Preview Bitcoin24

بيتكوين 24

في الأسبوع الماضي، حُكِم على سام بانكمان فرايد بالسجن 25 عاماً. أدار فرايد صندوق شركة FTX الاستثماري الناجح (FTX bitcoin hedge fund)، الذي يُفترض أنه حقّق لعملائه الملايين. لكنه كُشِف وأُدين بسرقة 8 مليارات دولار من عملائه، وتبيّن أنه حوّل مليارات الدولارات من أموالهم إلى Alameda Research، الصندوق الاستثماري الشقيق لشركة FTX، للحفاظ على ملاءته المالية وملء جيوبه بأموال عملائه.

عاش فرايد حياة رفاهية، وأنفق ما يزيد على 200 مليون دولار في عقارات جزر البهاما والمضاربات. وبعد إدانته، قال داميان وليامز المحامي الأميركي في مانهاتن: «ارتكب سام بانكمان فرايد واحدة من أكبر عمليات الاحتيال المالي في التاريخ الأميركي. صمّم مخطّطاً بمليارات الدولارات ليصير ملك العملات المشفّرة. وفي حين تعتبر صناعة العملات المشفّرة جديدة، وكذلك اللاعبين ضمنها مثل سام بانكمان فرايد، إلا أن هذا النوع من الفساد قديم قدم الزمن. ولطالما ارتبطت هذه القضية بالكذب والغش والسرقة ولم نعد نحتملها».

تشهد البيتكوين وسواها من العملات المشفّرة ارتفاعاً هائلاً في أسعارها حالياً. وفيما ظنّ أنّ العملات المشفّرة تخلّصت من صورتها المرتبطة بمحتالين وعمليات الخداع والمضاربات المنفلتة، لتنضم إلى «الجزء المحترم» من العالم المالي، أظهرت قضية فرايد أن هذا الكلام مجرّد نكتة، لا سيما مع بروز آخرين من أمثاله على مدى العقد الماضي من صعود العملات المشفّرة.

bitcoin24

كتبتُ عن تقنية سلسلة الكتل (blockchain) وجنون العملات المشفّرة منذ سنوات عدّة. وعلى الرغم من أن هدف بيتكوين هو خفض تكاليف المعاملات في المدفوعات عبر الإنترنت والتخلّص كلياً من الحاجة إلى وسطاء ماليين مثل المصارف، لكنني حاججت في حينها مشكّكاً بقدرة هذه العملات الرقمية على الحلول محل العملات الورقية الحالية واستخدامها على نطاق واسع في المعاملات اليومية كما توقّع مؤيديها.

لم يعد المال في الرأسمالية الحديثة مُجرّد سلعة كالذهب، بل أصبح «عملة إلزامية»، إما في هيئة نقود معدنية أو أوراق نقدية، أو في شكل ائتمانات في المصارف كما هو غالب حالياً. ويتم قبول هذه العملات الإلزامية لأنّها صادرة عن حكومات ومصارف مركزية وخاضعة للتنظيم. في المقابل، فإن البيتكوين التي ابتكرها المبرمج المجهول والغامض ساتوشي ناكاموتو، قبل نحو عقد من الزمن، ليست عملة محلّية مقصورة على منطقة معيّنة أو بلد معيّن، كما أنها ليست مُخصّصة للاستخدام في اقتصاد افتراضي بعينه. ونظراً إلى طبيعتها اللامركزية، فإن تداولها لا يخضع للتنظيم المباشر أو السياسة النقدية والرقابة أسوة بالأموال المحلّية والأموال الإلكترونية. 

كما هو الحال مع العملات الإلزامية، حيث لا توجد سلعة مادية لها قيمة جوهرية بحسب وقت العمل اللازم لإنتاجها، تعتمد العملة المشفّرة على ثقة المستخدِمين. ولكن تختلف هذه الثقة باختلاف سعرها، عكس العملة الإلزامية، مثل الدولار، التي تسيطر عليها دولة وتتحكّم بها

بدا كلّ هذا مثيراً لعشّاق التكنولوجيا (كما لأولئك الذين يرغبون في بناء عالم خارج سيطرة أجهزة الدولة والسلطات الناظمة). وبدا أنه يمكن للمجتمعات والأفراد إجراء المعاملات من دون إملاءات الحكومات الفاسدة، والتحكّم في مداخيلها وثرواتها بعيداً من السلطات، أنه من الممكن أن يكون ذلك جنينَ عالم ما بعد رأسمالي لا تحكمه دول.

تبدّدت هذه الآمال المستقبلية. وبالتعريف، إن قيمة البيتكوين ليست مسنودة بأي ضمانات حكومية، بل بمجرّد «شيفرة» تقوم على توافق بين «معدِّنيها» الرئيسيين وحامليها. وكما هو الحال مع العملات الإلزامية، حيث لا توجد سلعة مادية لها قيمة جوهرية بحسب وقت العمل اللازم لإنتاجها، تعتمد العملة المشفّرة على ثقة المستخدِمين. ولكن تختلف هذه الثقة باختلاف سعرها، عكس العملة الإلزامية، مثل الدولار، التي تسيطر عليها دولة وتتحكّم بها. عدا أن سعر هذه العملات المشفرّة يقاس بالدولار أو بما يُسمى «عملة مستقرة» مرتبطة بالدولار. في الواقع، عندما انفجر الجنون المشفَّر، حصّن الدولار الأميركي نفسه بمزيد من القوة باعتباره العملة الأولى في العالم باستحواذه على 67% من جميع المعاملات، تليه العملات الإلزامية الأخرى: اليورو، والين، واليوان.

