Preview الاستراتيجيات الإسرائيلية ضد الحياة الفلسطينية

الاستراتيجيات الإسرائيلية ضد الحياة الفلسطينية
نسيت أن أموت

  • إن تعطيل الحياة الفلسطينية من خلال السياسات أو إبادتها من خلال العنف، متأصّل في المشروع الصهيوني. ولهذا، تستهدف إسرائيل، في دورة العنف الحالية، مؤسّسات إعادة الإنتاج الاجتماعي كالمدارس والمستشفيات؛ وجيل المستقبل، أي الأطفال.
  • إن العلاقة الاستعمارية هي علاقة إنتاجية ومولّدة، وليست جامدة. فهي تعيد إنتاج نفسها ليس من خلال القوانين وسياسات الدولة فحسب، بل أيضاً من خلال تقسيم منهجي للجسد الاجتماعي برمّته.

مرّ 167 يوماً على بداية الإبادة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في 7 تشرين الأول/أكتوبر. بل إنّ وسائل إعلامية عديدة وصفت العام 2023، حتى من قبل هجوم حماس، بـ«العام الأكثر دموية على الإطلاق» على الفلسطينيين والفلسطينيات في الضفّة الغربية. فقد قتلت القوات الإسرائيلية 395 فلسطينياً وفلسطينية في الضفّة الغربية في ذلك العام، وكان المستوطنون مسؤولين عن 9 عمليات قتل أخرى. الحال أنّ عمليات قتل كهذه تمثّل إنهاءً مباشراً للحياة، لكن لا تزال إسرائيل تمارس أشكالاً أخرى من العنف تَحْول دون صنع الحياة الفلسطينية، منها مثلاً استهداف المشافي والمدارس. في فلسطين، إنّ حرباً معلنة تعني تصعيداً مكانياً وزمانياً لحرب بطيئة ومتواصلة على شعبها.

في هذا المادة، أستخدم نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي لكي أبيِّن أنّ تعطيل الحياة الفلسطينية من خلال السياسات أو إبادتها من خلال العنف، متأصّل في المشروع الصهيوني. ولهذا، تستهدف إسرائيل، في دورة العنف الحالية هذه، نوعين من إمكانات إعادة الإنتاج الاجتماعي: مؤسّسات إعادة الإنتاج الاجتماعي كالمدارس والمستشفيات؛ وجيل المستقبل، أي الأطفال. تريد إسرائيل القضاء على كل من الحياة والقدرة على إعادة إنتاج حياة مستقبلية. وبالتالي، مطلب وقف إطلاق النار ليس إلّا أقل القليل. فازدهار الحياة في فلسطين يتطلْب أكثر من مجرّد وقف القتل، إذ يتطلب ما وصفه ماركس بتحقيق طبيعة الكائن. والإبداع العصيّ على الوأد للمقاومة الفلسطينية يلقي أوضح ضوء على ما قد تعنيه طبيعة الكائن، وما يجب أن تعنيه.

إعادة النظر من خلال ماركس في صنع الحياة

استخدمت نسويات من تيّار إعادة الإنتاج الاجتماعي مصطلح صنع الحياة لتحديد طرق متعدّدة يعمل بها البشر على تحويل الطبيعة للحفاظ على أنفسهم وتلبية احتياجاتهم. أستخدمُ هذا المفهوم لفهم المقارنات والروابط والنتائج العاطفية بين عُقَد العنف الصهيوني، المباشرة وغير المباشرة. ولا بد لنا لكي ندرك استمرارية العدوان العسكري والاحتواء العسكري للحياة الفلسطينية أن نبدأ من زعزعة الإمكانات الفلسطينية لإعادة الإنتاج الاجتماعي وإضعافها والقضاء عليها. وصنع الحياة كمفهوم يوفّر لنا النسيج الضام التحليلي بين تلك العُقَد.

