Preview Towards a new political economy of equality

نحو اقتصاد سياسيّ جديد للمساواة

في العام 2008، كتبتُ مقالةً بعنوان «وداعاً لعلم الفقر، أهلاً بعلم الثراء». وكان الافتراض الضمني هو أن مشكلة القارة لا تتجسّد في الفقر، بل الإفقار الناجم عن تراكم الثروة مفرط التركّز. ويشير هذا إلى ضرورة تغيير نظرتنا إلى الأمور. فإذا كان الفقراء مهمِّين، لا ينبغي لنا أن نركّز اهتمامنا عليهم، كما ترى الوصفات النيوليبرالية الجاهزة، بل على الآليات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية التي تعيد إنتاج الثروة المركّزة على نحوٍ فاحش. يعني هذا إنتاج تغيير معرفيّ في سيرورات التدخل الاجتماعيّ: يتعيّن علينا أن ننتج منهجيات تقيس التركّز المفرط للدخل والثروة والفروق المشينة من أجل قطع عملية إعادة الإنتاج البنيوي لعلاقات القوة غير المتكافئة.

أعرض في هذه المقالة 12 نقطة تسمح لنا بالتأمل في الاقتصاد السياسيّ للثروة واللامساواة. وسوف تسلّط الضوء على أهمية الإصرار على التخلي عن «علم الفقر» وتركيز التحليل على الاقتصاد السياسيّ لتوليد الثروة المركّزة التي تؤدي إلى فروق مشينة وتراكم قوة مضادة للديمقراطية. هكذا، على الجانب الآخر، سوف يتمحور هذا التحليل حول استحالة توليد ثروة غير مركّزة وفروقات مضبوطة إلا إذا مضينا نحو مساواة ديمقراطية؛ أيّ مساواة تحطم عدم تكافؤ القوى. في هذا الإطار، يجب أن يعود التحليل دائماً إلى العلاقة بين التراكم الاقتصاديّ والتراكم السياسيّ المركّزين، ضمن إطار الدورات الاقتصادية والأيديولوجية. على هذا النحو، ينطوي المنظور المقترح في هذه الصفحات الموجزة على قلب نظام اللامساواة الاستعماريّ والرأسماليّ التابع الذي تعيشه اقتصادات بلدان الجنوب.

1.   من «خفض التراكم» إلى ثروة غير مركّزة

شاع كثيراً في النقاشات التقدّمية أن مشكلة أميركا اللاتينية تتمثّل في أن نماذجها تولّد قيمة مضافة ضئيلة لأن نظامها الإنتاجي يقوم على تصدير السلع الأولية، وهو ما لا يولّد ثروة كافية لتحقيق القفزة التي تحتاجها بلداننا إلى الأمام. هذه مشكلة إن قمنا بتصدير النفط فحسب ولم نكرّر المواد الخام لإنتاج البنزين، مثلاً، أو حين نصدّر الليثيوم ولا نصنع بطاريات للسيّارات الكهربائية.

تنشأ الثروة المركّزة التي تؤدّي إلى فوارق مشينة عن «استعمار داخليّ» متولّد من ممارسة ثقافية للنخب الاقتصادية التاريخية والجديدة المسؤولة عن إعادة إنتاج منطق التبعية الذي أنجب الرأسمالية

اعتاد الناس القول إن البلدان النامية يجب عليها أن تصل إلى مستويات مشاركة في التصنيع مماثلة لمستويات مشاركة البلدان الغنيّة قبل أن تتمكّن من تحقيق «القفزة الكبرى». لكن منظّرو التبعية الماركسيون أظهروا بالفعل في القرن الماضي زيف الفكرة القائلة بأن التصنيع لا يؤدّي بالضرورة إلى الديمقراطية والمساواة من خلال استحداث وظائف رفيعة المستوى. فمشكلة المنطقة لا تكمن في افتقارها إلى الثروة اللازمة لتحقيق «القفزة الكبرى» فحسب، بل في أن نمط تخصّصها يتضمّن صيغة ضارّة في منطق توليد الثروة الخاص بها. في أحيان أخرى، أسميت، على نحوٍ مفارق وساخر، نمط الإنتاج هذا بتناقض لفظيّ: «نمط التراكم الخافض للتراكم». تولّد النخبة الاقتصادية، من خلال عمليات البحث عن ريع، والسلب الاجتماعي والاقتصادي والبيئيّ، تراكماً مفرط في تركّزه يستطيع أن يمكّن من تنمية بلداننا في ظل منطق توزيعيّ مختلف، حتى وفقاً للمعايير التي حدّدها التيار الاقتصاديّ السائد. لكن ليس العمّال أو المواطنين هم من يستهلكون الثروة المتولّدة، إنما يجري إيداعها في الملاذات الضريبية وربطها بنظم المضاربة المالية العالمية أو - في أفضل الأحوال - بسلاسل القيمة العالمية.

والحال، إن أميركا اللاتينية هي القارة التي تمتلك أكبر قدر من الودائع في الحسابات المصرفية الخارجية على مستوى العالم (Ramírez, 2023). وهروب رأس المال والودائع الخارجية متأصل في المنطق القائل بأن الأطراف «تغذّي» التراكم الرأسماليّ العالميّ من أجل إعادة إنتاجه. لكن هذا المنطق معاكس للمنطق الذي أرسته السرديات المحافظة: لا يهاجر رأس المال خوفاً من سلوك الأسواق أو اقتصاد بلداننا، إنما الثقافة الريعية لنخبنا الاقتصادية تؤدي إلى هروب رأس المال مما لا يسمح للتراكم أن يحدث داخل بلداننا ويحرمنا من إمكانية تأسيس أنظمة اقتصادية قوية. على سبيل المثال: تعادل ودائع الإكوادوريين في الملاذات الضريبية الخارجية 30% من الناتج المحليّ الإجماليّ. وهذه النسبة مقاربة لمتوسط أميركا اللاتينية (27%).

في هذا السياق، تشكّل السردية القائلة بأن «إنشاء الإطار المؤسسيّ يجب أن يكون أولوية اقتصادية من أجل جذب رأس المال بسبب عدم وجود استثمارات كافية» مغالطة سياسية. وأكثر من ذلك كذبة تاريخية. فعدم تهريب رأس المال الوطني (غير المرتبط بالدولة) الذي يُمكن استثماره داخل البلاد أهم من تدفق رأس المال من أجل الاستثمار الصناعيّ.

