معاينة تدمير غزة

دريسدن، هامبورغ، كولونيا، غزّة
أعنف حملات القصف التقليدي في التاريخ

إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين ذرّيتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية كان من أبشع جرائم الحرب المسجّلة في التاريخ الحديث، ولكن المؤرخون يذكرون أيضاً جرائم أخرى لا تقلّ بشاعة ارتكبها «الحلفاء» في تلك الحرب، ويشيرون تحديداً إلى التدمير المنهجي لمدن دريسدن وهامبورغ وكولونيا في ألمانيا وقتل وتشويه وتهجير معظم سكّانها.

تدمير غزة

يقترح الخبراء حالياً إضافة غزّة إلى لائحة «أعنف حملات القصف التقليدي (غير النووي) التي شهدها التاريخ»، ففي موجز عسكري نشرته «فايننشال تايمز» تحت هذا العنوان، تمّت مقارنة حجم الدمار الذي تعرّض له قطاع غزة، بالإضافة إلى كمّية ونوعية الذخائر المستخدمة، مع ما تعرّضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية أو مدينة الموصل في خلال الغزو الأميركي للعراق. ويتبيّن من هذه المقارنة أن العدوان الاسرائيلي على غزّة ليس حرباً تقليدية ذات قيود سياسية وأهداف واضحة تحدِّد طبيعة عملياته العسكرية، بل هو فصل أساسي من عملية التصفية الإثنية التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ بدايات القرن الماضي.

في معرض تقديرهم للضرر الذي أُلحق بالمناطق الحضرية في غزة، تنقل «فايننشال تايمز» عن محلّلين عسكريين أن نسبة الدمار التي تحقّقت في شمال غزّة في أقل من سبعة أسابيع تقارب التي سبّبها القصف الشامل والعنيف للمدن الألمانية على مدى سنوات الحرب العالمية الثانية، ويقول المؤرخ العسكري الأميركي روبرت بيب، ومؤلّف كتاب «قصف من أجل الفوز» (Bombing to Win) الذي يقدّم فيه مسحاً تاريخياً لحملات القصف في القرن العشرين إن «بعض أعنف عمليات التفجير في العالم تُذكر من خلال أسماء أماكنها، ومنها دريسدن وهامبورغ وكولونيا، والآن ستُدرج غزة أيضاً ضمن الأماكن التي تعرّضت إلى واحدة من أعنف حملات القصف التقليدي في التاريخ». 

بحلول الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، أي بعد أقل من شهرين من إعلان إسرائيل حربها على غزّة، تعرّض أكثر من 60% من المباني شمال غزّة إلى أضرار شديدة، فيما وصلت النسبة إلى 70% في بعض المناطق وفقًا لتحليل بيانات رادار الأقمار الصناعية التي أجراها كوري شير من مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك وجامون فان دن هوك من جامعة ولاية أوريغون، وعلى امتداد القطاع تمّ تدمير ما بين 82 ألف و105 آلاف مبنى. 

في المقابل، أدّى قصف «الحلفاء» لنحو 61 مدينة ألمانية كبرى على مدى عامي 1943 و1945، إلى تدمير نحو 50% من مناطقها الحضرية، وفقًا لبيب. وبحسب «فايننشال تايمز»، تعرّض نحو 75% من مباني هامبورغ للتدمير، في مقابل 61% من مباني كولونيا و59% من مباني دريسدن في الحرب العالمية الثانية. في حين وصلت نسبة المباني التي دمّر أكثر من 50% منها في غزّة إلى 68%. وبحسب التحليلات التي نقلتها «فايننشال تايمز» عن خبراء عسكريين فإن حجم الدمار اللاحق بقطاع غزّة يمكن إرجاعه إلى سببين: الأول هو نوعية الذخائر التي تستخدمها إسرائيل في قصفها، والثاني شدة ووتيرة القصف.