مطلب وقف إطلاق النار ليس إلّا أقل القليل. فازدهار الحياة في فلسطين يتطلب أكثر من مجرّد وقف القتل، إذ يتطلب ما وصفه ماركس بتحقيق طبيعة الكائن

يسير بنا ماركس في كتابه «المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام 1844» عبر تمييز دقيق بين العمل المغترب وغير المغترب. يبدو الأول في ظل التوجيه الرأسمالي «خارج العامل»، أما الثاني فيجعل فيه الإنسان من «نشاط الحياة نفسه موضوعاً لإرادته ووعيه». وكبشر نحن نفعل الأشياء عن قصد: نحن لا ندمج أنفسنا بعملنا (كما يفعل العنكبوت). يركّز عديد الماركسيين على الطعام والمأوى وسواهما للتدليل على منتجاتٍ تتأتى من فعل البشر في الطبيعة. لكنّ ماركس رأى في هذه الضرورات المجرّدة لصنع الحياة أمثلةً محدودة. إذاً، ما صنع الحياة بالمعنى غير المحدود؟

يستخدم ماركس كلمة الروحي 22 مرّة في عمله هذا. ويشير إلى عمل البشر بأنّه شكل من أشكال النشاط، في ظلّه «يتمظهر كل التنوّع الطبيعي والروحي والاجتماعي لنشاط الفرد». وقد أخذته قصدية العمل البشري وكونيته، إذ نحن لا نعمل فحسب في «ظل سيطرة الحاجة الجسدية المباشرة»، بل «بتحرّر منها» أيضاً، وهكذا ننتج «بحريةٍ حقاً وحصراً».

ويسود في كتابات ماركس التمييز بين صنع الحياة عبر أنظمة العمل الرأسمالية وصنع الحياة في ظل شروط الحرّية. وقد استخدم إطاراً أرسطياً وسّطه بهيغل ليناقش الحرّيات الصورية التي توجد في ظل الرأسمالية، وانعدام الحرية والاغتراب الكامن خلفهما. يتفق ماركس مع المنظّريين الليبراليين بأنّ شرط الحرّية تاريخي، وأنّه حتى في بداياته الأولى كان لا بد له من أن يتأسّس في تلك الضرورات المجرّدة لصنع الحياة. ويجادل على هذا الأساس بأنّ «فضاء الحرية» لا يبدأ فعلياً «إلا حين يتحدّد العمل بالضرورة والغايات النفعية الخارجية».

وعلى خطا ماركس يمكننا التمييز بين العيش (شكل من أشكال صنع الحياة في ظل الظروف الرأسمالية من الحرّيات الصورية والعمل المغترب) والازدهار (شكل من أشكال صنع الحياة كامنٌ في طبيعتنا البشرية).

وإذ إنّ التمييز صارخ عند ماركس، فمن الواضح أيضاً أنّنا في الحياة اليومية في ظل الرأسمالية نصادف في عديد المرّات ما أسمّيه الازدهار. إذا كان العمل المغترب عملاً تفرضه قوة خارجية على العامل، فإنّ العمل غير المغترب عملٌ يختاره العامل بحرّية ويقرّره بنفسه. ونحن لا نزال في ظل السياق العام للاغتراب المنهجي نربّي نباتاتنا وحيواناتنا وأطفالنا، ونمارس الفن والجنس الرائع – أي جميع أشكال العمل التي ننخرط فيها بحرّية نسبية. وفي «الغروندريسة»، يصف ماركس تأليف الموسيقى بأنّه «عمل حرّ حقّاً» ويتطلّب «عظيمَ جهد»، وهو «في الوقت نفسه جاد إلى أقصى درجة».

هكذا، حين تكتب الشاعرة الفلسطينية النسوية رفيف زيادة «نحن الفلسطينيون نستيقظ كل صباح لنعلّم الحياة لبقية العالم»، أقرأها تنظيراً نقدياً لاذعاً لسياسات صنع الحياة. أقرأها دعوةً للنظر فيما يحدث لصنع الحياة في فلسطين، سواء بمعنى العيش أو الازدهار.

