Preview مشكلة التمويل مشكلة الرأسمالية

المشكلة في التمويل هي مشكلة الرأسمالية

إن صعود التمويل في العقود الأخيرة جاء على حساب الصناعة: هذه واحدة من المسلّمات الراهنة بالنسبة إلى العديد من الشخصيات السياسية من هيلاري كلينتون إلى بيرني ساندرز. كما تنتشر آراء مماثلة بين نقّاد في الاقتصاد السياسي أبرزهم روبرت برينر وسيدريك دوران. يقول دوران إن صعود التمويل «متجذّر في استنفاد الديناميكية الإنتاجية في الاقتصادات المتقدّمة، وإعادة توجيه رأس المال بعيداً من الاستثمار الإنتاجي المحلي». ومن وجهة النظر هذه، تجاوزت الأنشطة المالية «الوهمية» رأس المال الصناعي «الحقيقي». وصعود الأولى هو أحد أعراض مرحلة «متأخرة» من الرأسمالية ونذير اختلال النظام وأفوله.

في حين، يؤدّي استمرار التشديد الكمّي من أجل السيطرة على التضخّم إلى إنهاء دعم الدولة الذي يعد أساسياً لدعم القوة المالية، فإن السماح باستمرار التضخّم قد يقوّض التمويل من خلال تآكل قيم الأصول وخفض مدفوعات الفائدة الحقيقية

بالنسبة إلى برينر ودوران، اعتمد صعود القطاع المالي على قدرته على الاستئثار بالدولة؛ وأدّى إلى تشكيل ما وصفه برينر وديلان رايلي بـ«الرأسمالية السياسية» كشكل جديد من الرأسمالية. ووفقاً لهذين المنظِّرين، تجلّى ذلك في سياسة التيسير الكمّي التي انتهجها الاحتياطي الفيدرالي على مدى عقود،أي «الضخ النقديّ المتواصل من البنوك المركزية»، الذي يراه دوران نتاج «ابتزاز» يمارسه القطاع المالي الاستئثاري.

توقّع دوران في مقال حديث أننا نشهد راهناً «نهاية الهيمنة المالية»، كون عودة التضخّم خلقت تناقضاً يتعذّر حلّه: ففي حين، يؤدّي استمرار التشديد الكمّي من أجل السيطرة على التضخّم إلى إنهاء دعم الدولة الذي يعد أساسياً لدعم القوة المالية، فإن السماح باستمرار التضخّم قد يقوّض التمويل من خلال تآكل قيم الأصول وخفض مدفوعات الفائدة الحقيقية.

في الواقع، وكما نحاجج في كتابنا الجديد «سقوط الرأسمالية الأميركية وصعودها: من جي بي مورغان إلى بلاك روك»، كل هذه التأويلات هي إمّا خاطئة أو مضلِّلة. لم يأتِ صعود التمويل على حساب الصناعة بأي حال من الأحوال، بل العكس. لقد عزّز التمويل رأس المال الصناعي، وسهّلت الأمولة بناء شبكات إنتاج واستثمار عالمية عالية المرونة، ما أدّى إلى تكثيف الانضباط التنافسي في الشركات الصناعية من أجل تعظيم استخراج فائض القيمة وخفض التكاليف. إن الدور البنيوي الذي يؤدّيه التمويل في الرأسمالية المعاصرة يصعّب رؤية التضخّم أو التشديد النقدي كتهديد فتّاك لقوة الرأسمالية.

بعيداً ممّا اعتبره برينر «نهباً متصاعداً» للدولة من قِبَل طفيليات مالية، نفّذ الاحتياطي الفيدرالي سياسة «التيسير الكمّي» باستقلالية تامّة تلبية للضرورات النظامية لتراكم رأس المال. وأدّت إعادة الهيكلة التي قادتها الدولة إلى تركّز غير مسبوق في ملكية صناديق إدارة الأصول «الثلاث الكبرى»: بلاك روك وستيت ستريت وفانغارد. وبعيداً من انفصالها عن الصناعة، بلغ التركّز ذروته نتيجة اندماج جديد بين رأس المال الصناعي والمالي، ونطلق عليه «رأس المال المالي الجديد». تعزّزت قوة ملكية صناديق إدارة الأصول في خلال الفترة الحالية من التشديد الكمّي والتضخّم المرتفع. ولذلك، يبدو إصرار دوران على انتهاء الهيمنة المالية غير مقنع.

