Preview تحليل طبقي للانتخابات الرئاسية الأميركية

تحليل طبقي للانتخابات الرئاسية الأميركية

  • إن الأماكن التي تتركها الرأسمالية وراءها تنحدر إلى كساد جماعي، وجرعات زائدة من الوفيات، وانقسامات اجتماعية متفاقمة. وتستمر هذه الأزمات الاجتماعية في التفاقم إلى جانب اتساع فجوة التفاوت في الثروة والدخل والتعليم.
  • وصل التحوّل يميناً في السياسة الأميركية بعد العام 1945 إلى مرحلة الإرهاق الاجتماعي وعدم الفعالية. وربما بهذا تقوم الولايات المتّحدة بإعداد «صفقة جديدة» مُحتملة أخرى، مع أو من دون انهيار آخر على غرار ما حدث في العام 1929.

نعني بـ«النظام الطبقي» التنظيمات الأساسية في مكان العمل - العلاقات الإنسانية أو «العلاقات الاجتماعية» - التي تُنجِز عملية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. تشمل بعض الأمثلة تنظيمات السيد/العبد، والقرية الكُميونية، والرّاعي/القِن. ويستلزم مثال آخر، ألا وهو النظام الطبقي الرأسمالي المميّز، تنظيم صاحب العمل/الموظّف. وفي الولايات المتّحدة وفي معظم أنحاء العالم، أصبح هذا النظام الآن هو النظام الطبقي السائد. أصحاب العمل - وهم أقلية صغيرة من السكّان - يوجّهون ويسيطرون على الشركات والموظَّفين الذين ينتجون ويوزّعون السلع والخدمات. ويشتري أصحاب العمل قوة عمل الموظَّفين - وهم الغالبية العظمى من السكان - ويدفعونهم للعمل في مؤسّساتهم. وينتمي إنتاج كل مؤسسة إلى صاحب العمل الذي يقرّر ما إذا كان سيبيعه أم لا، وهو الذي يحدّد السعر، ويتلقى الإيرادات الناتجة ويوزِّعها.

وفي الولايات المتّحدة، تنقسم طبقة الموظّفين بشدّة على المستويين الأيديولوجي والسياسي. على الأرجح بقي معظم الموظّفين على صلة بالحزب الديمقراطي مع تراجع في الحماسة أو الالتزام. وهناك أقلية إنما متنامية داخل الطبقة لديها بعض الأمل في ترامب. وفقد الكثيرون الاهتمام وشاركوا بشكل أقل في السياسة الانتخابية. ولعل الأكثر انقساماً هم العديد من الموظّفين «التقدميين» أو «اليساريين»: بعضهم في الجناح التقدّمي للحزب الديمقراطي، وبعضهم الآخر في مختلف الأحزاب الاشتراكية، والخضراء، والمستقلّة، والأحزاب الصغيرة ذات الصلة، بل إن بعضهم انجذب بتردّد إلى ترامب. وربّما كان الموظّفون ذوو الأهواء اليسارية أكثر ميلاً للانضمام إلى الحركات الاجتماعية وتنشيطها (الحركات البيئية، والمناهضة للعنصرية، والمناهضة للتمييز الجنسي، والمناهضة للحرب) بدلاً من الحملات الانتخابية.

انتهز الساسة الجمهوريون والشخصيات الإعلامية الجمهورية الفرصة لتحويل الازدهار المتلاشي في فترة ما بعد السبعينيات إلى ماض أميركي مؤمثَل. تجنّبوا إلقاء اللوم على الرأسمالية التي يحرِّكها الربح. وألقوا باللوم على الديمقراطيين و«الليبراليين» الذين تكلِّف برامج الرعاية الاجتماعية الخاصة بهم الكثير

