الديالكتيك الاجتماعي للذكاء الاصطناعي
- يقدّم كتاب ماتيو باسكينيلي «عين السيد: تاريخ اجتماعي للذكاء الاصطناعي» تصوّراً تاريخياً وديالكتيكياً للذكاء الاصطناعي، يُستخلص منه دور العلوم والتكنولوجيا في تعزيز التفاوت فيما لو نشأت من علاقات القوّة غير المتكافئة في المجتمع الرأسمالي، واستحالة أحلام التحرّر التكنولوجي إذا لم تتحقّق العدالة الاجتماعية أولاً.
يجسّد الذكاء الاصطناعي الابتكار الشامل في عصرنا الحالي، ويُصوّر في الغالب كأنّه مُطلق القدرة. ومن هنا، تأتي أهمّية كتاب ماتيو باسكينيلي الجديد، «عين السيد: تاريخ اجتماعي للذكاء الاصطناعي» (فيرسو، 2023)، الذي يقدّم تصوّراً تاريخياً وديالكتيكياً للذكاء الاصطناعي. جاء عمل باسكينيلي تتويجاً لسنوات من البحث في التاريخ المادي للعلوم وتلخيصِ المجتمع في خوارزميات والتناحرِ بين رأس المال والعمل في عصر الأنثروبوسين. يقارب باسكينيلي كل ذلك نقدياً من خلال عدسة كارل ماركس والمنظّرين اللاحقين المهتمّين بالابستمولوجيا التاريخية للعلوم وسيرورة العمل، مع الاستعانة إلى حد ما بعدسة النظرية العمّالية الإيطالية1.
في زمننا هذا، المسكون بالأحلام التقنية المتعلّقة بالتحوّلات الخضراء والرقمية، يتجاهل التركيز النيوليبرالي على «الفرص» الريادية لتوسيع أسواق رأس المال تحوّلاً هاماً يهدف إلى العدالة الاجتماعية والإيكولوجية2. تتطلّب هذه الضرورة الاقتصادية السياسية المُغرّبة منظوراً نقدياً من الأسفل. يسير باسكينيلي في الاتجاه الصحيح، لأنّ مسألة الاشتراكية مُدرجة في منطق الكتاب. وهو يرى الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا تعبّر عن العلاقات الاجتماعية المتصارعة وتؤثّر في السلطة، كما تفعل جميع الآلات، أو وسائل الإنتاج، في ظل حكم الرأسمالية. وكما كتب ماركس في رأس المال: «وسائل العمل ليست معياراً ينمّ عن درجة التطوّر التي بلغتها قوّة العمل البشري، بل إنّها، أيضاً، مؤشّرات تعكس العلاقات التي الاجتماعية التي جرى ذلك العمل في ظلها»3.
يتبع منهج باسكينيلي في تاريخ العلوم والتكنولوجيا خطوات منهج أتباع «النزعة الخارجية الاجتماعية» في العلم والابستمولوجيا التاريخية من أمثال بوريس هيسن وهنريك غروسمان وبيتر داميرو ويورغن رين4. وكما يوضح باسكينيلي صراحة، يهدف كتاب «عين السيد» إلى «دراسة وتقييم الجذور الاجتماعية المتعدّدة للذكاء الاصطناعي من منظور أتمتة العمل (منظور خارجي)، بدلاً من منظور (داخلي) يرى الذكاء الاصطناعي محض مشكلات منطقية حوسبية وأداء مهمات وتشبُّه بالبشر» 5. يهدف الكتاب بالأساس إلى تقديم تحليل للجذور الاجتماعية والاقتصادية للعصر الرقمي خالٍ من الأيديولوجيا ويتمحور حول العمل بالاعتماد على منهجية نقدية، يعرّفها على النحو التالي: «الابستمولوجيا التاريخية تهتم بالكشف الديالكتيكي عن الممارسة/البراكسيس الاجتماعية ووسائل العمل والتجريدات العلمية ضمن ديناميات الاقتصاد العالمي»6.
الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا تعبّر عن العلاقات الاجتماعية المتصارعة وتؤثّر في السلطة، كما تفعل جميع الآلات، أو وسائل الإنتاج، في ظل حكم الرأسمالية
هذه إعادة تفسير براكسيو-منهجية لمنهاج هيسن في التاريخ الاجتماعي للعلوم، يرى بموجبه العلم ثمرةً لثلاثة عوامل رئيسة: الاقتصاد السياسي والتكنولوجيا والإيديولوجيا7. بحسب هذه المقاربة، يمكن الافتراض أيضاً أن جميع التقنيات، بما فيها تقنيات العصر الرقمي، تقع عند تقاطع الممارسات الاجتماعية (مسألة اقتصادية)، والعلم (المتعلق بمكوّن المعرفة)، والثقافة المادية وصراع الطبقات (المحور السياسي). من وجهة نظر ماركسية، يجب فهم التقنيات الإنتاجية كـ«رأس مال ثابت»، أي كوسائل إنتاج، وتنظيم العمل، واغتراب العمل. ويطبّق باسكينيلي هذه المفاهيم النقدية على الذكاء الاصطناعي، ومن بين أشهر الأمثلة التاريخية عنده على ذلك آلات الحساب الخاصة بتشارلز باباج في القرن التاسع عشر، وإدخال الأدوات الإحصائية القائمة على التحليل الإحصائي الآلي إلى الكمبيوتر على يد فرانك روزنبلات في منتصف القرن العشرين.
في الواقع، يصل الكتاب إلى جوهر فكرته عند تطرّقه إلى اختراع فرانك روزنبلات للجهاز المعروف بـ«برسبترون» (Perceptron) في العام 1957. يخصّص باسكينيلي الفصل الأخير لهذا النظام الاصطناعي الذاتي التنظيم الشبيه بالدماغ (من وجهة نظر روزنبلات)، والبداية المادية للذكاء الاصطناعي. شكّل إنشاء أول تقنية للتعرف إلى الأنماط استناداً إلى الشبكات العصبية (وبالتالي القادرة على التعلّم أو، بعبارة أدق، التعلّم الآلي) علامة على بداية مسار تقني اجتماعي جديد. كان النموذج الأول، مارك آي برسبترون، يؤتْمِت التحليل الإحصائي ويستخدم طريقة التجربة والخطأ ليتعلّم كيفية التعرّف إلى الأنماط. وقد طوّر نظاماً للتعرّف إلى الأنماط من مستشعره، وهو كاميرا 20×20 بكسل تحتوي على 400 مستقبل فوتوغرافي، عبر عملية من ثلاث خطوات تنتقل من وحدات الاستشعار إلى الوحدات الترابطية، ثم إلى وحدات الاستجابة التي تتبع منطق تصنيفي ثنائي.
وبحسب باسكينيلي، فقد دمجت أتمتة الأدوات الإحصائية تقنيات القياس النفسي بقياس الذكاء والمهارات الإدراكية، وهو مجال كان روزنبلات باحثاً متحمّساً فيه. لكن الأساليب المترولوجية فرضت فهماً اختزالياً للعقل، إذ اختزلته إلى مجموعة من المهارات القابلة للقياس، ما أدخل تحيّزاً يمكن وصفه بـ«الخطيئة الأصلية» للذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، كان البرنامج الرامي إلى قياس الإدراك جزءاً من علم، هو علم القياس النفسي، نشأ بالتحديد لغاية التطبيع الاجتماعي. وبالتالي، يشير نقد باسكينيلي السياسي-الإبستمولوجي إلى أنّ التحيزات التصنيفية مضمّنة بنيوياً في الذكاء الاصطناعي، وليست بأي حال عامل عشوائي في تقنيات تبدو محايدة. في الواقع، تتعلّم الآلات كيفية التصنيف بحسب فئات ثقافية مُشيّأة (الإيديولوجيات الطبقية عن العلاقات الاجتماعية والعرق والجنس، وما إلى ذلك): «منذ اختبار تورنغ، يُحكم على الآلات بأنّها ذكية عن طريق مقارنة سلوكها مع المعايير الاجتماعية»8.