النكبة وصنع الحياة

تستعمل إسرائيل 3 استراتيجيات كبرى ضدّ الحياة الفلسطينية: التهجير، والقتل العمد عبر الأجيال، والسيطرة على الخصوبة الفلسطينية. وإذ يفسّر الاستعمار الاستيطاني، كإطار تحليلي، هذه السياسة الحيوية للمشروع الصهيوني، فإنّ نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي ومفهومها الواسع عن صنع الحياة يقيّض لنا توثيق طرق متعدّدة تحاول من خلالها الدولة الصهيونية منع الفلسطينيين والفلسطينيات، لا من البقاء أحياء فحسب، بل من البقاء بشراً أيضاً.

قتل الفلسطينيين ليس «تجنيباً إنسانياً للموت»، إنّه «استخدام بيوسياسي وبلورة للحق في التشويه»، وهذا الإضعاف المستمر يخلق «نظام سلطة خانق» يربط المكان والزمان من خلال علاقات اجتماعية معقّدة من العنف والاحتلال

ويفيدنا في هذا المقام مفهوم الإضعاف العبقري لجاسبر بور. تقدّم لنا بور عبر دراسة لحياة السود والفلسطينيين تنظيراً عن الاقتصاد السياسي للقدرة الجسدية. بحسب بوار، تجمع أجهزة الدولة القمعية الموت والإضعاف في علاقة إنتاجية. وتحتفظ الدول بحق أن تكون المتعهّد الحصري للموت، لكن تبيّن بور أنّ قتل الفلسطينيين والفلسطينيات ليس «تجنيباً إنسانياً للموت»، بل على العكس خطوة نحو «إضعافهم منهجياً وكلياً» – إنّه «استخدام بيوسياسي وبلورة للحق في التشويه». وهذا الإضعاف المستمر يخلق «نظام سلطة خانق» يربط المكان والزمان من خلال علاقات اجتماعية معقدة من العنف والاحتلال.

يجب توسيع مفهوم بور عن الإضعاف ليشمل تشويه مؤسسات صنع الحياة. وهذا المعنى مكتنف في مفهوم بور حين تناقش «حرب البنية التحتية» أو هجوم إسرائيل على البنية التحتية بوصفها «مكوّناً أساسياً، بل مركزياً، في التنظيم البيوسياسي لانهيار إنساني مطواع». تبني بور عملها على عمل عمر جعبري سلامنكا، مستنسخة إشارته إلى السياسي الإسرائيلي دوف ويسغلاس حين وصف السياسة الإسرائيلية بأنّها «موعد مع اختصاصي تغذية. سيغدو الفلسطينيون والفلسطينيات أكثر نحولاً، لكنهم لن يموتوا».

وآمل في هذه المادة أن ألتقط استمرارية هذا الاعتداء على صنع الحياة واستمرارية هذه السلطة الخانقة وهذا الإنحال.

الاختلاف في الإنجاب

يُخصّص للسكان اليهود في إسرائيل النهج البيوسياسي المعاكس تماماً للنهج المخصّص للفلسطينيين والفلسطينيات. فقد كرّست إسرائيل منذ العام 1948 سياسات مؤيّدة للإنجاب في مؤسّساتها العديدة، مؤلّفة نظاماً إنجابياً عبر المكافآت المالية واللجان يضمن زيادة معدّل المواليد. وقد تتبع المنظّرون النقديون من أمثال سيغريد فيرتومين ونيرا يوفال ديفيس هذه المبادرات في جائزة البطلة لمَن لديها عشرة أطفال في العام 1949، والمركز الديموغرافي في العام 1968 مع صندوق تشجيع الولادة التابع له، ومؤخراً، المجلس الإسرائيلي للديموغرافيا في العام 2002. وبالمثل لاحظت ميرا فايس اعتناق الصهيونية فكرة تحسين النسل والهادفة تاريخياً من خلال «ثورة جسدية» إلى «خلق شعب جديد يناسب الأرض الجديدة». كان الجسم اليهودي المثالي المتأتي من هذه السياسات «رجولياً ويهودياً أشكنازياً ومثالياً وصحّياً» – أطلقت عليه فايس مسمى «الجسد المختار».