هذا ليس تمريناً أكاديمياً: إن فهمنا للعلاقة بين التمويل والصناعة ينطوي على مضامين سياسية مهمة. عدا أن تأطير التمويل بشكل منفصل عن الصناعة ومعاكس لها يشير إلى ضرورة تشكيل العمّال لتحالف مع رؤسائهم الرأسماليين الصناعيين من أجل كبح جماح القطاع المالي الاستئثاري. لكن إذا كان التمويل والصناعة متشابكين بعمق وباستقلالية متبادلة، لا ينبغي أن يكون هدف استراتيجية اليسار التصدّى «للأمولة» فحسب، وإنما للرأسمالية ذاتها.

لا ينبغي لهدفنا، الذي يعد أهم من أي وقت مضى بسبب حالة الطوارئ الإيكولوجية المتفاقمة، أن يسعى لإيجاد سُبل لزيادة القيود التنظيمية على التمويل من أجل استعادة الرأسمالية الصناعية «الجيّدة» المفترضة لفترة ما بعد الحرب، بل تصوّر شكل جديد من أشكال التخطيط الاقتصادي الديمقراطية وبنائه: أيّ السيطرة على الاستثمار من خلال تحويل الدولة وتطوير القدرات ضمنها لإدارة التمويل بوصفه منفعة عامة.

أزمة 2008 وصعود صناديق إدارة الأصول

دوران محق في قوله بأن تدخل الدولة بعد أزمة 2008 كان بالغ الأهمية. لكن ما هي وظائفها النظامية الفعلية وآثارها التاريخية؟

إذا كان التمويل والصناعة متشابكين بعمق وباستقلالية متبادلة، لا ينبغي أن يكون هدف استراتيجية اليسار التصدّى «للأمولة» فحسب، وإنما للرأسمالية ذاتها

لم يأتِ تدخل الدولة بعد أزمة العام 2008 نتيجة لتحوّلها إلى أداة في يد المؤسسات المالية من أجل نهب الخزائن العامة، كما يشير دوران، بل كان نتاج دولة مستقلة نسبياً تسعى إلى حلّ أزمة اقتصادية نظامية ودعم التراكم. فهي لم تعمل بناءً على توجيهات مؤسّسات معيّنة بل لصالح النظام المالي. هذه التدخلات، فضلاً عن توسّع الاحتياطي الفيدرالي المستمر في سياسة التيسير الكمي على مدى عقد ونصف عقد من الزمن، أدّت إلى التغيّر التاريخي في بنية رأسمالية الشركات، وتحوّلها إلى رأس المال المالي الجديد.

انطوى التيسير الكمّي على شراء الاحتياطي الفيدرالي أصولاً كثيرة وتوليد سيولة هائلة من خلال تكوين احتياطيات في البنك المركزي. وفي حين كان الهدف توفير السيولة للمؤسسات المالية، إلا أنه دعم فعلياً نظام الائتمان الخاضع لشروط السوق، والذي تطوّر في خلال الحقبة النيوليبرالية.

تعد أسواق «اتفاقيات إعادة الشراء» (REPO) مركز هذا النظام. لقد تمكّنت المؤسّسات المالية من الوصول إلى سيولة قصير الأمد في مقابل ضمانات من الأصول. وشكّلت سندات الخزينة والسندات المضمونة برهونات عقارية الضمانات الأهم، وبالتالي الأساس لخلق الديون. تطلّب عمل هذا النظام الحصول على ثقة المؤسّسات المالية بهذه الأصول واعتبارها آمنة. وبمجرّد أن أصبحت قيمة السندات المضمونة برهونات عقارية موضع شك، توقف الإقراض في هذه الأسواق، ولم تتمكّن المؤسسات المالية من الوصول إلى السيولة.

بشرائه السندات المضمونة برهونات عقارية، عزّز الاحتياطي الفيدرالي قيمتها وأزال المخاطر عنها ودعم أسواق الريبو. ومع استيعاب الاحتياطي الفيدرالي الأصول التي تعد الأكثر أمانًا، ولا سيما السندات الحكومية، دفع المؤسّسات المالية إلى شراء أصول أخرى، وخصوصاً الأسهم وسندات الشركات.

