معاينة Lebanon banks

تشريح الميزانية المجمّعة:
كيف قلّصت المصارف اللبنانية ميزانياتها في 6 سنوات؟

منذ توقّفها عن الدفع في العام 2019، تمكّنت المصارف التجارية في لبنان من شطب نحو 146.4 مليار دولار من ميزانياتها، إذ انخفض مجمل الموجودات/المطلوبات من نحو 249.5 مليار دولار في نهاية العام 2018 إلى نحو 103.1 مليار دولار في نهاية العام 2024، أي أن المصارف اللبنانية تخلّصت في السنوات الست الماضي من نحو 60% من ميزانياتها، ولم يعد حجمها اليوم يساوي سوى 40% من حجمها في العام 2018. 

1

ماذا يعني ذلك؟

يعدّ تقليص ميزانيات المصارف اللبنانية هدفاً لأي خطّة ترمي إلى إعادة هيكلة الجهاز المصرفي، ليس بسبب الفجوة المالية أو الخسائر الكبيرة المسجّلة في هذه الميزانيات فقط، بل أيضاً لأن حجم الميزانيات نفسها يعادل 5 مرّات حجم الناتج المحلي السنوي، حتى بعد تقليصها على مدار السنوات الست الماضية. وعلى عكس ما توحي به السرديات الشائعة، فإن حجم ميزانيات المصارف المرتفع قياساً إلى الناتج المحلي الإجمالي يشكّل عبئاً على الاقتصاد والدولة والأعمال ومستوى المعيشة وتوزيع الثروة والدخل.

إلا أن تخلّص المصارف التجارية من 60% من ميزانياتها لم يكن منظمّاً، بمعنى أنه لم يكن نتيجة خطّة معلنة، وإنما نتيجة سلسلة واسعة من القيود الاستنسابية على الودائع والسحوبات والتحويلات، التي فرضها كل مصرف على هواه ووفقاً لمصالح المساهمين والمدراء التنفيذيين وعلاقاتهم مع أصحاب الودائع الكبيرة والنافذين من السياسيين ورجال الأعمال. ونتيجة سلسلة واسعة ايضاً من عمليات تصفية للالتزامات والخصوم وإعادة التخمين لبعض الأصول.

تعبّر الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية في لبنان عن مجاميع مطلوبات هذه المصارف وموجوداتها، أي أنها مجموع التزاماتها إزاء أصحاب الودائع والأسهم والسندات والأوراق المالية والدائنون الآخرون، ومجموع توظيفاتها واستثماراتها وملكياتها الذي يجب أن يكون مساوياً لمجموع الالتزامات، وألا يكون هناك خلل جسيم لا تجيزه الأحكام القانونية والمعايير المحاسبية.

هذا يعني، أن المصارف في لبنان شطبت في السنوات الست الماضية نحو 146.4 مليار دولار من المطلوبات عليها، 85.3 مليار دولار منها شُطبت من الودائع بالليرة والدولار. وفي المقابل، شطبت المبلغ نفسه من توظيفاتها، بما في ذلك 53.4 مليار دولار شُطبت من قروضها للشركات والأسر والافراد. 

تعتبر المصارف أنها تقوم بإعادة هيكلة موجوداتها ومطلوباتها بنفسها، ولا حاجة إلى أي تنظيم إضافي، وليس المطلوب سوى إجراء مقاصّة بين موجودات لها بقيمة 79.7 مليار دولار وظّفتها المصارف لدى مصرف لبنان كنقد وودائع، وهو لا يملك هذا المبلغ لردّها. وبين مطلوبات ودائع الزبائن المقيمين وغير المقيمين المتبقية والبالغة نحو 87.9 مليار دولار، والتي لا تمتلك المصارف هذا المبلغ لردّها.

