البنوك المركزية ومزاعم الدور الفني

  • مراجعة لكتاب «توازن القوى: البنوك المركزية ومصير الديمقراطيات» لإريك مونيه، الذي يرى أن سياسات البنوك المركزية مهمّة بحيث لا يمكن ترك إدارتها لسلطات مستقلة وتكنوقراطيين فقط، ويجب أن تتمتَّع بإشراف ديمقراطي حقيقي. فالبنوك المركزية ليست فنية فحسب، بل ينطوي عملها على تسويات وأحكام حول المخاطر الناشئة، وهذا يشمل القِيَم ذاتها.

نمت سُلطة البنوك المركزية بشكل كبير في السنوات الـ15 الماضية، ولكن قدرة الديمقراطيات على إبقاء هذه البنوك تحت السيطرة لم تنمُ. وحان الوقت لإعادة النظر في الإجماع على استقلال البنوك المركزية، وهو الإجماع الذي يتطلّب منها الالتزام الصارم بأهدافها المُعلنة بشكل مستقلّ عن نفوذ الدولة. لقد كان هذا مقبولاً عندما كانت البنوك المركزية بسيطة نسبياً، وتنحصر أدوارها في إعلان ممرّات التضخّم، وإجراء العمليات النقدية، والإشراف على البنوك. لكن الأوقات لم تَعُد بسيطة، كما اتّضح في الأزمة الاقتصادية لعام 2008 وحتى في الاضطرابات الأكثر حداثة المرتبطة بالحرب في أوكرانيا.

في كتابه، يُحاجج إريك مونيه بأن سياسات البنوك المركزية مهمّة بحيث لا يمكن ترك إدارتها لسلطات مستقلة وتكنوقراطيين فقط، ويجب أن تتمتَّع بإشراف ديمقراطي حقيقي.

كيف أصبحت البنوك المركزية أقوى؟

منذ تسعينيات القرن العشرين، قلّصت البنوك المركزية في الاقتصادات الغنية حجم تدخّلاتها وتعقيدات هذه التدخّلات، لأنها تخلّت عن هدفها المتمثّل في أسعار صرف ثابتة، وهو الأمر الذي أنهى الحاجة إلى شراء احتياطيات النقد الأجنبي وبيعها. كما كان من المقبول أن يكون للبنوك المركزية تأثير ضئيل على الأسواق. وانبنى هذا على إيمان بفضائل الأسواق كمحرِّك للتحرير المالي. وعزّز استقرار تلك الفترة الاعتقاد بأن الأزمات أصبحت شيئاً من الماضي.

حان الوقت لإعادة النظر في الإجماع على استقلال البنوك المركزية، وهو الإجماع الذي يتطلّب منها الالتزام الصارم بأهدافها المُعلنة بشكل مستقلّ عن نفوذ الدولة

لكن هذه الفكرة سُرعان ما تآكلت بسبب رد فعل البنوك المركزية على الأزمات المالية والاقتصادية منذ العام 2008. لقد احتاجت المشاكل الجذرية إلى حلول جذرية. ولكن على الرغم من أن البنوك المركزية وصفت سياساتها بأنها «غير تقليدية»، فإنها - كما يكتب مونيه - أصبحت تقليدية للغاية.

كسرَ هذا التحوّل مُحرّمات مهمة حول الممارسات التاريخية للبنوك المركزية. كان أولها تراكماً هائلاً للديون العامة بين عامي 2008 و 2020. وعندما توقّع البعض أن تعود المالية العالمية إلى ظروف ما قبل العام 2008، طرح البنك المركزي الأوروبي «برنامج شراء الطوارئ الوبائية»، الذي مكّنه من الاستحواذ على ثلاثة أرباع إجمالي الدين العام الذي أصدرته دول منطقة اليورو منذ أوائل العام 2020 (ص. 65). وتعارض هذا بشكل مباشر مع مبدأ الاستقلال الذي كان يشير إلى أنه ليس من المفترض أن تقترض الحكومات بشكل مباشر من البنوك المركزية. وكان المُحرّم الثاني هو الإقراض المستهدف. اعتادت البنوك المركزية على منح القروض طويلة الأجل للبنوك، مثل «عمليات إعادة التمويل طويلة الأجل» التي نفذها البنك المركزي الأوروبي أو «خطط التمويل المرتبط ةبأَجَل» الأحدث التي نفّذها بنك إنكلترا. لكن بعد العام 2008، كان هناك خوف من ألَّا تستخدم البنوك هذه القروض الآمنة لتمويل الشركات. ومع «عمليات إعادة التمويل طويلة الأجل المستهدفة»، أصبحت البنوك المركزية الآن تُغلِّف الائتمان بتوجيهاتٍ لاستخدام الائتمان.

