معاينة boeing cracks

عثرات بوينغ: أهي الرأسمالية أم كافكا؟

إن رائدا الفضاء سوني وليامز وبوتش ويلمور ليسا عالقين في الفضاء بحسب «بوينغ». كان من المتوقع عودتهما الإثنين إلى الأرض في 18 حزيران/يونيو بعد مهمّة مدتها 8 أيام. بيد أنّ 5 محرّكات دفع من أصل 28 في مركبتهما الفضائية «ستارلاينر» التابعة لـ«بوينغ» تعطلّت حين التحمت المركبة الفضائية بمحطّة الفضاء الدولية. هل في المركبة ما يكفي من المحرّكات للعودة؟ تقرّر في البداية تأجيل موعد العودة المتوقّع من حزيران/يونيو إلى تموز/يوليو، وبحلول 1 أيلول/سبتمبر كان قد مضى على رائدي الفضاء 87 يوماً هناك. أما اليوم فأقرب موعد متوقّع لعودتهما هو شباط/فبراير 2025. كانت بوينغ في العام 2000 تجسيداً لتكنولوجيا تحدّي الجاذبية وتضع السلامة على رأس أولوياتها، لكنّها فقدت مصداقيتها بحلول العام 2024، ولهذا نخشى على الرائدَين.

في كانون الثاني/يناير 2024، على متن رحلة «ألاسكا إيرلاينز 1282»، انفصل باب الطوارئ عن طائرة بوينغ 737-9 ماكس بسبب عدم وجود براغي التثبيت الأربعة. قال الراكب كون تران: «انفتحت هذه الفجوة فجأة على الجانب، بعدها لم أشعر إلّا بجسدي يُسحَب إلى الأعلى». يعزو تران نجاته إلى حزام الأمان. كانت هذه الحادثة مُشابهة بشكل مخيف لحادثة وقعت في العام 2017 حين انفصلت قطعة من محرّك طائرة بوينغ 737 وكسرت النافذة المجاورة لمقعد جينيفر ريوردان لتتسبّب في وفاتها. سقوط عجلات ومحرّكات الطائرات وانبعاث الدخان داخل مقصورة الركاب تمثِّل حوادث أخرى حديثة لبوينغ، وهي وإنْ بدت سخيفة إلّا أنّها بمثابة تهديد حقيقي لحياة الركاب والطاقم. ترافقت هذه المشكلات شبه الكارثية مع حادثة في 2018 وأخرى في أوائل 2019، حين تولى برنامج التحكّم في الطيران المدمج في نظام القيادة الآلية السيطرة على طائرتين من بوينغ، ودفع مقدمتيهما إلى الأسفل لتنخفضا بقوة نحو الأرض وترتطما بها ما تسبّب بمقتل 346 راكباً. قالت الشركة في روايتها في العام 2019 إنّ الحادثتين نتجتا عن خلل برمجي يمكن إصلاحه.

يعكس تدهور جودة طائرات بوينغ الظروف العشوائية التي يعمل فيها مهندسو بوينغ وميكانيكيوها ومفتشو الجودة فيها، وهذه الظروف الإنتاجية هي السبب وراء الأعطال الفادحة في طائرات بوينغ

بحسب إد بيرسون، المدير السابق لمصنع رينتون بواشنطن المنتِج لطائرات بوينغ 737 ماكس 8، فإن الأسباب الحقيقية وراء حادث تحطّم الطائرتين كانت الإجبار على العمل لساعات إضافية والاستعانة المُفرطة بمصادر خارجية (التعهيد). لا تختلف طائرة 737 ماكس 8 عن 737-9 ماكس، فكلتاهما طراز من بضعة طرازات في الخدمة حالياً من سلسلة طائرات بوينغ 737 التي بدأت العمل للمرة الأولى في العام 1968. دفع برنامج التحكّم في الطيران مقدّمة الطائرتين إلى الأسفل لتلقيه في كلتا الطائرتين بيانات خاطئة من مستشعر على الجناح يشير إلى أنّ الطائرة كانت ترتفع على خلاف الحقيقة. تساءل بيرسون عن السبب في فشل أجهزة الاستشعار الجديدة على طائرتين جديدتين. كان السبب الأرجح لديه إرهاق الرجال والنساء الذين كانوا يوصلون الأسلاك كيفما اتفق، بالإضافة إلى وصول الأجزاء المطلوبة لإكمال الطائرات في أوقات غير مناسبة. نشر أحد موظّفي الشركة باسم مجهول على موقع Reddit: «يجب جعل الساعات الإضافية اختيارية... قضيت سنوات عديدة أكلّف بالغصب، وخُرِّبَت خططي بسبب استدعائي إلى العمل على مبدأ نفِّذ ثم اعترض... مَن يُجبَر على العمل لن يؤدي عمله بجودة عالية وهذا ببساطة يقتل الروح المعنوية».