أدّى التدفق الكبير للأموال إلى سوق الأسهم إلى استمرار ارتفاع أسعار الأسهم، ومعها كلّ الأسعار، بحيث أصبح من الصعب على صناديق الاستثمار المدارة بفاعلية - والتي تحاول «التغلّب على السوق» من خلال التداول الاستراتيجي - تبرير رسومها الإدارية المرتفعة. وتمثّلت النتيجة بتحوّل الاستثمارات إلى الصناديق المدارة سلبياً ذي الرسوم المنخفضة، التي لا تتداول سوى لتعكس الثقل المتغيّر للمؤسّسات في مؤشر معيّن.

قبل العام 2008، كانت ثلاث من كل أربع صناديق أسهم أميركية تُدار بفاعلية. وبحلول العام 2020، كانت أكثر من نصفها سلبية وتدير أصولاً بقيمة 6 تريليون دولار. تركزت هذه الاستثمارات في الشركات الثلاث الكبرى، وتحديداً بلاك روك. بين عامي 2004 و2009، نمت أصول بلاك روك الخاضعة للإدارة بنسبة 879%.

تنوّعت هذه المؤسّسات بشكل مذهل. وباتت تشكّل معاً أكبر أو ثاني أكبر مالكة شركات، إئ تستحوذ على 90% من إجمالي رأس المال السوقيّ الأميركي، بما في ذلك 98% من مؤشر «ستاندارد آند بورز 500». وتمتلك ما يزيد على 20% من كل مؤسّسة من هذه المؤسّسات، ما يعكس المفاضلة القديمة بين قوة الملكية والتنويع، حيث يميل تركّز الحيازات إلى الانخفاض مع زيادة التنويع. وأصبحت صناديق إدارة الأصول مالكة قوية في كل شركة تداول عامة تقريباً، بما في ذلك المؤسّسات الكبيرة مثل البنوك الكبرى.

لا بد من تصوّر شكل جديد من أشكال التخطيط الاقتصادي الديمقراطية وبنائه، يقوم على السيطرة على الاستثمار من خلال تحويل الدولة وتطوير القدرات ضمنها لإدارة التمويل بوصفه منفعة عامة

هذا الحدّ من تركّز الملكية ومركزتها وتنوّعها غير مسبوق في تاريخ الرأسمالية. مع ذلك، يبقى هذا النظام تنافسياً بشدّة. فمن أجل الادخار، تتنافس صناديق إدارة الأصول مع بعضها البعض، وكذلك مع جميع الكيانات الأخرى. وبغية جذب رأس المال، عليها أن تقدّم أعلى العوائد وأقل المخاطر، ووضع حدود صارمة على معدّلات الرسوم التي تفرضها. ولذلك، يتوجّب على صناديق إدارة الأصول تنمية أرباحها من خلال تعظيم الأصول المدارة، إذ يجري احتساب رسومها كنسبة مئوية من تلك الأصول. وهي تفعل ذلك عن طريق مراكمة الأصول وزيادة قيمة الأصول التي تمتلكها بالفعل.

لكن بما أن الصناديق السلبية التي تديرها هذه الصناديق غير قابلة للتسييل بسهولة، وعاجزة عن التداول، بخلاف تتبع مؤشر معيّن، فهي لا تستطيع التخلّص من أسهم الشركات ضعيفة الأداء. بدلاً من ذلك، تضغط صناديق إدارة الأصول بالمباشر على مديري شركات محافظها الاستثمارية لتعظيم القدرة التنافسية وقيم الأصول، ما يخفّف الاختلافات بين ملكية الشركات والسيطرة عليها.

أصبحت صناديق إدارة الأصول، بالفعل، مالكة دائمة وفاعلة لمجمل الشركات الكبرى والمهمّة في الاقتصاد. تُنظّم هذه العلاقات من خلال «أقسام الإشراف» في صناديق إدارة الأصول، التي تمركز الإشراف على الشركات الصناعية. ويشمل ذلك تنسيق استراتيجيات تصويت المساهمين، والتعاون مع شركات المحافظ المالية على إصلاحات الحوكمة، والتأثير على تكوين مجلس الإدارة، والموافقة على التعويضات التنفيذية، واستراتيجية الإشراف.