تشعر طبقة الموظّفين في الولايات المتّحدة على نطاق واسع بأنها ضحية للعولمة النيوليبرالية في نصف القرن الماضي. لقد جلبت موجات تصدير الوظائف في مجال التصنيع (وأيضاً مجال الخدمات)، إلى جانب موجات الأتمتة (أجهزة الكمبيوتر، والروبوتات، والآن الذكاء الاصطناعي)، في الأغلب أخباراً سيئة لهذه الطبقة. ومن أهم هذه الأخبار السيئة فقدان الوظائف، والدخل، والأمن الوظيفي، وتضاؤل فرص العمل في المستقبل، وانخفاض المكانة الاجتماعية. وفي المقابل، فإن الأرباح غير العادية التي دفعت أصحاب العمل إلى اتخاذ القرارات التصديرية والتكنولوجية تؤول إليهم. كما أدّت عمليات إعادة توزيع الثروة والدخل إلى تفضيل أصحاب العمل. شاهد الموظَّفون عملية إعادة التوزيع الاجتماعي الموازية للسلطة السياسية والثروات الثقافية، وشعروا بشكل متزايد بأن كل هذا يتحرّك بعيداً من متناول أيديهم.

كانت المشاعر الطبقية للموظّفين راسخة في تاريخ الولايات المتّحدة. وأدّى تطوّر الرأسمالية الأميركية بعد العام 1945 إلى تحطيم الوحدة الطبقية غير العادية التي تشكّلت بين الموظّفين في خلال فترة «الكساد الكبير» في الثلاثينيات من القرن العشرين. فبعد الانهيار الاقتصادي في العام 1929 وانتخابات العام 1932، تجمّع ائتلاف «الصفقة الجديدة» ذو العقلية الإصلاحية - والذي شُكِّل من قادة النقابات العمّالية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية القوية - بشكل داعم حول إدارة فرانكلين روزفلت التي حكمت حتى العام 1945. وقد حقّق هذا التحالف انتصارات ساحقة لم يسبق لها مثيل تاريخياً لفئة الموظّفين، بما في ذلك الضمان الاجتماعي، وتعويضات البطالة، والحد الأدنى الفيدرالي الأول للأجور، وبرنامج كبير للوظائف العامّة. وبنى هذا التحالف قاعدة هائلة من الموظّفين التابعين للحزب الديمقراطي.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، تعرّض كل اقتصاد رأسمالي رئيس آخر (المملكة المتّحدة، وألمانيا، واليابان، وفرنسا، وروسيا) لأضرار بالغة. وفي تناقضٍ حادّ، عزّزت الحرب الرأسمالية الأميركية. أعادت بناء الرأسمالية العالمية وركّزتها حول الصادرات الأميركية، والاستثمارات الرأسمالية، والدولار كعملة عالمية. وظهرت إمبراطورية جديدة أميركية بشكل مؤكّد، وشدّدت على شكل إمبريالي غير رسمي، أو «استعمار جديد»، ضدّ الإمبرياليات الرسمية الأقدم لأوروبا واليابان. أمّنت الولايات المتّحدة إمبراطوريتها الجديدة ببرنامج ووجود عسكري عالمي غير مسبوق. كان الاستثمار الخاص، بالإضافة إلى الإنفاق الحكومي، على كلّ من الخدمات العامة الشعبية والعسكرية بمثابة انتقال من الكساد والحرب (مع تقنين السلع الاستهلاكية) إلى ازدهار نسبي مختلف تماماً، من أواخر الأربعينيات إلى السبعينيات.

غطّت أيديولوجيا الحرب الباردة سياسات ما بعد العام 1945 في الداخل والخارج. وهكذا كانت مهمّة الحكومة على المستوى العالمي هي نشر الديمقراطية وهزيمة الاشتراكية المُلحدة. وقد برّرت تلك المهمّة الإنفاق العسكري الباهظ على نحو متزايد والتدمير الفعّال الذي نفّذته المكارثية للمنظّمات الاشتراكية والشيوعية والعمّالية. وسهّلت أجواء الحرب الباردة عملية تثبيط الاتجاه اليساري الذي شهدته السياسة الأميركية في خلال فترة «الكساد الكبير»، ومن ثم عكس هذا الاتجاه. تطهير النقابات من المجموعات اليسارية، بالإضافة إلى شيطنة الأحزاب اليسارية والحركات الاجتماعية بلا هوادة ووصفها بأنها مشاريع شيوعية قائمة في الخارج، قاد إلى تقسيم ائتلاف «الصفقة الجديدة». وأدّى هذا بدوره إلى فصل المنظّمات اليسارية عن الحركات الاجتماعية، وكلاهما عن طبقة الموظّفين ككلّ.

