معاينة banque du liban

إحداث ثقوب في السرّية المصرفية بدلاً من إلغائها

وُصِف القانون الأخير الذي أدخل تعديلات على السرّية المصرفية الصارمة في لبنان بأنه «أسرع قانون في تاريخ الجمهورية اللبنانية منذ تعديل الدستور عند الاستقلال». فقد أقرّ في مجلس النواب وأُحيل فوراً إلى رئيسي الجمهورية والحكومة، اللذين وقّعا عليه في اليوم نفسه. وبينما يروِّج كثيرون، من مؤيدي هذا القانون ومنتقديه على حدّ سواء، لفكرة أن قانون السرّية المصرفية المعمول به منذ 69 عاماً، بات «فاقداً لأي معنى» على حدّ تعبير رئيس الحكومة نوّاف سلام، إلا أنّ التعديلات التي أدخلت إليه لم تلغِه بالكامل، بل أحدثت ثقوباً فيه.  

69 عاماً من سرّية المصارف

الثقب الجديد

أقرّ مجلس النواب اللبناني، في جلسة 24 نيسان/أبريل 2025، تعديلات جوهرية على قانون السرّية المصرفية، شملت المادة 7 (هـ) و(و) من قانون سرية المصارف الصادر في العام 1956، بالإضافة إلى المادة 150 من قانون النقد والتسليف. ووفقاً للباحث القانوني في «المفكرة القانونية» فادي إبراهيم، فإن أبرز ما جاءت به التعديلات يتمثل في «السماح للجهات الرقابية، مثل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وأيّ جهة يتمّ تكليفها بمهام تدقيق أو رقابة من قبلهما، بالحصول على معلومات مصرفية لأي غاية كانت، من دون قيود، وبالأسماء، ومن دون العودة إلى هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها حاكم مصرف لبنان»، فضلاً عن تطبيق التعديلات «بأثر رجعي لمدة 10 سنوات من تاريخ صدور القانون ما يتيح كشف التعاملات المصرفية في الفترة المحيطة ببداية الأزمة المالية». 

وعلى أهمّية هذه التعديلات، نبّه تقرير «المرصد البرلماني» الصادر عن «المفكرة القانونية» إلى استمرار وجود ثغرات قد تعيق رفع السرية المصرفية في حالات كثيرة.

أولاً، أبقى القانون على حق الأشخاص المعنيين بالاعتراض على طلبات رفع السرية أمام قاضي الأمور المستعجلة، مع وقف تنفيذ الطلب إلى حين البت بالاعتراض، الأمر الذي «يخشى أن يؤدي إلى تعسّف في استعمال هذا الحق ويعرقل عمل الهيئات الرقابية»، بحسب المفكرة القانونية.

ثانياً، استمرار عجز الإدارة الضريبية عن ممارسة صلاحياتها في رفع السرية المصرفية. على الرغم من أن قانون العام 2022 منحها هذه الصلاحية، إلا أنه علّق تنفيذها على صدور مرسوم لاحق عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية، من دون تحديد مهلة زمنية لذلك، ما أبقى هذه الصلاحية معلقة حتى اليوم. 

ثالثاً، عدم توسيع صلاحيات القضاء المختص، بما في ذلك النيابات العامة، في طلب المعلومات المصرفية لغايات استقصائية ومن دون اشتراط وجود دعوى محددة.

رابعاً، حصر المفعول الرجعي بالتعديلات الجديدة بممارسة صلاحيات الهيئات الرقابية فقط، ما يفرغ المادة الخاصة بالمفعول الرجعي في قانون 2022 من مضمونها، ويحدّ من إمكانية إسقاط السرية المصرفية عن موظفين عامين ومصرفيين وإعلاميين وجمعيات غير حكومية، كما يقيّد حق القضاء والجهات المخولة قانوناً، مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية وهيئة التحقيق الخاصة، في طلب المعلومات من دون قيود زمنية.

جاءت هذه التعديلات قبيل سفر الوفد اللبناني إلى واشنطن للمشاركة في «اجتماعات الربيع» مع صندوق النقد الدولي، تلبيةً لمطالب الصندوق بضرورة تعديل قانون السرية المصرفية. فقد رأى الصندوق أن التعديلات السابقة بموجب القانون رقم 306 الصادر في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2022، كانت غير كافية ولا تفي بمتطلبات التدقيق في حسابات المصارف تمهيداً لإعادة الهيكلة، لا سيما مع عدم صدور المراسيم التطبيقية اللازمة.

