ماركس كما هو: مدخل جديد إلى رأس المال

  • مراجعة لكتاب كولن تشالمرز Capital Condensed، الذي يقدّم تلخيصاً بارعاً للحجج الأساسية في رأس المال بأسلوب واضح، لمَن يهتم بنقد ماركس للاقتصاد السياسي ويرغب في سماع صوته من دون الضجيج المعتاد.

يقدّم كولن تشالمرز في كتابه الجديد «Capital Condensed» ملخّصاً مركّزاً ودقيقاً لمجلّدات رأس المال الثلاثة في أكثر من مئة صفحة بقليل. وإذا بدا لك ذلك تحدّياً صعباً، فقد أنجزه تشالمرز بمهارة ويسر. الكتاب إنجاز رائع، وأنصح به لكلّ مَن يرغب في التعرّف إلى ماركس سواء لم يكن لديه أي اطلاع على أفكاره، أو لديه اطلاع بسيط ويبحث عن تلخيص مكثّف لحجج ماركس. لا يتوسّط تشالمرز بين القارئ والنص، على عكس المداخل الحديثة الأخرى إلى رأس المال من قبيل ما كتبه ميخائيل هاينريش أو ديفيد هارفي (من بين آخرين). فلا نجد في كتابه رغبة في تحسين ماركس أو ذكر مكامن النقص في فكره أو الخطأ أو التقصير، ولا يسعى إلى تفسير أو إفساد الواضح بأسلوبه الخاص أو شكوكه أو «اكتشافاته». بل يقدّم لنا الحجّة كما صاغها ماركس، مع دمج السياق المنطقي والتاريخي لمسار السلعة والنقد والسلعة الرأسمالية وإعادة الإنتاج والتراكم والتداول ومسألة التحويل والريع، موزّعة على 18 فصلاً، بما يتماشى مع أقسام رأس المال الثمانية عشر، مع ملحق مفيد يشرح المصطلحات الأساسية.

الثروة في المجتمعات الرأسمالية تبدو وكأنّها «تكدّس هائل من السلع»

يتمتع أسلوب تشالمرز بالوضوح والسهولة في التعبير. فبصفته كاتباً سابقاً في النشرة الإخبارية (SchNews) المناهضة للرأسمالية، المعروفة بأسلوبها الذكي واللاذع، ولكنّها تقدّم في الوقت نفسه تقييماً حاداً ومفيداً لحركات مناهضة الرأسمالية، أضفى تشالمرز الروح نفسها على هذا الكتاب. يوازن الكتاب ببراعة بين الإشارات التاريخية، بما في ذلك التعليقات الحديثة والنقاط التاريخية، ليضيء من خلالها على منطق حجّة ماركس ويضعها في سياقها الصحيح. يجمع الكتاب بين التعليقات المختصرة واختيار بليغ من الاقتباسات بهدف تمكين ماركس من التحدث عن نفسه.

يقتبس تشالمرز افتتاحية ماركس الشهيرة في رأس المال والقائلة إن الثروة في المجتمعات الرأسمالية تبدو وكأنّها «تكدّس هائل من السلع»، ليشرح سبب بدء ماركس بتحليل السلعة. وتعريف السلعة بأنّ لها قيمة استخدامية وقيمة تبادلية هو التعريف الأشمل والأعم. يستقي ماركس هذا التعريف من أرسطو وينطبق على الإنتاج السلعي بجميع أشكاله. لذلك، فإن السلعة في رأس المال وفي الواقع ليست سلعة رأسمالية منذ اللحظة الأولى. ينهج تشالمرز المنطق والتاريخ ليظهر لنا كيف تصبح السلعة سلعة رأسمالية، متتبعاً تطور الإنتاج والتداول السلعي البسيط إلى الإنتاج السلعي الرأسمالي. في تبادل المتكافئات، حيث يجلب منتجو السلع البسيطة بضائعهم إلى السوق فرادى ويغدو عملهم اجتماعياً من خلال التبادل، يحصل منتجو السلع على القيمة الكاملة للعمل اللازم لإنتاج سلعهم. تجري التبادلات وفق سلسلة سلعة - نقد - سلعة، ويكون الغرض من الإنتاج القيمة الاستخدامية نفسها. مع مرور الوقت، انقلب الأمر إلى العكس تماماً، إلى تسلسل رأسمالي على النحو التالي: نقد - سلعة - مزيد من النقد، وتقلّصت مساواة جميع الفاعلين في السوق إلى مساواة شكلية فحسب. أصبحت السلعة الرأسمالية الآن ملك الرأسمالي الذي يستحوذ على إنتاج المنتِج، لأن المنتِج أو العامل أصبح الآن مفصولاً عن ملكية وسائل الإنتاج.