علاوة على ذلك، دفعت بوينغ أجوراً مرتفعة للعمال في إيطاليا لتصميم بدن الطائرات، ولآخرين في اليابان لتصميم الأجنحة، ما تسبّب في تراجع مراقبة الجودة في خلال مرحلة الابتكار. بعد ذلك، يجري تصنيع الأبدان والأجنحة في ويتشيتا ونقلها بالقطار إلى بوجيه ساوند، ما خلق مشكلات كبيرة في سلسلة توريد بوينغ. في العام 2018، أخذت الطائرات غير المكتملة تتكدّس خارج مصنع رينتون، وتحتل مواقف سيارات الموظفين، في انتظار القطع المفقودة. قبل 6 أشهر من أول حادث تحطم في 2018، طلب بيرسون من الإدارة، بعدما رفع الموضوع لمستويين أعلى في التسلسل الوظيفي، وقف خطّ الإنتاج لغياب السلامة. استمرّ العمل الإضافي لمدة 6 أسابيع مع مشكلات إمداد فوضوية، أرهقت القوة العاملة وتكرّرت معها الأخطاء المتوقعة. حين تجاهلت الإدارة طلباته، تحوّل بيرسون، الجندي السابق في البحرية، إلى ما لم يكن يتوقّعه أبداً: مُبلّغ عن المخالفات يشهد أمام الكونغرس في محاولة لدفع إدارة الطيران الفيدرالية للتدخل في بوينغ.

يعكس تدهور جودة طائرات بوينغ الظروف العشوائية التي يعمل فيها مهندسو بوينغ وميكانيكيوها ومفتشو الجودة فيها، وهذه الظروف الإنتاجية هي السبب وراء الأعطال الفادحة في طائرات بوينغ. كان بيرسون من بين عدد من الموظفين في بوينغ خاطروا بمسيرتهم المهنية لدق ناقوس الخطر. لكن ما الأسباب الأعمق لحوادث بوينغ؟ بوينغ أشبه بكناري في منجم الفحم، يحذّرنا من أنّ السماح للمديرين التنفيذيين والمستثمرين المؤسسيين بسحب الأموال من عملية الإنتاج لا يتسبّب فحسب بمعاناة العمال، بل يخفِّض أيضاً من جودة المنتج، ولذلك يشكِّل خطراً على العملاء.

إضعاف نقابة عمّال بوينغ أضعف الجودة

إن تعبير الفرد ضمن الجماعة عن المخاوف في مكان العمل عبر النقابة أسهل بكثير من تعبيره عنها بصفته فرداً مُنعزلاً. دعونا ننظر في الأساليب المنهجية التي استخدمتها إدارة بوينغ بين عامي 2008 و2024 لقمع التعبير النقابي عن السخط، لدرجة لم يعد أمام موظّفيها القلقين من خيار سوى التحوّل إلى مُبلغين عن المخالفات. في العام 2008، بعد إضراب دام 58 يوماً ضدّ بوينغ، تخلّت الفروع المحلية لنقابة الميكانيكيين الدولية في المنطقة 751 (بوجيه ساوند، واشنطن) والمنطقة 63 (غريشام، أوريغون) عن خطط معاشاتها ذات المزايا المُحدّدة، وقبلت بزيادات بنسبة 1% ونظام أجور ذي مستويين (يبدأ الموظّفون الجُدد ويصلون إلى حد أقصى بأجور أقل من الموظفين القدامى).