وعلى الرغم من بقاء العديد من الموظّفين موالين للحزب الديمقراطي (حتى مع انفصالهم عن المكوّنات اليسارية المضطهدة «للصفقة الجديدة»)، دفعت الحرب الباردة كلّ السياسة الأميركية نحو اليمين. استفاد الحزب الجمهوري من خلال تأييده القوي للحرب الباردة وجمع الأموال من أصحاب العمل المصمِّمين على تفكيك «الصفقة الجديدة». وقلَّصت قيادة الحزب الديمقراطي اعتمادها السابق على النقابات، التي أصبحت ضعيفة، والبقايا المحبطة والمعطِّلة لائتلاف «الصفقة الجديدة». وبدلاً من ذلك، سعت تلك القيادة إلى الحصول على أموال من الشركات الغنيّة نفسها التي انتفع منها الجمهوريون. وتضمّنت النتائج المتوقّعة فشل الحزب الديمقراطي في عكس التحوّل نحو اليمين في السياسة الأميركية. وعلى نحو مماثل، تخلّى الديمقراطيون عن غالبية الجهود الرامية إلى البناء على إنجازات «الصفقة الجديدة» أو المضي قدماً نحو الديمقراطية الاجتماعية. بل إنهم فشلوا على نحو متزايد حتى في حماية ما حقّقته «الصفقة الجديدة». وعمّقت هذه التطوّرات اغتراب العديد من العمّال عن الحزب الديمقراطي أو عن الانخراط السياسي برمّته. وسيطرت حلقة مفرغة هبوطية، مع لحظات صعود مؤقتة بين الحين والآخر، على السياسة «التقدّمية».

التفاوت الشديد في الثروة والدخل يقوِّض ما تبقى من الشعور بالانتماء المجتمعي لدى الأميركيين. والسياسة التي تسيطر عليها بشكل مُتزايد طبقة أصحاب العمل، وخصوصاً فاحشي الثراء، تنتج سخطاً وخضوعاً وغضباً موهنين للعزيمة بشكل واسع النطاق

هذه الحلقة المفرغة أوقعت في شركها الذكور البيض الأكبر سناً بشكل خاص. فمن بين فئة الموظّفين، حقّق هؤلاء أكبر استفادة من ازدهار 1945-1975. ومع ذلك، بعد السبعينيات من القرن العشرين، أدّت الأتمتة المدفوعة بالرغبة في المزيد من الربح التي قادها أصحاب العمل وقراراتهم بنقل الإنتاج إلى الخارج إلى تقويض وظائف ورواتب موظّفيهم بشكل خطير، خصوصاً في مجال التصنيع. وفي نهاية المطاف، انقلب هذا الجزء من طبقة الموظّفين ضدّ «النظام» - ضدّ المد الاقتصادي السائد. حزنوا على اختفاء الرخاء. وفي البداية، تحوّلوا إلى اليمين سياسياً. فالحرب الباردة أدّت إلى عزل وتقويض المؤسّسات والثقافة اليسارية التي كان من الممكن أن تجتذب الموظّفين المناهضين للنظام. وكانت التعبئة ذات الميول اليسارية ضدّ النظام ككل نادرة (على عكس المزيد من أشكال التعبئة المرتبطة بقضية واحدة حول قضايا مثل الجندر، والعرق، والبيئة). ولم يكن لدى النقابات ولا المنظّمات الأخرى الدعم الاجتماعي اللازم لتنظيم الموظّفين. أو ببساطة خشى هؤلاء من المحاولة. وحتى في الآونة الأخيرة، لم يُثِر النضال العمّالي والنقابي المتزايد الثيمات المناهضة للرأسمالية بشكل منهجي إلا على نحو ثانوي وهامشي.