يشير نقد باسكينيلي السياسي-الإبستمولوجي إلى أنّ التحيزات التصنيفية مضمّنة بنيوياً في الذكاء الاصطناعي، وليست بأي حال عامل عشوائي في تقنيات تبدو محايدة
سأتناول الكتاب بالعكس، مبتدأ من حيث انتهت قصة باسكينيلي، أي من إنجاز روزنبلات التكنولوجي، بغية إعادة تنظيم روايته في سردية أركيولوجية عن الذكاء الاصطناعي. تتكشّف السردية بالتماشي مع المنطق التطوّري للذكاء الاصطناعي، بدءاً من اعتبارات عامّة عن ظهور الخوارزميات من التجريدات الحسابية في العصور القديمة وتلك الخاصة بالحواسيب في العصور الحديثة، وصولاً إلى تنظيم العمل في ظل الرأسمالية منذ الثورة الصناعية. تسمح لنا هذه القراءة العكسية بتوضيح أفضل لكيفية تتبع باسكينيلي نشأة الذكاء الاصطناعي في السياقات الثقافية-العلمية للقرن العشرين (المغطّاة في الباب الأخير «عصر المعلومات»)، ثم الرجوع إلى الوراء في العصر الذهبي للثورة الصناعية الإنكليزية وصراع الطبقات (الموجودة في الباب الأول «العصر الصناعي»)، ما يربط تاريخ الذكاء الاصطناعي بتاريخ أكثر عمومية للعمل والتكنولوجيا واستخراج المعرفة (الموصوف في المقدمة). تبرز القراءة بهذا الترتيب قوة اقتراح باسكينيلي لنظرية عن العمل في المعرفة تقلب الأساطير المحيطة باقتصاد المعرفة على أرضية بحث تاريخي-مادي.
يشكّل العصر الرقمي الذي بدأه الـ«برسبترون» محور الباب الثاني والأخير من الكتاب. هنا، يستكشف باسكينيلي الأفكار والممارسات التكنولوجية التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي. تظهر هنا ثلاثة أفكار حاسمة: أولاً، الهوس بالاستعارة البيولوجية للشبكة العصبية؛ ثانياً، المشكلة المتكرّرة للتعرف إلى الأنماط كحالة اختبار للذكاء؛ وثالثاً، «الاتصالية» و«الاستقلالية» كركيزتين مترابطتين للنموذج الإرشادي الإبستمولوجي للذكاء الصنعي (وإيديولوجيا له).
أمّا عن هوس الذكاء الاصطناعي بالشبكات العصبية، فيعرض باسكينيلي هذه الاستعارة بوصفها إرثاً لفكرة الطبيب النفسي العصبي كورت غولدشتاين وعالم النفس البيولوجي دونالد هيب عن اللدونة العصبية التي يمكن نقلها من فسيولوجيا الدماغ إلى الآلات9. في ورقة شهيرة من العام 1943 بعنوان «حساب منطقي للأفكار المتضمّنة في النشاط العصبي»، وهو نص رائد ظهر قبل صناعة محرّكات الحوسبة الحديثة، طرح كل من وارن مكولوك (عالم فسيولوجيا عصبية) ووالتر بيتس (رياضي) فكرة أن الخلايا العصبية يمكن محاكاتها بالوسائل التكنولوجية. وكان هذا الدافع الأصلي وراء تطوير ذكاءٍ اصطناعي يعيد إنتاج وظائف الدماغ. ولكن، كما يلاحظ باسكينيلي، لم يحاكِ مؤلّفا الورقة الطبيعة كما ادعيا. بل أعادا تفسير الخلايا العصبية بمصطلحات تكنولوجية، وبتحديد أكبر بتشبيهها بالدوائر الكهربائية التي ابتكرها المهندس كلود شانون ليعيد إنتاج العمليات المنطقية الثنائية الجبرية10.
