صعود التمويل العام النيوليبرالي
عرض لكتاب ميلندا كوبي «الثورة المضادة: الإسراف والتقشّف في التمويل العام»، الذي يعرض تاريخ النيوليبرالية الأميركية، ويركّز، بصفته دراسة في المالية العامة، على تيارين داخل هذا التقليد هما نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا وتيار اقتصاديات جانب العرض.
كيف غدت الدولة الأميركية مسرفة في طباعة الأموال وإصدار الديون العامة، لكنّها في الوقت نفسه متقشفة بشكل انتقائي في اختياراتها في الإنفاق العام؟ هذا السؤال، وهو محور كتابي الأخير، كان يمكن طرحه في أي وقت بعد العام 1971، حين تخلّت إدارة نيكسون عن التزامها بمعيار الذهب. في تلك اللحظة، لم تعد الحكومة الأميركية مضطرة لموازنة ميزانياتها أو رفع أسعار الفائدة كلّما حاول المستثمرون الأجانب إبدال الدولار بالذهب. بدلاً من ذلك، وكما اعترف واحتفى بذلك الكثير من الاقتصاديين النيوليبراليين، ومنهم ميلتون فريدمان، باتت الولايات المتّحدة حرّة في انتهاج سياساتها الاقتصادية باستقلالية جديدة.
لكنّهم أدركوا أيضاً أن الانتقال إلى أسعار صرف عائمة سلاحٌ ذو حدين، فالحرية المفرطة قد تتيح للمشرّعين اتباع أجندة إنفاق محلّية مُسرفة من شأنها تقوية العمّال ورفع الأجور. ولمواجهة هذه الاحتمال، سارع المصلحون النيوليبراليون إلى وضع ضوابط على الصلاحيات المالية والنقدية الجديدة للدولة الأميركية. وتبنّوا استقلالية البنوك المركزية وفرض قيود مؤسسية على طباعة الأموال، من شأنها الحلول محل ضبط المال أو الذهب. كما دعوا إلى فرض شروط تصويت بأغلبية ساحقة على الضرائب، إلى جانب إقرار حدود دستورية للضرائب والإنفاق على المستوى المحلي ومستوى الولايات. أما على المستوى الفيدرالي، فقد كان يكفي التهديد باستصدار تعديل في الدستور يلزم الحكومة بضبط الموازنة للحدّ من طموحات الإنفاق لدى المشرّعين. وهكذا، نصل إلى الترتيب المتناقض الذي أحاول تحليله في هذا الكتاب: ربط القدرة الأميركية المطلقة على إصدار الديون العامة وطباعة الأموال بقيد الالتزام بمكافحة التضخّم في الأجور والأسعار، يفرض بدوره قيداً دائماً على الإنفاق العام التوزيعي.
ربط القدرة الأميركية المطلقة على إصدار الديون العامة وطباعة الأموال بقيد الالتزام بمكافحة التضخّم في الأجور والأسعار، يفرض بدوره قيداً دائماً على الإنفاق العام التوزيعي
يمثّل الكتاب من نواحٍ كثيرة استمرارية للأبحاث التي قمت بها، وغيري من الباحثين والباحثات، عن تاريخ النيوليبرالية الأميركية. لكنّه يركز، بصفته دراسة في المالية العامة، على تيارين داخل هذا التقليد لم يحظيا باهتمام كبير في الأدبيات، على الأقل بالمقارنة مع مدرستي شيكاغو والنمسا: نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا وتيار اقتصاديات جانب العرض. كما أتناول في الفصل الأخير الخاص بسياسات الإجهاض أكثر الأشكال التوفيقية التي اتخذتها هاتان المدرستان الفكريتان، لا سيما في ظاهرة اليمين الديني، بمزجه بين تيارات مدرسة فيرجينيا وجانب العرض والليبرتارية الأميركية.
لِمَ اختيار هذين الهدفين؟ نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا وجانب العرض هما المدرستان الفكريتان صاحبتا الأثر الأكبر في سياسات الضرائب والإنفاق في الحكومة الأميركية منذ أواخر السبعينيات. ومن اللافت أن كلا هاتين المدرستين رأت الأخرى منافسة لها وتبنّتا في الغالب مواقف سياسية متناقضة جذرياً، لا سيما في مسألة إصدار الديون العامة والإنفاق بالعجز. لتبسيط القصة قليلاً، نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا تدور حول التقشف: يرى مؤسسها عالم الاقتصاد السياسي جيمس ماكگيل بوكانان عجز الميزانية أشبه بالفشل الأخلاقي. أما نيوليبرالية جانب العرض فتدور حول الإسراف، فلا تتخذ موقفاً حاسماً إزاء الإنفاق بالعجز أو تمويل الدين العام، لكنّها حتماً ليست محايدة تجاه كيفية إنفاق المال العام أو على مَن وماذا يُنفَق. لفهم التمويل العام النيوليبرالي، علينا فهم كيف توافقت هاتان المدرستان، على الرغم من اختلافاتهما، على ضرورة كبح استخدامات الإنفاق العام ذات الطابع التوزيعي.
مدرسة فرجينيا في التقشّف
يحاول كتابي تبيان الأهمية العملية والفكرية لدور نيوليبرالية مدرسة فرجينيا في صياغة آليات تقشّف الموازنة في أواخر القرن العشرين. فسجلات الثورة الضريبية قلّما تورِد، إنْ أوردَت، دور جيمس ماكگيل بوكانان في صياغة القيود على الضرائب والإنفاق، أما الدراسات البحثية فتعالج مناقشته لحدود الدين الدستورية وحق الأقلية في النقض وكأنّها شأن فكري بحت.