انتهز الساسة الجمهوريون والشخصيات الإعلامية الجمهورية الفرصة لتحويل الازدهار المتلاشي في فترة ما بعد السبعينيات إلى ماض أميركي مؤمثَل. تجنّبوا بحرص إلقاء اللوم بشأن هذا التلاشي على الرأسمالية التي يحرِّكها الربح. وألقوا باللوم على الديمقراطيين و«الليبراليين» الذين تكلِّف برامج الرعاية الاجتماعية الخاصة بهم الكثير. وأصرُّوا على أن ضرائب مُفرِطة كانت تُهدَر على برامج اجتماعية غير فعّالة لصالح «الآخرين» (غير البيض وغير الذكور). وكرّر الجمهوريون أنه لو عمل هؤلاء الآخرون بالقدر نفسه من الجدّية والإنتاجية كما يعمل الذكور البيض، لكانوا قد استمتعوا بالرخاء نفسه بدلاً من السعي للحصول على «أموال سهلة من الحكومة». وتحوّلت أجزاء من طبقة الموظّفين المقتنعة بمثل هذا المنطق من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، ثم استجابت في كثير من الأحيان لشعار ترامب «لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى». وقد حفّز تحولهم الساسة الجمهوريين إلى تصوُّر قاعدة جماهيرية جديدة محتملة أوسع كثيراً من مزيجهم الحالي من الأصوليين الدينيين، ومُحبِّي الأسلحة، والاستعلائيين البيض. ولَمَحَ كبار الجمهوريين إمكانيات سياسية لم تكن متاحة منذ حوّل «الكساد الكبير»، في ثلاثينيات القرن العشرين، السياسة الأميركية يساراً نحو الديمقراطية الاجتماعية.

اليمين المتطرِّف الجديد في القرن الحادي والعشرين، المنبثق من داخل الحزب الجمهوري أو حوله، أعاد إحياء الوطنية الانعزالية الكلاسيكية المتمركزة حول شعار «أميركا أولاً». وقد أردَفَ اليمين المتطرِّف الجديد ذلك بلوم جميع العلل الاجتماعية على شرّ متأصل في الحكومة. وكان هذا اللوم من طبيعة ليبرتارية فضفاضة. ومن خلال عدم توجيه النقد أو اللوم للنظام الاقتصادي الرأسمالي، حصل الجمهوريون على الدعم المُعتاد (المالي والسياسي والصحافي) من طبقة أصحاب العمل. وشمل ذلك أصحاب العمل الذين لم يزدهروا كثيراً من التحوّل العولمي النيوليبرالي، وأولئك الذين رأوا فرصاً أكبر وأفضل في تحوّل اقتصادي قومي/حمائي، وكل أولئك الذين رَكّزوا لفترة طويلة على مشروع يقوده أصحاب العمل لتفكيك «الصفقة الجديدة» سياسياً وثقافياً واقتصادياً. وقد تجمّعت هذه العناصر المختلفة بشكل متزايد حول ترامب.

عارضوا الهجرة، وذلك غالباً من خلال تصريحات وتعبئة هستيرية ضد «غزوات» صُوِّرت على أنها تُهدِّد الولايات المتّحدة. وعَرّفوا الإنفاق الحكومي على المهاجرين (باستخدام ضرائب الأميركيين الأصليين «الكادحين») باعتباره إهداراً للمال على «آخرين» غير مُستحِقين. دافع ترامب عن وجهات نظرهم وعزّز عملية لوم موازية للمواطنين السود والبنيين والنساء باعتبارهم مستفيدين غير مُستحِقين لدعم حكومي يحصلون عليه في مقابل تصويتهم للديمقراطيين. تبنّى بعض الجمهوريين بشكل مُتزايد نظريات المؤامرة (نظرية «كيو أنون» وغيرها) لشرح مؤامرات متنوِّعة تهدف إلى إزاحة المسيحية البيضاء من السيطرة على المجتمع الأميركي. «لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى» و«أميركا أولاً» هما شعاران يُعبِّران عن الاستياء والمرارة والاحتجاج على استهداف مُتصوّر. ومن خلال إعادة استخدام صور الحرب الباردة، قام أنصار ترامب باستهداف الليبراليين والديمقراطيين والماركسيين والاشتراكيين والنقابات العمّالية وغيرهم ممن نظروا إليهم بشكل مُترادف على أنهم حلفاء مقرّبون يخطِّطون «لاستبدال» المسيحيين البيض. وقد أشار إليهم ترامب علناً على أنهم «آفات» سوف يسحقها/يهزمها بمجرد أن يصبح رئيساً مرّة أخرى.