علاوة على ذلك، بينما تنبع فكرة الشبكات العصبية من إعادة تفسير تكنولوجية للفسيولوجيا، ينبع التعرّف إلى الأنماط (ركيزة أخرى من ركائز الذكاء الاصطناعي) من علم النفس الإدراكي، وتحديداً من علم النفس الشكلي «الغشتالت». ويسمّي باسكينيلي هذا بـ«المستحاثة الإدراكية» لنظريات الغشتالت التي تُرجمت إلى تكنولوجيا طوبوغرافية إحصائية11. تعود الأسباب الأصلية لهذا التركيز على التعرّف إلى الأنماط إلى تحدٍ طرحه علماء الغشتالت إزاء برامج الذكاء الآلي لعلماء السيبرانيات الأوائل. دافع علماء الغشتالت عن عدم قابلية اختزال الذكاء البشري و«ملكته التركيبية المعقّدة»12. أما الإجابة السيبرانية (من نوربرت ڨينر وجيروم ليتفن وإمبرتو ماتورانا وآخرين) فقد نقلت النقاش إلى أرضية الحوسبة، فجادلت بأن التمثيل المنطقي ليس من الضروري أن يتطابق مع الموضوع المُمَثّل في الإدراك. بعبارة أخرى، لا يلزم أن يعكس التمثيل الشكل المُدرك، بل يمكن ببساطة ترجمته إلى أجزاء من المعلومات. ركّز علماء السيبرانيات على فسيولوجيا العين لأنّها كانت مثالاً على التركيب الإدراكي لا يتطلّب تدخّلاً أولياً من العقل البشري. بدلاً من ذلك، يستقبل عضو الرؤية وينقل المعلومات بطريقة مركّبة إلى الدماغ بمعزلٍ عن قدرة الأخير على تفسير الإشارة. بعبارة أخرى، لا ينفّذ الدماغ وحده الوظيفة التركيبية، فالعين لها دور أيضاً. لذلك، ما من سبب مقنع يدعو إلى وجوب أن يحمل الترميز المعلوماتي أي تشابه مع المرجع13.
علاوة على ذلك، يتضمّن خطاب الذكاء الاصطناعي إيديولوجيا الاستقلالية، وهذه تُرى على أنّها قدرة ذاتية التنظيم للدماغ يمكن إعادة إنتاجها بواسطة الخلايا العصبية الاصطناعية. رأى المفكّرون الليبراليون هذه القدرة الفسيولوجية على إقامة اتصالات من أسفل إلى أعلى كأصل عام للطبيعة والمجتمع، ومبدأ يفسّر أيضاً التنظيم الذاتي المزعوم للاقتصاد. وقد جادل فريدريك هايك، أحد المدافعين عن استقلالية السوق الحرّة، بعدم قابليتها للتنظيم. ولدعم حجّته، أقام هايك نظرية كاملة عن الاتصالية، وهي دفاع إبستمولوجي عن النظام «التلقائي» للسوق14. أمّا باسكينيلي، فقد رأى أن لهذه النظرية تأثير كبير في إيديولوجيا الذكاء الاصطناعي لأنّها لا تزال تشكّل «النموذج الإرشادي للشبكات العصبية الاصطناعية». وكما يشرح في كتابه فقد «استولى هايك على التعرّف إلى الأنماط وحوّله إلى مبدأ نيوليبرالي لتنظيم السوق»15. لا ريب أن التطبيع أكمل أشكال الإيديولوجيا، إذ يعيد تجسيد العلاقات الاجتماعية. لكن يبدو أن رؤية هايك تتجاوز الطبيعة لصالح فكرة التسيير اللاهوتية بما يذكرنا باليد الخفية عند سميث. تظل مسألة إمكانية فهم وحدة النظام المعقّد (الدماغ أو الاقتصاد أو السوق) وتوجيهه قضية تربط بين الابستمولوجيا والسياسة، كما يتضح من عمل هايك عن «الاتصالية». من منظور هايك، فإن السوق مساحة إبستمولوجية، إذ تعتمد على المعرفة في شكل تبادل للمعلومات (على سبيل المثال، لتحديد الأسعار). وبالتالي، فإن المعرفة الضمنية التي تنظّمها تقع فوق الوعي. لذلك، يتعذّر على أي من الفاعلين الوصول إليها أو توجيهها. يفترض هذا الموقف الهيترونوميا [سلطة من خارج الذات – م] في التطوّرات الاجتماعية16. وهو يعزّز الاغتراب بوضوح. تبدو السوق نفسها المحرّك الوحيد للسيرورات الاجتماعية. لكن يبرز تحليل ونقد بديل للهيترونوميا والاغتراب، لا يضعان الاستهلاك في المركز، بل الإنتاج. هذا البديل هو التصوّر الذي يكمن وراء اهتمام ماركس بالممارسة الجماعية الهادفة لأنشطة العمّال في المصنع.