تنشأ الثروة المركّزة التي تؤدّي إلى فوارق مشينة عن «استعمار داخليّ» متولّد من ممارسة ثقافية للنخب الاقتصادية التاريخية والجديدة المسؤولة عن إعادة إنتاج منطق التبعية الذي أنجب الرأسمالية: الاستعمار. يشكّل تهريب الثروة المتولّدة في بلداننا إلى الملاذات الضريبية الخارجية منبع إعادة إنتاج المنطق الاستعماري الحيّ في وقتنا الحالي أكثر من أيّ وقت مضى. من هذا المنظور، يعني التغلّب على نموذج التراكم تحطيم الإرث الاستعماري الذي جعل الرأسمالية ممكنة، وإظهار أن استقلال دول الجنوب السياسي كان ممكناً لأنه ترافق مع تبعية اقتصاديّة تاريخيّة – حافظت عليه أيضاً - جرى فيها سلب هذه البلدان داخلياً لتعزيز التراكم خارجياً، والحفاظ على صحة الرأسمالية في بلدان المركز تالياً.

يجب أن يكون واضحاً، في المنطق التاريخي، أنه من أجل توليد تحوّل اجتماعي من أيّ نوع كان، لا بد من توليد قدر كبير من التراكم في خلال التحوّل. ويُمكن تطبيق منطق كهذا لأن النظام الإنتاجي وُلِد احتكارياً من قِلة، ويعيد إنتاج نفسه بمرور الوقت. في أميركا اللاتينية، في حالة السلع التي لا تساوي مقابل استغلال الحقوق، كثيراً ما يُعدّ القضاء على احتكار الأسواق أمراً ثورياً. من الضروري، في مواجهة تناقض ظاهري كهذا في النموذج الاقتصادي المذكور، مناقشة وتنفيذ نموذج جديد يولّد ثروة غير مركّزة ويحطّم الاستعمار الداخليّ لنخبة اقتصادية تاريخية تعيد إنتاج نفسها بمرور الزمن؛ كل هذا مع الجدال بمعنى الثروة التي يجب أن تتضمّن معانٍ أخرى للقيمة (حيث يكون حتى عدم التراكم ممكناً).

من يستطيع الادخار ليترك إرثاً؟ يُعدّ الادخار، في ظل أشكال التراكم الموجودة في بلداننا، سلعة كمالية. في المتوسط، يتمتع الخمس الأغنى من السكان فحسب بالقدرة على الادخار في أفضل الأحوال

2.   المشكلة ليست اللامساواة بل الفروق المشينة

لا تستحيل إقامة مجتمع متساوي فحسب، بل هو مجتمع غير مرغوب. تكمن المشكلة الحقيقية في الفروق المشينة الناجمة عن تركّز الثروة المتراكمة لدى أقل من 1% من السكان. من منظور العدالة، قلتُ إن - على الجانب السلبي للمساواة - من الضروريّ بناء مجتمعات لا تسمح فروقاتها بإنتاج سيرورات الاضطهاد والتمييز والتبعية والاستغلال بين البشر ومن قِبَلهم؛ ويستلزم هذا بدوره - على الجانب المؤيد (الإيجابي) للمساواة - خلق التقاربات الضرورية حتى ينجح الاعتراف المتبادل، ومعه إمكانية التبادل والأخوية والتضامن. وعملياً، يتضمن هذا المنظور التأكيد على السياسات العامة والتدخلات الاجتماعية التي تعزز نمطاً من المساواة يحطّم كل أشكال علاقات القوة غير المتكافئة: رأس مال/ عمل، رجل/ مرأة، أبيض/مُزج/ساكن أصليّ، مركز/طرف، محلي/أجنبي، إنسان/طبيعة. وعلى المستوى المنهجي، ينبغي أن يؤدّي هذا المنظور إلى إنتاج أدوات لتقييم متى يعاني مجتمع ما من الفروق المشينة، وما إذا كانت التدخلات العامة/الخاصة والاجتماعية تعمل على تقليلها، وما إذا كانت العلاقات النظامية للعمليات الاقتصادية والسياسية تنتج ديمقراطية متساوية أم لا. وسنعود إلى هذه النقطة لاحقاً (يُنظَر القسم 11).

3.   الملاذات الضريبية والإرث والجدارة

غالباً ما يجري اعتبار أميركا اللاتينية المنطقة الأكثر لامساواةً في العالم، ويرتبط هذا مباشرةً بتركّز الدخل. وقياساً بالدخل، هذا ليس صحيحاً. فالمنطقة الأكثر لامساواةً في العالم هي أفريقيا. وتظهر المشكلة البنيوية حين نقوم بتحليل تركّز الأصول أو الإرث (الثروة). أما إذا قيست اللامساواة بالدخل، لن تكون بشعة إلى هذا الحد، لكن من الممكن ملاحظة فروق فاحشة عند دراسة الثروة في مسار تراكم 1/50 أو 50/1: في حين يمتلك أثرى 1% من السكان حوالي 50% من أصول البلاد برمتها، يمتلك الـ50% الأدنى من السكان 1% من إجمالي الثروة الوطنية (يُنظَر wid.world).

التراكم المفرط للثروة ينجم من التركّز المفرط للإرث. في هذا الإطار، من النفاق أن تتحدث السرديات الليبرالية عن الجدارة من دون الإشارة إلى الموارد المالية البدائية وإعادة توزيع الإرث

المشكلة البنيوية من منظور تاريخيّ هي أن الأجيال تتوارث هذه الفروق المشينة. فالسرديات المحافظة غرست فكرة أن الإرث حق. وفي هذا المجال، النقطة الأولى التي يجب مناقشتها هي: من يستطيع الادخار ليترك إرثاً؟ يُعدّ الادخار، في ظل أشكال التراكم الموجودة في بلداننا، سلعة كمالية. في المتوسط، يتمتع الخمس الأغنى من السكان فحسب بالقدرة على الادخار في أفضل الأحوال. وبالنظر إلى مستويات الفقر والعمل غير الرسمي الذي لا يسمح بتوليد رواتب يُمكن التنبؤ بها على الدوام، تعيش الغالبية العظمى من الناس في المنطقة شهراً بشهر وحتى يوماً بيوم. إذا استطاع قلة الادخار، فإن قلة يرثون.

لكن من بين أولئك الذين يرثون، ترث نسبة كبيرة منهم الديون (مثل المواطن العاديّ الذي يعيش في شيلي أو المكسيك)؛ في حين أن عدداً قليلاً للغاية من الناس يرثون أصولاً وثروات بلا ديون. كما أن التراكم المفرط للثروة ينجم من التركّز المفرط للإرث. في هذا الإطار، من النفاق أن تتحدث السرديات الليبرالية عن الجدارة من دون الإشارة إلى الموارد المالية البدائية وإعادة توزيع الإرث. فتراكم الإرث هو أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من يولد فقيراً يموت فقيراً ومن يولد غنياً يعيش غنياً بنسبة تتجاوز 90%، كما يشير جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل. وبعيداً من الانتقادات التي يُمكن توجيهها لمفهوم الجدارة والتي أشارككم معظمها، تجدر الإشارة إلى أنه لن يكون ثمة مجتمع قائم على الجدارة ما لم يكن هناك دمقرطة للثروة من منظور عابر للزمن، وليس من منظور الحاضر فحسب، وهو ما يجب أن يكون مصحوباً بإضفاء طابع ديمقراطي على الأرض والائتمان والتكنولوجيا والتعليم الجيد والمشاركة في رأس مال الشركات العامة والخاصة (بالقول والتصويت).