بيد أن قلة من المفكّرين النيوليبراليين نجحت في تحويل أفكارها إلى ممارسة سياسية مثلما نجح بوكانان. كان الأخير العقل المفكّر وراء الموجة الطويلة من القيود على الضرائب والإنفاق المعتمدة من الحكومات المحلية وحكومات الولايات في أواخر السبعينيات والثمانينيات، إذ ترجم تلميذه ويليام كريغ ستابلباين فلسفة بوكانان الدستورية إلى مقترحات اقتراعية في جميع أنحاء البلاد. كما كان بوكانان أيضاً الأب الفكري لحملة استصدار تعديل دستوري لضبط الموازنة، وهي فكرة اقتبسها من السيناتور الديمقراطي الجنوبي الداعم للفصل العنصري هاري بيرد الأب. يمكننا القول بالمجمل إن نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا تركت أثراً طويلاً يتمثل في المواقف المعتادة للجمهوريين بشأن معارك سقف الدين، والاستخدام المتكرر للعرقلة في مجلس الشيوخ، والتهديدات بالتخلف عن سداد الدين السيادي الأميركي.
لفهم التمويل العام النيوليبرالي، علينا فهم كيف توافقت هاتان المدرستان، على الرغم من اختلافاتهما، على ضرورة كبح استخدامات الإنفاق العام ذات الطابع التوزيعي
أحاولُ على خطا عمل نانسي ماكلين الرائد وضعَ مشروع بوكانان في سياق التاريخ الطويل للجنوب الديمقراطي المحافظ وجهوده للحفاظ على تفوّق العرق الأبيض. بيد أنني على العكس من ماكلين أرى بوكانان مديناً ديناً مباشراً لمشروع الثورة المضادة للمستَرِّدين الديمقراطيين الجنوبيين، أكثر منه لمشروع السيناتور جون سي كالون قبل الحرب الأهلية، فقد كان بوكانان فيلسوف انفصالٍ مالي لا انفصال إقليمي.
على سبيل المثال، من الأهمية بمكان معرفة أن الآليات التي ساهم بوكانان في إدخالها إلى اقتراعات الضرائب والإنفاق في السبعينيات كانت نسخاً شبه مطابقة للأدوات التي اخترعها المستَرِّدون الديمقراطيون بعد فترة إعادة الإعمار السوداء. في خلال هذه الفترة، أعادت الولايات الجنوبية صياغة دساتيرها للحدّ من إعادة توزيع ضرائب الملكية عبر الإنفاق العام، بهدف إلغاء الحقوق الاجتماعية البسيطة التي اكتسبها السود والبيض الفقراء، وأبرزها الوصول إلى المدارس العامة المجّانية. تضمّنت هذه الإصلاحات الدستورية قيوداً على معدلات الضرائب والإنفاق ومتطلّبات تصويت بالأغلبية الفائقة على القرارات الضريبية – وكلّها كانت عناصر أساسية في فلسفة بوكانان السياسية ونعرفها الآن كجزء من ثورة الضرائب في السبعينيات. وعلى الرغم من أن بوكانان لم يشر صراحة إلى هذه السوابق التاريخية، فمن الصعب تصور أنّه لم يكن على علم بها. علاوة على ذلك، وصفَ مشروعَه بأنّه طريقة «للخروج الداخلي من دون انفصال» – نوع من الانفصال بوسائل مالية، يمكن أن ينطبق بسهولة على مشروع الثورة المضادة للمستَرِّدين الديمقراطيين.
ينتقل كتابي أيضاً من ثورة الضرائب في السبعينيات إلى السياسات الحضرية في العقد الثاني من الألفية الجديدة، ويأخذ من فيرغسون ميزوري دراسة حالة في التأثير الطويل الأمد لقيود الضرائب والإنفاق في السياسات الحضرية. يظهر اليوم التداخل بين الوظائف المالية والعقابية للدولة النيوليبرالية بشكل واضح عند النظر إلى دور الغرامات والرسوم في تمويل الحكومات البلدية التي تعاني من نقص في التمويل. بعد وفاة مايكل براون على يد الشرطة في العام 2014، نشر مكتب الدفاع عن حقوق الإنسان «آرتش سيتي ديفيندرز» دراسة تبحث في الاستخدام الواسع للرسوم والغرامات في فيرغسون وميزوري ومدن أخرى في منطقة سانت لويس أشار فيها إلى الارتباط العميق بين سياسة التقشف الحضري، واللامساواة العرقية، والعنف الشرطي. وهذه الدراسة يمكن أخذها على أنّها بيان حول إرث نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا في السياسة المالية الحضرية.
من الآثار المتوقعة لقيود الضرائب والإنفاق، المعتمَدة عند بوكانان في كتابه الشهير عن المالية العامة، لدينا التحوّل من ضرائب الدخل والممتلكات إلى ضرائب الاستهلاك التنازلية. ففي جميع الولايات والبلديات، يتزايد الاعتماد على رسوم الاستهلاك في شكل ضرائب غير مرئية، وهذه تحوِّل المقيم إلى مستهلك خاص للخدمات العامة الاسمية كالحدائق والمكتبات والطرق ومواقف السيارات والمرافق، وكذلك الاعتماد على الغرامات، وهذه تحوِّل العقوبات المدنية إلى ضرائب ثابتة وبالتالي تنازلية.