تشكّل تقنيتان واسعتان السياسة الحيوية الصهيونية، إحداهما تتمحور حول الخصوبة والأمومة والثانية حول تشخيص الجنين. وفي حين أنّ تقنيات الإنجاب المساعدة باهظة الكلفة في أماكن أخرى، فإنّها في إسرائيل مجانية

وفي الوقت نفسه، يحق لجميع الأمهات في إسرائيل الحصول على إجازة أمومة وحصول عدد كبير منهن على بدل الأمومة. يصف مواطنو تل أبيب المدينة بأنّها مدينة «معروفة بتدليل الأمهات الجُدد». تقيم مقاهي المدينة «أنشطة مخصّصة للأم وطفلها كأنشطة الفنون والحرف اليدوية والعلاج الطبيعي والتدليك وعيادات التمريض والنوم». وفي إطار هذا الازدهار، يكفل القانون للطفل اليهودي الإسرائيلي تعليماً عاماً مجّانياً في نظام مدرسي يحتل المرتبة الخامسة في العالم (متفوقاً على نظامَي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة).

واليوم، تشكّل تقنيتان واسعتان السياسة الحيوية الصهيونية، إحداهما تتمحور حول الخصوبة والأمومة والثانية حول تشخيص الجنين. وفي حين أنّ تقنيات الإنجاب المساعدة باهظة الكلفة في أماكن أخرى، فإنّها في إسرائيل مجانية. في العام 2010، أقر البرلمان الإسرائيلي قانون التبرّع بالبويضات المثير للجدل، وبموجبه يُسمَح للنساء بالتبرّع ببويضاتهن مقابل تعويض مالي، ما يتيح للنساء المصابات بالعقم طلب بويضات متبرّع بها. لكن تنصّ تعديلات القانون على وجوب أن تكون المتبرّعة بالبويضة ومتلقيتها من دين واحد، وهكذا من المستحيل على المرأة اليهودية التبرّع ببويضة لمسلمة أو مسيحية أو درزية والعكس بالعكس.

تظهر المجموعة الثانية من التقنيات بعد الحمل. تتصدّر النساء اليهوديات الإسرائيليات العالم في مجال طب الولادة ومراقبة الجنين، حيث تخضع 60% منهن لاختبارات تشخيصية قبل الولادة. ويفضّل الآباء الإسرائيليون الإجهاض، حتى في حالات «التشوّه» الجسدي البسيط، كالشفة المشقوقة، وعليه تقول فايس: «لا يقتصر الهوس الإسرائيلي بالخصوبة على الكمّية بل يمتد إلى النوعية أيضاً».

بطبيعة الحال لا تقتصر إعادة الإنتاج الاجتماعي لصنع الحياة الإسرائيلية على تقنيات الولادة وحدها. فالبنية التحتية المجتمعية والحكومية بأكملها تضمن ازدهار الحياة الإسرائيلية وإبادة/إضعاف الحياة الفلسطينية. وتختلف أساليب الإضعاف على طول فلسطين التاريخية. فالتقسيم المتعمّد لفلسطين إلى أنظمة سيطرة مختلفة يضمن العنف اليومي ضدّ الفلسطينيين والفلسطينيات في هذه الأراضي غير المعترف بها، وقد ذهبت نورا عريقات إلى القول بأنّ إسرائيل تحاول أن تحقق في غزة «عن طريق الحرب، ما تسعى إلى تحقيقه في الضفّة الغربية عن طريق الأحكام العرفية، وفي القدس الشرقية عن طريق القانون الإداري، وفي فلسطين التاريخية عن طريق القانون المدني». تمنع استراتيجيات إسرائيل بالقوة وبطرائق مختلفة، ومتوازية مع بعضها البعض على وجه التحديد بسبب هذا الاختلاف، الازدهارَ الفلسطيني عن طريق سيطرتها على المسارات الرئيسة لصنع الحياة.

تستخدم الهيئات الدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي مقاييس معينة للحكم على ما تسمّيه التنمية – ما أسمّيه الازدهار. ومن المقاييس التقييمية الشائعة في هذا السياق مقاييس الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والسكن والرعاية الصحّية والتعليم. في فلسطين، لا يصل الفلسطيني والفلسطينية إلى أي من هذه المقوّمات إلا من خلال التقنيات الاستعمارية. زِد على ذلك أنّ هذه المقاييس تشكل «قائمة» من نوع ما، وهنا أود لفت الانتباه إلى نموذج العمليات الإسرائيلي القابل للتعميم الذي يشكّل إطاراً يحتوي كل تلك المقاييس. بعبارة أخرى، تنظّم إسرائيل الفضاء والناس بطرائق معينة تضمن نمو القوة الاستعمارية وترسيخها.