أنشأت إدارة بوينغ بكلفة هائلة خط إنتاج ثانٍ بالإضافة إلى مصنعها في إيفريت (من المدن الكبرى في بوجيه ساوند بواشنطن)، لبناء طائرات 787 دريملاينر في نورث تشارلستون، ساوث كارولينا. ثم هدّدت جدّياً بنقل الإنتاج من القوى العاملة الخبيرة في واشنطن إلى القوى العاملة غير المنظمة نقابياً وقليلة الخبرة في تشارلستون في العام 2011. نجح التهديد في إرغام النقابة المحلية في بوجيه ساوند على قبول تمديد لمدة ثلاث سنوات للعقد السيئ نفسه من العام 2008 (بالإضافة إلى زيادة تكاليف الرعاية الصحية) مقابل الإبقاء على إنتاج طائرة 737 ماكس في واشنطن. في العام 2013، هدّدت بوينغ العمال مرة أخرى، هذه المرة بنقل إنتاج طائراتها 777 من إيفريت، واشنطن، إلى ساوث كارولينا إذا لم تقبل النقابة عقداً جديداً. وعلى الرغم من التهديد، فقد صوّت أعضاء المنطقة 751 في بوجيه ساوند ضد التمديد. وفي هذه المرحلة، عمدَ الرئيس الوطني للنقابة، توماس بوفنبارغر، إلى خداع العمال للتصويت لصالح التمديد من خلال إجراء تصويت ثانٍ في 3 كانون الثاني/يناير 2014، حين كان الكثير من العمال في إجازة بسبب إغلاق المصنع للعطلة. حصل الرئيس التنفيذي لبوينغ، جيم ماكنرني، على مكافآت ضخمة لقيامه بإضعاف جودة حياة العمال في واشنطن، بتعويض إجمالي قدره 29 مليون دولار في العام 2014، شمل راتبه والمكافآت والأسهم.

التبليغ عن المخالفات خط الدفاع الأخير

هذه الهزيمة القاسية للنقابة في العام 2014 قد تفسِّر لنا تزايد أعداد المبلّغين عن المخالفات بوصفهم آخر خط دفاع لفرض معايير السلامة في بوينغ. في إطار الدعوى القضائية لبوينغ ضد شركة «سپيريت آيرو سيستمز» بتهمة التصنيع المعيب لقطع من طائرتها 737، قال جوشوا دين، مفتش الجودة في ويتشيتا، كانساس، في شهادته في كانون الأول/ديسمبر 2023 إنه أخبر زملاءه قائلاً: «المسألة مسألة وقت قبل أن يفلت منا خلل كبير ويصل إلى أحد العملاء». وبالنظر إلى عدد الأبدان والأجنحة التي كانت تغادر ويتشيتا بعيوب خطيرة، كان دين يتوقع أن يعجز مفتشو الجودة عن اكتشاف كل مشكلة قبل أن تشتري شركات الطيران الطائرات وتضعها في الخدمة. بعد شهر واحد، انفصل باب الطوارئ عن طائرة بوينغ 737 في أثناء تحليقها.

في 17 تموز/يوليو 2024، اجتمع 20 ألف عامل من بوينغ في ملعب بيسبول في ولاية واشنطن للتصويت بنسبة 99% لصالح الإضراب، حال لم تُلبّ مطالبهم بحلول يوم 12 أيلول/سبتمبر، حين تنتهي مدة عقدهم الحالي

كان دين يعمل رسمياً في شركة «سپيريت آيرو سيستمز»، لكن مصنعها في ويتشيتا كان تاريخياً ملكاً لشركة بوينغ. حين اشترت شركة الأسهم الخاصة أونكس شركة سپيريت في العام 2005، أجبرت العمال القدامى في بوينغ على إعادة التقديم لوظائفهم، ولم تُعد توظيف الكثير ممن تجاوزوا سن الخمسين؛ أما مَن أعيد توظيفه، فقد خُفِّض راتبه بنسبة 10%. بدا أن عملية بيع المصانع في كانساس مناورة للتخلّص من العمّال أصحاب الخبرة العالية والأجور المرتفعة وإحلال أشخاص أقل خبرة وكلفة مكانهم. حققت شركة أونكس عائداً بنسبة 900% على استثمارها مع بيع سپيريت في العام 2014، لكن جودة المنتجات في «سپيريت آيرو سيستمز» كانت قد انخفضت، بحسب شهادة دين.