يساعدنا الاعتراف بأن رسوم الاستخدام والغرامات أشكال غير مرئية من الضرائب على توضيح شيء ما بشأن الرسالة المناهضة للضرائب في نيوليبرالية مدرسة فيرجينيا، ففي النهاية هذه ليست حجة ضد الضرائب بقدر ما هي دعوة لنظام ضريبي تغلب عليه التنازلية ويطمس الحدود بين الضرائب والعقاب على الفقراء. كانت رسوم الاستخدام الشكل المفضّل للضرائب لدى بوكانان لأنّها ترفض فكرة وجود وعاء ضريبي عام تصاعدي يعاد توزيعه وفقاً للحاجة، وبدلاً من ذلك، تربط المنفعة الفردية بالكلفة الفردية. ما تحصل عليه من خدمات «عامة» يعتمد على ما يمكنك دفعه بصفة فردية. وعلى الجانب الآخر، سيتحوّل أي استهلاك للخدمات «العامة» يتجاوز إمكانياتك الفردية إلى دين خاص قد يُحوَّل بدوره إلى عقوبة مالية أو غرامة. سار زميل بوكانان من مدرسة شيكاغو، غاري بيكر، على المنطق نفسه من وجهة نظر القانون الجنائي والمدني واحتفى بالغرامة بوصفها أفضل شكل من أشكال العقوبة. أراد بيكر، بصفته ناقداً للإفراط في الإنفاق العام، أن يرى إزاحة المجمع الصناعي للسجون ليحل محله نظام عقوبات مالية يجبر المجرمين على تغطية التكاليف الاجتماعية لمخالفاتهم على أساس «المستخدم يدفع». وبدلاً من ذلك، حصلنا على مزيج من الاثنين: نظام عدالة جنائي متوسّع لكنّه يعمل بطرائق تقشّفية إلى أقصى حد وينقل جزءاً متزايداً من التكاليف إلى المتهم الفرد.
الاعتراف بأن رسوم الاستخدام والغرامات أشكال غير مرئية من الضرائب ليست حجة ضد الضرائب بقدر ما هي دعوة لنظام ضريبي تغلب عليه التنازلية ويطمس الحدود بين الضرائب والعقاب على الفقراء
على النقيض من قيود الضرائب والإنفاق على المستوى المحلي ومستوى الولايات، فإنّ الحملة الطويلة لاستصدار تعديل دستوري يلزم الحكومة بضبط ميزانيتها (وكان فيها لبوكانان دور رئيس) يجري تجاهلها بحجة أنّها فاشلة. لكن لا يزال جزء كبير من الحزب الجمهوري متمسكاً بعناد بهذه الحملة، ومثلما هو الحال مع التعطيل في مجلس الشيوخ، فإن مجرد التلويح بفكرة استصدار التعديل يكفي لإجبار الخصوم على الانصياع. فصارت زيادة الإنفاق المباشر أو الاستنسابي أصعب، ليصبح بذا الإنفاق الضريبي الساحة الوحيدة المتاحة لمبادرات مالية جديدة، وهو تقييد يُصعِّب تنفيذ مبادرات حقيقية لإعادة التوزيع ومكافحة الفقر. وكان هذا بالضبط ما حفّز بوكانان حين تبنّى قضية استصدار التعديل في السبعينيات.
إسراف جانب العرض
يبدو اقتصاديو جانب العرض عند مقارنتهم بنيوليبراليي مدرسة فرجينيا أقل سذاجة بكثير فيما يتعلق بآليات عمل ميزانيات الحكومة. فهم يشاركون تجّار السندات الفهم العملي نفسه للدين الحكومي والإنفاق بالعجز، ولا يعارضون الدين الحكومي بالمطلق. لكنهم في المقابل أشخاص شديدو الحساسية تجاه التفاعل بين الإنفاق الحكومي والتضخّم وسياسة أسعار الفائدة، ولذلك يتّخذون موقفاً صارماً حيال أي إنفاق قد يسبّب التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض قيمة الأصول. والمشكلة عندهم ليست مقدار ما تصدره الحكومة من الدين، بل أي نوع من الإنفاق يموّله هذا الدين.
أوضحت عالمة الاقتصاد السياسي غريتا كريبنر كيف أسفر تبني نظام أسعار الصرف العائمة في عهد نيكسون في النهاية عن هيمنة جديدة للدولار، فأصبحت الولايات المتحدة قادرة على إدارة عجز دائم مع الاستمرار في إيجاد مشترين لسنداتها في أسواق الدين العالمية. وقد كان روبرت ماندل، وهو اقتصادي يحظى بتقدير كبير في أوساط اقتصاديي جانب العرض، من أوائل مَن أدركوا هذا الأمر. إذ توقع أنّه بنهاية قابلية تحويل الدولار إلى الذهب واندماج الأسواق المالية، يغدو بإمكان الولايات المتحدة التحرّر من القيود التي كانت تثقل كاهل قدرتها على الإنفاق العام، ما دامت تستطيع إقناع البنوك المركزية الأجنبية بشراء ديون الحكومة الأميركية بأسعار فائدة منخفضة. لكنه أدرك أيضاً أنّ الثمن الواجب دفعه مقابل هذا الامتياز يساوي حرباً دائمة ضد التضخّم المحلّي (في الأجور والأسعار). وقد أصبح هذا واضحاً في العام 1978 حين بدأت البنوك المركزية الأجنبية في التخلص من الدولار بكميات كبيرة رداً على سياسات الرئيس كارتر لإنعاش الاقتصاد.