لكن مرة أخرى، تقودنا مناقشة الإرث إلى ثقب اللامساواة الهائلة الأسود: الملاذات الضريبية. تتبع الأوليغارشيات طريقة بنيوية لحماية مواريثها، من خلال شبكة مالية متطوّرة توضّح ملكية أصولها من خلال الودائع في صناديق ائتمان خارجية. هكذا، تتوارث الأجيال اللامساواة على المدى البعيد؛ أما على المدى القريب، تتعمّق اللامساواة من خلال التهرّب من الضرائب. فتمر احتمالية إنشاء مجتمعات أكثر مساواتية تحطّم علاقات القوة - في هذا المجال - عبر تفكيك الإطار المؤسسي الذي جرى إنشاؤه لإعادة إنتاج مجتمع الامتيازات على مدار قرون وإلى أبد الآبدين!

4.   الفساد الخاص والعام وغسيل الأموال والملاذات الضريبية

يبدو أن كل الطرق تؤدي إلى الملاذات الضريبية. عادةً ما ننشغل بسيرورات الفساد على المستوى الجزئي، لكن المؤكد أن الفساد الممنهج واسع النطاق يؤدي إلى مسار الأموال الذي يقودنا بشكل ممنهج إلى الملاذات الضريبية. ولا تفيد هذه المناطق في تجنب دفع الضرائب فحسب، بل توفّر حيزاً لإخفاء الموارد التي جرى الحصول عليها بطريقة غير شرعية. ومن الضروري دراسة العلاقة بين البنوك الخاصة وكارتلات تهريب المخدرات (والمجالات ذات الصلة، مثل بيع الأسلحة والاتجار بالنساء والاتجار بالأعضاء وما إلى ذلك) في عملية «غسل الأموال». عادة ما يجري الكشف عن عمولات التعاملات التجارية مع الدولة، كما رأينا في المحاكمات العامة في بلدان مختلفة، مثل «وثائق بنما» أو «وثائق باندورا». أظهرت وثائق بنما، مثلاً، أن 214 ألف شركة ورقية أو غير شفّافة، ليس لها أي عمل تجاري سوى حساب مصرفي، تعمل في 200 دولة، بالتواطؤ مع 500 بنك و10 سياسيين، 12 منهم كانوا رؤوساء لدول مختلفة. في المقابل، كشفت وثائق باندورا، وهي أكبر تسريب للأسرار المالية من الشركات الخارجية (11.5 مليون وثيقة سرية)، عن 35 من قادة العالم (الرؤساء)، و330 مسؤولاً عاماً من 90 دولة ورجال أعمال مصنّفين من مجلة فوربس. ويواجه بعض الذين وردت أسماؤهم اليوم اتهامات بالفساد أو غسل الأموال أو التهرّب الضريبي1 . وتظهر هذه العمليات التي تنتهي في الملاذات الضريبية من خلال بنوك معيّنة في النظام المالي العالمي. ومن أجل دراسة الثروة، لا بد من تحليل الودائع في الملاذات الضريبية، والحسابات في الشركات الخارجية والبنوك المرتبطة بمثل هذه العمليات. وإذا أردنا مكافحة الفساد بطريقة بنيوية، لا بد من اتخاذ إجراءات ملموسة فيما يتعلّق بحيازة السياسيين والجهات العامة للموارد فيما يُسمى بالملاذات الضريبية. ربما جرى تقديم اقتراح رائد لمكافحة الفساد والتهرب الضريبي في الإكوادور حين تقرّر، من خلال استفتاء شعبي، أنه لا يُمكن لأي سياسي يرغب في الوصول إلى المناصب العامة عن طريق الانتخابات أن يمتلك موارد أو أصولاً في هذه البلدان2 .

5.   المعلوماتية المعرفية واستخراج الموارد الطبيعية

يخلق عدم التكافؤ في شروط التبادل والتراكم عن طريق سلب الحيازة تيّاراً من التملّك للموارد النقدية والمالية. وتعتمد البلدان ذات الدخل المرتفع على التملّك لصافي الموارد من بلدان الجنوب، بما في ذلك: 10 مليار طن من المواد الخام، و379 ساعة عمل بشرية، و27.2 إكساجول من الطاقة، و800 مليون هتكار من الأراضي (Dorninger, et al., 2021). ولا يكون هذا التملّك الصافي مترافقاً مع دفع صافي للأموال، لذا ينتج عنه فوائض إيجابية في الموازين التجارية لدول المركز (بالتواطؤ، غالباً، مع النخب الوسيطة في رأس المال العالمي).

تُعتبر الاستخراجية المعلوماتية المعرفية إحدى الأركان الأساسية للتراكم المركّز والفروق المشينة في القرن الحادي والعشرين

لا يرجع هذا إلى تفوق البلدان ذات الدخل المرتفع تكنولوجياً أو أنها أكثر إنتاجية. فالفارق السعريّ يرجع، كما أشار دورينغير وآخرون، إلى اختلال توازن القوى في الاقتصاد العالمي الذي يفرض أسعاراً أعلى من الدول الأكثر فقراً. ترتبط ثروات كبيرة، في البلدان المُصدّرة للسلع الأساسية، بتلك الشركات والأفراد ذوي الصلة بقطاع النفط والتعدين. ولا شك أن دراسة المفاوضات حول عقود النفط والتعدين أمر أساسي لفهم كيف تنشأ الفروق المشينة وكيف تحدث سيرورات التراكم الهائل.

يصعب بناء مجتمعات ديمقراطية تحافظ على فروق معقولة في الاقتصادات الريعية القائمة على استخراج الموارد الأولية. لكن في خلال التحوّل إلى الرأسمالية المعرفية، لا ترتبط زيادة قيمة رأس المال بالاستغلال في المصنع فحسب، بل بالاستغلال الذاتي للعمل في زمن «نتفليكس» الذي يتحدّث عن استقلالية واهية يحظى بها العامل لإدارة عمله، وكذلك في الاغتراب الذي يحدث على مدار اليوم وحتى خارج ساعات العمل. يُعدّ تراكم وقتنا ومعلوماتنا ومعرفتنا هو الاستراتيجية الريعية الكبرى لشركات التكنولوجيا الكبرى، مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وغيرها. تُعتبر الاستخراجية المعلوماتية المعرفية إحدى الأركان الأساسية للتراكم المركّز والفروق المشينة في القرن الحادي والعشرين بلا شك. ويتحقق جزء من إصلاح انخفاض معدل أرباح رأس المال على المستوى العالمي من خلال النزعة الريعية المعلوماتية المعرفية المرتبطة بأطر تنظيمية جديدة للملكية الفكرية، مدعومةً بتقنيات جديدة تسمح بالحصول على الريع المرتبط بالوقت المخصص لتوليد المعلومات والمعرفة (بما في ذلك «القرصنة البيولوجية» ومعرفة الأسلاف).