العيش مقابل الازدهار

علّمتنا الأبحاث المناهضة للاستعمار أنّ المحيط حولنا يتشكّل من سياسات تنتج الطبيعة ليس كموقع للعمل البشري فحسب، بل كمقولة فكرية وتصوّرية أيضاً. خذ مثلاً مكان وجود السمك في فلسطين. يتغلغل طعم السمك ورائحته في خلايا التاريخ الفلسطيني. تنسج الحكايات الشعبية هذه الروايات التاريخية في حكايات ملك السمك، والشبث والثوم والفلفل يعهد بهذا التاريخ إلى الحواس. بيد أنّ المياه المحيطة بغزة ليست محايدة ولا خارج الأطر الاستعمارية. فلا يُسمح لصيادي غزّة بالصيد أبعد من 6 أميال بحرّية عن الشاطئ، في حين أنّ السمك لا يوجد إلا بعد الميل البحري التاسع. لا يلتقي الفلسطيني والفلسطينية مع المحيطات والصحاري والصخور والأسماك إلا من بوابة السيطرة الاستعمارية، وبهذا يتكوّن ما أسمته إليزابيث بوفينالي «جيونطولوجيا» السلطة الاستعمارية.

يساعد جدار الفصل العنصري ونقاط التفتيش المتعدّدة على خلق متاهة هذيانية من الشرعية عبر الأرض المُقطّعة حيث يُعاد إنتاج الفلسطيني قانونياً وعاطفياً كدخيل في كل عقدة اتصال مع الدولة الإسرائيلية

في العام 1967، أصدرت إسرائيل مرسوماً يقضي بمنع الفلسطينيين من حفر أي آبار جديدة من دون ترخيص. ولا يزال من المستحيل الحصول على مثل هذه التراخيص، لتمنع بذلك الفلسطينيين من حفر الآبار أو تركيب المضخات. يمثّل  نهر الأردن اليوم، وهو الذي دفن في واديه بعض صحابة النبي الثقاة، جرحاً في حياة الفلسطيني، إذ يُمنَع من الوصول إلى مياهه: ما يزيد عن 180 مجتمعاً ريفياً فلسطينياً في الضفة الغربية المحتلة بلا وصول إلى الماء.

والوضع في غزة أخطر حيث مياه الشرب «مالحة ملوحة البحر». وفوق ذلك، أبقت إسرائيل منذ العام 2007 الأطفال الفلسطينيين في غزة أسرى لما يسمّيه الجيش الإسرائيلي «حمية الجوع». يعيش ما يقرب من 80% من أطفال غزة على أقل من 1 دولار في اليوم، وبالتالي يعاني قسمٌ كبير منهم من الجوع يومياً، مع تضاؤل إمكانية حصولهم على سعرات حرارية كافية في خلال الحصار المستمر.

وبينما تقطِّع نقاط التفتيش أوصال الأرض، يضطر العديد من الأطفال الفلسطينيين إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مدرسة. ويُخصّص للمدارس العربية موارد تقل في المتوسط بنسبة 40% عن التعليم العبري (على أساس كل طالب). وفي العام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي قانون الدولة القومية، جرد بموجبه اللغة العربية من مكانتها لغةً رسمية، ما أجبر الطفل العربي على لغة أجنبية عنه.

وهكذا يُعاد إنتاج الفلسطينيين بلا توقف كمنفيين في وطنهم. بل حتى الطرق تقرّر وتكفل الإقصاء العنصري. فلون لوحات الترخيص يحدّد التنقل: لا يسمح للسيارات التي تحمل لوحات فلسطينية بالسير في الشوارع الإسرائيلية، بغض النظر عن بطاقة هوية سائقها. يساعد جدار الفصل العنصري ونقاط التفتيش المتعدّدة على خلق متاهة هذيانية من الشرعية عبر الأرض المُقطّعة حيث يُعاد إنتاج الفلسطيني قانونياً وعاطفياً كدخيل في كل عقدة اتصال مع الدولة الإسرائيلية.