كان الإنفاق على الدفاع والشرطة مقبولاً، وكذلك التخفيضات الضريبية. لكن أي شيء من شأنه رفع الأجر الاجتماعي، كالسخاء في الخدمات العامة أو الإنفاق العام التوزيعي، كان لا بد من تنحيته جانباً
أوضح انهيار الدولار في العام 1978 أي نوع من الإنفاق يتماشى مع قدرة الولايات المتحدة على إصدار الديون إلى ما لا نهاية. فكان الإنفاق على الدفاع والشرطة مقبولاً، وكذلك التخفيضات الضريبية. لكن أي شيء من شأنه رفع الأجر الاجتماعي، كالسخاء في الخدمات العامة أو الإنفاق العام التوزيعي، كان لا بد من تنحيته جانباً، لأنّ الأجر الاجتماعي كان يُرى في تلك المرحلة أنّه السبب الرئيس لتضخم أسعار المستهلك. وهكذا، وجد اقتصاديّو جانب العرض أنفسهم يطبّقون قواعد التقشف الانتقائي في سياق الوفرة، ويصلون إلى نقطة التقاء عملية مع نيوليبراليي مدرسة فيرجينيا. أعرب اقتصادي جانب العرض بول كريغ روبرتس عن هذا بوضوح حين قال بوجود نوعين من العجز: تضخمي وغير تضخمي. ولهذا التمييز أهمية كبيرة لأنّه يسمح لاقتصاديي جانب العرض بانتهاج أجندة إنفاق عام سخية للغاية تخدم مالكي الأصول المالية. الحال أنّ حملة السندات لديهم حساسية تجاه التضخم في الأجور وأسعار المستهلك، بل وإلى حد ما التضخم المدفوع بالأرباح، بيد أنّهم لا يجدون أي مشكلة مع تضخم أسعار الأصول.
لقد شارك اقتصاديو جانب العرض في تمرّد نخبة الأعمال في السبعينيات، حين تمردت جمعيات التجارة الكبرى ضد شروط إجماع العمل في الصفقة الجديدة. آنذاك، كان الصناعيون وحملة الأصول المالية بالكاد يستطيعون الحفاظ على رؤوسهم فوق الماء. فالأرباح راكدة أو في انخفاض، والإدارات تعاني من صعوبة الصمود أمام النقابات العمالية، وبحلول نهاية العقد، كانت الأسهم والسندات تحقق عوائد ضئيلة، وأحياناً سلبية. فماذا كانت إجابة اقتصاديّي جانب العرض؟ حملة إنفاق حكومي ضخمة لدعم العوائد على رأس المال: بمعنى آخر، تبني «حوافز ضريبية» على الدخل الرأسمالي من جميع الأنواع. نحن لا نفكر في تمرد نخبة الأعمال على هذا النحو غالباَ. بل نميل إلى تصور هؤلاء الأشخاص كما يعبّرون عن أنفسهم، بأنّهم يسعون للهروب من قبضة الدولة القوية. ولكن كما جادل المتخصص في الضرائب ستانلي سوري، فإنّ التخفيضات الضريبية الانتقائية مقارنةً بمعدل ضريبة الدخل الأساسي تعادل في واقع الحال الإنفاق العام. وقد حرص اقتصاديو جانب العرض على أن يصب هذا الإنفاق في مصلحة مَن يأتي غالبية دخله من الأصول المالية، أي حملة الأصول المالية وليس المستفيدين من الأرباح الصناعية.
يتمثَّل المحور الأساسي لرؤية جانب العرض للتجديد الاقتصادي في ما يُعرف بالمكاسب الرأسمالية. و«المكسب الرأسمالي» مصطلح محاسبي ضريبي يشير إلى زيادة قيمة الأصول الناتجة عن عمليات التقييم السوقي، وليس عن قدرتها على إنتاج السلع، حيث تُعرف الأخيرة برصيد رأس المال أو عامل الإنتاج. كانت التخفيضات الضريبية على المكاسب الرأسمالية جوهر أجندة جانب العرض منذ البداية. فمن خلال التركيز على هذا النوع من الدخل الرأسمالي – ارتفاع قيم الأصول وليس تراكم الأرباح الصناعية عبر العمل – كانوا يسعون ليس إلى استعادة حصة رأس المال من الدخل القومي فحسب، بل أيضاً إلى الهروب من نظام الصفقة الجديدة لتراكم رأس المال. والحال أنّ مختلف المصالح الصناعية شاركت في تمرد نخبة الأعمال في السبعينيات، بيد أن المنتصر في النهاية كان حملة الأصول المالية. وكما أظهرت موجات الاستحواذ المدعوم بالديون وازدهار العقارات في الثمانينيات، فإن صعود نظام يعتمد على المكاسب الرأسمالية لتحقيق الثروة يعني التدمير الفعلي لرأس المال الصناعي والعاملين في الصناعة. فباع متصيّدو الشركات المخازن والورشات، وفي الوقت ذاته سرّحوا القوى العاملة. وقد اتخذ تحويل قيمة العقارات الصناعية من عامل إنتاج إلى أصل مالي شكلاً مالياً حين حوّل مطورو العقارات تلك المخازن الصناعية إلى عقارات فارهة.