6.   الوساطة الاقتصادية والمالية ورأسمالية المخدرات

غالباً ما تتميّز البلدان التي تصدّر السلع الأولية بأنها تتاجر بالسلع المستوردة. وتشكّل الطبيعة الريعية للوساطة بين المستوردين والمصدّرين، على حد سواء، أحد المصادر المركزية لتراكم الثروة وأحد العوائق البنيوية أمام توليد القيمة المضافة في اقتصاداتنا.

لا يرتبط العنف الذي تزايد في المنطقة بين كارتلات المخدرات بالسيطرة على مناطق معيّنة فحسب، بل بالصراع بين البنوك من أجل الاستيلاء على هذه الودائع

عادةً ما تكون معظم المنتجات التي تشتريها الدولة بضائع مستوردة. إن تحليل المشتريات العامة من الواردات، وضغوط التجار المستوردين والمصدّرين في مجالات التجارة الخارجية للدولة، يسمح لنا بفهم التراكم المركّز. في المقابل، فيما يتعلّق بالسلع الأولية المصدّرة، يسمح لنا تحليل سلسلة القيمة مع التركيز على الوساطة بين تكاليف الإنتاج وبيع السلع (الزراعية) المصدّرة بفهم التراكم المفرط لرجال الأعمال العاملين في تصدير السلع الزراعية، وليس فقر الفلاحين فحسب (الفلاحين الأصليين في الأنديز وأميركا الوسطى والمكسيك). أخيراً، تُعدّ دراسة الوساطة المالية التي تمارسها البنوك وتتولد من الضغوط الجماعية في الأطر التنظيمية - بالإضافة إلى تعزيزها بالآليات التقنية والتكنولوجية المستُخدمة في توليد أرباح مفرطة - أساسية لفهم سيرورات إعادة إنتاج الفروق المشينة. لكن دراسة هذه الوساطة، في وقتنا الحالي، ليست كافية.

ترتبط الآلية الأخرى لاستعادة مكاسب رأس المال، حالياً، بالنزعة الريعية المتولدة في إطار رأسمالية المخدرات. والسبيل الآخر الذي يتيح لنا رؤية عمليات توليد الثروة المركّزة هو تجارة «اللقاحات» (أو ببساطة العيش) التي يجري إنشاؤها على المستوى الجزئي، وارتباط كارتلات المخدرات ببعض البنوك والملاذات الضريبية. فلا يرتبط العنف الذي تزايد في المنطقة بين كارتلات المخدرات بالسيطرة على مناطق معيّنة فحسب، بل بالصراع بين البنوك من أجل الاستيلاء على هذه الودائع. يجب أن يكون تتبع الأموال غير المشروعة جزءاً من أجندة البحث بشأن الثروة المتركزة.

7.   الدَيْن الخارجي القانوني وغير القانوني

يعيد النزاع على سلطة الدولة من قِبَل ممثلي المصالح الاقتصادية إنتاج البحث عن الريع من خلال ضمان معايير الدولة ومؤسساتها لهذا الغرض. وترتبط الطريقة الأكثر فعالية لتوليد هذا التركّز بالاقتصاد السياسيّ للدَيْن. هذه السيرورة ليست بجديدة، بل يعود تاريخها إلى سيرورات الاستقلال السياسي لدولنا.

عند تحليل شروط القروض وإعادة هيكلتها من خلال عملية بيع وشراء السندات، يُمكن الكشف عن التجاوزات (من ناحية قانونية وشرعية على حد سواء) التي حدثت في بلداننا في خضم هذه العمليات. وفي سياق عمليات تدقيق الديون، جرى الكشف عن انتهاكات مثل أسعار فائدة مرتفعة وعمولات باهظة وشروط تعسفية وقروض ممنوحة من دون الترخيص الواجب أو الامتثال للمتطلبات القانونية. وهذا جزء من تاريخ بلداننا. ليس من قبيل المصادفة، اليوم، أن الحكومات النيوليبرالية في أميركا اللاتينية على مدار السنوات الخمس الماضية مارست المعتاد من خلال توليد سيرورات مديونية ضخمة تذهب إلى الخارج من دون أن يُعاد استثمارها في البلاد. ويبدو أن المؤسسة الأميركية الرسمية، تنظر إلى أميركا اللاتينية من حيث التراكم المرتبط بسلب الحيازة، حيث كانت حزم المساعدات المقدمة إلى الرئيس الأرجنتيني ماكري في العام 2018 (57 مليار دولار أميركي)، وإلى رئيس الإكوادور مورينو في العام 2019 (4.5 مليار دولار أميركي)، مشروطة بإجراءات التقشف التي أدّت إلى انفجارات اجتماعية متوقعة. ويؤدّي هذا الدَيْن إلى توليد التراكم لدى نخبة اقتصادية، بالإضافة إلى أنه يعيد إنتاج الظروف اللازمة لتقييد أيدي الحكومات التي تهدف إلى خلق خطط شعبية لإعادة التوزيع تستهدف الغالبيات الاجتماعية.

8.   الديمقراطية الخاصة: العمليات الانتخابية والاستيلاء على نُظم العدالة

يستكشف كتاب جوليا كاجي (2021) «ثمن الديمقراطية: كيف يتشكّل المال السياسي وماذا نفعل حيال ذلك» كيف تؤثر القوة الاقتصادية على السياسات الحديثة. فترى أن المال يخلّ بتوازن التمثيل المدني والديمقراطي من خلال منح الأثرياء صوتاً أقوى بكثير في العملية السياسية، يتجلى هذا في التبرعات غير المتناسبة من الأحزاب التي تمثّل النخب مقارنةً بالأموال الممنوحة للأحزاب اليسارية. تقول كاجي إن الأنظمة الديمقراطية الغربية تابعة للمصالح الاقتصادية الخاصة بالممولين الرئيسيين للأحزاب السياسية؛ بعبارة أخرى، «من يدفع، يفوز»، ونضيف إلى ما قالته، «من يدفع، يحكم». يمكننا أن نتحدث، في هذا السياق، عن الديمقراطية الخاصة مقابل الديمقراطية العامة (المصدر السابق). وتسلّط التبرعات الخاصة غير المحدودة الضوء على مضمون برامج المرشحين والأحزاب التي «يرعاها» المستثمرون، وكذلك على الديمقراطية الصحيحة بوصفها منفعة عامة. وتشير المؤلفة إلى نهاية الأحزاب السياسية وانتصار رأس المال بوصفه الحزب الحقيقي الوحيد. في هذا السياق، ومن خلال آليات مختلفة، تُدفع تكاليف الحملة من خلال إجراءات أو تجاوزات معيّنة ومختلفة: السياسات العامة واللوائح التنظيمية والمعلومات الخاصة ونُظم العدالة والمناصب في مكاتب استراتيجية مثل الشركات العامة أو الهيئات التنظيمية.