كيف قلّصت المصارف ميزانياتها؟

تتألّف الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية في لبنان من مطلوبات على المصارف، وهي تتضمّن الديون والحقوق المترتبة عليها لأصحاب الودائع والدائنين والمساهمين والمستثمرين فيها. وفي مقابل هذه المطلوبات، يوجد موجودات للمصارف، وهي تتضمّن ودائعها في البنك المركزي وتوظيفاتها في التسليفات للقطاع الخاص والقطاع العام وتوظيفاتها في الخارج واستثماراتها في الأصول الملموسة وغير الملموسة… لا تقدّم بنود الميزانية معلومات كثيرة عن نوعية العمليات التي قامت بها المصارف لتقليص ميزانياتها، ولكنها تسمح بقراءة كمية غير تفصيلية لنتائج هذه العمليات حسب كل بند من البنود، وتساعد في استقراء المصالح التي تمت حمايتها أو الأضرار فيها.

لا أحد يحب الأرقام، ولكن لا بد من استعراضها في سياق محاولة لتشريح الميزانية المجمّعة للمصارف.

على صعيد المطلوبات

تكشف تغيّرات الميزانية أن ودائع الزبائن المقيمين وغير المقيمين بالليرة وبالدولار تقلّصت إلى النصف تقريباً، من 173.2 مليار دولار الى 87.9 مليار دولار، أي بما قيمته 85.3 مليار دولار. إلا أن حصّة الودائع من مجمل المطلوبات ارتفعت من نحو 69% في نهاية العام 2018 إلى نحو 85.5% في نهاية العام 2024.

2
  • الودائع بالليرة

    أدى انهيار سعر الليرة وعمليات التحويل الواسعة للودائع من الليرة إلى الدولار إلى سحق ودائع الزبائن بالليرة، فلم يتبقَ في ميزانيات المصارف سوى أقل من 700 مليون دولار من هذه الودائع من أصل نحو 50.8 مليار دولار كانت موجودة في نهاية العام 2018. 

    هذه الخسارة الفادحة في الودائع بالليرة تحمّلها بالدرجة الأولى الضمان الاجتماعي والنقابات المهنية والادخارات التقاعدية لآلاف الأسر. وهذه الشرائح من أصحاب الودائع الادخارية لم يدافعوا عن أنفسهم، في حين أن المصارف تخلصت من 50 مليار دولار من المطلوبات عليها، وسمحت في الوقت نفسه لبعض أصحاب الودائع بالليرة بتحويل ودائعهم إلى الدولار ولم تسمح لغيرهم.

3
  • الودائع بالدولار

    أدت عمليات تحويل استنسابية واسعة للودائع إلى الخارج وعمليات «قص الشعر» على السحوبات والشيكات إلى شطب أكثر من ربع ودائع المقيمين بالعملات الاجنبية وأكثر من ثلث ودائع غير المقيمين. وتُظهر الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية أن مجمل الودائع بالعملات الاجنبية انخفض بقيمة 35.2 مليار دولار، من ضمنها نحو 12.5 مليار دولار سحبها غير المقيمين.

    لا تعكس هذه الحصيلة مجمل حركة تصفية الودائع بالعملات الأجنبية. ففي السنوات الست الماضية، تم تحويل مبالغ كبيرة من الودائع بالليرة الى الدولار، وقدّرت قيمة هذه المبالغ في منتصف العام 2021 بنحو 31.5 مليار دولار. ووفق ورقة شروحات قدّمها مستشار رئيس الحكومة السابق، سمير ضاهر، إلى مجلس النواب في أيار/مايو 2023، كانت ميزانيات المصارف ما زالت تحتوي على نحو 22 مليار دولار من الودائع التي جرى تحويلها من الليرة إلى الدولار بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2019، اي ان نحو 9.5 مليار دولار كان قد جرى تحويلها من ودائع الليرة الى ودائع الدولار وسحبها من المصارف بالدولار. ما يعني أن الودائع بالعملات الأجنبية تقلّصت فعلياً بما لا يقل عن 60 مليار دولار، إذا استثنيا من الحساب الودائع بالليرة المحوّلة إلى الدولار، وهذا الرقم يكشف عن حجم العمليات الضخم الذي نفذته المصارف لإنقاذ بعض أصحاب الودائع الكبيرة على حساب أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة.