لم تعد المنتجات ملك منتِجها، بل يملكها الرأسمالي. تحت ستار المساواة الشكلية لعلاقة التبادل يكمن الاستغلال وعدم المساواة الحقيقيين

على أي حال، يظل هذا التكافؤ الشكلي بين الإنتاج والتبادل محورياً في الحجة. إذا كانت القيم متكافئة في التبادل، فلا يمكن أن تنشأ الأرباح في عملية التداول. إن خسارة طرف تساوي ربح طرف آخر. وإذا كانت القيم متكافئة في الإنتاج، فسوف تتساوى قيمة الناتج مع قيمة المدخلات، وبالتالي لا يمكن أن تنشأ الأرباح في الإنتاج أيضاً. إذاً، من أين تنشأ الأرباح؟

الإجابة عن هذا السؤال كانت اكتشاف ماركس الأبرز في نظرية فائض القيمة. على الرغم من أن السلع تُباع مقابل وقت العمل الضروري لإنتاجها، فإن جزءاً من هذا العمل لا يُدفع أجره. يعتمد الإنتاج الرأسمالي للسلع على الفارق بين القيمة المضافة من المنتِج والقيمة المدفوعة له. يكمن هذا الفارق في الفرق بين قيمة الأجور وقيمة قوة العمل، أي العمل المضاف إلى المنتج. لم تعد المنتجات ملك منتِجها، بل يملكها الرأسمالي. تحت ستار المساواة الشكلية لعلاقة التبادل يكمن الاستغلال وعدم المساواة الحقيقيين. القيمة المعبّر عنها بالمال أو السعر هي علاقة اجتماعية بين البشر، لذا فائض القيمة علاقة استغلال بينهم. يختلف العمل البشري من حيث المبدأ عن عمل الحيوانات أو «عمل» الآلات. ففي النظام الرأسمالي، العمل حرّ ولا يمكن للرأسمالي امتلاكه، بينما الحيوانات والآلات ملك للبشر. وليس بمقدور الحيوانات أو الآلات إلا أن تضيف القدر نفسه من القيمة للإنتاج، أي قيمة ذلك الوقت الاجتماعي، الميت أو الثابت، الضروري لإنتاجها. وحده العمل البشري، بوصفه المعيار المشترك بين القيم الاستخدامية المختلفة، يمكن أن يغيّر أو يضيف قيمة. تمثّل القيمة تعبيراً عن معدل تبادل القيم الاستخدامية المختلفة مادياً وبيعها وشرائها بين البشر.

يعرض تشالمرز هذه الحجة بقوة ووضوح، ويبيّن كيف يتطوّر النظام الرأسمالي تاريخياً ومنطقياً، بدءاً من الإدراج الشكلي في المانيفاكتورة، مروراً بإنشاء العامل الجماعي وتقسيم العمل، وصولاً إلى الإدراج الفعلي في نمط الإنتاج الرأسمالي عبر نمو الصناعة ورأس المال الثابت. يشكّل ذلك نمطَ إنتاجٍ رأسمالي فريد، ويعزّز تراكم رأس المال، والحاجة المستمرة عند الرأسماليين لتوسيع الإنتاج وزيادة شدّته. وهذا التطوّر تاريخي، أي يحدث في التاريخ، ويتبع تسلسلاً منطقياً من الكلي إلى الجزئي. لكن لا يغفل تشالمرز عن السياق الدولي في زمن ماركس، واعتماد الإنتاج الرأسمالي على العمل الفائض الذي يُستخرج ويُسرق بالعبودية المباشرة، أو السرقة ببساطة، واستيلاء الرأسماليين على ثروات الشعوب غير الرأسمالية في أفريقيا وآسيا والأميركيتين.

تُقارن أزمات عدم التناسب، حيث يكون الإنتاج الرأسمالي غير متوازن، مع أزمات ضعف الاستهلاك، حيث لا يوجد طلب كافٍ لتحقيق القيمة المضافة في الإنتاج، مع الأزمات المرتكزة على انخفاض معدل الربح