إن الجزء الأكبر من طبقة الموظّفين الأميركيين لم يكسبه الجمهوريون، حتى الآن. وقد بقي في أيدي الديمقراطيين. ومع ذلك، استقر الانقسام الاجتماعي المتفاقم في كل مكان في الثقافة والسياسة الأميركيتين. إنه يخيف العديد من الذين ما زالوا داخل الحزب الديمقراطي ويعتبرونه أهون الشرين على الرغم من قادته «الوسطيين» والشركات المانحة لهم. وتشمل الأخيرة بشكل خاص الشركات المالية وشركات التكنولوجيا الفائقة التي قادت بشكل مربح فترة العولمة النيوليبرالية بعد العام 1975. تجنّبت القيادة الوسطية بشكل حثيث الإساءة إلى رعاتها من الشركات بينما استخدمت سياسة مالية كينزية مُعدّلة لتحقيق هدفين. الأول كان دعم البرامج الحكومية التي ساعدت في ترسيخ قاعدة انتخابية بشكل متزايد بين النساء والمواطنين السود والملوّنين. والثاني هو دعم إبراز السلطة العسكرية والسياسية الأميركية بقوة في جميع أنحاء العالم.

أثبتت الإمبراطورية الأميركية المحمية بهذه السياسات أنها مربحة بشكل خاص للدوائر المالية ودوائر التكنولوجيا الفائقة في أكبر الشركات في الولايات المتّحدة. وفي الوقت نفسه، بدأ جزء آخر من طبقة الموظّفين الأميركيين أيضاً في الانقلاب على النظام، لكنه وجد أن اليمين الجديد غير مقبول وأن «الوسطية» أكثر قبولاً بقليل. وقد احتفظ الحزب الديمقراطي حتى الآن بمعظم هؤلاء الأشخاص على الرغم من أن العديد منهم تحرّكوا بشكل متزايد نحو أبطال «تقدّميين» مثل بيرني ساندرز، وألكسندرا أوكاسيو كورتيز، وكوري بوش. ويحمل كورنيل ويست وجيل شتاين لافتات مماثلة في انتخابات هذا العام، لكنهما يصرّان على القيام بذلك من خارج الحزب الديمقراطي.

إن استبدال أماكن العمل المنظَّمة حول أصحاب العمل/الموظّفين بتعاونيات العمّال هو «الاستبدال العظيم» المختلف تماماً الذي نحتاج إليه. وعلى أساس إصلاحات تؤمّن بهذه الطريقة، يمكننا أن نبني المستقبل

اشتدّ العداء بين الحزبين الرئيسين في وقت أصبحت فيه معارضتهما أكثر تطرّفاً. ويستمرّ هذا في الحدوث لأنه لم يعثر أي منهما على أي حلول أو تنفيذ أي حلول للمشاكل المتفاقمة التي تحدق بالولايات المتّحدة. والتفاوت الشديد في الثروة والدخل يقوِّض ما تبقى من الشعور بالانتماء المجتمعي لدى الأميركيين. والسياسة التي تسيطر عليها بشكل مُتزايد طبقة أصحاب العمل، وخصوصاً فاحشي الثراء، تنتج سخطاً وخضوعاً وغضباً موهنين للعزيمة بشكل واسع النطاق. والسلطة المتقلِّصة نسبياً للولايات المتّحدة في الخارج تدفع الداخل إلى الشعور بهلاك وشيك. إن صعود أول قوة اقتصادية عظمى منافسة حقيقية (الصين) يثير شبح استبدال القطب العالمي الواحد، الولايات المتّحدة، قريباً.

