبلة، على اعتبار أن التضخّم أصبح بنيوياً للأسباب التالية:
- الاستقلالية الاستراتيجية: بعد أزمة كوفيد، والحرب الأوكرانية، وسياسة "صفر كوفيد" في الصين، بدأت تطفو على السطح "الاستقلالية الاستراتيجية" التي تقوم على توزيع مخاطر الدول، وتنويع مصادر الحصول على المواد الحيوية ومصادر الاستيراد، وتوطين جزء من الصناعات الاستراتيجية التي تعتبر ضرورية لأمنها الاقتصادي والاجتماعي. إلّا أن هذه العملية مكلفة وتحتاج إلى وقت يراوح بين 5 و7 سنوات. لذلك، ستبقى الضغوط على تكاليف الإنتاج مرتفعة خلال تلك الفترة.
يتّجه العالم اليوم نحو بلوكات جيوسياسية واقتصادية، حيث تعمل كل دولة على جدّة لمضاعفة فوائدها وتشديد سياستها لحجز مكان على طاولة العالم الجديد، وهو ما يقلّص التعاون بين الدول لحلّ الأزمات الدولية - شكل النظام العالمي الجديد: يتّجه العالم اليوم نحو بلوكات جيوسياسية واقتصادية، بحيث يعمل كل بلوك، أو كل دولة، على حدة لمضاعفة فوائده وتشديد سياسته لحجز مكان على طاولة العالم الجديد. الأمر الذي أدّى إلى تقليص التعاون بين الدول لحلّ الأزمات الدولية، إذ أن بعض الدول عملت على خفض صادراتها من المواد الزراعية خوفاً من انقطاعها في المستقبل (قمح الهند)، فتضخّمت أسعار السلع الزراعية. كذلك الحال مع سياسة "صفر كوفيد" في الصين التي تعدّ مسؤولة عن 1.2% من التضخّم، وانكماش التجارة الدولية بنسبة 0.7%. اليوم أصبحنا في فترة انعدام توازن عالمي نظراً لضبابية البلوكات الذي سينتج عنها شكل الصراع اليوم. وإلى حينها، سوف تبقى التقلّبات في الأسعار مرتفعة.
- التوترات الجيوسياسية: بعد الحرب الأوكرانية، والتوترات بين الصين وأميركا، أصبحت السلع تستخدم كسلاح، مثل الغاز الروسي مع أوروبا، وسياسة الولايات المتحدة مع الصين فيما يتعلق في منعها من الحصول على تكنولوجيا أشباه الموصلات. سيحدث هذا الصراع الدائر بين الفيلة خراباً مؤكّداً في الحديقة الدولية وهذا عامل ضاغط أيضاً على الأسعار.
- سياسة التحوّل نحو الطاقة البديلة: كما ذكرت سابقاً، إن السبب البنيوي لأزمة الطاقة الراهنة في أوروبا هو الاعتماد على قطاع غير ناضج، لا يزال إنتاج الطاقة فيه متقلّباً جداً. بعد تخلّي الاتحاد الأوروبي عن مصادر الطاقة الروسية، بدأ التوجّه أكثر نحو الاستثمار في الطاقة البديلة. كذلك الحال في سياسات المناخ التي تدعو جميع الدول إلى أخذ التحوّل نحو الطاقة البديلة في الاعتبار. بمعزل عن الاستثمارات الكبيرة الذي تحتاجها هذه الدول في سياساتها التحوّلية التي ترفع من أسعار إنتاج الطاقة، تبرز مشكلة في الجانب الآخر ألا وهو العرض في المواد الأولية اللازمة لصناعات الطاقة البديلة. من المتوقّع أن يزيد الطلب العالمي على هذه المواد (كوبالت، ليثيوم، نحاس…) نحو ثلاثة أضعاف سنوياً لغاية 2035. وتحتاج صناعة المناجم اليوم إلى ضعفي الاستثمار المقدّر سنوياً بنحو 160 مليار دولار لمواجهة الطلب. ولكن، تبقى الإشكالية في أن الاستثمار الحالي في صناعة المناجم لا يعطي ثماره إلا بعد 7 سنوات. لذلك، سوف تؤدّي زيادة الطلب إلى زيادة التكاليف، وبالتالي زيادة أسعار الطاقة التي تدخل في كلّ تفاصيل سلاسل الإنتاج والخدمات.
- الشعبوية والسياسات الحمائية. من المتوقّع أن تزيد النزعات الشعبوية أكثر فأكثر (مثلاً إيطاليا)، مما يزيد الضغوط أكثر على تضييق عرض أسواق العمل.
- التغيّر الديموغرافي: أصبح العامل الديموغرافي ضاغطاً في الدول الصناعية. في السابق، كان العامل الديمغرافي مُحفّزاً للنمو، لكن منذ عام 1990، بدأت الكتلة العاملة بالتقلّص، بحيث انخفض عدد الأشخاص الذين يساهمون في نمو الناتج المحلي. في عام 2010، بدأت الإنتاجية بالترنّح بشكل ملحوظ، ولم تعد قادرة على دفع عجلة النمو نحو الأمام في ظل الرياح الديموغرافية المعاكسة. في الوقت نفسه، كانت الندوب التي خلفتها الأزمات المالية، والسياسات النقدية والتيسير الكمّي، من بين العوامل التي أدت إلى انخفاض الإنتاجية. اليوم، تنتظر الاقتصاديات المتقدمة نمو الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 1% مع أسعار فائدة حقيقية في حدود 0%. بالنظر إلى العوامل الديموغرافية المُعاكسة في المستقبل، تبدو الأرقام أقل في العقدين المقبلين. لذلك كان الحل في تكثيف الائتمان في محاولة لتعزيز النمو الاقتصادي بشكل دوري بمعدّل يفوق اتجاهها الهيكلي الضعيف (ارتفعت المديونية العالمية من 100% من الناتج الإجمالي في 1990 إلى 350% في 2020). في الوقت الحالي، بدأت هذه السياسات تتغيّر ظرفياً لاحتواء التضخّم، وبدأ التحوّل السريع في السياسات من نمو اسمي قوي في 2021 إلى ركود مضاد للتضخّم في 2023. ولكن سرعان ما تعود إلى سابق عهدها نظراً لضيق أفق الحلول، والعودة إلى معدّلات أسعار فائدة حقيقية صفرية مُحفّزة للنمو اصطناعياً عن طريق تضخّم مستهدف.
لذلك، إذا كان عنوان مرحلة 1990-2020 تضخّم ضعيف ونموّ كبير، سيكون عنوان العقد المقبل تضخّم كبير ونمو ضعيف.