يشرح تشالمرز مُخطّطات إعادة الإنتاج في المجلّد الثاني من رأس المال ويبيّن أهمية زمن الدوران، وهو المعدل الذي يستعيد فيه الرأسمالي المال الذي استثمره في الإنتاج، وكيف أن عملية الإعادة تنتج قطاعين كبيرين أو مجالين بحسب المصطلحات المعاصرة: قطاع وسائل الإنتاج (القطاع الأول) وقطاع وسائل الاستهلاك (القطاع الثاني). من خلال التبادلات داخل هذين القطاعين وبينهما، تتاح للرأسمالي الفرصة لتحقيق قيمة المنتج السنوي، وهي القيمة المضافة سنوياً في الإنتاج، ورأس المال الثابت المُسلّف من الإنتاج السابق. ويشرح تشالمرز أهمية التمييز بين إعادة إنتاج السلع البسيط حيث يفترض أن الرأسمالي يستهلك كامل فائض القيمة، وإعادة الإنتاج الموسّع حيث يستثمر الرأسمالي أرباحه في وسائل إنتاج إضافية. ويحمل التوازن بين هذين القطاعين أهمية مفهومية لشرح كيفية وجود الرأسمالية من الأساس. لكن ماركس ليس من أنصار التوافق أو التناغم. يشدّد تشالمرز على وجود «الكثير من الاحتمالات لحدوث الأزمات، إذ إن التوازن في حدّ ذاته عارض طارئ ناتج عن الطبيعة العفوية لهذا الإنتاج» (ص.71). تُقارن أزمات عدم التناسب، حيث يكون الإنتاج الرأسمالي غير متوازن، مع أزمات ضعف الاستهلاك، حيث لا يوجد طلب كافٍ لتحقيق القيمة المضافة في الإنتاج، مع الأزمات المرتكزة على انخفاض معدل الربح.

يلخّص تشالمرز المجلّد الثالث من رأس المال ومشكلة التحويل الشهيرة، مرمى الكثير من الانتقادات، حيث يوضح ماركس كيف تتعدّل القيم إلى أسعار الإنتاج عبر المنافسة. يتوقّع الرأسمالي الحصول على معدل الربح نفسه من جميع أجزاء رأس المال المُسلّف، بحيث تتطوّر تركيبات رأس المال العضوي مع تقدّم الصناعة وتطوّر الصناعات المختلفة بمستوياتها التقنية المتفاوتة وتعبيرها عن القيم. وهذا ما يسمّيه ماركس في مكان آخر تناقضاً ظاهرياً بين القيمة المضافة في الإنتاج من مؤسّسة فردية والقيمة المتحقّقة في التبادل مقابل منتجاتها. الشركات ذات تركيبة رأس المال الأعلى من المتوسّط تبيع منتجاتها فوق قيمتها، بينما تلك التي تمتلك تركيبة رأس مال عضوي أدنى تبيع منتجاتها من دون قيمتها. يحدث انتقال لفائض القيمة من القطاعات ذات تركيبة رأس المال المتدنية إلى القطاعات ذات تركيبة رأس المال المرتفعة «بطريقة جد معقدة وتقريبية» لكونها «غير قابلة للتحقق بسبب التقلبات المستمرة». ولكن «مجموع أسعار الإنتاج لجميع السلع يساوي مجموع أسعارها المباشرة، ولكن تعيد المنافسة تقسيمه» (ص. 81). يواصل قانون القيمة تحديد شكل الإنتاج، ولكن بطريقة مُعدّلة، «لأنّ القيمة الإجمالية للسلع تنظّم إجمالي فائض القيمة، وهذا بدوره ينظّم مستوى الربح المتوسط [...] ومن ثم ينظّم قانون القيمة أسعار الإنتاج» (ص. 82). يشير تشالمرز إلى أنّ هذا التعديل يزداد بالتبادل غير المتكافئ بين البلدان الرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية والدول التي تهيمن عليها.

تعني عملية التراكم الرأسمالية أنّه لا حدود للكمية التي يمكن مراكمتها من رأس المال المادي، بينما تبقى الاتجاهات التعويضية عن هذا الارتفاع محدودة نسبياً

تعني عملية التراكم الرأسمالية أنّه لا حدود للكمية التي يمكن مراكمتها من رأس المال المادي، بينما تبقى الاتجاهات التعويضية عن هذا الارتفاع محدودة نسبياً. بمرور الوقت، تظهر ميول لانخفاض معدّل الربح، إذ سينمو رأس المال الأساسي والثابت الدائر أسرع من رأس المال المتغيّر، أو العمل البشري، مصدر فائض القيمة بأسره وبالتالي الأرباح. تتنوّع أشكال رأس المال مع نمو رأس المال الوهمي والربوي والشركات المساهمة والائتمان والمصارف لتظهر لدينا المضاربة والأزمات المالية. في الوقت نفسه، قد يحصل مُلّاك الأراضي أو أي أصول غير قابلة للتجديد ضرورية للإنتاج على ريع مطلق وريع تفاضلي.

يعرض لنا كتاب تشالمرز تلخيصاً بارعاً للحجج الأساسية في رأس المال بأسلوب واضح تماماً، وصحيح من الناحية النظرية ومنهجي. لا يجب أن يغيب هذا الكتاب عنك إذا كنت ممَن يهتم أو يتعامل مع نقد ماركس للاقتصاد السياسي وترغب في سماع صوت ماركس من دون الضجيج المعتاد.

نُشِرت هذه المراجعة في Marx & Philosophy في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.