ويلقي كل حزب رئيس اللوم على الطرف الآخر في كل الأمور التي تسير على نحو خاطئ. ويستجيب كلاهما أيضاً لتدهور الإمبراطورية من خلال التحرّك يميناً باتجاه نُسَخ بديلة من القومية الاقتصادية - «أميركا أولاً» - بدلاً من التشجيع على العولمة النيوليبرالية التي انغمس فيها الطرفان من قبل. يرفض الجمهوريون بعناية إلقاء اللوم على الرأسمالية أو الرأسماليين في أي شيء. وبدلاً من ذلك، فإنهم يلومون الحكومات السيئة، والديمقراطيين، والليبراليين، والصين. وعلى نحو مماثل، يرفض الديمقراطيون إلقاء اللوم على الرأسمالية أو الرأسماليين في أي شيء (باستثناء «التقدميين»، الذين يفعلون ذلك باعتدال). ويلوم الديمقراطيون في الغالب الجمهوريين الذين «أصيبوا بالجنون» و«يُهدِّدون الديمقراطية». إنهم ينصبون نسخاً جديدة من شياطينهم القديمة. وتُمثِّل روسيا وبوتين الاتحاد السوفياتي وستالين كأكبر أجنبيين فظيعين، ويأتي «الشيوعيون» الصينيون في المرتبة الثانية. وفي محاولة للتمسّك بالوسط السياسي، يدين الديمقراطيون الجمهوريين وخصوصاً أنصار ترامب/«لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى» لتحدّيهم آخر 70 عاماً من الإجماع السياسي. وفي نسخة الحزب الديمقراطي تلك من «الأيام الخوالي»، كان الجمهوريون والديمقراطيون العقلاء يتناوبون على السلطة بإخلاص. وكانت النتيجة أن الإمبراطورية الأميركية والرأسمالية الأميركية ازدهرتا أولاً من خلال المساعدة في إنهاء الإمبراطوريات الأوروبية المنهكة، ثم من خلال الاستفادة من الهيمنة العالمية أحادية القطب للولايات المتّحدة.

تتظاهر خطط بايدن بأن الإمبراطورية الأميركية ليست في تراجع. وفي العام 2024، يقدِّم المزيد من سياسات المؤسسة القديمة. ويتظاهر ترامب بشكل أساسي بالشيء نفسه فيما يتعلّق بالإمبراطورية الأميركية، لكنه يختار بعناية المجالات المُشكِلة (مثل الهجرة، والمنافسة الصينية، وأوكرانيا) التي يمكن أن يصوِّرها على أنها فشل في القيادة الديمقراطية. لا يوجد شيء أساسي خاطئ في الإمبراطورية الأميركية وآفاقها في نظره. الضروري، في نظره، هو رفض بايدن وسياساته باعتبارها غير قادرة على إحياء الإمبراطورية. وبالتالي فإن خطط ترامب تدعو إلى قومية اقتصادية أكثر تطرّفاً تديرها حكومة أصغر حجماً وأكثر شرّاً.

يعمل كل جانب على تعميق الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين. ولا يجرؤ أي منهما على الاعتراف بالانحدار الأساسي على المدى الطويل للإمبراطورية والمشاكل الرئيسة (التفاوت في الدخل والثروة، والسياسة التي أفسدها هذا التفاوت، والدورات التجارية المتدهورة، والديون الضخمة) التي تراكمت بسبب أساساتها الرأسمالية. وهكذا تتحوّل المبارزة بين الحزبين إلى قضايا بديلة توفِّر مزايا انتخابية مؤقتة. كما أنها تُعزِّز عدم قدرة الجمهور على النقد والتغيير المنهجيين. كلا الحزبين يُناشِد بلا نهاية شعباً يتعمّق اغترابه مع زحف الانحدار المنهجي المتواصل إلى الحياة اليومية للجميع ومتاعبهم. ويكشف كلا الحزبين على نحو متزايد عن عدم أهميتهما على نحو متزايد.