تضمن كتل الملكية الكبرى أن تتمتع صناديق إدارة الأصول بالقدرة على الإدارة والانخراط في التنسيق الروتيني «من وراء الكواليس»، مدعومة بقدرتها على استخدام حق التصويت، وهو ما لم تخجل من استخدامه عند الضرورة. وكما قال راخي كومار، رئيس قسم حوكمة الشركات في ستيت ستريت:

«إن حجمنا وخبرتنا وتوقعاتنا طويلة الأمد تسمح لنا بالوصول وفتح حوار بناء ومستمر مع إدارة الشركة ومجالسها التنفيذية. كما يمنحنا خيار استخدام حق التصويت في مقابل الإدارة نفوذاً كافياً ويضمن الأخذ بآرائنا ومصالح العملاء».

لكن المقاييس التي ينشرها دوران - توازن الأرباح بين القطاعين المالي والصناعي، والسيولة في النظام المالي وقيم الأصول - لا تشمل بنية ملكية الشركات، ما يفقده أحد أهم أسس القوة المالية: التركّز غير المسبوق لملكية رأس المال الصناعي لدى صناديق إدارة الأصول الثلاث الكبرى.

وبالنتيجة، كان تقييم دوران لأفول الهيمنة المالية بعيداً تماماً عن الهدف. وعلى الرغم من أن التيسير الكمي كان ضرورياً للتكوين الأولي لرأس المال المالي، يستند بقائه وهيمنته بالضرورة إلى استمرار التيسير الكمي. وفي السياق الحالي المتّسم بتقلبات السوق والتشديد الكمّي، من المرجح أن تظل الصناديق السلبية الآمنة والمتنوعة ومنخفضة التكلفة، التي تديرها صناديق إدارة الأصول العملاقة، قادرة على المنافسة. في الواقع، استمرّت هذه الصناديق بالنمو بقوة، ومن المتوقع أن تتجاوز الصناديق المدارة بفاعلية في شتى أنحاء العالم هذا العام. وعلى الرغم من انخفاض أرباح شركات إدارة الأصول، وتباطؤ التدفقات إلى صناديق الأسهم السلبية، كما هو متوقع في سوق أسهم متداعية، يشير استمرار تركّز الملكية وتمركزها إلى أن قوة هذه المؤسّسات تتزايد ولا تضمحل.

رأس المال المالي ورأس المال الصناعي والعولمة

أيضاً، سمح تكوّن رأس المال المالي بتعزيز إجماع الرأسماليين على العولمة. وخلافاً لبعض الأفكار المتفائلة، لا يستطيع «المالكون الأمميون» قيادة عملية الحدّ من انبعاث الكربون أو أن يكونوا الأساس في تسوية طبقية ديمقراطية جديدة تقوم على توسيع دولة الرفاه. وبعيداً من استعداداتهم  للتضحية بربحية الشركات الفردية خدمة للمصلحة العامة للنظام عبر «استيعاب العوامل الخارجية»، لدى صناديق إدارة الأصول حافز لتعظيم القدرة التنافسية لشركات المحافظ المالية الفردية. وبقدر ما ترتبط القدرة التنافسية للشركات بحرية حركة رأس المال - ما يسمح للشركات بنشر الاستثمارات في شتى أنحاء العالم بحثاً عن العائدات الأعلى - ترتبط مصالح صناديق إدارة الأصول بها أيضاً.

لم يأتِ تدخل الدولة بعد أزمة العام 2008 نتيجة تحوّلها إلى أداة في يد المؤسسات المالية من أجل نهب الخزائن العامة، بل نتاج دولة مستقلة تسعى إلى حلّ أزمة اقتصادية نظامية ودعم التراكم، فهي لم تعمل بناءً على توجيهات مؤسّسات معيّنة بل لصالح النظام المالي

إن تعميق العولمة من خلال تذليل العوائق أمام حركة رأس المال، ولا سيما تحرير أسعار الصرف وضوابط رأس المال، عزّز التمويل وساعد في حلّ أزمة السبعينيات من خلال المساعدة على استعادة ربحية الشركات الصناعية. كما أن بناء الشركات المتعدّدة الجنسيات لشبكات إنتاج واستثمار مرنة وديناميكية عابرة للحدود يعتمد على خلق بنية مالية متكاملة دولياً وخاضعة لسيطرة مؤسّسات مالية أميركية كبرى.

