المسيحية والرأسمالية: أي هدم وأي بناء؟

  • من وجهة نظر مسيحيّة لا يمكن المصالحة بين الرأسمالية والإيمان المسيحي. المسيحيون الأولون تصرّفوا بما يملكون على أساس أن "كلّ شيء كان مشتركاً بينهم" وعاشوا المشاركة في الممتلكات.
     
  • يحرّض الإيمان المسيحي المؤمنين بيسوع على مدّ أياديهم للتعاون مع كلّ مُخلص لمحبّة الإنسان وتحريره، على هدم البناء الرأسمالي من أجل بناء مجتمع إنساني جامع مبني على المشاركة في ثروات الأرض التي هي حقّ بشرٍ أحرار متساوين في الكرامة البشرية

 

0 المسيحية


تقوم المسيحيّة على الإيمان بأن يسوع المسيح هو كلمة الله المتجسّد، وبالتالي صارت الألوهة نفسها جزءاً من التاريخ وضمّت التاريخ والمادة إليها. هذه المادّة، أكانت جسمنا أم الطبيعة والكون، هي كريمة في عينيّ الله ومحبوبة منه. من هنا، تغدو محبّة هذه المادة وهذا الكون وهذا الإنسان وهذه المجتمعات جزءاً من محبّة المؤمن لله، الذي يحبّها جميعاً، ودليلاً ملموساً على صدق محبّة الله غير الملموس، لأنّ مَن لا يحبّ الإنسان الذي يراه، كيف يقدر أن يحبّ الله الذي لا يراه على حسب قول الإنجيلي يوحنا (يوحنا 4: 20). 

من هنا، يغدو التفكّر في البيئة التي تؤثّر في أجسادنا ونفوسنا، من ظروف عمل وسكن وصحّة وتعليم وغير ذلك، كما وتحليل البُنى التي تولّد تلك البيئة، أكانت بُنى سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، مسؤولية إيمانية. كذلك يغدو العمل الجماعي المشترك، مع جميع المخلصين لمحبّة الإنسان والأرض، ضرورة إيمانية لتغيير هذه البُنى كي تصبح مولّدة لبيئة نحيا فيها بشكل موائمٍ لمبدأ المحبّة والأخوّة البشرية. وبما أن البنية الأساس التي تولّد البيئة التي نحيا فيها حول العالم في زمننا هي الرأسمالية، يصبح من الضروري أن نحلّلها ونوضح أثرها كما هو في الواقع لا كما تصوّرها دعايتها الترويجية.

مقياس صحّة وانحراف الرأسمالية وأي شيء آخر؟

لنبدأ بتقييم الرأسماليّة علينا وضع مقياس لسلامتها. وتغيير المقياس يغيّر التقييم. وبما أن مقاربتنا مسيحية، فإنّها تنطلق ممّا هو في الإيمان المسيحي ومنسجمٌ مع كلام وتصرّفات يسوع المسيح التي ستكون مقياسنا. 

صورة الله في الإنسان

يرى الفكر اللاهوتي المسيحي أنّ الإنسان مخلوق "على صورة الله"، ما يعني أن الإنسان مخلوق مميّز عن بقية المخلوقات بمزايا تشبه مزايا الخالق مثل الفكر والحرية والقدرة على المحبة، وأن كل إنسان له قيمة لا نهائية كشخص يرى فيه المؤمنة والمؤمن وجه الله نفسه، وقد عبّر عن ذلك قولٌ رهباني مأثور: "بعد الله يجب علينا أن نرى كلّ إنسان وكأنّه الله نفسه". هذه الرؤية مناهضة حُكماً لأي علاقات استغلال، أو استلاب، أو تدمير للبشر، أو للطبيعة كونها هبة الله إلينا وفيها أيضاً نقرأ "كلمات" حضوره الخالق للحياة.