المال يخلّ بتوازن التمثيل المدني والديمقراطي من خلال منح الأثرياء صوتاً أقوى بكثير في العملية السياسية، يتجلى هذا في التبرعات غير المتناسبة من الأحزاب التي تمثّل النخب مقارنةً بالأموال الممنوحة للأحزاب اليسارية

يرتبط أحد جذور تراكم الثروة المركّزة وإدامتها بالعلاقة النظامية بين التمويل والعمليات الانتخابية و«المكافآت» الحكومية. تخصخص هذه الآليات الديمقراطية وتستولي على الدولة وتولّد تراكم الثروة المركّز. ربما تكون هذه إحدى أكثر السيرورات السياسية رجعيةً في الديمقراطية التمثيلية الحديثة. تتعلّق خصخصة الديمقراطية باستقطاب نُظم العدالة أيضاً. وإذا نظرنا إلى أثرى 1% من المواطنين، لا يصعب العثور على حالات كسبوا فيها دعاوى قضائية ضد الدولة. وتكشف دراسة الدعاوى القضائية التي رفعها مليارديرات أميركا اللاتينية ضد الدولة عن اقتصاد اللاعدالة السياسي في البلدان التي ينبغي أن يتمركز فيها ميزان القوى على الفصل بين القوى الاقتصادية والدولية وليس - كما يقول الليبراليون - بين فروع سلطة الدولة فحسب.

9.   عن القيمة: سرديات سياسات الضريبة التنازلية على الثروة وزمنيتها3

دافعتُ، في السطور السابقة، عن السعي إلى مساواة تقوّض علاقات القوة. عادة ما يعني هذا الأمر التركيز على التوزيع بدلاً من إعادة التوزيع؛ أي أن المساواة تتحقق أثناء توليد الثروة (قبلياً) وليس بعد ذلك. وتؤدي سياسات إعادة التوزيع عموماً إلى قدر أعظم من المساواة، لكنها لا تولّد قدراً أعظم من التكافؤ في توزيع القوة بالضرورة. في أقصى الحدود، يُمكننا القول إنه إذا كان هناك توزيع عادل في السيرورة الإنتاجية نفسها، لن يكون من الضروريّ إعادة توزيع الدخل من خلال فرض الضرائب.

السياسة المالية، كما ناقشنا سابقاً، تُعتبر أداة تؤثّر على القدرات والتفضيلات الشخصية والرؤية الجمعية. ومن خلال تركيز الثروة الاقتصادية في مجتمع فائق التركّز، تشرعن السياسات التنازلية تحصين الحاضر أو فقدان الأمل في التغيير مستقبلاً

في الواقع، يؤدي النظام الضريبي دوراً أساسياً في تكوين النظام الرأسمالي. لكن السياسة الضريبية ترتبط بالأهداف الجمعية والأيديولوجية والقيم والسلطة السياسية. هكذا، يتحوّل عبء ضريبي منخفض إلى عقد اجتماعي من الحد الأدنى، ويؤسس التراجع المالي بدوره للتسامح مع اللامساواة التوزيعية حيث يساهم أولئك الذين يملكون أقل قدر من المال المساهمة الأكبر. يُمكن القول، في ضوء وجهة النظر الكلاسيكية، إن أنظمة الرعاية الاجتماعية تتوافق بشكل أوثق مع أنظمة (عدم) المساواة لأنها الأطر التنظيمية (الرسمية وغير الرسمية) التي تشكّل ميثاق التعايش. يمكننا حتى الإشارة إلى أن الثقافة الريعية في أميركا اللاتينية تشكّل الأساس البنيوي - من خلال الفعل أو التجاوز - للسياسات المالية التنازلية. بهذا المعنى، تمثّل الدولة الطرفية في أميركا اللاتينية، حيث العبء الضريبي منخفض وتنازلي للغاية، إلى حد ما الدولة النيوليبرالية قبل وجودها (Palma, 2019).

في هذا السيناريو، بينما يُعدّ أساسياً في مجتمعات لديها موارد مالية بدائية غير متكافئة كهذه أن تكون هناك سياسات تقدمية في إعادة توزيع الدخل والثروة، كما يجب علينا أن نلفت الانتباه إلى بناء السرديات التي تشكّل معنى القيمة، فضلاً عن الاختلالات البنيوية التي تولّد تراكماً مركّزاً وفروقات مشينة. ومن دون اقتراح تعريف للحد الفاصل بين المُنتِج وغير المُنتِج، تمكنت بعض مجموعات القوى الاقتصادية من تطوير سردية جديدة يُمكن تلخيصها على النحو التالي: «أنا عضو منتج في الاقتصاد، وأنشطتي تولّد الثروة، أتخذ «مخاطر» كبيرة، لذا فإنني أستحق دخلاً أعلى من الذين يستفيدون ببساطة من النتائج المترتبة على هذا النشاط» (Mazzucato, 2018: 13). ويكتمل هذا التخيل بنتيجة منطقية مهمّة: إذا أراد المجتمع أن يواصل تقدّم حالته المادية، عليه أن يترك حيزاً (مالياً) لأولئك الذين يخلقون القيمة ليواصلوا فعل ذلك. بعبارة أخرى، لا بد من تخفيض الضرائب على رأس المال، ويجب أن يحصل العمال من ذوي «رأس المال البشري» المرتفع على أعلى أجر لإطلاق عنان قواهم الإنتاجية. بهذه الطريقة، تتولّد أشكال ضرائب تنازلية من نمط الإنتاج ذاته. وهذا خط واضح للبحث التاريخي وسيميائية الثروة.

لكن السياسة المالية لها طابعها الزمني أيضاً. فالسياسة المالية، كما ناقشنا سابقاً، تُعتبر أداة تؤثّر على القدرات والتفضيلات الشخصية والرؤية الجمعية. ومن خلال تركيز الثروة الاقتصادية في مجتمع فائق التركّز، تشرعن السياسات التنازلية تحصين الحاضر أو فقدان الأمل في التغيير مستقبلاً. لذا، فإن الأداة المالية ناظمة لوتيرة تقدّم المجتمعات. ومن وجهة النظر هذه، تُعدّ الضرائب أيضاً عنصراً أساسياً في الاستراتيجيات البيئية لأنها تلغي الحاجة إلى تسريع وتيرة تقدّم المجتمعات. إن تخفيف الاعتماد على العمل بسبب خلق نقص نقدي مصطنع يؤدّي إلى هذا الوضع المتناقض الذي يبيع فيه العمال حياتهم (أي وقتهم) مقابل المال ليشتروا بعدئذ الوقت لحياتهم (في شكل سلع وخدمات) هو جزء من الحل (Ramirez, 2019: 111). ويسمح لنا توزيع أكثر مساواة للثروة، مع إعلاء قيمة الوقت على المال، بإعادة التفكير في الأخلاق الرأسمالية المتمثلة في العمل أكثر اليوم من أجل الاستمتاع بحياة جيدة غداً.