المقاربة الماكيافيلية في التعامل مع الديون

كيف حدث كل هذا؟ يبدأ المؤلف بتوضيح الوظائف الأساسية للبنوك المركزية. وهي معروفة منذ آدم سميث، الذي كتب أن بنك إنكلترا «لا يتصرّف مثل بنك عادي فحسب، بل أيضاً مثل مُحرّك عظيم للدولة». إن البنوك المركزية الحديثة لها هدفان رئيسان: استهداف التضخم والحفاظ على الاستقرار المالي. والهدف الثاني أكثر ضمنية ويشير إلى الأداء السليم لنظام الائتمان ومشهد مُكوّن من المؤسسات المالية الخاصة، والخزانة العامة، والبنوك الاستثمارية العامة، والبنك المركزي نفسه. والاستقرار المالي ليس هدفاً صريحاً، لأن البنوك المركزية ليست المؤسسات الوحيدة التي تتحمّل واجب ضمان الاستقرار المالي - فهناك أسواق الأسهم، والهيئات التنظيمية، وقطاع التأمين، وما إلى ذلك. فضلاً عن ذلك، من الصعب تعريف الاستقرار المالي - وتصبح هذه المشكلة متنامية عندما تُبرّر هذه الغاية تدخلات متزايدة.

تعود فكرة «الغاية تبرر الوسيلة» إلى نيكولو مكيافيلي. ولكن في تموز/يوليو 2012، أعلن إيطالي آخر عن سياسة تذكّرنا بهذه الفكرة. في العام 2015، أعلن ماريو دراغي، الذي كان يرأس مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي آنذاك، أن البنك «مستعد للقيام بكل ما يلزم» للحفاظ على اليورو. وقد أدت هذه الكلمات إلى إنشاء الأداة المسماة «المعاملات النقدية الصريحة»، التي وافق البنك بموجبها على شراء للدين العام لدولة عضو تعاني أزمة، - عبر الأسواق. ولكن هذا كان مشروطاً: كان على الدولة أن تستعين أولاً بآلية الاستقرار الأوروبي، وهي الوكالة التي تُقيّم الشروط التي يمكن للدولة بموجبها الحصول على مساعدات من البنك. وبسبب الإطار القانوني الغامض، لم تُنفّذ هذه المشتريات قط.

سياسات البنوك المركزية مهمّة بحيث لا يمكن ترك إدارتها لسلطات مستقلة وتكنوقراطيين فقط، ويجب أن تتمتَّع بإشراف ديمقراطي حقيقي

وفي ذلك الوقت، كان البنك المركزي الأوروبي جزءاً من «الترويكا»، التي طعن فيها البرلمان الأوروبي أيضاً. وفي النهاية، تخلّى البنك المركزي الأوروبي عن الأدوات المشروطة، وبدلاً من ذلك، لجأ إلى أدوات غير مشروطة. وفي العام 2015، انتهج البنك المركزي الأوروبي سياسة «التيسير الكمي» - شراء كميات هائلة من الدين العام. وكانت هذه ممارسة قائمة في اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا.

وفي تحليله، يتعرَّض مونيه إلى ممارسات أخرى غامضة للبنوك المركزية، مثل القروض الثنائية، وضوابط تدفق رأس المال لتنظيم حركة رأس المال الأجنبي، وتطوير العملات الرقمية الخاصة بالبنوك المركزية. لكن مَن المُخوَّل باتخاذ قرارات ذات عواقب مالية واجتماعية وجيوسياسية هائلة؟

كيف ينبغي للبنوك المركزية أن تتصرَّف؟

إن الجانب الأكثر تناقضاً في استقلال البنوك المركزية هو أنه من المستحيل تحديد مصالح وأدوار أعضاء مجالس إدارتها بدقة، ناهيك عن التشكيك فيها. وهذه نتيجة الفلسفة القائلة بأن العمل المصرفي المركزي مهمة فنية بحتة معزولة عن المناقشات الديمقراطية. اعتاد الاقتصادي الألماني المؤثّر روديجر دورنبوش أن يقول إن «المال خطير للغاية بحيث لا يمكن تركه للسياسيين» - ويبدو أن المنطق نفسه ينطبق على الناخبين.