ولا تُقدِّم حملة أي من الحزبين حلولاً للانحدار المنهجي. وكانت الحسابات الخاطئة الجسيمة للاقتصاد العالمي المتغيِّر وتقلص القوة السياسية الأميركية في الخارج هي السبب وراء السياسات الفاشلة التي انتهجها الطرفان في ما يتعلّق بأفغانستان والعراق وأوكرانيا وغزّة. والتحوّل نحو القومية والحمائية الاقتصادية لن يوقف هذا الانحدار. هناك شيء أكبر وأعمق مما يجرؤ أي من الطرفين على التفكير فيه يجري الآن. لقد حرَّكت الرأسمالية مراكزها الديناميكية مرّة أخرى على مدى الجيل الماضي. وهذه المرّة انتقل التحرّك من أوروبا الغربية، وأميركا الشمالية، واليابان إلى الصين، والهند، وما وراء ذلك، من «مجموعة السبع» إلى «البريكس». والثروة والسلطة تتغيّران بالتوازي.

إن الأماكن التي تتركها الرأسمالية وراءها تنحدر إلى كساد جماعي، وجرعات زائدة من الوفيات، وانقسامات اجتماعية متفاقمة. وتستمر هذه الأزمات الاجتماعية في التفاقم إلى جانب اتساع فجوة التفاوت في الثروة والدخل والتعليم. وقد وصل التحوّل يميناً في السياسة الأميركية بعد العام 1945، بشكل مطرد وإن كان بطيئاً إلى حد الجنون، إلى مرحلة الإرهاق الاجتماعي وعدم الفعالية. وربما بهذا تقوم الولايات المتحدة بإعداد «صفقة جديدة» محتملة أخرى، مع أو من دون انهيار آخر على غرار ما حدث في العام 1929.

ونأمل، حينها، أن يكون قد تمّ تعلم وتطبيق أحد الدروس الحاسمة «للصفقة الجديدة». إن ترك البنية الطبقية الرأسمالية للإنتاج من دون تغيير - أقلية من أصحاب العمل تهيمن على غالبية من الموظّفين - يمكِّن تلك الأقلية من التراجع عن أي إصلاحات قد تحقّقها أي «صفقة جديدة». وهذا هو ما فعلته طبقة أصحاب العمل في الولايات المتحدة بعد العام 1945. ويجب أن يتضمَّن الحل الآن تجاوز تنظيم أصحاب العمل/الموظّفين في مكان العمل. إن استبدال ذلك بتنظيم مجتمعي ديمقراطي - ما نطلق عليه في أماكن أخرى تعاونيّات العمّال - هو العنصر المفقود الذي يمكن أن يجعل الإصلاحات التقدمية تصمد. عندما يكون الموظّفون وأصحاب العمل هم الأشخاص أنفسهم، فلن يكون لدى فئة منفصلة من أصحاب العمل الحافز والموارد للتراجع عما تريده غالبية الموظّفين. إن استبدال أماكن العمل المنظَّمة حول أصحاب العمل/الموظّفين بتعاونيات العمّال هو «الاستبدال العظيم» المختلف تماماً الذي نحتاج إليه. وعلى أساس إصلاحات تؤمّن بهذه الطريقة، يمكننا أن نبني المستقبل. وبوسعنا أن نتجنّب تكرار فشل نصف القرن الماضي حتى في الحفاظ على إصلاحات مفروضة على رأسمالية انهارت واحترقت في ثلاثينيات القرن العشرين.

نشر هذا المقال في Economy For All في 11 نيسان/أبريل 2024

ريتشارد وولف

اقتصادي أميركي تركّز أعماله على الاقتصاد الماركسي والمنهجية الاقتصادية والتحليل الطبقي، هو أستاذ الاقتصاد الفخري في جامعة ماساتشوستس - أميرست، وحالياً أستاذ زائر في برنامج الدراسات العليا في العلاقات الدولية في جامعة نيوسكول في نيويورك. مُعدّ ومقدّم برنامج إذاعي أسبوعي بعنوان «Economic Update»، ومؤِّلف كتب عدّة منها «فهم الماركسية»، «الديمقراطية في العمل»، «المرض هو النظام: عندما تفشل الرأسمالية في إنقاذنا من الأوبئة أو من نفسها»، «فضيحة الرأسمالية: الانهيار الاقتصادي العالمي وماذا نفعل حيال ذلك»، «النظريات الاقتصادية المتنافسة: الكلاسيكية الحديثة، الكينزية والماركسية».