تؤدي سياسات إعادة الإنتاج الاجتماعي التمييزية هذه إلى نتائج صارخة: أكثر من نصف العائلات العربية عُدّت فقيرة في العام 2020، مقارنة بـ 40% من العائلات اليهودية. وهنا، أود التشديد على العلاقة الاستعمارية كعلاقة إنتاجية ومولّدة، وليست جامدة. فهي تعيد إنتاج نفسها ليس من خلال القوانين وسياسات الدولة فحسب، بل أيضاً من خلال تقسيم منهجي للجسد الاجتماعي برمّته.

نسيت أن أموت

تُعبِّر إسرائيل اليوم عن جوهر الرأسمالية العالمية. فالتزام الدولة بالسيطرة غير المُهيمنة، وتسميمها للبيئة الفلسطينية، ورفضها الصريح لمعظم أشكال الديمقراطية، يجسّد الجوهر الخالص للرأسمالية بعد تجريدها من الأشكال البرجوازية. ينطوي ازدهار الحياة الإسرائيلية اليهودية على هدف آخر ووظيفة تتجاوز تهجير الفلسطينيين من الجسد الاجتماعي. ازدهارٌ كهذا – الطرق الجميلة والجنائن المروية – يسمح للمجتمع الإسرائيلي بتقليد الغرب، وبالتالي تكرار المجازات الاستشراقية القديمة عن الغرب المتحضّر مقابل الشرق البربري. كما أنّ مثل هذا التماهي يجعل الغرب أكثر تعاطفاً مع صنع الحياة الإسرائيلية حيث تستمر قيمة الحياة الإسرائيلية في دفاتر حسابات الغرب في الارتفاع فوق قيمة الحياة الفلسطينية.

على غرار ثورات العبيد في زمن ماركس ومقاومة الفيتناميين في ستينيات القرن العشرين، يتردّد صدى النضال الفلسطيني اليوم مع شريحة واسعة من المضطهدين ممن يرون نضالهم الخاص أو إنسانيتهم في نضال الفلسطينيين

حاولت في هذه المادة تبيان لماذا البنى التحتية لصنع الحياة في فلسطين سياسية على نحو فريد ومكثف، وكيف يرتبط ازدهار الحياة الإسرائيلية بإضعاف الحياة الفلسطينية. وقصة أورسولا ك. لي غوين القصيرة «السائرون بعيداً من أوميلاس»، تجسّد هذه العلاقة العنيفة. في تلك القصة، نتعرّف إلى مدينة تشبه مدن الحكايات الخيالية، أوميلاس، حيث ينعم مواطنوها بحياة مثالية ورغيدة. لكن في أوميلاس سرّ دفين يمثّل فعلها الشنيع الوحيد، ألا وهو وجود طفل يُبقَى عليه في بؤس دائم وحالة من الفاقة. بمجرّد بلوغ مواطني أوميلاس سناً معيّناً، يُسَرّ إليهم بهذه الحقيقة عن ازدهارهم، فيقبل معظمهم هذا كتضحية ضرورية لرفاههم، ويبتعد البعض عن أوميلاس، إلّا أنّ معظمهم يختارون البقاء. إنّ صور المدنيين الإسرائيليين وهم يبتهجون ويمنعون شاحنات المساعدات من الدخول إلى غزّة يجب أن تجعلنا نعيد النظر في رؤية لي غوين وتزعزع فهمنا التقليدي للعنف الاستعماري.

ولكن إذا كانت هذه المقارنة مع أوميلاس تنطبق على الإسرائيليين، فإنّها تقصر عن تمثيل الحالة الفلسطينية، لأنّ حالة الفلسطينيين والفلسطينيات أقصى وأشدّ من حالة طفل أوميلاس. فالشعب الفلسطيني يقترب من تعريف ماركس لطبيعة الكائن التي بدأنا بها هذه المادة.