4
  • ودائع القطاع المالي

    تعدّ ودائع القطاع المالي بمثابة خصوم متبادلة بين المصارف، وقد تم تقليصها من نحو 10.4 مليار دولار إلى نحو 3.2 مليار دولار. أي أن المصارف اللبنانية استعملت ودائع الزبائن لتصفية نحو 7.2 مليار دولار من الخصوم، من ضمنها نحو 6.8 مليار دولار للقطاع المالي غير المقيم، ولا سيما الودائع بموجب العقود الائتمانية، التي استخدمها أثرياء لبنانيين وغير لبنانيين لاستثمار أموالهم في المصارف اللبنانية وجني الفوائد العالية وضمان الخروج الآمن بمعزل عن مصير الودائع الأخرى.

5
  • ودائع القطاع العام

    كانت الدولة اللبنانية تملك ودائع لدى المصارف التجارية (معظمها بالليرة) بقيمة 4.3 مليار دولار في نهاية العام 2018، ولم تعد تملك حالياً سوى أقل من 600 مليون دولار، وقد تقلّصت هذه الودائع نتيجة انهيار سعر صرف الليرة، وبالتالي تحمّلت الدولة الخسائر من جراء ذلك.

6
  • حقوق المساهمين والمستثمرين

    على الرغم من توقفها عن الدفع، لا تزال المصارف اللبنانية تحتفظ بنحو 4.8 مليار دولار كحقوق لحملة الأسهم، بالإضافة إلى نحو 500 مليون دولار كأوراق مالية وسندات دين لعدد من المستثمرين في رساميل المصارف. علماً أن حسابات رأس المال تقلّصت بقيمة 15.3 مليار دولار في السنوات الست الماضية، في حين أن الأدوات المالية الأخرى كانت البند الوحيد في المطلوبات الذي ارتفع ولم يتقلّص، من نحو 215 مليون دولار في نهاية العام 2018 إلى 516 مليوناً في نهاية العام 2024.

    يسعى المصرفيون للحفاظ على رساميلهم كما هي اليوم، وبالتالي يعتبرون أنهم تحملوا قسطهم من الخسائر، والباقي فليتحمله أصحاب الودائع والدولة (أي عموم الناس).

7
  • المطلوبات الأخرى

    اعتباراً من كانون الأول/ ديسمبر 2019، قامت البنوك بمقاصة قروضها من مصرف لبنان بالليرة اللبنانية مع إيداعاتها المقابلة لدى مصرف لبنان بالليرة اللبنانية بتواريخ الاستحقاق نفسها، وبالتالي قلّصت بند مطلوبات أخرى بقيمة 35.2 مليار دولار، أو ما نسبته 85.2%، وهي أكبر نسبة تقليص بين بنود المطلوبات الأخرى. علماً أن بند المطلوبات الأخرى كان يمثل ثاني أكبر بند بعد ودائع الزبائن في ميزانيات المصارف، وهذا البند يعبّر عن الحسابات المتداخلة مع البنك المركزي، ولا سيما الناجمة عن الهندسات المالية. وقد تمكّنت المصارف عبر تحايلات محاسبية وتصفيات متبادلة بينها وبين البنك المركزي من التخلص من التزامات هائلة.

8

على صعيد الموجودات:

نحو 86 مليار دولار من موجودات المصارف مسجّلة في الميزانية المجمّعة كمطلوبات على الدولة (الحكومة ومصرف لبنان)، وهذا المبلغ يشكّل أكثر من 83% من مجمل توظيفات المصارف، ومن دونه لا يبقى موجودات في الميزانية إلا بقيمة 17 مليار دولار، وسوف تتقلص قيمة هذه الموجودات بعد احتساب القروض المتعثرة في القطاع الخاص وانخفاض قيمة الأصول غير الملموسة المخمّنة في الميزانية.