وهكذا ارتفاع لأسعار الأصول، حتى حين لا تُستَهلك أو تُحقّق، يمنح الشخص القدرة على التحكم في الموارد وتحفيز الاستثمارات، لا سيما من خلال زيادة الضمانات التي يمكن للمرء استخدامها ليقترض. وحين تكون الظروف ملائمة، يمكن أن يعمل ارتفاع قيمة الأصول وكأنّه يمتلك قدرة على التضاعف الذاتي بفضل آلية الرافعة المالية. واللافت أن رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، آلان غرينسبان، أدرك هذه الخاصية للمكاسب الرأسمالية غير المحققة في وقت مبكر من مسيرته الفكرية، وكان مصراً ضرورة أن تعتمد الولايات المتحدة نظام حسابات وطنية يتتبع المكاسب الرأسمالية على أساس القيمة السوقية.
الكثير مما نراه ابتكاراً مالياً بطولياً يتضح بعد الفحص الدقيق أنّه استغلال منهجي للإعانات الضريبية، التي تعمل على الجانب السلبي كما تعمل على الجانب الإيجابي، إذ تعوّض الخسائر وتُحفز الأرباح
يمكن للضرائب أن تؤدي دوراً فاعلاً ويخلق قيمة في دولة مالية حديثة، وهي حقيقة اعترف بها اقتصاديو جانب العرض نصف اعتراف وحرفوها حين زعموا أنّ خفض الضرائب سيعوّض نفسه بنفسه. عادةً ما نفكر في الضرائب على أنّها مجرد خصم أو إضافة، فالضرائب تعيد توزيع الثروة لكنّها لا تخلق قيمة جديدة. في هذا السياق، تنتقد الباحثة القانونية كاثارينا بيستور إيمانَ الاقتصادي توماس بيكيتي بموضوع الضرائب على الثروة، إذ ترى أنّ هذا الإجراء يقلّل من فعالية قانون إعادة التوزيع فيها. تُفضِّل بيستور التدخّل في لحظة ما قبل التوزيع حين يضع القانون مطالبات على الثروة، بدلاً من التدخل بعد التوزيع عبر فرض ضرائب على الثروة، وهو الحل الأقل فاعلية. لكن تاريخ ضريبة الدخل يبيّن لنا أن أي تغيير في الإعدادات المالية – زيادة الميزات التفضيلية للمكاسب الرأسمالية مثلاً – يفعل أكثر من مجرد إعادة توزيع الحصص في لعبة الكراسي. إذ من شأنه أيضاً أن يُستخدَم في الضمانات ويحفّز تدفقات الاستثمار، ليخلق أصولاً مالية ما كانت لتكون لولا ذلك. من هذا المنطلق، يصعب التمييز بين ما قبل التوزيع وما بعده في دولة مالية متطوّرة كلياً. والكثير مما نراه ابتكاراً مالياً بطولياً يتضح بعد الفحص الدقيق أنّه استغلال منهجي للإعانات الضريبية، التي تعمل على الجانب السلبي كما تعمل على الجانب الإيجابي، إذ تعوّض الخسائر وتُحفز الأرباح. وهذا يفسر لنا لماذا شخص بجهل ترَمب يبدو وكأنّه يفشل لكنّه يتقدم على الدوام.
رأسمالية ميراثية
في كتابي السابق «القيم العائلية: بين النيوليبرالية والمحافظة الاجتماعية الجديدة»، جادلتُ بأن أي نظام قيمة يقوم على المكاسب الرأسمالية لا بد له أن يُعلي من أهمية ثروة العائلة في تشكيل فرص حياة الفرد ومكانته الطبقية. أدركت نخبة اقتصاديي جانب العرض هذا الأمر، وضغطوا منذ البداية لخفض ضريبة العقارات والهبات وإقرار ميزات ضريبية تفضيلية للمكاسب الرأسمالية. وسواء تقصّدوا هذا أم لم يتقصّدوه، فقد كان الأثر الطويل الأجل لأجندتهم الضريبية تفضيل تلك الأشكال من النشاط الاقتصادي التي تستفيد أكثر من غيرها من الميزات التفضيلية للمكاسب الرأسمالية، ولا سيما أنشطة مديري صناديق الاستثمار الخاصة (صناديق التحوط والأسهم الخاصة ورأس المال الاستثماري) من مستحقي «مكافأة الأداء» على الاستثمارات التي يرعونها، وبطبيعة الحال، مستثمري العقارات. وهكذا، فشخص كدونالد ترَمب بصفته من ورثة العقارات يدين بصعوده الشخصي الاستثنائي لحركة جانب العرض بقدر ما يدين لوالده.
