Preview الإيرادات والموازنة

9% فقط من إيرادات الموازنة اللبنانية يُسدَّدها الأثرياء والملّاك والورثة

وفق مشروع الموازنة العامّة لعام 2024، ستنفق الدولة نحو 3.3 مليار دولار وستموِّل هذا الإنفاق من إيراداتها الضريبية وغير الضريبية. هذا المبلغ الهزيل يعادل نحو 15% من الناتج المحلّي الإجمالي، إلا أن مجمل الإيرادات التي ستجبيها الدولة من الضرائب المباشرة على الثروة والملكية والدخل، بما فيه الأجور، لا تمثّل سوى 1.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، في حين أن 90% من الإيرادات تقريباً ستجبيها الدولة من الأسر على حساب استهلاكهم الضروري والكمالي ومعاملاتهم الرسمية الإلزامية وتسجيل مساكنهم وتعرفات الخدمات العامّة.

من أين ستموّل الدولة نفقاتها؟ وعلى من يقع العبء؟

الموازنة والإيرادات

مساهمة أصحاب الرساميل

من أصل كلّ 100 دولار ستنفقها الدولة، هناك 9 دولارات فقط، أو ما نسبته 9% من مجمل إيرادات الخزينة العامّة، سيسددها الأثرياء والملّاك وأصحاب العمل والمشاريع. تمثّل هذه المساهمة المتواضعة جدّاً كل إيرادات الدولة من الضرائب المباشرة التي تفرضها الدخل (من دون الاجور) والأملاك (من دون رسوم التسجيل العقاري). علماً أن هذا النوع من الضرائب يُفترض أن يصيب بالدرجة الأولى الذين ينتمون إلى شريحة العشرة في المئة الأغنى في لبنان، الذين يستحوذون وحدهم على أكثر من 70% من الثروة الشخصية ونحو 60% من مجمل الدخل. 

  • تقدّر الضرائب المباشرة على الدخل وحده، أي الضرائب على الأرباح ورؤوس الأموال المنقولة والفوائد من دون الضريبة على الأجور، بنحو 233 مليون دولار، أو 7.88% من مجمل إيرادات الخزينة. وهذه الضرائب، التي لا تصيب إلّا الربح والدخل المرتفع ويُفترض أنها الأكثر عدالة اجتماعية وكفاءة اقتصادية، لا تمثّل سوى 1% فقط من الناتج المحلّي الإجمالي المُصرّح وغير المصرّح عنه، ما يعني أن هناك مساحة واسعة جداً لزيادة إيرادات هذه الضرائب، من خلال توسيع المكلّفين وشمولهم واعتماد الضريبة التصاعدية الموحّدة على مجمل مصادر دخل المقيمين في لبنان المتنوّعة، بما فيها التحويلات والدخل المُحقّق في الخارج، ورفع معدّلاتها على الأرباح والمداخيل المرتفعة.
  • تقدّر الضرائب على الأملاك (من دون رسم تسجيل العقارات) بأقل من 65 دولار، أو أقل من 2% من مجمل إيرادات الموازنة. لم تفرض الدولة اللبنانية أي ضريبة على الثروة، وهذه مساحة أخرى لزيادة الإيرادات لا تزال معفاة من المساهمة في تمويل الإنفاق العام. ولا تمثل الضرائب على الأملاك، من دون رسوم التسجيل العقاري، سوى 0.34% من مجمل إيرادات الموازنة، أي أن أصحاب الأملاك لن يساهموا سوى بنحو 34 سنتا من كل 100 دولار تنفقها الدولة. وسيسدد الورثة نحو 1.6% فقط من إيرادات الموازنة عبر الضرائب على انتقال الإرث.

هذه الشريحة من المكلّفين بالضريبة في الموازنة العامة هم الرابحون الأوائل من عدم إصلاح النظام الضريبي، ومواصلة إعفاء المداخيل الناتجة من الاحتكارات والامتيازات وعقود الشراكة مع القطاع الخاص والمضاربات المالية والعقارية واستغلال الموارد والأملاك العامّة واستنزاف الطبيعة والإضرار بالبيئة والصحّة العامّة.

مساهمة العمّال 

من أصل كل 100 دولار تنفقه الدولة لن يموّل العمّال والموظّفون من أجورهم سوى ربع دولار تقريباً. إذ تساهم الضريبة على الرواتب والأجور والحسومات التقاعدية بنحو 7.7 ملايين دولار، أو ما نسبته 0.23% من مجمل الإيرادات. ويعود تدني مساهمة الأجور بالضريبة إلى الانهيار الساحق للأجور الحقيقية بالليرة، ولا سيما في القطاع العام وأكثرية الأنشطة الخدمية التي توظّف النسبة الأكبر من القوى العاملة، فلم تؤدِ التصحيحات الطفيفة المتتالية على الأجور الاسمية إلى تعويض الخسارة بفعل استمرار التضخّم، وهذا انعكس على الإيرادات العامّة، علماً أن إيرادات هذه الضريبة تتأثّر بتوسّع العمل اللانظامي، إذ تفيد التقديرات أن أكثر من 60% من العاملين بأجر غير مُصرّح عن أجورهم لدى الإدارات الضريبية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ولكن، معظم هؤلاء العمّال اللانظاميين يجري استغلالهم في العمل بأجور زهيدة ومن دون أي حمايات قانونية واجتماعية، وبالتالي يحتاج هؤلاء إلى الدعم من الدولة عبر تعميم الأجور الاجتماعية، وبالتالي لا تسمح أجورهم المنخفضة بالمساهمة أكثر في زيادة إيرادات ضريبة الرواتب والأجور إلّا بعد إجراء تصحيح شامل للأجور في لبنان يرفع قيمتها الحقيقية وقدراتها الشرائية.