كان مصنع ويتشيتا يزوّد شركة بوينغ بأبدان الطائرات والأجنحة لخط إنتاج طائرات 737. أظهر الكثير من عمّال بوينغ شجاعة ونزاهة ألهمت دين وبيرسون وسواهما للقتال من أجل الحق في منتج عالي الجودة، ومن ثم المضي في المسار الوحيد المتبقي والتحول لمبلّغين عن المخالفات. وجهود هؤلاء المبلّغين عرضتهم في الغالب لانتقام المديرين الذين كانوا يريدون إنتاج طائرات من دون الاكتراث بما إذا كانت آمنة للاستخدام في خلال عقود الطيران التي قد تصل إلى ثلاثين عاماً. وكما يعلم أي شخص عمل مع مشرف يحاول إضعافه، فإنّ الذهاب يومياً إلى بيئة عمل عدائية يستنزف الإنسان. على سبيل المثال، قدّم المهندس مارتن بيكبولر بلاغات تحذيرية في العامين 2014 و2021 تشير إلى عيوب منهجية في عملية الإشراف على الجودة في طائرات «دريملاينر»، وفي العام 2024 قدم بلاغات أخرى بدعوى أنّ إدارة بوينغ قد انتقمت منه بسبب مخاوفه السابقة. قامت الشركة المتعاقدة مع بوينغ، «سپيريت آيرو سيستمز» في ويتشيتا، بفصل دين في نيسان/أبريل 2023 بسبب ضلوعه في دعوى قضائية تتعلق بالمساهمين، وتوفي فجأة بعد إصابته بعدوى في نيسان/أبريل 2024. تلقى المفتش على جودة طائرات 737، سام موهوك، أمراً في العام 2023 بعدم إعلام السلطات في إدارة الطيران الفيدرالية عن وجود قطع معيبة في الطائرة. وفي 17 نيسان/أبريل 2024، شهد المهندس سام صالحبور من مصنع إيفرت في واشنطن بأنّ تركيب أجزاء بلاستيكية في أبدان طائرات دريملاينر لم يجرِ بالطريقة الصحيحة، و«قد يتسبب في النهاية في عطل ناتج عن إجهاد مبكر بلا أي تحذير»، بمعنى أنّ الطائرات قد تتفكك في الجو.

في العام 2010، انتقل جون بارنيت، مفتش جودة في مصنع إيفرت بولاية واشنطن حيث تُبنى طائرات «دريملاينر 787»، إلى ولاية كارولينا الجنوبية، حيث كُلف بالحفاظ على معايير الجودة في المصنع الجديد غير المنظم نقابياً الذي كانت تُبنى فيه أيضاً طائرات دريملاينر. في آذار/مارس 2024، شهد بارنيت أمام الكونغرس قائلاً: «كان موقعاً جديداً تماماً، وموظفون جدد تماماً. كنت مسؤولاً عن تحديد نوع التدريب اللازم لمفتشينا... للتأكد من توافق المنتج مع مواصفات ومتطلبات بوينغ وإدارة الطيران الفيدرالية. إذا كان لدي موظف لا يؤدي عمله كما يجب، كانت مسؤوليتي اتخاذ الإجراءات التصحيحية المناسبة».

تقدّم بارنيت، الذي عمل في بوينغ لأكثر من 30 عاماً، بشكوى في العام 2017 إلى إدارة السلامة والصحة المهنية، بالإضافة إلى شكوى رسمية إلى إدارة الطيران الفيدرالية وهيئات تنظيمية أخرى، في محاولة لحماية العملاء الركاب. بحلول العام 2024، حين شهد في قضيته التي تزعم أنّ بوينغ انتقمت منه بسبب تقديمه الشكاوى، قال إنّ بوينغ وضعته في موقف «كان علي إما أن أفعل ما يُقال لي وأخالف القانون، أو لا أفعل ما يُقال لي وأعصي الأوامر»، ووصف الموقف بأنّه «صعب جداً». حين واصل الضغط ضد عدم رغبة الإدارة في اتباع إجراءات السلامة، قال بارنيت: باتت «رغبتهم في إبعادي» واضحة.