يناقش باسكينيلي الهيترونوميا التكنولوجية والتناحرات في المصنع في الباب الأول من كتابه، مع إيلائه اهتماماً خاصاً للقرن التاسع عشر. في تلك الفترة، وخصوصاً في بريطانيا، ظهرت فكرة عن الآلات رأت فيها تجريدات مادية لأنشطة عمّالية ونمذجة تقنية لتقسيم العمل. وعلى الرغم من أن العمل الحيّ (من منظور ماركسي) له أولوية جينية على العمل الميت، يخضع الأول للأخير بسبب علاقة قوّة غير متماثلة. بناءً على هذا التصوّر، يلاحظ باسكينيلي أن «علاقات الإنتاج الاجتماعية (تقسيم العمل ضمن نظام الأجور) تدفع تطوّر وسائل الإنتاج (آلات والمحرّكات البخارية، إلخ) وليس العكس، كما ادعت وتدعي القراءات الحتمية التكنولوجية عن طريق جعل الابتكار التكنولوجي وحده محور الثورة الصناعية»17.
العلوم والتكنولوجيا تعزّز التفاوت إذا نشأت من علاقات القوة غير المتكافئة في المجتمع الرأسمالي. ويذكّرنا كتاب «عين السيد»، على خطا هذه التحليلات، باستحالة أحلام التحرّر التكنولوجي إذا لم تتحقّق العدالة الاجتماعية أولاً
يغلب على تحليلات الباب الأول من الكتاب الذي يركّز على العمل والتكنولوجيا واستخراج المعرفة تأثّرها بأفكار هيسن في سوسيولوجيا العلوم. يعيد باسكينيلي صياغة السؤال المطروح ليكون: ما الجذور الاجتماعية والاقتصادية للذكاء الاصطناعي؟ مستنداً في ذلك إلى عمل هيسن النموذجي عن الظروف الاجتماعية-الاقتصادية والتكنولوجية والإيديولوجية لميكانيك إسحاق نيوتن وربطها بالسياقات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي الحديث المبكر. يسعى باسكينيلي ليجيب عن هذا السؤال من خلال إدراج تاريخ آلات الحوسبة في تاريخ أطول للميكانيك، وعلى مستوى أساسي، في تاريخ العمل الذي تعيد الآلات تشكيله (كعمل ميت) وتنظّمه وتوجّهه. وبتحديد أكبر، ولأغراض الكتاب، يعيد باسكينيلي «صياغة نظرية العمل في الأتمتة في القرن التاسع عشر لتناسب عصر الذكاء الاصطناعي»18.
يشكّل الاتصال بين العمل الميكانيكي والإدارة جوهر نظريات واختراعات الرأسمالي الصناعي باباج الذي حلم بميكنة العمل العقلي بطريقة تشبه ميكنة العمل الجسدي في مصانعه. كان باباج قد خطا الخطوات الأولى في اتجاه استبق الآلات الإدراكية للذكاء الاصطناعي. ويمكن لنا اعتبار محرّك الديفرنس الذي ابتكره لحساب اللوغاريتمات نموذجاً أولياً للحاسوب الحديث، لكنه أيضاً تخيّل إمكانية وجود حاسوب عالمي، المحرّك التحليلي، الذي ألهم الرياضياتية آدا لوفلايس أولَ برمجة حاسوبية19. في نظر باباج، كانت مهمّة محرّكاته تكرار وتسريع الحسابات في إطار الإنتاج الصناعي وتقسيم العمل. وكما يوضح باسكينيلي، استندت جهود الميكنة إلى مبدأين أساسيين: (1) المحاكاة الميكانيكية واستبدال ممارسات العمل القائمة؛ و(2) قياس العمل كمّياً وشراؤه من خلال تقسيم العمل المميكن20. وفي رؤيته الصناعية للميكنة، «لا يقتصر تقسيم العمل على تأمين تصميم الآلات، بل يؤمّن خطّة العمل أيضاً»21.