تقلّب سعر البيتكوين المقاس بالعملات الإلزامية مثل الدولار على نحو عنيف، وارتفع مؤخراً بشكل فلكي مع ارتفاع قيمة الأصول المالية إلى مستويات قياسية، ربطاً بتوقعات بانخفاض أسعار الفائدة وحصول انتعاش اقتصادي. ولهذا السبب تحديداً، لم تحصل العملات المشفرة على قبول عام بوصفها وسيلة يومية للتبادل.

حتى الآن، استخدمت العملات المشفّرة بشكل رئيس في المضاربات، وأصبحت شكلاً آخر ممّا أسماه ماركس «رأس المال الوهمي»: خيال مالي لقيمة فعلية. وتُظهر قضية فرايد أنه لم يتغيّر شيء منذ أن كتب ماركس عن «أرستقراطية مالية جديدة، وتشكيلة جديدة من الطفيليات في هيئة مروّجين، ومضاربين، ومديرين. إنه نظام كامل من النصب والغشّ من خلال الترويج للشركات، وإصدار الأسهم، والمضاربة عليها». ومع صعود رأس المال الوهمي: «تختفي جميع معايير القياس، وجميع الأعذار التي لا تزال مُبرّرة في ظل الإنتاج الرأسمالي». وبما أن الملكية هنا قائمة على شكل أسهم، تغدو حركتها وانتقالها مجرّد نتيجة للمقامرة في البورصة، حيث تبتلع أسماك القرش الأسماك الصغيرة، وتبتلع ذئاب البورصة الحملان.

حتى الآن، استخدمت العملات المشفّرة بشكل رئيس في المضاربات، وأصبحت شكلاً آخر ممّا أسماه ماركس «رأس المال الوهمي»: خيال مالي لقيمة فعلية

لخّصت شركة يقودها اللورد هاموند، وزير المالية البريطاني السابق، طبيعة ثقافة العملات المشفّرة، إذ رعت حفلاً للترويج لها قدِّم فيه السوشي للضيوف من قبل عارضتين شبه عاريتين.

لا يزال رأس المال المالي بارعاً في ابتكار طرائق جديدة للمضاربة والاحتيال. وفي السنوات العشرين الماضية، خضع «الخيال المالي» للرقمنة على نحو متزايد (SPACS، وNFTs). واستُبدلت المعاملات المالية المتكرّرة بالتشفير الرقمي. لكن هذه التطوّرات التكنولوجية استُخدمت في الأساس لزيادة المضاربة في الكازينو المالي، تاركة المنظّمين وراءها في مهبّ الريح.

بدلاً من حماية المستثمرين من مخطّطات العملات المشفّرة المفترسة، لم يتدخّل مشرّعو القوانين المالية ومنفّذيها، إلا عندما «حان وقت جمع القطع وتفحّص أنقاض ملايين الاستثمارات المحطّمة». وبتمويل من شركات العملات المشفّرة، ساعد السياسيون في إعاقة أي تنظيم. ووصل الكونغرس الأميركي إلى طريق مسدود في تمرير مشروع قانون تلو الآخر، إذ تضغط عليه المصالح الصناعية لقوننة الوضع الحالي للتنظيم المتساهل المثقل بالاستثناءات والثغرات. «تحاجج صناعة العملات المشفّرة بأن هذا سوف يسمح بمواصلة الابتكار، على الرغم من قلّة الابتكار المسجّلة حتى الآن في هذا القطاع، ما عدا إيجاد طرائق جديدة ومُبتكرة لاختلاس أموال الناس».

مرة أخرى، فشل التنظيم في وقف المضاربات المالية والانهيارات والاحتيال. «فشل المنظّمون والمشرّعون في إجراء أي تغييرات تحمي الجمهور بصورة مسبقة، مع السماح لشركات العملات المشفّرة بالإعلان وجلب مستهلكين جدد. وفي خلال سعيهم لأن يصبحوا أصحاب الملايين التالين في مجال العملات المشفّرة، من المرجّح أن ينتهي بهم الأمر ضحايا لانهيار آخر. كم من البشر سيخسرون وكم ستبلغ خساراتهم المالية قبل أن نتوقف عن تصديق الأكاذيب الصادرة عن صناعة استحوذت على ثقة الناس وآمالهم في تحقيق معجزات مالية، لا لشيء إلا لتسحقهم مكلّلين بالفشل تلو الفشل؟».

لنعد إلى ماركس. «إن السمتين الجوهريتين في نظام الائتمان هما، تطوير حافز الإنتاج الرأسمالي، من الإثراء باستغلال عمل الآخرين، إلى أنقى وأضخم أشكال المقامرة والاحتيال». وهكذا يواصل القطاع المالي مسيرته كما كان من قبل، منخرطاً في المضاربات من دون أن يوقفه المنظّمون أو يقووا على إيقافه.

الحل ليس بالتنظيم (سواء قبل وقوع الحدث أو بعده)، بل بحظر استثمار رأس المال الوهمي. أغلقوا الصناديق الاستثمارية والتحوطية وبورصة البيتكوين وتمويل تجارة البورصة. وبدلاً من ذلك، على العمل المصرفي أن يصبح خدمة عامة للأسر والشركات الصغيرة بهدف تلقي الودائع وتقديم القروض، لا بهدف تمويل كازينو مالي ضخم حيث يقامر المجرمون والمحتالون بمصادر رزقنا.

نشر هذا المقال على مدوّنة مايكل روبرتس في 1 نيسان/أبريل 2024.