البنوك المركزية الحديثة لها هدفان رئيسان: استهداف التضخم والحفاظ على الاستقرار المالي. والهدف الثاني أكثر ضمنية ويشير إلى الأداء السليم لنظام الائتمان

في الفصل الخامس، يكتب مونيه أن البنوك المركزية يجب أن تظل مستقلّة عن السلطات التنفيذية للحكومة، ولكن ليس عن الديمقراطية. وهو يتبع جوزيف ستيغليتز، الذي يرى أن البنوك المركزية ليست فنية فحسب، بل ينطوي عملها على تسويات وأحكام حول المخاطر الناشئة، وهذا يشمل القِيَم. وفي حين يرى دورنبوش أن التفويض هو المعيار الأكثر أهمية، يؤكد ستيغليتز على المداولة. ويتخذ مونيه عن حق موقفاً أقرب إلى الأخير من الأول. فهو يدعو إلى مداولات أفضل تنظيماً وإلى أخذ الانتقادات في الاعتبار - «الشرعية الانعكاسية» (151-152). وهذا من شأنه أن يتحدّى الاختلالات المؤسسية بين البنك المركزي الأوروبي والبرلمان الأوروبي ويمكّن من اتخاذ إجراءات لمكافحة أزمة المناخ، التي لم يعد من الممكن تجاهلها. ويمكن التعامل مع هذا من منظور الاستقرار المالي لأن بعض الأصول التي تعتبر الآن آمنة سوف تصبح أكثر خطورة مع التغيرات المناخية المستمرة. كما ينبغي الحدّ من شراء الأصول الخاصة من الشركات شديدة التلويث، بما يتماشى مع الهدف القانوني للبنك المركزي الأوروبي المتمثل في دعم السياسات العامة للاتحاد الأوروبي (151-158).

البنوك المركزية وتغير المناخ

إلى جانب هذا، ينظر مونيه في الدور المستقبلي للبنك المركزي الأوروبي في تمويل التحول الأخضر، على سبيل المثال، من خلال عمليات إعادة التمويل الخضراء طويلة الأجل. فالاستثمارات الخضراء ينبغي عزلها عن العقبات الاقتصادية الكلية من أجل الحفاظ على البيئة والحدّ من تعرّضنا للمخاطر التي قد تعرّض قيمة المال أو نظام الائتمان للخطر. والأمر الحاسم هو التنسيق بين السياسة المالية والنقدية حتى لا تؤدي إلى تأثيرات معاكسة على الدورة الاقتصادية.

لكن هل هذا كافٍ؟ هل ينبغي أن تكون الدورة الاقتصادية هي أفقنا الأبعد عندما يكون المساهم الأكبر في الانهيار المناخي والاجتماعي هو النمو الاقتصادي نفسه؟ مونيه محق عندما يفترض أن البنوك المركزية يجب أن «تُعِد نفسها لعالم لن يكون فيه الاستهلاك ونمو الناتج المحلي الإجمالي المؤشرين الرئيسين» وهو الأمر الذي من شأنه «إفساح المجال لتدابير الاستدامة البيئية والرفاهية».

البنوك المركزية يجب أن «تُعِد نفسها لعالم لن يكون فيه الاستهلاك ونمو الناتج المحلي الإجمالي المؤشرين الرئيسين»

إن المؤشرات البيئية ومؤشرات الرفاهية كثيرة بالفعل، ولكن المشكلة هي أن ضرورة النمو الاقتصادي مُغرية للغاية بحيث لا تسمح لنا باستبدال الناتج المحلي الإجمالي بالمؤشرات البيئية ومؤشرات الرفاهية. وحتى لو تمكّنا من ذلك، فإن استبدال الناتج المحلي الإجمالي بمؤشر أفضل يشبه استبدال لوحة التحكّم في سيارة تتجه بسرعة نحو الهاوية.

نعم، نحن في احتياج إلى بنوك مركزية مستقلة عن النفوذ السياسي. ونعم، ينبغي لها أن تعمل على أساس مبدأ المداولة، الذي نحن في احتياج شديد إليه منذ أكثر من عقد من الزمان. وكتاب «توازن القوى» قراءة ضرورية لتوضيح السبب وراء ذلك. ولكن قبل كل شيء، نحن في احتياج إلى اقتصادات مستقلة عن ضرورة النمو. وإذا كانت الديمقراطية تعني أي شيء، فهي تعني أننا نستطيع أن نتفق على ترتيب الأمور بشكل مختلف.

نُشِرت هذه المراجعة في LSE Blogs في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.