تعارضت الرؤى الخاصة بتنظيم العمل الميكانيكي للعملين الجسدي والعقلي مع مقاومة العمّال ضد إهانة نشاطهم عبر استخدام الآلات التي عزّزت الإنتاج وزادت أرباح أصحاب العمل، لكنها جعلت حالة الطبقة العاملة هشّة وأبلَت الكثير من مهاراتهم. يركّز باسكينيلي على المشكلة الاجتماعية للميكنة في فصله الثالث، «مسألة الآلات». فيما يتعلّق بالميكنة، تتقاطع مشكلة التكنولوجيا والعلم في الاقتصاد الصناعي مع موضوع تشيئ العمل الذي ينتهي إلى سيطرة الآلات على العمّال22. تعمّق هذه الاعتبارات وعيَنا بعدم حيادية العلوم كما أخبرنا منذ الستينيات عدد من العلماء اليساريين في أعمال من قبيل «العلم والمجتمع» (1970) لهيلاري روز وستيفن روز أو «النحلة والمعماري» (1976) لمارسيليو تشيني، وعدد آخر من الفيزيائيين الماركسيين جادلوا بأنّ العلوم والتكنولوجيا تعزّز التفاوت إذا نشأت من علاقات القوة غير المتكافئة في المجتمع الرأسمالي23. ويذكّرنا كتاب «عين السيد»، على خطا هذه التحليلات، باستحالة أحلام التحرّر التكنولوجي إذا لم تتحقّق العدالة الاجتماعية أولاً.
لتقييم الوظيفة الاجتماعية للذكاء الاصطناعي، يطرح باسكينيلي رؤية تركّز على العمل في اقتصاد المعرفة في عصر الأنثروبوسين. وهو يستند إلى مرجع تقليدي: «الغروندريسة» لماركس، وتحديداً القسم المعروف عن الآلات. يعالج «عين السيد» صراحة مشكلة الذهن العام كما وردت في «الغروندريسة» ويُفسّرها كإسهام في دراسة مسألة عنصر المعرفة في المجتمع في العصر الصناعي24. ومن اللافت أن ماركس استلهم من باباج فكرة أن العمل أساس التكنولوجيا التي بدورها تُشكّل العمل. لكنه ومن خلال قلب وجهة نظر باباج رأى أن العمل هو المخترع الجمعي الحقيقي للآلات، ليخالف بذلك كل أساطير الاختراعات الفردية ومزاعم ملكية الرأسماليين25. على الرغم من ذلك، وفي ظل الظروف الاجتماعية غير المتكافئة، ومع صنع الآلة وتكويد المعرفة فيها، يصبح العامل موضوعاً للآلة ويخسر كرامته بصفته فاعل أو ذات المعرفة والعمل. يرتبط التاريخ التراكمي للمعرفة بالتاريخ التراكمي للآلات. والمهمة السياسية، كما أشار ماركس للعمّال المجرّدين، تكمن في استعادة المعرفة ووسائل الإنتاج، أي إزالة الاغتراب عن العامل الجماعي لرأس المال الذي يربط بين العمّال والآلات في المصنع، ومن ثم في المجتمع ككل 26.
يذيب باسكينيلي إلى تحليل التكويد التكنولوجي للعمل، أي العامل الابستمولوجي للإنتاج، الذي يتأسّس، بحسب الأطروحة الرئيسة في الفصل الخامس، من خلال الفصل الوظيفي للطاقة (المتعلق مباشرة بالجانب الجسدي للعمل) والمعلومات في الواقع شبه السيبورغي للعصر الصناعي27. والنمذجة الميكانيكية وتنظيم العمل، أو ما يمكن تسميته «العمل المجرّد»، تجعل من الممكن القياس والسيطرة (ركيزتا السيبرانية) وتخلق الوهم بوجود حلّ تكنولوجي للصراعات الاجتماعية بين العمّال ورأس المال. في الواقع، يرى باسكينيلي النمذجة التكنولوجية، بداية من محرّكات باباج إلى الذكاء الاصطناعي ما بعد روزنبلات، أحد أشكال استخراج الذكاء. إن ميكنة العمل (الجسدي والإدراكي على حدّ سواء) تجعل عملية الإنتاج غير قابلة للمصادرة (أو «فوق الوعي»، بعبارة هايك)، وتعزّز الاغتراب من خلال استبعاد العمّال من إمكانية تخطيط الإنتاج وتوجيهه. لذلك، في إطار التحليل السياسي للذكاء الاصطناعي، من المهم أن نضع في اعتبارنا أن «ما تقيسه المعلومات في النهاية وتوسطه ليس إلّا الصراع بين العمّال ورأس المال»28. ولا ينحصر هذا الصراع في المصنع، بل يشمل المجتمع بعدما تحوّل، بحسب أطروحة المنظّر العمّالي ماريو ترونتي، إلى مسرح الإنتاج الموسّع: المجتمع كمصنع موسّع29. ومن ثم، فإن العامل الجماعي (النتيجة شبه السيبورغية لربط العمّال والآلات عند ماركس) يجسّد الإنسانية المغرّبة في مجتمعات التحكّم الرأسمالي والمتكاملة من خلال البنى التحتية للذكاء الاصطناعي. تؤلّف هذه مكوّنات «الأُتموت الكربوني-السيليكوني»30. ويجسّد الذكاء الاصطناعي عنصر المعرفة في السيبورغ الاجتماعي؛ وبعبارة أدق، فإن الذكاء الاصطناعي هو أتمتة إشراف السيد: عين السيد.