انتظار الملكوت ليس انتظاراً فاتراً مؤجلاً لا مسؤولاً، بل هو انتظارٌ فاعلٌ وورشة يوميّةٌ، وهذا هو معنى كلام يسوع عن ساعة الملكوت

البيئة التي تسمح بالوصول إلى الهدف 

لذلك، ومن وجهة نظر مسيحيّة ينبغي على السلطة أن تخدم هدف خلق بُنى تلد بيئة تسمح بنمو علاقات المحبّة بين البشر. قبل ذهابه إلى الموت، غسل يسوع أرجل تلاميذه ليقول أن السلطة هي خدمة وليست تسلّطاً، وأنّها ترى الآخر غاية في حدّ ذاته وليس وسيلة لأي مشروع حتى، بل خصوصاً، إن كان المشروع منسوب لله. 

ما هي ظروف نشوء علاقات المحبّة؟ من حيث المبدأ، إن البيئة التي تسمح للمحبّة بالنمو هي بيئة الحرّية، لأن الحرّية هي شرط المحبّة. المحبّة حرّة تكون أو لا تكون. ومن ناحية أخرى، نحن نرى بأن البيئة التي تسمح للحرّية بالنمو هي أيضاً المحبّة، لأن من دون محبّة تنعدم الأخوّة البشريّة، وينحو الإنسان إلى استغلال الآخر كوسيلة، كشيء، فتصبح الحرّية مجالاً لما يسمّى خطيئة، والكلمة تعني حرفيّاً في أصلها اليوناني "إخطاء الهدف"، أي إخطاء هدف المحبّة. من دون محبّة تنحو الحرّية نحو تدمير الآخر والذات. المحبّة والحرّية توأمان. 

الإيمان المسيحيّ يحمّل المؤمن(ة) مسؤوليّة العمل مع كل إنسان يؤمن بالأخوّة البشرية، من أجل خلق بُنىَ تولّد بيئة تؤمّن أفضل الظروف لنموّ المحبّة والحرّية. بالنسبة للمسيحيّة، بيئة المحبّة-الحرّية ليست بيئة لا تهتمّ بالمادة، فالله يحبّ العالم، والله نفسه صار مادّياً بتأنّسه بيسوع المسيح، الذي أوصى أتباعه بالاهتمام بهذا العالم. إنّ بيئة المحبّة-الحرّية تهتمّ بكرامة الآخر كإنسان، بحاجاته الجسدية-النفسية-العاطفية. ويسوع نفسه كان يعلّم بالكلام ليرشد الإنسان إلى طريق المحبّة، ولكنّه كان أيضاً يصنع العجائب (بحسب الإيمان المسيحي) كتعبيرٍ مادّي ملموس عن محبّته للبشر من خلال الاهتمام بحاجاتهم المادّية.

لأجل ذلك، وعلى عكس الشائع، فإنّ انتظار الملكوت ليس انتظاراً فاتراً مؤجّلاً لا مسؤولاً، بل هو انتظارٌ فاعلٌ وورشة يوميّةٌ، وهذا هو معنى كلام يسوع عن ساعة الملكوت التي تأتي، والتي الآن حاضرة (يوحنّا 4:24 و5:25).

اختصار الحكاية 

باختصار، إنّ كلمة الله تجسّد بيسوع محبّة بالإنسان، ليرشده من الداخل كي ينمّي قدرته على المحبّة، فتصبح تلك على مثال محبّة يسوع: محبّة منضالة، حتّى الموت إن لزم الأمر، من أجل خلق بيئة تسمح للناس أن يحيوا علاقات محبّة حرّة بشكل أفضل، بحيث يصبح المجتمع خادماً لحياة الآخرين، وأجسادهم، ونفوسهم، وحرّيتهم، وكرامتهم. لقد دشّن يسوع ورشة بناء ملكوت محبّة على هذه الأرض يكتمل في اليوم الأخير، ولهذا فإن انتظار الملكوت هو عملٌ يومي مع يسوع ومع خدّام حياة الإنسان والطبيعة، تلاميذه الحقيقيّين من كل دين وفلسفة، عرفوه بالفكر أم لم يعرفوه، لكي تنشأ بُنى ملكوتية على هذه الأرض، بُنىً تخلق بيئة:

  1. تتيح أفضل فرصة كي يتحرّر الإنسان من وطأة حاجته الجسدية والنفسية، ومن وطأة الخوف من عدم تحقيق هذه الحاجات، هذا الخوف الذي يُفقده حرّيته ويتيح للآخرين بأن يستغلّوه ويستعبدوه.
  2. تتيح لكلّ إنسان فيها أن يعبّر فيها عن ذاته بشكل حرّ، كي ينمو إلى ملء إمكانيّاته من خلال عملٍ متناسب مع تلك القدرات.

من وجهة نظر مسيحيّة، أي بنية لا تسمح للإنسان بخلق بيئة ملكوتية هي بنيةٌ مناهضة لمشروع المسيح بتحرير الإنسان من خلال عيش المحبّة. ولكن هل يمكن لبنية ملكوتيّة أن تنشأ بالدعوة للالتزام بها بحرّية؟

ضرورة الصراع لإنشاء البُنى

بالطبع، باستطاعة كلّ إنسان، بسبب من حرّيته المخلوقة، أن يقبل وجود الله نفسه أو يرفض هذا الوجود. الله نفسه إحترم هذه الحرّية عندما لم يتدخّل ليفرض يسوع على الناس، بل قَبِلَ يسوعُ نفسه، وهو كلمة الله المتجسّد بحسب المسيحية، بأن يرفضه الناس الذين خلقهم وحتّى بأن يقتلوه. إذاً ينبغي أن تُحتَرَمُ حرّية الضمير دائماً وأبداً، والله نفسه يحترمها.

أمّا حرّية الأفعال بين البشر، فلا علاقة لها بحرّية الاعتقاد، بل تتعلّق بالعلاقات بين الناس في المجتمع. أرسى يسوع خطّ المحبّة وسار عليه وترك للناس الحرّية بأن يمشوا في إثره أو لا يمشوا. لكن هذا لا يختصر كلّ كلام يسوع ووصاياه، فهو أوصى أيضاً بأن يهتمّ أتباعه بكلّ مستضعف في الأرض، بكلّ من يقع ضحيّة للحرّية الإنسانية إذا ما جنحت ضدّ المحبّة وصارت مدمّرة. أفعال الخطّ المعاكس للمحبّة هي أفعال شرّ تدمّر الآخرين ويجب مواجهتها. الإنسان حرّ بتدمير ذاته، لكن عند محاولته تدمير غيره باستغلاله وتدمير الحياة فيه (جوع، مرض، جهل) يجب مواجهته من أجل ردع الشرّ والتدمير وحماية بيئة المحبّة والبُنى المولّدة لها، ومن أجل حماية بُنى الملكوت. هذا الردع هو تعبير عن المحبّة وإحقاقٌ لوصيّة يسوع بالدفاع عن حقّ المستضعفين بالطعام والشراب والمأوى والحرّية والتعاضد والتعاطف، وهو الأمر الوحيد الذي قال يسوع أنّ الإنسان سيُسأل عنه يوم القيامة (متّى 25: 35-46).

0 الرأسمالية


الرأسمالية هي نظام اجتماعي قائم حول اقتصاد مبني على سوق حرّة وفكرة الـمُلكيّة الفردية. لا تقوم الرأسماليّة على مجرّد وجود سوق، ففكرة السوق وواقعه موجودان عبر العصور. لكن لا يوجد مجتمع مثل المجتمع الرأسمالي تتمحور فيه تقريباً كلّ النشاطات البشريّة حول السوق الحرّة من أي قيود وضوابط، بحيث لم يعد المجتمع هو الذي يتحكّم بالسوق وإنّما السوق هي التي تتحكّم بالمجتمع الذي يكاد لا يوجد إلّا من أجل السوق.