مع ذلك، يعتبر الاقتصادي شربل نحاس، في حديثه إلى «صفر»، أن «صندوق النقد يُستخدم كواجهة لتبرير التعديلات الحالية»، مشيراً إلى أن «هناك دوافع أخرى وراء هذه الخطوة، أهمها محاولة رصد وتتبع حركة الأموال الوافدة إلى لبنان تحت ذريعة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، في حين أن الهدف الحقيقي هو التضييق على حزب الله».

حصن منيع على مرّ 7 عقود

تعود جذور السرية المصرفية في لبنان إلى 69 عاماً مضت. ففي العام 1955، تقدم النائب ريمون إدّه باقتراح قانون سرّية المصارف، الذي هدف، بحسب أسبابه الموجبة، إلى جعل لبنان ملاذاً آمناً للرساميل الأجنبية ومصرفاً رئيساً للدول العربية. كما سعى إلى منع تسرّب الرساميل اللبنانية إلى الخارج تهرّباً من دفع الضرائب، ولا سيما ضريبة الإرث. وقد أُقرّ القانون في العام التالي، أي العام 1956.

أمّن قانون العام 1956 حماية شبه مُحكمة للسرّية المصرفية، إذ حصر إمكان كشفها بثلاث حالات محددة وضيقة، وهي: (1) الحصول على موافقة خطية من صاحب الحساب أو ورثته، (2) إعلان إفلاس صاحب الحساب، (3) وجود نزاع مصرفي بين صاحب الحساب والمصرف المعني. ويضاف إلى هذه الحالات استثناء رابع يتمثل في تلبية طلبات السلطات القضائية (النيابة العامة) في حال كان الشخص مشتبهاً به في تحقيق متعلق بالإثراء غير المشروع.

عملياً، ألزم القانون المصارف بكتمان السر المصرفي لصالح عملائها، ومنعها من إفشاء أي معلومات تتعلق بأسماء الزبائن أو أموالهم أو أي تفاصيل أخرى تخصهم لأي جهة كانت، سواء أفراداً أم سلطات إدارية أو عسكرية أو قضائية. وقد كرّس القانون هذه السرية كحق مكتسب لأصحاب رؤوس الأموال، باعتبارها خدمة مجانية لا يتوجب عليهم دفع أي رسوم أو اشتراكات مقابلها، خلافاً لما كان معمولاً به في قوانين مماثلة حول العالم.

وعلى مدار العقود السبعة الماضية، جرت محاولات عديدة لكسر هذا الحصن القانوني، إلا أنها لم تُفلح سوى في إحداث بعض الثقوب فيه دون أن تنال من جوهره.

قوانين ضريبة الدخل والإرث: ثقوب أولى أعيد ترميمها

تعرّض نظام السرية المصرفية لأول هزة خفيفة خلال عهد الرئيس فؤاد شهاب. وبحسب الباحث القانوني علي سويدان، «كانت البداية مع قانون رسم الانتقال (الضريبة على الإرث) المُقرّ في 12 حزيران/يونيو 1959، الذي ألزم المصارف بإبلاغ الدوائر المالية، ضمن مهلة محددة، بوفاة أي من زبائنها، من دون ذكر اسمه، مع السماح للمراقبين المحلّفين بالاطلاع على حسابات المتوفى مع التزامهم بالحفاظ على سرية المهنة».

غير أن هذه الخطوة سرعان ما قوبلت برد فعل برلماني سريع. فبعد شهر واحد فقط من إقرار القانون، تقدّم النائب بيار إده باقتراح قانون يستثني المصارف الخاضعة لقانون السرّية المصرفية من تطبيق أحكام المادة المذكورة، معتبراً، وفقاً لمحضر جلسات مجلس النواب، أن قانون سرّية المصارف «جعل رساميل كبيرة تتدفق إلى لبنان وساهم في مساعدته على تجاوز الأزمات التي مرّ بها». وقد أُقرّ الاقتراح بأغلبية ساحقة، ولم يعارضه سوى نائب واحد فقط.

وسار شقيقه ريمون إده على النهج نفسه في العام 1961، حين تقدّم باقتراح قانون لتعديل قانون ضريبة الدخل، ليخضع بدوره لأحكام قانون السرية المصرفية. وقد أُقرّ هذا التعديل بالفعل، وتبعه إقرار قانون آخر اقترحه ريمون إده، يعزّز حماية السرية المصرفية، وهو قانون إجازة فتح حساب مشترك.