من هنا، إن عولمة رأس المال تعني أن التمويل أصبح أكثر تمركزاً في بنية التراكم وأكثر قوة من الناحية السياسية. وبما أن الشركات غير المالية انتفعت من هذه الآلية، رضخت في نهاية المطاف لهيمنة التمويل. وأصبحت مصالح رأس المال المالي والصناعي متشابكة في خلال الحقبة النيوليبرالية التي تلت ذلك.

ترسّخت الأمولة أكثر وأكثر من خلال إعادة هيكلة الشركات غير المالية في خلال هذه الفترة. ومن خلال سلسلة من الاستجابات التكيفية تجاه التحدّيات التي فرضها التنويع والعولمة، تزايد التحوّل من إدارة الأصول إلى الاستثمار، وتدوير رأس المال بين أقسام الشركات المتنافسة والعمليات والمرافق وفق القدرة على توليد عوائد نقدية.

في حين كان الاستثمار مركزياً، كانت التحكّم التشغيلي غير مركزي في وحدات الأعمال المستقلة التي تنافست على استثمارات كبرى الصناديق. أدى تكوين أسواق رأس المال داخل الشركات بهذا الشكل إلى تعزيز الانضباط تجاه خفض التكاليف وتعزيز الفعالية وتعظيم الأرباح. أصبح الفرق بين الشركات المالية وغير المالية غير واضح، إذ جرى توحيد اندماج رأس المال المالي والصناعي - رأس المال التمويلي - ضمن الشركة غير المالية ذاتها.

بعيداً من تجذرهما في «استنفاد الديناميكية الإنتاجية»، مكّنت الأمولة والعولمة من استعادة الديناميكية الصناعية. وفي هذا السياق، وعلى الرغم من أن الاستثمار المحلّي «المنتج» كان مكبوحاً بسبب تضييق هوامش الأرباح، على عكس الاستثمار غير المنتج أو المضارب في «سلاسل الإنتاج المعولمة» التي استغلت «العمالة الرخيصة» وحققت «عوائد أعلى»، تعدّ إشارة دوران إلى الاستثمار المحلي بوصفه مُنتِجاً محيّرة. في الواقع، يبدو أن دوران يحدّد عملية العولمة بوصفها غير منتجة. وهو محق بإشارته إلى أن هذه العملية دفعت الشركات للاعتماد على الأدوات المالية المشتقة من أجل إدارة المخاطر المرتبطة بالإنتاج الخاضع للعولمة، وهذا يوضح أهمية هذه الأدوات المالية بالنسبة إلى الإنتاج، ويبيّن مشكلة اعتبارها مجرد «رأس مال وهمي».

على أي حال، لم تبدأ أمولة الشركات غير المالية في فترة النيوليبرالية بل في ذروة «العصر الذهبي» للرأسمالية. ولم تكن مدفوعة بالانحدار الصناعي وإنما بتراكم الأرباح المحتجزة لدى الشركات الصناعية، التي نتجت جزئياً عن ضعف انضباط المستثمرين في هذه المؤسّسات المربحة. وبدلًا من ترك هذه الرساميل خاملة، استخدمتها المؤسّسات الصناعية باعتبارها رأس مال مدّر للفائدة، وبحلول الستينيات أصبحت الدائن الأكبر في أسواق الأوراق التجارية. كما كانت المؤسسات الصناعية أيضاً أكبر المدينين في هذه الأسواق التي أصبحت مصدراً مهماً لتمويل العمليات الصناعية. وبهذه الطريقة، ساهمت الأمولة في إعادة توزيع الأرباح المحتجزة التي تراكمت لدى الشركات الكبرى في الاقتصاد، ودعمت الربحية الصناعية.