لاحظ المناضل الجنوب أفريقي باري فنسنت فاينبرغ ذات مرة أنّ «عدداً كبيراً على نحو غير عادي من القصائد يأتي من شعراء فلسطينيين». وردّ شاعر فلسطيني على تعليق فاينبرغ قائلاً: «حُرِم شعبي من كل شيء إلّا من حقّه في الحلم». وهذه سمة استثنائية ولكنها ثابتة للحياة الفلسطينية على الرغم من 100 عام من العنف الاستعماري.

كلمات الشاعر الفلسطيني، ككلمات العديد من الشعراء الآخرين، تحمل تناقضاً عبقرياً. فمن ناحية، يؤرِّخ الفن الفلسطيني التهجير العنيف للفلسطينيين والسيطرة عليهم من الجسد الاجتماعي وداخله، ولكن من ناحية أخرى فإنّ وجود هذا الفن في ظروف الإضعاف بمثابة رفض للتهجير الفلسطيني. يجب أن تدفعنا مثل هذه التعبيرات عن حياة الفلسطينيين في الفن والحياة اليومية إلى التفكير في قول ماركس بأنّ الموسيقى «عمل حرّ حقّاً»، وأنّ مثل هذه الأعمال تشكّل فكرة مهيمنة مستمرة في إطار الاغتراب الرأسمالي ورغماً عنه.

فلسطين اليوم، كما أزعم، تجسّد هذا النوع من الإنسانية غير القابلة للكبت داخل الرأسمالية – ولهذا السبب، وعلى غرار ثورات العبيد في زمن ماركس ومقاومة الفيتناميين في ستينيات القرن العشرين، يتردّد صدى النضال الفلسطيني اليوم مع شريحة واسعة من المضطهدين ممن يرون نضالهم الخاص أو إنسانيتهم في نضال الفلسطينيين.

ويعلم المستعمرون الصهاينة قوة الإنسانية الفلسطينية. فقد قال الجنرال موشيه ديان ذات مرة إنّ قراءة أشعار فدوى طوقان أشبه «بمواجهة 20 فرقة من مغاوير العدو». تتحدّث طوقان عن فلسطين بهذه العبارات:

هذه الأرض سيبقى قلبها المغدور حياً لا يموتْ

في الأخاديد وفي الأرحام، سرّ الخصب واحد

قوَّةُ السرّ التي تُنبتُ نخلاً وسنابل تُنبتُ الشعب المقاتلْ

هذه الأرض امرأة 

فدوى طوقان، حمزة

وهذا «الحلم» الفلسطيني يتجاوز بالطبع الطاقات الإبداعية الشكلية (مثل تأليف الشعر أو الموسيقى)، إذ هو حلم بالعودة والأوطان والتاريخ، ما يشير إلى مجموعة من الجهود الواعية الهادفة للحفاظ على هذا «الحلم». مثل هذا العمل «العقلاني» الهادف إلى الازدهار الكامل للإنسان، هو في جوهره طبيعة الكائن. يشير بيرتل أولمان إلى أنّ أقرب ما توصل إليه ماركس لتعريف «طبيعة الكائن بالعموم» حين كتب: «الطابع الكلّي لطبيعة الكائن... متضمَّن في طبيعة نشاط حياتها؛ والنشاط الحر الواعي يمثِّل الطبيعة البشرية». ماذا يمكن أن نسمي شعباً يستمر بلا توقف، على الرغم من كل محاولة ضده، في ممارسة «نشاط حر وواع؟» في زمان ومكان آخر، نسمّيه العبيد الثائرين، أو الفيتناميين المقاومين. واليوم، بلا شك، نسميه الشعب الفلسطيني. أو شعب لا يزال يعبّر عن غريزة الإنسانية الأساسية على الرغم من العنف المستمر والتجريد من الملكية، غريزة أن يكون المرء حراً. وعلى حد تعبير محمود درويش:

صاحت فجأة جنديّةٌ:

هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟

قلت: قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت.

محمود درويش، في القدس

 

نشر هذا المقال في Spectre في 22 آذار/مارس 2024.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.