لقد زاد التيسير الكمّي، بخفضه الإنفاق الحكومي إلى الصفر، من تدفق أموال الاستثمار إلى الأصول المالية ودفع أسعار الأصول إلى الارتفاع
وبالنظر إلى العلاقة بين المكاسب الرأسمالية والميراث، فقد كان محتماً علينا تقريباً الوصول إلى المنعطف الحالي بتركّزاته المخيفة للثروة. وأقول محتماً تقريباً لأن المسرّع الحقيقي كان التحوّل في السياسة النقدية في أواخر التسعينيات، حين اتجه آلان غريسبان المتشدّد في السابق نحو معدلات الفائدة المنخفضة ووعد الفيدرالي بفعل كل ما بوسعه لتضخيم قيمة الأصول المالية. وبلغ التوسع النقدي ذروته مع جولات التيسير الكمي بعد الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا. والمفارقة هنا أن البنك الفيدرالي بات الآن ينخرط صراحة بممارسة كانت من المحرمات التأسيسية للسياسة النقدية النيوليبرالية، وأعني هنا طباعة المال أو خلق أموال لشراء الأوراق المالية الحكومية. تمثّل تأثير هذا التحول في خفض كلفة الإنفاق العام إلى الصفر.
لكنني أزعم أن هذا التحول لم يكن ابتعاداً عن المنطق النقدي النيوليبرالي، بل كان ببساطة اعترافاً بأن الإنفاق الحكومي نفسه أصبح شديد التساهل تجاه حملة الأصول وشديد العداء تجاه أصحاب الأجور لدرجة لم يعد يمثّل معها خلق البنك المركزي للأموال ذلك التهديد الذي كان يمثّله من قبل. لقد زاد التيسير الكمّي، بخفضه الإنفاق الحكومي إلى الصفر، من تدفق أموال الاستثمار إلى الأصول المالية ودفع أسعار الأصول إلى الارتفاع. آنذاك، ظهرت بعض الحيرة بين المحلّلين الاقتصاديين لأن «طباعة النقود» على هذا النطاق الضخم لم توقظ بعبع تضخم الأجور القديم. وتفسير ذلك برأيي أن السياسة النقدية لا تعمل بالاستقلال عن البيئة المالية التي تجد نفسها فيها: وبعبارة أخرى، فإن إعدادات الضرائب والإنفاق تُوجّه الأموال الرخيصة في اتجاهات معينة دون غيرها. وحين نرى أن جزءاً متزايداً من الإعدادات المالية الحكومية موجه لدعم المكاسب الرأسمالية، فمن المنطقي حينها أن تغدو تأثيرات طباعة البنك المركزي للأموال اليوم مختلفة عمّا كانت عليه في السبعينيات. ما كان يبدو ذات يوم وكأنه منحدر زلق نحو التضخّم الجامح للأجور يجري تبنّيه الآن علناً كمسار سياسي نحو التضخّم الجامح للأصول المالية.
وفي حين أن العواقب التوزيعية للثورة المضادة النيوليبرالية قد تتبعها من كثب علماءٌ من أمثال توماس بيكيتي وإيمانويل سايز وغابرييل زوكمان، لم تحظ بمثل هذا التتبع حقيقة أن هذه الحقبة نفسها شهدت تحوّلاً في الأشكال التنظيمية للرأسمالية. ففي الإجماع الفوردي بين العمل ورأس المال كانت الشركة الكبيرة المتداولة المؤسسة الأساسية التي توسّطت بين العمل ورأس المال. وكانت من نواح كثيرة من بقايا قانون الأوراق المالية للصفقة الجديدة الناظم للمستثمرين المؤسسيين وأسهم الشركات، والمجيز لشركات الاستثمار الخاصة الصغيرة وحدها المطالبة برسوم الأداء على أساس المكاسب الرأسمالية. لكن منذ ثمانينيات القرن العشرين انهارت هذه الحدود بكل الطرق، وبات بإمكان صناديق الاستثمار الخاصة مثل رأس المال المغامر أو الأسهم الخاصة المطالبة بميزات تفضيلية للمكاسب الرأسمالية بينما تستفيد أيضاً من الكميات الهائلة من رأس المال المقدّم من المستثمرين المؤسسيين. واليوم، يمكن لصناديق الاستثمار الخاصة أن تسيطر على كمية من رأس المال المؤسسي بقدر الشركات المدرجة إنْ لم يكن أكثر. في الحقيقة، صارت هذه الصناديق نفسها مصادر كبرى من مصادر الائتمان للشركات.
انعدمت التفاضلات التنظيمية المتميزة التي كانت ذات يوم تفصل بين الاستثمار الخاص ولكن عالي المخاطر والشركات المدرجة في البورصة ولكن ذات رأس المال المرتفع. ونتيجة لهذا، وبفضل وفرة الأموال المؤسّسية التي تتدفق الآن عبر أسواق الائتمان الخاصة، صار بوسع المؤسّسين أن ينمووا شركاتهم إلى حجم هائل من دون الاضطرار إلى التخلي عن حقوقهم الرقابية في الاكتتاب العام. إذا طرحت الشركة للاكتتاب العام، فيمكنهم اللجوء إلى هياكل أسهم «فئة مزدوجة» وغيرها من قواعد التصويت البيزنطية للاحتفاظ بالسلطة والمطالبة بحصة باهظة من ثروة المنظّمة. وفي كلتا الحالتين، نشهد صعود طبقة جديدة ميراثية من مستثمري القطاع الخاص القادرين على الاستفادة من الأموال المؤسسية لجمع ثروات شخصية هائلة. وما الانتشار الأخير للمكاتب العائلية – صناديق الاستثمار القائمة على الأقارب المخصّصة للحفاظ على ميراث الأسرة – إلا أوضح علامة على تركّز الثروة الشديد هنا. يبدو هذا، من جوانب عدة، أشبه بعودة إلى حالة التمويل في العصر المُذَهب، كما حللها أدولف بيرل وغاردينر مينز في أوائل الثلاثينيات، مع التعقيد الإضافي المتمثل في أن أموال المساهمين الصغار توجِّهها الآن أيدي مديري الصناديق المشتركة الضخمة مثل بلاك روك وفانغارد.