بعد عيشه التجربة من جديد على مدار يومين من الشهادات، وُجد بارنيت ميتاً في سيارته في 9 آذار/مارس 2024. وأعلنت الشرطة وفاته انتحاراً.

لحسن الحظ، يعود العمل الجماعي من جديد. في 17 تموز/يوليو 2024، اجتمع 20 ألف عامل من بوينغ في ملعب بيسبول في ولاية واشنطن للتصويت بنسبة 99% لصالح الإضراب، حال لم تُلبّ مطالبهم بحلول يوم 12 أيلول/سبتمبر، حين تنتهي مدة عقدهم الحالي (السيئ). يطالب العمال بإنهاء العمل الإضافي الإلزامي وزيادة الأجور بنسبة 40% لتجاوز نسبة التضخم البالغة 30% على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية – واستعادة المعاشات التقاعدية التي خسرها العمال قبل 16 عاماً. تساندهم في ذلك نقابة المهندسين المكوّنة من 23 ألف عضو، والتابعة لاتحاد الموظفين المهنيين في الهندسة في صناعة الطيران، كما أنّ على أي مسافر أن يأمل في فوز العمال. «تأكدوا من حصولهم على صفقة جيدة. تأكدوا من إدراككم لأهمية ما يفعلونه»، صرح بذلك تيم كلارك، رئيس شركة طيران الإمارات التي اشترت من طائرات بوينغ 777 ما يفوق أي شركة طيران أخرى في العالم.

تحويل الأموال بعيداً من الإنتاج

ربما يتفق معظم القراء على تحميل إدارة بوينغ مسؤولية تراجع جودة حياة موظفيها المهنية، لكن هذه القصة تُبرز أيضاً إلى أي مدى قد تتعارض إدارة شركة بهدف تقليل الاستثمار في الإنتاج مع إنتاج منتج عالي الجودة. إنّ ظروف عمل مفتشي الجودة والميكانيكيين والمهندسين وعلماء الحاسوب تؤثر مباشرةً في جودة الطائرات، مثلما تعتمد جودة الرعاية الطبية للمرضى على ظروف عمل الممرضين والأطباء، أو جودة تعليم الطلاب على الدعم والاحترام الذي يتلقاه معلموهم. ليس من الجديد أن يشهد العمال في الولايات المتحدة تراجعاً مستمراً في الأجور مقارنة بالمديرين التنفيذيين، لكن فضيحة بوينغ تضعنا أمام حقيقة أنّ الإضرار بالقوة العاملة يتسبّب في تراجع جودة المنتجات وسلامتها.

boeing cracks

انصبّت مساهمتي في مقالة سابقة لي على تبيان أن تدفّقات بوينغ النقدية من واقع تقاريرها السنوية المتاحة للعامة تذهب في معظمها لإعادة شراء الأسهم، تلك الممارسة التي تُثري المديرين التنفيذيين والمساهمين المؤسسيين، في حين تخفض من مقدار المال المتاح للاستثمار في المعدات الرأسمالية لصناعة الطائرات. انخفضت نسبة رأس المال المستثمر في صناعة الطائرات من 65% من التدفقات النقدية الحرة في 1990 إلى 6% فحسب في 2018.

بعدما تسبّب برنامج الحاسوب في تحطم طائرتين من طراز بوينغ في العامين 2018 و2019، خرج الرئيس التنفيذي القديم دينيس مولينبرغ من الشركة، وجاء ديف كالهون ليقودها من 2020 إلى 2024. كانت هذه سنوات صعبة، فإدارة الطيران الفيدرالية أوقفت طائرات 737 ماكس لمدة 20 شهراً (من آذار/مارس 2019 إلى كانون الأول/ديسمبر 2020)، ليتوقف معها تسليم الطائرات للعملاء، ثم جاءت جائحة كوفيد-19 في العام 2020 وتوقف السفر على إثرها، ونتيجة لذلك تكبدت شركات الطيران خسائر، ما ترك أثراً مباشراً في بوينغ بصفتها منتجة للطائرات.