إن عولمة رأس المال تعني أن التمويل أصبح أكثر تمركزاً في بنية التراكم وأكثر قوة من الناحية السياسية. وبما أن الشركات غير المالية انتفعت من هذه الآلية، رضخت في نهاية المطاف لهيمنة التمويل

لا يصح إذاً القول إن الهيمنة المالية نشأت نتيجة انخفاض الأرباح الصناعية التي دفعت الرأسماليين إلى تحويل استثماراتهم نحو الخدمات المالية المضاربة. ولا أن العقود النيوليبرالية اللاحقة من الهيمنة المالية اتسمت بانخفاض أرباح الشركات أو الاستثمار أو الإنفاق على البحث والتطوير. في خلال الثمانينيات والتسعينيات، ظهرت شركات التكنولوجيا الفائقة المتطوّرة التي تسيطر على السوق العالمية اليوم، مثل آبل ومايكروسوفت. والحال، إن الإنفاق على البحث والتطوير نما كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على مدار الحقبة النيوليبرالية.

في الوقت نفسه، زادت استثمارات الشركات نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، ما شكّل انحرافاً عن معايير ما بعد الحرب. وأدى هذا الاستثمار المتزايد إلى طفرة هائلة في حجم أرباح الشركات غير المالية. لقد نمت الأرباح المالية بسرعة، ولكنها لم تأتِ على حساب الاستثمار أو الربحية أو التنافسية الصناعية.

لا شك أن الهيمنة المالية انعكست في الحصة الأكبر من الفائض التي استحوذت عليها الشركات المالية من خلال عمليات إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح. ولكن ذلك ليس مؤشراً إلى التراجع الصناعي. بل على العكس، يعني أن الشركات تحقّق أرباحاً مرتفعة، وهو ما يرجع جزئياً إلى إعادة الهيكلة المالية، وقدرتها على معاودة الاستثمار في الإنتاج وإعادة السيولة غير المستخدمة إلى المساهمين ليعاد استثمارها في أماكن أخرى.

في سنوات ما بعد الحرب، استخدمت الشركات الصناعية فائض النقد لديها بوصفه رأس مال مدرّ للفائدة والعوائد المالية؛ واليوم، تقوم أيضاً بتوزيع حصة من أرباحها المرتفعة على المموّلين لاستثمارها في الاقتصاد. ولا يمثّل أيّ من المنحنين رأسمالية مُختلة وأخرى أكثر اختلالاً. بل يعكس بكل بساطة الفرق بينهما والبنى المتغيّرة لتنظيم الشركات وقوة الطبقة الرأسمالية. 

إن صعود التمويل ليس من أعراض الانحدار الصناعي، بل شرط للقدرة التنافسية الصناعية. ومع تسهيل الأمولة لحركة رأس المال من القطاعات والمرافق والبلدان وإليها، جرى تكثيف الضوابط التنافسية لتعظيم العائدات في شتى الاستثمارات. ويسلّط التداخل بين رأس المال المالي والصناعي الضوء على إشكالية وصف التمويل بـ«الحمل الثقيل» على الرأسمالية، ويصعّب إمكانية تخايل كيفية التخلّص من الأمولة.

نهاية الهيمنة المالية

يبدو أن وضع التضخّم في مواجهة التمويل، كما يشير دوران، خيالياً. إذ تنظر إلى السياسة النقدية الانكماشية للبنوك المركزية كما استمرار التضخّم المضبوط كـ«مفاضلة بين سكتة دماغية والموت البطيء». في الواقع، فشل دوران في إثبات أن التضخّم راسخ وأن الجمع بين قيم الأصول المتراجعة بسبب الأرباح الصناعية ليس دورياً. والحال، يبدو أن التضخم ينحسر الآن.

من غير الممكن فصل الرأسماليين الصناعيين الذين يقال إنهم وقعوا ضحايا الأمولة، عن الرأسماليين الماليين الذي يُقال إنهم انتفعوا منها. في الحالتين، الهدف هو التقليل من أهمّية التحدّي والحاجة الملحة لمعالجة الأضرار الاجتماعية والبيئية التي راكمتها الرأسمالية العالمية، والحاجة إلى بناء بديل

مع ذلك، دوران محق في تسليطه الضوء على المفاضلة المحتملة التي تواجهها البنوك المركزية بين السيطرة على التضخّم من جهة، والحفاظ على الاستقرار المالي وارتفاع أسعار الأصول من جهة أخرى. ولكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأن البنوك المركزية غير قادرة على التعامل مع تناقضات كهذه، وتجنّب أزمة واسعة بالتوازي مع الحفاظ على سياسة التشديد النقديّ من أجل خفض التضخم. وفي هذا الصدد، إذا كان دوران يبالغ في تقدير مدى استعصاء المعضلة بين الاستقرار النقدي واستقرار الأسعار، فهو يقلّل من استقلالية البنوك المركزية وقدراتها، فضلًا عن أهمّية السيطرة على التضخّم بالنسبة لرأسمالية عالمية مأمولة.