كان المجتمع ما قبل الرأسمالي يقوم على العمل الخاص المستقل للإنسان (المزارع، الإسكافي، الحدّاد، إلخ) وعلى تبادل الناتج مقابل سعر مُحدّد في سوق، وكانت الأسعار تتحدّد من العاملين في المهنة نفسها، من دون منافسة فعليّة، بل كانت المنافسة تُعتبر أمراً غير شريف في السوق (يمكن مراجعة ملاحظات سبينوزا في القرن السابع عشر بهذا الشأن). بالطبع، كان الربح ضرورياً من أجل الاستمرار في العيش وفي العمل، لكن الربح كان مصدره العمل الشخصي، والجهد الجسدي أساساً، ما خلا النبلاء الذين يستخدمون الفلّاحين في نظام الإقطاع للعمل لديهم وجني المال من تعبهم.

تختلف الرأسماليّة بكونها تبدأ من المال وليس العمل. ولا يُقصد برأس المال الثروة الشخصيّة التي قد يجمعها عامل أو موظّف من خلال توفير جزء من مرتّبه، وإنّما المال الذي يوظّفه إنسان أو مجموعة في سبيل جني المزيد من المال، وفي سبيل نموّ رأس المال. هذا هو لبّ الرأسماليّة: استخدام المال لزيادة المال، وباطّراد. البداية والنهاية، الألف والياء، في الرأسمالية هو المال وليس الإنسان.

كيف يزيد المال؟

لكن كيف يزيد المال بالمال؟ يمتلك الرأسمالي بالمال وسائل الإنتاج، ويُنتج شيئاً له قيمة استخدامية ومطلوبة بحكم الحاجة لاستخدامه. قد تكون الحاجة فعلية (الطعام مطلوب بسبب الحاجة الجسدية) أو اصطناعية ناتجة عن الدعاية (كنزة حمراء بمناسبة عيد الميلاد مطلوبة بسبب الدعاية لا بسبب حاجة فعلية). يبيع الرأسمالي البضاعة "المطلوبة" ويجني منها قيمة تبادليّة بحسب الطلب. نظرياً، تؤدّي زيادة الطلب إلى زيادة القيمة التبادليّة، لكن عملياً يسعى الرأسمالي إلى زيادة القيمة التبادليّة للمنتج بواسطة الاحتكار أو المضاربة (كما في سوق الأسهم). هكذا كلّما زادت القيمة التبادليّة، دفع الناس مالاً أكثر مقابل المنتج، وزادت المداخيل التي يحسم منها الرأسمالي كلفة الإنتاج لتحديد فائض القيمة (أي الأرباح). تتضمّن الكلفة حكماً مرتّبات العمّال وتكاليف المعدّات والسلع الأولية والنفقات التشغيلية، وبهدف زيادة أرباحه، يصبح من مصلحة الرأسمالي أن يخفّض المرتّبات إلى الحدّ الأدنى الممكن، أو أن يزيد الإنتاجية إلى الحدّ الأقصى الممكن، بمعزل عن الأثر الاجتماعي الإنساني لذلك. 

الرأسمالية هي في حالة توسّع دائم، إذ يدفعها منطقها الداخلي إلى مراكمة المال بالمال، مهما كان الأثر البيئي لذلكماذا يصنع الرأسمالي بالأرباح؟ يقوم منطق الرأسمالية على استعمال المال الموجود لمراكمته، لذلك يتمّ استخدام الأرباح في استثمار جديد (توسيع الإنتاج مثلاً) لكي يتزايد المال من جديد. هكذا، فإن الرأسماليّة هي حُكماً في حالة توسّع دائم، إذ يدفعها منطقها الداخلي إلى مراكمة المال بالمال (لا يمكن ترك المال من دون أن يتزايد) مهما كان الأثر البيئيّ لذلك (استهلاك الكوكب وتدمير البيئة).