يبدو لي هذا التحول أساسياً لفهم الوضع الاقتصادي والسياسي للسلطة في الرأسمالية المعاصرة. في أعقاب قرار المتعلق بسيتيزنز يونايتد في العام 2010، تبين أنّ الشركات الخاصة غير المدرجة ومؤسسيها هم المساهمون الكبار في أموال لجان العمل السياسي الجديدة. ويبدو أنّ ملياردير صناديق التحوّط روبرت ميرسر، على وجه الخصوص، قد أدرك تماماً أهمية أموال المستثمرين من القطاع الخاص في تمويل حرب المواقع الطويلة من اليمين. فقد كان له دور رئيس في تمويل القضية القانونية خلف القرار المتعلق بسيتيزنز يونايتد وكان من أوائل مَن استفاد من قواعده الجديدة لتوجيه الأموال إلى اليمين المتطرّف المناهض للمؤسسة.
نشهد صعود طبقة جديدة ميراثية من مستثمري القطاع الخاص القادرين على الاستفادة من الأموال المؤسسية لجمع ثروات شخصية هائلة. وما الانتشار الأخير للمكاتب العائلية إلا أوضح علامة على تركّز الثروة الشديد
يقف ميرسر عند تقاطع سلالة قديمة من المانحين النشطاء، على شاكلة الشركات الخاصة لعائلتي كوتش وديفوس، وبين مجموعة جديدة من الشخصيات اليمينية الجمهورية، من أمثال فيفيك راماسوامي وجي. دي. فانس وبيتر ثيل، جمعت ثرواتها في عالم الاستثمار الخاص. من الناحية العملية، عملت شركات رأس المال المغامر وصناديق التحوّط كملاذات تمكّنت فيها الطغمة المالية اليمينية الشابة من تأسيس ممالكها الخاصة وفرض تسلسلاتها الهرمية من دون أن تثقلها بيروقراطية الشركات العمومية. أعاد هؤلاء الرواد السياسيون إحياء النقد الليبرتاري القديم لإدارة الشركات، ليقدّموا أنفسهم ممثلين لرأسمالية «مناهضة للووك anti-woke» أكثر بطولية، تتوجه نحو المستقبل التكنولوجي بقدر توجهها نحو ماضٍ إقطاعي متخيل. يحتفي ثيل، بصفته من رعاة الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، بالهالة السحرية للشركة التي يسيطر عليها المؤسّس، ناسباً إليها صفات ثقافية خاصة لا يمكن العثور عليها في الشركات المدرجة. ويقول إن شركات التكنولوجيا التي يسيطر عليها المؤسّس «تشبه الممالك الإقطاعية أكثر من المنظمات المفترض أنّها أحدث». يرتكز الإنتاج الثقافي اليميني في وادي السيليكون على أسس اقتصادية حقيقية، إذ يعكس الحريات الفريدة التي يتيحها رأس المال الخاص والإحساس القوي بالسلطة السيادية التي يكتسبها الجيل الأول من العائلة.
الثورة المضادة واليمين المتطرّف
ينشغل الكتاب باليمين المتطرّف لسبب واضح مؤداه أن الحزب الجمهوري لم يعد من الممكن تمييزه عن فئته اليمينية المتطرّفة. بيد أن التيار الديمقراطي المحافظ في الجنوب كان ولسنوات كثيرة مَن يمارس دوراً مماثلاً لدور المحرضين اليمينيين المتطرفين داخل الحزب الديمقراطي. وكما أشير سابقاً، فإن الكثير من الأدوات المالية التي فاقمت إعادة توزيع الثروة صعوداً في العصر الحديث (على سبيل المثال، قيود الضرائب والإنفاق ومعارك سقف الدين والتعطيل في مجلس الشيوخ وتعديل الميزانية المتوازنة) صاغها للمرة الأولي الديمقراطيون المؤيدون لسياسات جيم كرو.
حاول الكثير من الديمقراطيين المحافظين الجنوبيين، ممن كان تأثيرهم محسوساً بدرجات متفاوتة طوال القرن العشرين، الحفاظ على تقاليد تفوّق العرق الأبيض من خلال تبني موقف الرفض المطلق في مواجهة الأوامر الفيدرالية. وحين دعت المحكمة العليا إلى إنهاء الفصل العنصري في الجنوب في قضية براون ضد مجلس التعليم في العام 1954، حاول الديمقراطيون الجنوبيون، من أمثال السيناتور هاري بيرد، إحياء روح جون كالون بالدعوة إلى إبطال القانون الفيدرالي. كان جيمس ماكگيل بوكانان أكثر براغماتية، ورأى أحلام الكالونيين بالانفصال قضية خاسرة وقَبِلَ واقعَ المساواة الرسمية المقرّر بقوانين الحقوق المدنية وحقوق التصويت في الستينيات. ونتيجة لذلك، كان مشروع بوكانان إعادة إحياء التسلسل الهرمي العرقي بوسائل أخرى، أعني بوسائل مالية. في المقابل، ظل الليبرتاريون من «المحافظين القدامى» الأكثر راديكالية، من أمثال موراي روثبارد، على التزامهم بمشروع اليمين المتطرف الخاص بالإبطال والانفصال؛ ولهذا السبب حملوا على الدوام موقف المتشكك من بوكانان.