لم يقُم كالهون، في تحول كبير عن سلفه، بأي عمليات إعادة شراء للأسهم في خلال فترة ولايته من 2020 إلى 2024. قد يفترض البعض أنّ التخلي عن إعادة شراء الأسهم سيقود كالهون إلى زيادة الاستثمار في الإنتاج، لكن هذا لم يحدث.

boeing cracks

لم يكن كالهون مهندساً، بل خبيراً مالياً. تضمّنت وظيفته السابقة في مجموعة بلاكستون مقارنة العوائد في شركات مختلفة كانت الذراع الاستثمارية في الشركة قد اشترتها عبر عمليات استحواذ بالاستدانة. يدلُّ هذا على أنّ خبرة كالهون كانت في إدارة الديون. من المحتمل أنّ مجلس إدارة بوينغ اختار كالهون لتحسين التدفق النقدي، على الرغم من الخسائر في قطاع الطائرات. وكما يظهر في الرسم البياني أعلاه، كانت الشركة إما تعمل بخسارة (2020-2021) أو تحقق أرباحاً ضئيلة (2022-2023).

يُظهر الرسم البياني التالي، الطرائق الثلاث التي اعتمدت عليها بوينغ لجمع معظم أموالها في عهد كالهون: قروض جديدة ومراهنات ناجحة في الأسواق المالية ومبيعات الطائرات. في العام 2020، اقترضت الشركة مبالغ هائلة . ومن 2021 إلى 2024، كانت الأموال التي جنتها الشركة من بيع استثماراتها في الأسواق المالية مصدراً أكبر بكثير للنقد مقارنةً بمبيعات الطائرات أو الحصول على ديون جديدة. بعبارة أخرى، في العام 2020، استخدم الرئيس التنفيذي قيمة بوينغ ضماناً الحصول على قرض كبير جداً.

boeing cracks

لنقف هنا ونتأمل مدى غرابة أنّ المصدر الرئيس للمال في بوينغ في العام 2023 لم يكن بيع الطائرات، بل أرباحها من الأسواق المالية! كما يظهر في الرسم البياني أعلاه، فإنّ الشريط الأصفر للعام 2023 يمثّل 15.7 مليار دولار من بيع الاستثمارات، في حين لم تجنِ الشركة من بيع الطائرات في تلك السنة سوى 5.9 مليار دولار. في ظل إدارة كالهون، بدأت بوينغ تتحول إلى شركة تراهن في وول ستريت لتوليد إيرادات، أكثر من كونها شركة تصنع الطائرات. أنفقت الشركة 2% إلى 3% فحسب من أموالها الحرة على الاستثمار في رأس المال، وهي نسبة أقل حتى من عهد مولينبرغ (6%)، وأقل بكثير من نسبة 65% التي كانت تنفقها في العام 1990. يُوضح الرسم البياني التالي مدى ارتفاع المراهنات قصيرة الأجل على الأصول المالية مقارنةً بالمراهنات طويلة الأجل على تراكم رأس المال المخصص للطائرات.

boeing cracks

تبدو أَمْوَلة الشركات الأميركية الحديثة واضحة في الرسم البياني أعلاه الذي يبيّن أوجه استخدام كالهون للقرض الكبير من العام 2020، بالإضافة إلى أي أموال أخرى تحصَّل عليها في خلال ولايته. في العام 2020، اقترض كالهون 47 مليار دولار باسم بوينغ. ولم يستثمر في المعدات اللازمة لصناعة الطائرات (النفقات الرأسمالية) في 2020 سوى 3% من التدفقات النقدية الحرة. واليوم، في 2024، تعاني بوينغ من ديون تقارب 50 مليار دولار، معظمها بسبب حملة الاقتراض التي قام بها كالهون في 2020، بينما تمتلك منافستها، إيرباص، احتياطيات بقيمة 9 مليارات دولار. بالمناسبة، في العام 2020، كان من المحتمل أن تمنح الحكومة الأميركية بوينغ مساعدات مالية كما فعلت مع العديد من الشركات الأميركية في خلال عام الجائحة. لكن كالهون رفض هذه المساعدة الحكومية، ربما خوفاً من فرض اشتراطات تحدُّ من الأجور التنفيذية ومن صلاحياته في اتخاذ القرارات، وهما حدان كان من الممكن أن يعودا بالنفع على معظم أصحاب المصلحة في الشركة.