ولكن الطبقة العاملة في لبنان ترزح تحت ثقل الضرائب غير المباشرة، فهي تشكّل أكثر من نصف الأسر المقيمة، وهي كسائر الأسر المتدنية الدخل والمتوسّطة الدخل تتحمّل العبء الأكبر والأشد وطأة للنظام الضريبي المرتكز بدرجة عالية جدا على جباية الضرائب والرسوم الاعتباطية المفروضة على الاستهلاك المعيشي والتعرفات الإلزامية والقسرية للخدمات المنهارة أصلاً والمعاملات الإدارية التي لا طائل منها أحياناً سوى شفط إيرادات إلى الخزينة.

مساهمة الأسر المقيمة

من كلّ 100 دولار ستنفقها الحكومة في هذا العام هناك 89 دولار ونصف دولار ستجبيها من الأسر على استهلاكها الضروري والكمالي وعلى معاملاتها الإلزامية وعلى إجبارها شراء خدمات عامّة رديئة. 

  • هناك 54 دولار ونصف الدولار من هذه الإيرادات ستأتي على شكل ضرائب ورسوم على السلع والخدمات والتجارة، سيدفعها كلّ معيل لنفسه أو لعائلته على كلّ وجبة طعام وشربة مياه أو تنقل بالسيارة أو إنارة الكهرباء أو الاستحمام أو شراء الملابس أو القيام بنزهة أو رحلة استجمام أو اقتناء هاتف جديد أو جهاز تلفزيون أو استهلاك ميغابيت من الإنترنت أو ممارسة هواية أو فن… إلخ. وتمثّل الضريبة على القيمة المضافة (TVA) الثقل الأكبر على كاهل الأسر المعيشية، وتقدّر إيراداتها وحدها بأكثر من مليار دولار، أي ثلث إيرادات الخزينة العامّة تقريباً. 
  • تُصيب رسوم تسجيل العقارات الأسر، وهي أقرب إلى الضرائب غير المباشرة على عكس تصنيفات الموازنة. فالأسر مُجبرة على تسجيل ملكية مساكنها على عكس أصحاب الرساميل والمضاربين الذين يتملكون العقارات عبر الشركات ويقومون بتبادل أسهمها في عمليات البيع والشراء ويتهربون من رسوم التسجيل. وتساهم هذه الرسوم بتمويل 10 دولارات من كلّ 100 دولار تنفقه الدولة، في حين أن الموازنة العامّة تخلو من أي سياسة إسكانية من أي نوع بعد انهيار نموذج السكن بالرهن العقاري.
  • تساهم فواتير الاتصالات والإنترنت التي يسدّدها كل فرد أو أسرة بتمويل نحو 8 دولار من كل 100 دولار ستنفقها الدولة. ما يجعل كلفة التخابر والانترنت باهظة على الأسر والاقتصاد، وتمثّل «ضريبة» أكثر مما هي سعر لخدمة.
  • تقدّر إيرادات الموازنة من الرسوم والعائدات الإدارية والمبيعات وحاصلات أملاك الدولة والإدارات والمؤسسات العامّة (من دون إيرادات الاتصالات والغرامات والمصادرات) بنحو 428 مليون دولار، وهي بمعظمها رسوم وإيرادات مطار بيروت والمرافئ، ورسوم السير واجازات عمل.
  • تقدّر إيرادات رسوم الطابع المالي والاميركي، وهي بمثابة ضرائب غير مباشرة تصيب في النهاية الأسر من دون تمييز، بنحو 125 مليون دولار، أو 3.8% من مجمل الايرادات.

الغرامات والتسويات

أخيراً، هناك دولار من كلّ 100 دولار تجبيها الخزينة تأتي من الغرامات وتسويات مخالفات البناء وتسويات التعدّيات على الأملاك العامّة البحرية. وعلى الرغم من اعتماد الموازنات اللبنانية المُتتالية على الغرامات والتسويات كمصدر دائم للإيرادات، إلا أن هذا الإيراد ناتج من سياسة التشجيع المتواصلة للتهرّب الضريبي وارتكاب المخالفات والتعدّيات، إذ اعتادت الحكومات على إقرار تخفيضات، إلى حد الإلغاء، للغرامات المُترتبة على عدم التصريح عن الدخل أو تسديد الضريبة المتوجّبة أو مخالفة القانون أو الاستحواذ على ملك عام بشكل غير شرعي وبما يتعارض مع المنفعة العامّة.