حتى العقد الثاني من الألفية الجديدة، أثبتت توقعات بوكانان بشأن الإمكانيات السياسية أنّها صحيحة. لكن مع صعود حركة حزب الشاي، لم تعد المكاسب الرسمية لعصر الحقوق المدنية تبدو آمنة، إذ نشهد حملة نشطة يشنها الحزب الجمهوري لإحياء قيود التصويت التي كانت نافذة في حقبة جيم كرو. هذه السياسة المناهضة للديمقراطية تترافق مع روح جديدة من الراديكالية في السياسات المالية للحزب الجمهوري، إذ نرى استعداداً أبوكاليبسياً للمخاطرة بإمكانية التخلف عن سداد الديون السيادية. لقد فكر بوكانان في هذا الاحتمال، ولكن ما نراه في الحزب الجمهوري اليوم يشير إلى تحوّل من روح بوكانان المتمثلة في الثورة المضادة المنهجية إلى نوع من الرجعية الثورية التي تتبنّاها الأجنحة اليمينية المتطرّفة في المحافظين القدامى.
نجد هكذا رجعية ثورية، وهي موضوع الفصل الرئيس الأخير من كتابي، عند اليمين الديني (المتطرف) وفهمه للعلاقة بين سياسات الإنجاب والدَيْن الوطني. يبدو لي أنّ هذا عنصر يزداد أهمية في السياسات المالية والنقدية لليمين الجمهوري، ولكنه عنصر يتجاهله المحللون اليساريون باستمرار. (أود المجازفة بالقول إنّه يَسهُل عادةً على اليساريين التعرف إلى اليمين المتطرف العنصري أو العنصري الأبيض؛ وهذا يصعّب من قراءة اليمين الديني لأن اللغة التي يستخدمها، عبر الكاثوليكية، تكون في الغالب مناهضة لتحسين النسل صراحة. في أوج قوة حركة حزب الشاي في العقد الثاني من الألفية، كان أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري يشرحون مراراً وتكراراً معارضتهم لرفع سقف الدَيْن بحجة أنّه طريقة للدفاع عمّن لم يولَد بعد. وكان من الصعب على أي شخص غير ملم بالتعاليم الدينية أن يفهم هذا على حقيقته، أو أن يتخيل أن القرارات المتعلقة بالميزانية قد تكون مدفوعة حقاً بالإيمان بالعقيدة الألفية المسيحية (Christian millenarianism).
المستقبل المالي والنقدي للأمة في رأيهم يعتمد على إخضاع النساء لواجب رعاية مولودهن والإنجاب. ونتيجة لذلك، رأوا في القيود على مديونية الحكومة طريقة للحد من الإجهاض، والعكس بالعكس
لكن وكما يحاول هذا الفصل أن يوضح، فإن المحافظين الدينيين يرون منذ فترة طويلة أنّ قضايا الإجهاض والدَيْن الوطني لا تقبل الفصل، وهذه الفكرة هي المفتاح لفهم سياساتهم في عرقلة الميزانية. لقد رأى المحافظون الكاثوليك والإنجيليون بدايةً من السبعينيات في تبني أنظمة أسعار الصرف العائمة وتشريع الإجهاض وزيادة دَيْن الحكومة الأميركية أماراتٍ مترابطة على انهيار الأمة. يمتلك المحافظون الدينيون ارتباطاً مباشراً مع اللاوعي الجنسي للحياة الاقتصادية، لذلك في حين قد يقلق النيوليبراليون من تضخم ميزانيات الرفاه وضغوط الأجور التضخمية، ويندب المحافظون التقليديون التفكك الأسري وانتشار ظاهرة الأمهات العازبات اللواتي يتلقين الرعاية الاجتماعية، يذهب المحافظون الدينيون مباشرة إلى جوهر المسألة: فقدان السيطرة الجنسية للرجال على النساء. فالمستقبل المالي والنقدي للأمة في رأيهم يعتمد على إخضاع النساء لواجب رعاية مولودهن والإنجاب. ونتيجة لذلك، رأوا في القيود على مديونية الحكومة طريقة للحد من الإجهاض، والعكس بالعكس.
ما حاولت قوله طوال الكتاب، وخصوصاً في هذا الفصل، أنّ سياسات التقشف تتجاوز بكثير القضايا الاقتصادية البسيطة التي نربطها عادة بها. فقد قضى المحافظون الدينيون سنوات عديدة، قبل فترة طويلة من تحقيقهم أي نجاح قضائي في معركتهم ضد قضية رو ووَيد، في محاولة توظيف الوسائل المالية للحد من وصول النساء إلى الإجهاض ووسائل منع الحمل. فالصعوبة الكبيرة في الحصول على الإجهاض (بما فيها التكاليف غير المباشرة لحجز موعد عند الطبيب والسفر وفقدان وقت العمل، فضلاً عن التكاليف المباشرة) تشكّل حاجزاً عالياً أمام النساء ذوات الدخل المنخفض وشكلاً من أشكال الانضباط الجنسي لا يتلقى من الاعتراف ما يلقاه الحظر الصريح. في هذا الفصل الختامي، تلتقي السياسة الجنسية الحميمة بالتقشف بالاقتصاد الكلي لدَيْن الحكومة.
نُشِر هذا المقال في The Law and Political Economy Project في 9 أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.