القيمة المطلقة

طالما المال هو ألف الرأسمالية وياؤها، فلا شيء في هذا العالم له قيمة بالعقل الرأسماليّ إلّا إذا جرى تقييمه بقيمة مالية. الشجر، والأرض، والماء، والهواء، والجسد، والفكر، والرسم، والنحت، والشعر، والتعليم، والعمر، والحيوانات، والعمل غير المدفوع الأجر (العمل المنزليّ مثلاً)، والإنسان نفسه، كلّ ذلك لا قيمة له إلّا إن تمّ حسابه مالياً ضمن دورة إنتاج المال. من هنا، يأتي إطلاق كلمة "موارد بشرية" على الإنسان، وتحديداً البشر الموظّفين في مؤسّسة رأسمالية، ذلك أنّ الموظّفين يُعتبرون أدوات للاستثمار بهدف مراكمة المال، ويمكن حساب كمّية الأرباح المالية التي يجلبونها للشركة، أي المال الذي يسبّبون بإنتاجه كقيمة تبادلية، محسوماً منه الكلفة المالية لاستخدامهم (مرتباتهم وتأميناتهم...). لا يمانع الرأسمالي في توظيف رأس المال في "الموارد" البشريّة (تدريب، تأمين صحّي، إلخ...) لكي تُجنى منها أرباحاً أعلى. ما من شيء أكثر منطقية من ذلك في الرأسماليّة. بسبب استتباب الفكر الرأسمالي، ما هو غير طبيعي يبدو طبيعياً جدّاً، إذ لا أظن أن القارئ يشعر بأي مشكلة بأن يُدعى "مُستخدَماً" وجزءاً من "موارد بشريّة"، بينما حقيقة العبارتين تعنيان مباشرة أنّه مجرّد وسيلة تُستعمل لجني أرباح لـ"ربّ" العمل، وكلمة "ربّ" نفسها مُدِلّة بمعانيها فهي تعني السيّد، ولنقلها بوضوح لا سيّد إلّا على عبيد.

ضرورة الاستغلال

لكي يزداد ربح الرأسمالي إلى أقصى حدّ ممكن، لا بدّ من زيادة الإنتاج للحدّ الأقصى الممكن وتخفيض التكاليف للحدّ الأدنى الممكن. وهذا يعني من جملة ما يعنيه الضغط لتخفيض أجرة العمّال، التي يُنظَر إليها ليس كحقّ لجهد العامل المبذول من أجل الإنتاج، وإنّما ككلفة تأخذ حصّة من الأرباح. قد يخطر على البال أنّه يمكن زيادة الأرباح من دون محاولة إبقاء الأجور في حدّها الأدنى، ولو أنّ ذلك يُبقي الأرباح دون حدّها الأعلى الممكن. قد يكون ذلك ممكناً في ظلّ شركة مملوكة من شخص أو عائلة، ولكن ما أن نصبح في إطار الشركات المطروحة في سوق الأسهم تنتفي تلك الإمكانيّة وتلك الحرّية، لأنّ ضغوط السوق لا تسمح بذلك، فازدياد الأرباح إلى الحدّ الأقصى أمر تفرضه آليّات (ميكانيزمات) السوق، فالذي يربح أكثر يزداد سعر أسهمه (أي رأسماله)، بينما المنافسين الذين لا يحقّقون نسب زيادة أرباح مماثلة فسيخسرون من قيمة أسهمهم (أي من رأسمالهم)، لأنّ منطق السوق يقول ببيع أسهم ذات مردود أقلّ لشراء أسهم ذات مردود أعلى. تفرض آليات السوق نفسها على الرأسمالي أن يسعى إلى الاستغلال الأقصى للموظّفين من أجل الوصول إلى مراكمة أعلى أرباح ممكنة، وللخروج من سوق يد عاملة محميّة بقوانين تمنع استغلالاً عبوديّاً صريحاً، للبحث عن يد عاملة في مكان تسمح قوانينه باستغلال العمّال كما يشاء.