هكذا، قد يكون النقاش في زمنية السياسات المالية وسيلة مهمة لتمهيد الطرق نحو جعل الحياة ذات التوجه المرتبط بزمن نعيش به بشكل جيّد حقيقة واقعة (Ramírez et al., 2020; Ramírez, 2019). هذا يقودنا إلى قطيعة معرفية: ماذا نعني بالثروة، وماذا نعني بالقيمة، وكيف نبنيها؟

10. عن سياسات إعادة توزيع التقدمية: وداعاً راولز أو «فخ الفقراء أولاً»؟

يُمكن القول إن السياسات النيوليبرالية تتراجع هيمنتها؛ فهي تسيطر وتستمر من دون إقناع. مما لا شك فيه أن الحدّ من الفقر ضرورة أخلاقية. لكن التركيز على الفئات الأشد فقراً (من منظور اجتماعي وليس اقتصادي عموماً) ينطوي على مشاكل تجعل التغيير البنيوي مستحيلاً - على المدى المتوسط والبعيد - إذا لم يؤخذ بقية المجتمع في الحسبان. سعت عديد من الحكومات التقدمية إلى تركيز أعمالها على مبدأ «تعظيم الحد الأدنى» (رفع مستوى الرفاه والرعاية الاجتماعية للأكثر فقراً في المجتمع إلى أقصى حد)، متناسيةً بقية التوزيع السكاني أو من دون اهتمام كبير بهم (Ramírez, 2023). وإذا أردنا المضي في سيرورات تمكين المساواة، يجب علينا أن نسقط راولز ومبدأه في العدالة بوصفها مساواة لتعظيم الحد الأدنى. وينطوي مبدأ «الفقراء أولاً» على شراك انتهت إلى إعادة إنتاج البنية الاجتماعية غير العادلة حتى ما لا نهاية، وجعلها أكثر لامساواةً في بعض الحالات.

أدت السياسات المناصرة للفقراء عموماً إلى إدامة الفقر. ومن دون تعدادها جميعها، أود أن أذكر ثلاثة شراك تتولّد بشأن مبدأ العدالة الذي يبرّر عدم المساواة إن كانت تؤدي إلى تعظيم حد المعوزين الأدنى4 .

ينطوي مبدأ «الفقراء أولاً» على شراك انتهت إلى إعادة إنتاج البنية الاجتماعية غير العادلة حتى ما لا نهاية، وجعلها أكثر لامساواةً في بعض الحالات

الشرك 1: وداعاً للعامل، أهلاً بالفقير. تمركزت المسألة الاجتماعية الرئيسية، قبل النيوليبرالية، على العامل، في إطار متابعة سيرورات التصنيع. وفي التسعينيات، برز تحوّل في إشكالية المسألة الاجتماعية حيث حلّ الفقراء محل مركزية العمّال. وينطوي هذا على تحوّل في فاعلية المواطن، حيث يُمكن للمواطن أن يكوّن مصدر رفاهه الخاص من خلال العمل والعمل الجماعي في النقابات العمّالية، إلى إطار مفهومي سائد يكون المواطن فيه متلقياً للهبات من خلال سياسة رفاه عام. هكذا هجرت المناقشات والسياسات المرتبطة بالتغيير الإنتاجي، وكان العمل النقابي الجماعي سيُلغى، ووُضِعت السياسة الاجتماعية على طاولة النقاش العام، مع عزلها عمداً عن السيرورات الاقتصادية والإنتاجية. والواقعة الاجتماعية المهمة هي التقليل من قيمة العمل. فكان ترحيباً بالعمل غير التحرري الذي لا يليق بالاجتماعي والإنساني5 . وداعاً للعامل، وأهلاً بالفقير!

الشرك 2: يُمكن الحد من الفقر من دون إجراء تغييرات في البنية الاجتماعية الاقتصادية وتعميق ضروب اللامساواة المهينة. على الرغم من أن أميركا اللاتينية شهدت انخفاضاً في اللامساواة على مدى عقد كامل تقريباً من الألفية الجديدة، أظهر قسماً كبيراً من بلدان المنطقة جموداً بنيوياً في توزيع الدخل والثروة على مدار السنوات العشرين الماضية. ليس هذا فحسب، من بين إجمالي عدد الحكومات التي نجحت في الحد من الفقر في خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، شهدت 40% منها زيادة في حصة الـ 1% الأغنى من السكان في توزيع الدخل. وفي البيرو، حقّق آلان غارسيا (2006 - 2011) الذي نجح في تخفيض الفقر بنسبة 18% ولكن مع زيادة حصة الـ 1% الأغنى من السكان في التوزيع. وغني عن القول إنه مع نهاية حكومته في العام 2011، استحوذ الـ 1% الأغنى على 26% من إجمالي صافي الدخل القومي و41% من ثروة البلاد، بينما الـ 50% الأفقر حصلوا على 9% من الدخل و1% من ثروة البلاد. أدّى الحد من الفقر إلى تعميق الفروق المشينة الموجودة مسبقاً. وعلى الجانب الأيديولوجي الآخر، عمل خوزيه بيبي موخيكا في فترة حكومته 2010-2015 على خفض نسبة الفقر، لكنه زاد حصة الـ 10% الأغنى من التوزيع، وكذلك حصة الـ 1% الأغنى ولو هامشياً. في الواقع، تشير الأدلة إلى أنه يُمكن في أحيان كثيرة الحدّ من الفقر من دون تغيير في دخل أو حصة الـ50% الأفقر. بعبارة أخرى، لا تترافق واقعة انخفاض الفقر نسبياً مع زيادة حصة الطبقات العاملة في النصف الأدنى من توزيع الدخل. هكذا، تُظهر الأدلة أن الحكومات التي اتبعت استراتيجية «الفقراء أولاً» لم تغيّر التوزيع البنيوي للحصة ولم تقلّل بالضرورة من الفروق المشينة القائمة، لأن الشرائح الاجتماعية الأخرى تحسّن حالها أيضاً، وفي كثير من الحالات بمعدّل أسرع من الطبقات الأفقر أو الطبقات الشعبية. لا يعني هذا أنه لا ينبغي أن يكون هناك تراكم. لكن التراكم الخاص بالنخبة الاقتصادية في المنطقة غريب. يمتلك الـ 1% الأغنى في بلدان مثل فنلندا أو أيسلندا أو النرويج، نحو 10.8% و8.7% و8.8% من صافي الدخل القومي على التوالي. إذاً، يتطلب الانتقال تراكماً غير مركّز. بهذا المعنى، ومن دون استبعاد توليد الفروق المشينة فإن الأهم من تعظيم الحدود الدنيا، هو تقليل الحدود القصوى غير المتجانسة. ومن الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن حدود الفقر، من الناحية العملية، منخفضة للغاية إلى حدّ أن مجرد تجاوزها يجعل السكان الفقراء عرضة للخطر. ولا عجب أنه حتى في البلدان التي نجحت في تخفيض معدلات الفقر بشكل كبير، أعادتها صدمة السنوات الأخيرة إلى حالة الفقر البدائية التي كانت عليها. ويرجع هذا الوضع، من بين أسباب عديدة، إلى حقيقة أن قلة قليلة من الحكومات عملت على الحد من الفقر بالتلازم مع توزيع كبير للثروة وتركيز على المساواة قبل خصم الضرائب، الأمر الذي أضفى طابعاً ديمقراطياً على السلطة. وهكذا، عادةً ما تنتهي عبارة «الفقراء أولاً» إلى توزيع الحد الأدنى (الفتات) على الأكثر فقراً في المجتمع. ولا شك أن مشروع تعظيم «الحدود الدنيا» أفضل من تعزيز امتيازات القطاعات العليا التي تقلل من مشاركة الغالبيات العظمى. لكن الواضح أيضاً أن هذا المشروع أبعد ما يكون من كونه مشروعاً يسعى إلى إضفاء طابع ديمقراطي على السلطة وتغيير المجتمع بنيوياً.