يسلّط الذكاء الاصطناعي، وهو التعبير التكنولوجي الأكثر تطوّراً للذكاء المتجسّد في النشاط البشري، الضوء على المكوّن الفكري لجميع الأعمال في جميع العصور، بما فيها الأنشطة اليدوية والبدنية
تكشف لنا «جينالوجيا أتمتة العمل والسيطرة الاجتماعية واستخراج المعرفة» في الفصل الأول لباسكينيلي عن المقدمات الأساسية على المدى الطويل للذكاء والعمل، أو قل جذور الذكاء الاصطناعي الضاربة في القدم31. يناقش باسكينيلي المفهوم الأساسي في علوم الحاسوب ألا وهو الخوارزمية32. والخوارزمية «إجراء محدود من التعليمات خطوة بخطوة لتحويل مدخل إلى مخرج مع الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة»، لذا فهي في جوهرها عمل33. في الواقع، جميع الأعمال، من العصور القديمة حتى العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، تحتوي على مكوّن فكري. يرى باسكينيلي بالاستناد إلى رؤى من التربوي الهيغلي-الماركسي داميرو أن ظهور جميع أشكال المعرفة ديالكتيك من التجريد والتمثيل ينبع من الممارسات الفردية والجماعية34. ويعبّر هذا التجريد على الدوام عن الممارسة/البراكسيس، أي عن الصراعات المجتمعية والتوازنات الظرفية. وفي ظل المركزية التكنولوجية المألوفة والأيديولوجيات الانتهازية للحتمية التكنولوجية (في الخطابات النيوليبرالية عن التحوّلات الرقمية والإيكولوجية)، يمكن الردّ، كما يفعل باسكينيلي في خاتمة كتابه: «إن تشديدنا على أن العمل نشاط منطقي ليس تخلٍ عن عقلية الآلات الصناعية والخوارزميات الشركاتية، بل اعتراف بأن الممارسة البشرية تعبّر عن منطقها الخاص، عن قوة التخيل والاختراع، قبل أن تأسرها وتغربها التكنولوجيا»35. يسلّط الذكاء الاصطناعي، وهو التعبير التكنولوجي الأكثر تطوّراً للذكاء المتجسّد في النشاط البشري، الضوء على المكوّن الفكري لجميع الأعمال في جميع العصور، بما فيها الأنشطة اليدوية والبدنية التي كان من الصعب التصور أنّها أعمال فكرية حتى النقاشات الحديثة. ومن الأمثلة في هذا المقام صعوبة محاكاة مهارات سائق الشاحنة عن طريق تطبيق الذكاء الاصطناعي على المركبات ذاتية القيادة، إحدى حدود الذكاء اليوم، إذ تُظهر التعقيد العقلي للعمل بالعموم، وتؤكّد صحّة عبارة أنطونيو غرامشي: «جميع البشر مفكّرون، وإنْ لم يمتلك كل فرد وظيفة المفكّر في المجتمع»36.
نُشِرت هذه المراجعة في Monthly Review في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتُرجم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.