0 الخلاصة: الرأسمالية من وجهة نظر مسيحية 


من وجهة نظر مسيحية، لا يمكن المصالحة بين الرأسمالية والإيمان المسيحي. تصرّف المسيحيّون الأوّلون بما يملكون على أساس أن "كلّ شيء كان مشتركاً بينهم" كما يرد في كتاب أعمال الرسل (4: 32) فعاشوا المشاركة في الممتلكات. في العصور اللاحقة، كان رهبان الصحراء المصريّة يعملون أُجَراء في مواسم الحصاد ويوزّعون ما يحصلون عليه من قمح، أجرة أتعابهم، على فقراء المدن المصريّة. وأسّس باسيليوس الكبير (329-379 م.) "الباسيليّة"، وهي مجمّع مُخصّص للعناية بالفقراء واليتامى والأرامل وهم أكثر الناس تهميشاً في ذلك العصر، وأنشأ يوحنا الذهبي الفم (344-407 م.) المستشفيات. ناهض أبرز قدّيسو الكنيسة ما ندعوه اليوم بانعدام العدالة في توزيع الثروة الوطنية والتمايز الطبقي بين الأغنياء والفقراء، واعتبر غريغوريوس النيصصي (335-394 م.) أن لا أحد يدخل الملكوت من دون أن يمرّ بخدمة الفقراء "حرّاس الملكوت"، وركّز غريغوريوس النزينزي (اللاهوتي) (329-390 م.)، على فكرة المساواة بين الناس فكان يقول "قفوا ليس عند قانون الأقوياء بل الخالق"، أي عند قانون المساواة، وأطلّ إلى ما هو أبعد من العلاقات الفرديّة ليلامس موضوع العدالة بين الناس والأسباب البشرية وراء الفقر، فكتب "أنا لست متأكّداً أنّ الفرق بين غنيّ وفقير آتٍ من الله"، في وقت ما يزال الكثير من المسيحيّين في زمننا يصرّون أنّ هذه إرادة الله، وفي حين أن الرأسمالية تُنتِجُ الفقر إنتاجاً مدفوعة بالسعي المحموم لزيادة الأرباح وتراكم رأس المال. 

لا يمكن مصالحة الإيمان بالله أبٌ لجميع الناس وبأنّ البشريّة عائلة واحدة لأب واحد مع فكرة الرأسماليّة التي ترى الآخر أداة لجني أقصى الأرباح. من وجهة نظر مسيحيّة، الرأسماليّة شرّ يجب مواجهته، خطّ معادٍ للمبادئ المسيحيّة الأساس. يورد كتاب الرؤية كلاماً على لسان يسوع "أنا هو الألف والياء البداية والنهاية" (رؤيا 1:8)؛ هكذا إيمان لن يتصالح يوماً مع كون المال هو البداية والنهاية في مطلق أيّ نظام. بالطبع يمكن للإنسان أن يجمع إيمانه بالرأسماليّة مع إيمانه بيسوع، لكنّنا هنا نتحدّث عن رؤيتين متعارضتين، عن سُلَّمَيْن للقيم متناقضين يولّدان هيكليّتان حياتيّتان تنفي إحداهما الأخرى. عندما يحاول الإنسان التوفيق بين رؤيتين متناقضتين للحياة، مثل الرأسماليّة والمسيحيّة، فهو عادة ما يفعل ذلك لكي يغطّي بشاعة ما يرتكبه بشكل ملموس بواسطة إحدى الرؤيتين، بمعطف من المبادئ الفكريّة الجميلة غير الملموسة للرؤية الأُخرى والتي لا يُبقي منها إلّا على فولكلورٍ يخدّر به ضميره. 

إنّ الإيمان المسيحيّ نفسه يحرّض المؤمنين بيسوع على مدّ أياديهم للتعاون مع كلّ مُخلص لمحبّة الإنسان وتحريره، على هدم البناء الرأسمالي من أجل بناء مجتمع إنساني جامع مبني على المشاركة في ثروات الأرض التي هي حقّ بشرٍ أحرار متساوين في الكرامة البشرية.