يتطلب الانتقال تراكماً غير مركّز. بهذا المعنى، ومن دون استبعاد توليد الفروق المشينة فإن الأهم من تعظيم الحدود الدنيا، هو تقليل الحدود القصوى غير المتجانسة

الشرك 3: تفكيك المجال العام، والقيمة التبادلية للحقوق، والتراكم من خلال خصخصة الاجتماعي. شكّل خطاب «تعظيم الحد الأدنى» المتمثل في «الفقراء أولاً» جزءاً من سردية النيوليبرالية التي جرى بناؤها من خلال مفهوم العدالة، ما أتاح التخلي عن السياسات الكونية واقتراح سياسات اجتماعية موجّهة، وتفكيك المجال العام والبدء في عملية خصخصة الخدمات الاجتماعية باسم الفعالية المالية. وكجزء من الخيال، ركّز الحق العالمي على الفقراء، لأن أولئك الذي لديهم القدرة الشرائية وجب عليهم شراء هذا الحق في المجال الخاص. جرت خصخصة المجال الاجتماعي وتوليد تراكمات مركّزة؛ ترافق ذلك مع سيرورات موازية لخصخصة القطاعات الاستراتيجية (الطاقة والصحة والضمان الاجتماعي والتعليم وما إلى ذلك) وتفكيك بنوك التنمية. يعني فهم الثروة المركّزة فهم عمليات انحلال الدولة وخصخصة القطاع الاجتماعي والقطاعات الاستراتيجية والبنوك العامة. ومع ترك القطاع العام للفقراء، تضاءلت إمكانية أن يرفع المرء صوته، كما يقول هيرشمان، إلى أدنى حد، لهذا كان هناك تدهور منهجي في توفير الخدمات الاجتماعية عالية الجودة. ولازم الفقر بوصفه مسألة اجتماعية تبديد القطاع العام، ومعه، احتمالية بناء مجتمعات متكاملة. هكذا، تزايدت فجوة التفاوت ليس بفعل سيرورات الخصخصة الفعلية فحسب، إنما لأن تدهور القطاع العام كان بمثابة عامل ذاتي مضاعف في الدفاع عن ضروب التفاوت. في الوقت نفسه، كان تأسيس التحويلات النقدية المشروطة بمثابة سياسة للهيمنة. ومن خلال ضربٍ القيمة التبادلية للحقوق، هدفت السياسة الاجتماعية إلى تغيير السلوك بواسطة المال لتشجيع الأمهات على إرسال أطفالهن إلى المدارس أو منشآت الخدمات الصحية من خلال اشتراط التحويل. وترافق هذا المنطق مع نوعٍ من وصم الفقراء والخدمات العامة، وهو ما ولّد، مع الصمت في المناقشات الدائرة بشأن السياسة الصناعية، دورة منحرفة من الجمود الاجتماعي وإعادة إنتاج الفقر. هكذا استنُفد مقياس الجدارة لأنه لا يرى سوى الطرف الأدنى من المنحنى، لا ينتهي به الحال إلى التشكيك علناً في التراكم البشع والمشين للـ 1% الأغنى من السكان مقارنةً بالطبقات الشعبية. ومن يشكّلون الـ1% هم أنفسهم الذي يستغلون خطاب النجاح/الجدارة لتبرير امتيازاتهم، وبذلك القضاء على احتمالية الحراك الاجتماعي صعوداً وهبوطاً. فليس من قبيل المصادفة أنه في النقاشات العامة على مدار السنوات الأخيرة، اكتسب الدفاع عن استحقاقية الميراث أهمية كبيرة من أجل تبرير الثروة الأولية المركّزة بشكل مفرط، والتي ينجم عنها فروق مشينة مع فرصة ضئيلة أو معدومة لعكس اتجاهها.

11. العام بوصفه مساواة

عند الإشارة إلى المناقشة بشأن العدالة، تسعى الفلسفة السياسية إلى الإجابة على سؤال «المساواة، في ماذا؟». ويعتمد ذلك على المتغيّر المحوريّ الرئيس الذي تحدّده الأولوية السياسية: الحرية، الدخل، المنفعة، السلع الأولية، القدرات، إلخ. وإذا كان الهدف هو خلق مجتمعات ذات فروق معقولة، يجب أن يكون التراكم غير مركّز. لكن معنى المساواة قد لا يتطلّب المساواة في شيء ما فحسب، من سلع أو خدمات أو قدرات. وربما نشير إلى أن السؤال الأول الذي تجب الإجابة عليه هو «المساواة، بين من ومن؟». ويستلزم النظر إلى العلاقات بين الأشخاص تغييراً في الطريقة التي نرى بها إلى المساواة.