كيف تقلّصت الموجودات؟

  • النقد والودائع لدى مصرف لبنان

    لا تزال المصارف التجارية تحتفظ في ميزانياتها بنحو 79.7 مليار دولار كنقد وودائع لدى مصرف لبنان، على الرغم من أن مصرف لبنان لا يملك هذه المبالغ، وبالتالي لا يستطيع تسديدها إلى المصارف. وتعبّر هذه المبالغ عن الفجوة المالية بين موجودات المصارف ومطلوباتها، علماً أن هذا البند انخفض بقيمة 51.1 مليار دولار في السنوات الست الماضية، وما نسبته 39%.

9
  • النقد والودائع لدى البنوك المركزية الأجنبية

    هذا البند من الموجودات المصرفية تقلّص قليلاً من نحو 986 مليون دولار في نهاية العام 2018 إلى نحو 625 مليون دولار، وتمثّل هذه المبالغ المتواضعة جزءاً مهماً من السيولة الأجنبية التي لا تزال متاحة للمصارف اللبنانية وتسمح لها بالعمل مع المصارف المراسلة في إجراء التحويلات وفتح الاعتمادات التجارية.

10
  • التسليفات للقطاع الخاص

    خسرت المصارف نحو 90.7% من توظيفاتها للقطاع الخاص (قروض الشركات والأسر والأفراد)، فقد انخفض مجموع تسليفات المقيمين وغير المقيمين بالليرة والدولار بقيمة 53.4 مليار دولار. وتمثّل هذه العملية واحدة من أكبر عمليات نقل الثروة من الدائنين (المودعين) إلى المدينين، إذ جرى شطب قروض تجارية واستهلاكية كبيرة على سعر صرف منخفض جداً بالمقارنة مع سعر السوق، عبر عمليات تسديد مبكر أو شراء شيكات من المودعين بأقل من قيمتها أو إطفاء قروض بالودائع. وبينما كانت تسليفات القطاع الخاص تمثّل نحو ربع توظيفات المصارف، لم تعد تمثّل الآن سوى 5% فقط، علماً أن جزءاً من التسليفات المتبقية يعدّ مشكوكاً بتحصيله.

11
  • توظيفات في القطاع المالي

    لم تكن السيولة الموظفة في القطاع المالي كافية في السابق، وأصبحت أقل كفاية بعد 6 سنوات من الانهيار، ولا تتجاوز 4.8 مليار دولار حالياً يقابلها مطلوبات على المصارف (ودائع) للقطاع المالي بقيمة 3.2 مليار دولار، أي أن إجراء مقاصة افتراضية بين المطلوبات والموجودات لدى القطاع المالي المقيم وغير المقيم لا تترك سوى 1.6 مليار دولار.

12
  • التسليفات للقطاع العام وسندات الدين بالليرة والدولار

    لم تعد المصارف التجارية في لبنان تحمل في ميزانياتها سوى 7 مليارات دولار كقروض للقطاع العام وسندات خزينة وسندات يوروبوندز، وذلك نتيجة انهيار سعر الليرة الذي قضى تقريباً على التوظيفات بالليرة، في حين عمدت المصارف إلى بيع جزء كبير من سندات اليوروبوندز إلى صناديق خارجية بأقل بكثير من سعرها الأصلي، وبالتالي سجلت خسائر كبيرة في هذا البند.

13
  • أصول المصارف الملموسة وغير الملموسة

    يعبر بند الأصول الملموسة وغير الملموسة في ميزانيات المصارف التجارية عن الأصول العقارية والاستثمارات التي قامت بها المصارف في لبنان والخارج، وكذلك يعبّر عن قيمة «الشهرة» أو «حقوق الملكية» وغيرها. واللافت أن ميزانيات المصارف لم تخفّض تخميناتها للأصول غير الملموسة إلا بنسبة 13% في حين تقلصت أصولها الملموسة بنسبة 66%. 

14
  • الأصول الأخرى

    ليس واضحاً تماماً ما يحتويه بند الأصول الأخرى في الموجودات داخل ميزانيات المصارف، علماً أن حجم هذا البند تقلّص إلى النصف تقريباً.

15