تتطلب الأعطال التشغيلية حلولاً تشغيلية، ومع ذلك لم تقم بوينغ في العام 2020 بتوظيف مهندس، بل خبيراً مالياً. ربما صدَّق مجلس إدارة بوينغ رسائله الزاعمة بأنّ حوادث 2018 و2019 كانت بسبب خطأ بسيط في البرنامج الحاسوبي يمكن إصلاحه، على الرغم من قيام العديد من الموظفين على حساب أذى شخصي كبير بكشف أنّ وراء سقوط الطائرات تقف مشكلات إفساد الروح المعنوية والإجبار على العمل لساعات إضافية ونقص التدريب والمضايقات بحق المهندسين ومفتشي الجودة الذين حاولوا الحفاظ على معايير الجودة.

مسار العودة إلى السلامة

في 9 تموز/يوليو 2024، وافقت بوينغ على الإقرار بتهمة الاحتيال فيما يتعلق بجودة طائرات 737 ماكس في تعاملاتها مع إدارة الطيران الفيدرالية، وانتهت فترة كالهون في رئاسة الشركة. في 8 آب/أغسطس 2024، عيّنت بوينغ كيلي أورتبرغ رئيساً تنفيذياً جديداً، وبرز سبب للتفاؤل. أورتبرغ مهندس بخلفية في تصنيع الطائرات. وفي خطوة تزيد من الاطمئنان أعلن أنّ مكتبه سيكون في ولاية واشنطن، وقد زار بالفعل خطوط الإنتاج في مصانع إيفريت ورينتون. أورتبرغ متخصص في العمليات التشغيلية، وهو ما يبعث على التفاؤل، لكن تغيير الرئيس التنفيذي لا يعالج المشكلات الكامنة  وراء فقدان السلامة في واحدة من أهم ركائز القدرة التصنيعية للولايات المتحدة.

ستحتاج بوينغ إلى زيادة نفقاتها الرأسمالية من 1.5 مليار دولار سنوياً إلى حوالي 35 مليار دولار سنوياً لتعود إلى مستوى إنفاق 65% من التدفقات النقدية الحرة على تراكم رأس المال كما كان في العام 1990. تعمل بوينغ في الوقت الحالي بخسارة ولديها حوالي 50 مليار دولار من الديون. سوف تتطلّب استعادة السلامة في الإنتاج توظيف مفتشي جودة وميكانيكيين وعمال خط إنتاج بحيث يمكن إنهاء العمل الإضافي في التصنيع. بالإضافة إلى هذا، يستحق العمال زيادة في الأجور وتحسين المزايا والبدلات.