تدمير غزة

حول السبب الأول، لم يُصدر الجيش الإسرائيلي معلومات عامة عن الذخائر التي يستخدمها، لكن الصور التي ينشرها يومياً تظهر طائراته وهي تقلع محمّلة بالذخائر، التي تعرّف إليها خبراء متفجرات استعانت بهم «فايننشال تايمز».  يظهر من تحليلات الخبراء أن بعض الذخائر دقيقة للغاية، منها قنابل بوزن 250 رطلاً ذات قطر صغير وموجّهة بدقة. وعلى الرغم من كون الهدف المزعوم لهذه الذخائر، وفقاً للقوّات الجوية الأميركية، هو «إصابة أهداف محدّدة وتقليل الأضرار الجانبية»، فإن إسرائيل لم تُخفق في استخدامها لإيقاع خسائر بشرية ضخمة في قطاع غزّة. كما حُمِّلت المروحيات الهجومية الإسرائيلية بصواريخ «هيلفاير» الموجّهة بالليزر، وهي كانت الدعّامة الأميركية الأساسية للقتال في المناطق الحضرية ضدّ مقاتلي تنظيم «داعش» في العراق وسوريا. وكذلك تستخدم إسرائيل صواريخ سبايك «Fire and Forget»، وهي من  الصواريخ القادرة على توجيه نفسها فور إطلاقها، وتُعتبر السلاح المفضّل لدى إسرائيل في عمليّات القتل الدقيقة والمستهدِفة. أسقطت الطائرات الإسرائيلية أيضاً «قنابل غبية» (Dumb Bombs) غير موجّهة من طراز M117، وقد استخدمتها القوات الأميركية للمرّة الأولى في خلال حربي كوريا وفيتنام.

تستخدم إسرائيل سلسلة «مارك 80» من القنابل الجوّية التي تزوِّدها بها الولايات المتّحدة، وتختلف كلّ منها في الوزن وكمّية المتفجّرات، فقد استعملت إسرائيل «MK82» بوزن 227 كلغ وتحمل مواداً متفجّرة بوزن 89 كلغ، و«MK83» بوزن 450 كلغ ومواد متفجرة بوزن 202 كلغ، و«MK84» بوزن 907 كلغ ومواد متفجرة بوزن 429 كلغ، وتنتج الاخيرة شظايا بعد تفجير القنبلة، وتسبّب عجزاً لشخص من كل 10 أشخاص في دائرة بقطر 100 متر تقريباً، ولواحد من كلّ ألف شخص في دائرة بقطر 1000 متر تقريباً، وترتفع نسبة التسبّب بالعجز في حال استهداف المدنيين أكثر من الجنود، بحكم كونهم غير مدرّعين. 

في خلال الحرب العالمية الثانية، تعرّض نحو 75% من مباني هامبورغ للتدمير، في مقابل 61% من مباني كولونيا و59% من مباني دريسدن. في حين وصلت نسبة المباني التي دمّر أكثر من 50% منها في غزّة إلى 68%

بالإضافة إلى ذلك، استخدمت إسرائيل قنابل من نوع «GBU-31» تزن 2000 رطل، وهي أكبر بأربع مرّات من قنابل الـ500 رطل، التي شكّلت أكبر الذخائر المستخدمة من القوات المتحالفة في معركة مدينة الموصل العراقية، حسبما قال محلّلون عسكريون.

أمّا السبب الثاني لارتفاع حجم الدمار في قطاع غزّة، وفقاً للمحلّلين العسكريين الذين تحدّثت إليهم «فايننشال تايمز»، هو وتيرة حملات القصف الإسرائيلية وشدّتها، بالإضافة إلى قواعد الاستهداف المتساهلة التي أسفرت عن عدد كبير من الضحايا المدنيين. ففي الأسبوعين الأولين فقط من حملتها، استخدمت إسرائيل ما لا يقلّ عن 1000 ذخيرة جو-أرض يومياً، وفقاً لتقديرات المحلّل الاستخباراتي وخبير الذخائر جون ريدج. 

وبالمقارنة مع الفترات الأكثر كثافة للحملة الجوّية التي شنّتها الولايات المتّحدة وقوّات التحالف على الموصل، تمّ إسقاط ما يقرب من 600 ذخيرة أسبوعياً، أدّت إلى قتل 12 ألف عراقياً مدنياً في الأشهر التسعة الأولى من الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.  في المقابل، أسفرت حملة القصف الإسرائيلية عن سقوط ما لا يقل عن 18 ألف شهيد في غزّة حتى الآن، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

منذ  بضعة أيام، قالت وزارة الخارجية الأميركية إنها لم ترَ أي دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً في خلال حربها على قطاع غزّة. ولا حاجة للبحث عن دليل، فهو موجود هناك في واشنطن، في نوعية القنابل ومواصفات الأسلحة والذخائر التي تقدّمها وزارة الدفاع الأميركية إلى إسرائيل كي تمكّنها من دخول التاريخ كصاحبة أعنف حملة قصف على المدنيين في التاريخ.