وكذلك، لا يوجد تناقض واضح بين النظام الحالي لرأس المال المالي وبين التشديد الكمي. والحال، إن الرئيس التنفيذي لبلاك روك، لاري فينك، دعا إلى تشديد السياسة النقدية، وأصر على أن الاحتياطي الفيدرالي سيضطر إلى تغيير سياساته قبل أن يفعل ذلك جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي (الذي كان يصر وقتئذٍ على أن التضخم مجرد «حالة انتقالية» وأن ما من حاجة لرفع أسعار الفائدة). وهذا هو النقيض الدقيق للديناميكية التي يمكن توقّعها من حجة دوران: يضغط محافظو البنوك المركزية من أجل الاستمرار في سياسة نقدية تيسيرية، بينما تدعو المؤسسات المالية القوية إلى تشديد السياسة النقدية. وهناك أسباب بنيوية وراء رغبة صناديق إدارة الأصول في السيطرة على التضخم، أولها أنها تعتمد على تنافسية المؤسسات الصناعية التي تملكها.

لا تكتفي بلاك روك وزميلاتها بإدارة صناديق الأسهم، إنما هي مؤسّسات مركزية ضمن نظام الظل المصرفي. وإذا تضاءلت الأرباح التي تجنيها هذه المؤسسات من صناديق الأسهم بسبب انخفاض أسعار الأسهم نتيجة التشديد، تصبح عمليات إدارة النقد وغيرها من الاستثمارات أكثر ربحيةً، ولو أنها تشكّل نسبة صغيرة من إجمالي الإيرادات.

هناك الكثير من الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأن الشركات الثلاث الكبرى سوف تخرج من السوق  الحالية المتراجعة بوضع أقوى. وعلى الرغم من انخفاض الأرباح مؤقتاً، لكنها لم تدخل في أزمة، كما أنها مدعومة بحيازات وعمليات متنوعة. وفي الوقت نفسه، تستمر هذه الشركات في مراكمة الأصول والملكية. 

ثمّة خطر أكيد بأن يؤدي التشديد النقدي إلى أزمة سيولة أو انهيار في سوق الأسهم، ما قد يخلق حالة من الذعر المالي على نطاق واسع. لكن يمكن للتمويل أن يخرج من الأزمة بموقع لا يقل قوة أو حتى أقوى، كما حدث بعد العام 2008. وهو ما قد ينهي نوبة التضخم الحالية. وعلى الرغم من أن أزمة مماثلة تتطلب تدخلاً استثنائيا من الدولة، لا يوجد ما يدعو للاستنتاج بأن هذا سوف يتجاوز قدرات البنوك المركزية.

المشكلة الأعم الكامنة بالإشارة إلى انهيار الهيمنة المالية من تلقاء نفسها، هي أنها تمنعنا من التفكير الجدي في كيفية التعامل مع العقبات الحقيقية التي يفرضها التمويل على النضالات العمالية والبيئية. وبالمثل، إن تأطير التمويل باعتباره «وهمياً» أو «حملاً ثقيلاً» قد يعني ضمنياً أن الرأسمالية الصناعية «المُنتِجة» يُمكن استعادتها من خلال كبح القطاع المالي الاستئثاري، كما يزعم ويليام لازونيك وإليزابيث وارين وغيرهم من الديمقراطيين الاشتراكيين. 

لكن من غير الممكن أن نفصل الرأسماليين الصناعيين الذين يقال إنهم وقعوا ضحايا الأمولة، عن الرأسماليين الماليين الذي يُقال إنهم انتفعوا منها. في الحالتين، يكمن الهدف في التقليل من أهمية التحدي والحاجة الملحة لمعالجة الأضرار الاجتماعية والبيئية التي راكمتها الرأسمالية العالمية، والحاجة إلى بناء بديل.

نشر هذا المقال في Jacobin في 3 نيسان/أبريل 2024.