تعكس الخلفية التاريخية لقرارات إدارة بوينغ الكافكاوية خللاً أساسياً في الاقتصاد الأميركي: يبدو أنّ العائد المُعدَّل بالمخاطر من استثمار رأس المال في تصنيع الطائرات أقل من العائد على الاستثمارات الأكثر سيولة وأماناً. في الواقع، فإنّ مجرد احتمال تحقيق أرباح مستقبلية يمنح تقييمات سوقية ضخمة لشركات مثل بوينغ، حتى حين تنتج بخسارة. وهذا الخلل يعني أنّ إدارة الشركة حين تعمل بموجب مبدأ تعظيم قيمة المساهمين، فإنّها تميل إلى استثمار أقل في التصنيع وزيادة الاستثمار في المضاربات التي قد تحقق مكاسب فورية. وواقع أنّ توقعات الشركة على المدى الطويل أصبحت قاتمة قد يزيد بأثر عكسي من دافع المديرين التنفيذيين والمستثمرين المؤسسيين لتسييل أصولهم متى استطاعوا. وقد يفسر هذا الخلل، بين عوائد الاستثمارات طويلة الأمد والاستثمارات قصيرة الأمد، تقليل بوينغ نفقاتها الرأسمالية من 65% من التدفقات النقدية الحرة في 1990 إلى 2% بحلول 2021. في العقد الأول من القرن الجديد، أصبحت «الأصول الخفيفة» شعار المرحلة، فتجد الشركات تسعى إلى بيع استثماراتها الرأسمالية (كما في بيع بوينغ مصنع ويتشيتا إلى أونيكس) لتتمكن من الوصول إلى طرق أسرع لتحويل الأموال إلى مزيد من الأموال، ومنها التلاعب بأسعار الأسهم أو المساهمات السياسية أو شراء السندات. في خلال الفترة من 2001 إلى 2010، قامت بوينغ بتعهيد الابتكار في بدن الطائرة إلى إيطاليا والأجنحة إلى اليابان. تمكنت الشركة بفعلها ذلك من تحرير الأموال لشراء أسهمها، في مراهنة رابحة بحسب تقديرات الإدارة. كان الحافز الرئيس للمديرين التنفيذيين تحقيق سعر مرتفع للسهم لارتباط تعويضاتهم بهذا المؤشر، وللأسف لا يزال هذا الحافز قائماً. يحصل أورتبيرغ على راتب مقداره 1.5 مليون دولار، ويبدو ضئيلاً بالمقارنة مع 3 ملايين دولار مكافأة و17.5 مليون دولار مكافأة إذا تمكن من تحقيق «الأهداف» – تسمية أخرى في الغالب لرفع سعر السهم إلى مستوى معين. ما دام سعر السهم بوصلة الرئيس التنفيذي، سيظل للمستثمرين المؤسسيين نفوذاً على قراراته. وبما أنّ فانغارد وبلاك روك ونيوبورت ترست تمتلك من بوينغ 8% و6% و5% على التوالي، فإنّ أي قرار يتخذه مدير الحسابات المسؤول عن استثمارات بوينغ في أي من هذه الشركات الثلاث ببيع أسهم بوينغ أو شرائها سيؤثر بشدة في سعر السهم، وهذا المدير بوسعه على الأرجح التواصل المباشر بالمدير التنفيذي لشركة بوينغ. فالأولوية القصوى للمستثمرين المؤسسيين هي رفع سعر السهم لإرضاء مستثمريهم.

ليس من المسموح لبوينغ بحكم حجمها أن تفشل. أيرباص، أكبر منتج للطائرات في أوروبا، تعجز بمفردها عن تلبية الطلب العالمي على الطائرات التجارية، ويدل على هذا تأخرها عشر سنوات في تسليم الطلبات. أما إمبراير البرازيلية وكورماك الصينية فلا تزالان بحكم حجمهما عاجزتان عن الإنتاج بأعداد كبيرة، واليابان من جهتها قررت عدم الدخول في سوق الطائرات التجارية. لذا لا نستبعد أن يدفع دافعو الضرائب عند مرحلة ما ثمن إنقاذ الشركة من دين كالهون. حين يأتي هذا اليوم، لا بد أن نتأكد من حصول دافعي الضرائب على ملكية في الشركة تفوق الملكية المؤسسية ليكون لهم رأي في القرارت بما يعطي الأولوية لسلامة المسافر وإرساء قاعدة تصنيعية مبتكرة بدلاً من التركيز على سعر السهم. ويجب فصل مكافأة الإدارة عن سعر السهم، كما كان الأمر في عز أيام الشركة، ليتمكن المدير التنفيذي لشركة طائرات تستغرق 10 سنوات من التصميم إلى البيع من التركيز على الأجل الطويل. يجب وضع سقف لحصة أي كيان منفرد في الشركة بحيث لا تتجاوز 5%، ولتكن مثلاً 2%. يجب وضع ممثلين عن الركاب في مجلس إدارة الشركة، وممثلين عن نقابة المهندسين ونقابة الميكانيكيين. وبهذه التغييرات تنتهي الإدارة المالية لشركة تصنيعية، وهذا المطلوب لضمان أولوية السلامة والابتكار. ومن المرجح أن تتسبّب هذه التغييرات المنطقية بزيادة الأرباح على المدى الطويل. إيرباص، على سبيل المثال، تزدهر على الرغم من امتلاك الحكومة لـ25% منها، وانتظام كامل قوتها العاملة في نقابة.

نُشِر هذا المقال في dollars and Sense في 24 أيلول/سبتمبر 2024، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.