تمويل الإرهاب ومكافحة تبييض الأموال: الثقب الثاني

على مدى عقود، ظلّ نظام السرية المصرفية في لبنان قائماً بشكل مطلق، على الرغم من الظروف المحيطة التي كانت تتعارض معه. وقد مكّن هذا النظام، بحسب ما يقول المحامي كريم ضاهر لـ«صفر»، الميليشيات المختلفة من التسلّح والتمويل خلال الحرب الأهلية، من دون أي قلق، كما ساهم في ترسيخ نظام فساد مستشرٍ وإفلاتٍ من العقاب على جميع المستويات.

لم تكن السرية المصرفية مجرّد ملاذ آمن للثروات، بل شكّلت أيضاً عاملاً محفزاً لجذب الرساميل الخليجية الكبرى وتحويلات الجاليات اللبنانية في الخارج، خصوصاً مع تبنّي سياسة مصرفية قائمة على معدلات فائدة مرتفعة. وقد أدّى ذلك لاحقاً إلى بناء هرم احتيال مالي ساهم في الانهيار النقدي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان اليوم.

استمرّ هذا الوضع حتى العام 2001، حين أُقرّ القانون رقم 318 المتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، وذلك تحت وطأة ضغوط خارجية كبيرة وتهديد الدول غير المُمتثلة بالعقوبات. وبحسب المحامي كريم ضاهر، فقد أنشأ هذا القانون هيئة تحقيق خاصة برئاسة حاكم مصرف لبنان، مُنحت صلاحية رفع السرية المصرفية شريطة توافر شبهات جدية وأدلة على عمليات تبييض أموال.

لاحقاً، جاء القانون التعديلي رقم 44، الصادر في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ليوسّع قائمة الجرائم التي تُعدّ مصدراً لجرم تبييض الأموال، بحيث شملت الفساد، واستغلال النفوذ، واختلاس الأموال، والتهرب الضريبي، والإثراء غير المشروع. كما فرض القانون الجديد على المصارف والمؤسسات المالية وبعض المهن الحرة، مثل المحامين ومدققي الحسابات، التحقق من هوية عملائهم وجمع معلومات تفصيلية عنهم، مع إلزامهم بالتبليغ عن أي شبهات إلى الجهات المختصة، تحت طائلة التعرض لعقوبات مالية أو السجن.

FATCA وGATCA: ثقب ثالث انصياعاً للغرب

في العام 2010، وبعد أزمة الرهن العقاري في العام 2008 وما خلّفته من تداعيات اقتصادية، أصدرت الولايات المتحدة قانون الالتزام الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA)، الذي يهدف إلى مكافحة التهرب الضريبي. يفرض هذا القانون على المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية، بما في ذلك شركات التأمين وصناديق الاستثمار، الإفصاح عن حسابات عملائها من حملة الجنسية الأميركية أو ممن يُصنّفون كـ«أشخاص أميركيين»، وإرسال المعلومات مباشرة إلى مصلحة الضرائب الأميركية (IRS)، تحت طائلة فرض عقوبات قاسية أو حظر التعامل مع المؤسسات المالية الأميركية.

وبحسب المحامي كريم ضاهر، فإن «قانون FATCA يختلف عن الأنظمة الدولية الأخرى، إذ لا يقوم على مبدأ الاتفاقيات الثنائية أو مبدأ المعاملة بالمثل. ويُعدّ لبنان نموذجاً واضحاً على ذلك، حيث تفاوضت مصلحة الضرائب الأميركية مباشرة مع كل مصرف لبناني على حدة، متجاوزة الحكومة اللبنانية وحتى مصرف لبنان، ما دفع المصارف إلى الالتزام تفادياً للعقوبات».

في المقابل، شهد العام 2014 إطلاق المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات لأغراض ضريبية (Global Forum)، الذي يضمّ نحو 168 دولة من ضمنها دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) ومجموعة العشرين (G20)، معياراً دولياً جديداً يعرف بالمعيار المشترك للتبادل (GATCA). يشبه هذا المعيار نظام FATCA لكنه يعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل، حيث تلتزم الدول بتبادل المعلومات المالية الخاصة بالمقيمين غير المحليين بشكل سنوي ومنظّم، وليس بناءً على الطلب فقط.

وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر 2016، صادق لبنان على هذه المعايير عبر القانون رقم 55، الذي نصّ على الانضمام إلى اتفاقية تبادل المعلومات الضريبية. ونتيجة لذلك، أصبحت المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية ملزمة بتحديد العملاء الذين يقيمون ضريبياً في الخارج، وتجميع المعلومات المتعلقة بحساباتهم وأصولهم، ثم إرسالها سنوياً إلى وزارة المالية اللبنانية، التي تتولى بدورها نقلها إلى السلطات الضريبية في الدول المعنية، التزاماً بمبدأ أولوية الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي.

الثقب الرابع: ترسيخ لدور هيئة التحقيق الخاصة

في أعقاب انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، تعالت المطالب السياسية بتعديل قانون السرّية المصرفية، وقُدّمت 4 اقتراحات قوانين من قبل نواب ومجموعات نيابية مختلفة، إلى جانب مشروع قانون رفعته الحكومة عبر وزارة العدل.

وقد اختلفت هذه المشاريع بشأن مدى اتساع نطاق تطبيق القانون الجديد. ويقول المحامي كريم ضاهر إن «اتجاهين رئيسيين برزا في هذا السياق: الأول سعى إلى مكافحة الفساد والإثراء غير المشروع في القطاع العام تحديداً، عبر رفع السرّية المصرفية عن حسابات الموظفين العموميين والمتعاقدين مع الدولة والأشخاص الذين يتولون مهام رسمية سواء بالانتخاب أو التعيين، إضافة إلى أزواجهم وأفراد أسرهم التابعين لهم. أما الاتجاه الثاني، الذي كان أقلوياً، فقد دعا إلى استغلال اللحظة لإجراء تعديل جذري عبر الانتقال من مبدأ السرية المصرفية إلى السرية المهنية، بما يشمل مكافحة الفساد والتواطؤ والجرائم والاحتيالات في القطاعين العام والخاص معاً».

في النهاية، تبلور توافق على صيغة وسطية تقضي برفع السرّية المصرفية عن القطاع العام ومحيطه، بما يشمل المسؤولين وأزواجهم، والشركات الوهمية، والكيانات المموّهة مثل التراستات، والمتعهدين مع الدولة، وزعماء الأحزاب السياسية، ومالكي وسائل الإعلام المؤثرة.  ومع ذلك، وخلال جلسة التصويت على «القانون التوافقي» في أيار/مايو 2022، عمد رئيس مجلس النواب آنذاك، وفي ظل فوضى عارمة وتواطؤ بعض الكتل النيابية التي كانت قد وافقت سابقاً على النص في اللجان المشتركة، إلى تمرير نسخة من القانون أُفرغت من مضمونها، إذ حُرمت السلطة القضائية من حق طلب رفع السرية المصرفية، وهو الحق الذي كان مكفولاً بموجب المادة 7 من قانون السرية المصرفية لعام 1956.

اعتبر صندوق النقد الدولي أن القانون بصيغته هذه لا يفي بالغايات المطلوبة، ما دفع رئيس الجمهورية آنذاك، ميشال عون، إلى استخدام صلاحياته الدستورية بموجب المادة 57، فرفض إصدار القانون وأعاده إلى المجلس النيابي مطالباً بإعادة تضمين النص صلاحية القضاء في طلب رفع السرية المصرفية. 

وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، أُقر القانون الجديد الذي نصّ على رفع السرية المصرفية بأثر رجعي عن فئات محددة، منها: الموظفون العموميون، المنتخبون والمسؤولون السياسيون، المرشحون للانتخابات، رؤساء ومدراء الجمعيات السياسية والمنظمات غير الحكومية، رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف، المدققون الماليون الحاليون والسابقون، رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات المالكة أو المديرة لوسائل الإعلام، بالإضافة إلى الأزواج والأولاد القاصرين والمستفيدين الحقيقيين والواجهات القانونية أو الفعلية. وقد أتاح القانون لعدد من السلطات والهيئات الرسمية الاطلاع على المعلومات المصرفية، لكنه اشترط المرور بهيئة التحقيق الخاصة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان. وهو ما اعتبرته «المفكرة القانونية» بمثابة ترسيخ لاحتكار الهيئة لصلاحية رفع السرية المصرفية، وإبقاء القرار بيد سلطة غير مستقلة تماماً عن المنظومة السياسية والمالية القائمة.

مجدّداً، تحت وطأة الضغوط الخارجية فتح «ثقب» جديد في جدار السرية المصرفية، لكن مع إبقاء الحصن قائماً لحماية النافذين والمصارف.