النيوليبرالية هي نموذج مجتمعي يسعى إلى خصخصة وتسليع جميع مجالات الحياة، وبالطبع كل الأشياء، أو الطبيعة

إن المجتمعات في أميركا اللاتينية مسوّرة؛ مسيّجة مادياً وذاتياً. والنيوليبرالية هي نموذج مجتمعي يسعى إلى خصخصة وتسليع جميع مجالات الحياة، وبالطبع كل الأشياء، أو الطبيعة. في حين أن «في ماذا» هي أحد مجالات التحليل، ومن الضروري إنتاج المساواة في فضاءات الاجتماع المشتركة حيث لا تسمح «في ماذا» بالتمايز أو بناء الفروق. في هذا الإطار، يؤدي تعظيم المجال العام في الحياة اليومية بمعناه الكامل إلى توليد الظروف التي يُمكن أن تؤدي إلى اضمحلال الفروق. ويتيح إصلاح التعليم العام والصحة العامة والمساحات العامة حيث يسود الشعور بالإنسانية والبحث عن مشاريع مشتركة بناء مجتمعات أكثر مساواة من خلال تعزيز الالتقاء والتعايش بين الأشخاص المختلفين من حيث الطبقة أو الجندر أو الدين أو الإثنية. وما يفرّقنا ليس التراكم غير المتناسب فحسب، بل احتمالية المواجهة. تتضاءل الفروق الاجتماعية عندما لا تعتمد على «ما» يفصل بينها، ويكون هناك نوع من مواجهة في فضاءات مشتركة تسمح لنا باكتشاف وفهم بعضنا البعض، وتمكّننا من العيش معاً. هكذا، على سبيل المثال، تساعد إنتاجية الفصول الدراسية في الجامعات على تقليل الفروق حين يجلس فيها السكان الأصليون والبيض والمزج والأغنياء والفقراء والمسلمون والكاثوليك والرجال والنساء معاً. فنحن لسنا متساوين لأن المجالين الخاص والتجاري يجعلان من المستحيل تقاسم الوقت من أجل التخطيط لمستقبل مشترك، ليس لأننا لا نملك كميات متساوية من السلع فحسب.

غالباً ما تزدهر المساواة في المجتمعات التي ينتعش فيها المجال العام ولا يختلف التفاعل بين الناس بحسب لون بشرتهم أو دينهم أو ثروتهم. فيعزز العيش مع الآخر الاعتراف المتبادل، ومعه، فهم الآخر من أجل بناء «نحن». تصبح المساواة واقعة حين نكون «نحن» فحسب.

12. من تعظيم الحد الأدنى إلى تقليل الحد الأقصى والتقارب نحو المركز لبناء فوارق معقولة

كوّنت النيوليبرالية ترسانة منهجية أتاحت بناء السرديات التي دعمت مبدأ راولز الفلسفي المتمثل في «المساواة بوصفها عدالة»، وأفسحت المجال أمام الهيمنة المعنوية لمبدأ «الفقراء أولاً». فأصبح «علم الفقر» «علماً»، حيث لم يكن هناك سوى قلة قليلة من التقنيين الذين لديهم المعرفة اللازمة لتحليل هذه الظاهرة. وتشكّل حسابات إنغلز للمُعامل، ومعدلات انتشار الفقر، وفجوة الفقر وشدّته، وحدود الفقر وخرائطه، وما إلى ذلك، تقنيات تحليلية لا تزال إلى الآن المنظورات التي يجري من خلالها المحافظة على السياسة الاجتماعية.

إن الافتراض الأخلاقي المتمثل في العدالة بوصفها إنصافاً، قائم على أساس السعي إلى تعظيم الحدود الدنيا. تسمح لنا هذه المنظورات بإحصاء الفقراء، لكن من دون أن تسمح لنا برؤية الفروق المهينة. والحال، عند تحليل تطوّر الفقر، حتى في أفضل حالات الحد من الفقر، في العديد من البلدان (حتى في خلال حقبات ما سُمي بالحكومات التقدمية) كانت ثمة زيادة في التراكم المركّز للدخل أو الثروة بالتوازي. ويُمكن أن يصاحب الحدّ من الفقر زيادة في التوزيع الأولي للدخل (زيادة نسبة مشاركة الرأسماليين/العمال) (Ramírez, 2022). يعني تغيير المنظور بناء أدوات تحليلية لفهم ما يحدث فيما يتعلّق بتركز الثروة ودخل السكان ككل. بهذا المعنى، فهو يتضمن صياغة «حدود الثراء» (وليس حدود الفقر) ومعرفة النسبة المئوية لمعدلات الثروة بمرور الوقت. كما يعني إجراء نقاش عام حول تطوّر الفروق المهينة، سواءً في ازدياد أو في نقصان. ويُمكن القيام بهذا، من بين طرق عديدة، باستخدام حدود الثراء؛ الحدود التي تقاس باعتبارها الحد الأقصى لأعلى توزيع للدخل والذي يُمكن من خلاله القضاء على الفقر في البلاد. على سبيل المثال، في حالة الإكوادور 6  أو الأرجنتين7 ، يُمكن ملاحظة أنه بأقل من 4% من دخل/استهلاك أغنى الأفراد في البلاد، يُمكن التغلّب على الفقر الذي يعاني منه جميع سكان البلاد. ومن الواضح أنه إذا انخفضت هذه النسبة، تزداد الفروق المشينة.

هناك بلدان خفضت حصة الـ1% أو الـ 10% الأغنى، لكنها زادت حصة الرأسماليين أو خفضت حصة العمال من الأجور. وفي هذه الحالات، يُمكن الإشارة إلى أنه جرى تقليص اللامساواة من دون تحطيم عدم تكافؤ القوة

كما اقترحتُ مؤشراً لنسبة إعادة التوزيع غير الديمقراطية. وتقارن هذه النسبة مشاركة الـ 1% الأغنى مقابل الـ 50% الأفقر. عادةً ما تعني زيادة تركّز أغنى 1% من السكّان في أي بلد زيادة قوة مجموعات النخبة الاقتصادية بحكم الأمر الواقع وتقليل درجة استقلال الدولة. من جهة أخرى، ينطوي رفع حصة الـ50% الأفقر من السكان على تعزيز قوة الطبقات الشعبية. وتسمح نسبة إعادة التوزيع غير الديمقراطية بمعرفة إلى أي مدى يوجد سدّ أو عدم سدّ للفجوات بين التراكم المركّز للـ 1% الأغنى من السكان الذين يملكون قوة الأمر الواقع (وهي قوة بشعة بالفعل في توزيعها البدائي) وحصة الغالبيات الشعبية السكانية من الثروة (وهي لا تُذكر). تكون إعادة التوزيع غير ديمقراطية إذا لوحظ أن حصة الـ1% من السكان تنمو بالتوازي مع حصة الشريحة الـ50% الأدنى من السكان. والحدّ الأدنى من إجماع البلدان على تقويض الفروق المهينة هو أن تقييم نسبة إعادة التوزيع غير الديمقراطية يجب أن يكون أقل من صفر (أو يتجه نحو أن يكون أقل من صفر)؛ وهذا يعني أن الـ 1% الأغنى لا ينبغي أن يحصلوا من التوزيع على أكثر مما يحصل عليه الـ 50% الأفقر من السكان. ومجرد ذكر تأكيد كهذا يبدو أمراً شائناً، لكن على مدار عقدين من الألفية الجديدة، لم يكن لدى أي بلد في منطقة أميركا اللاتينية متوسط نسبة إعادة التوزيع غير الديمقراطية أقل من 1 8 .

ليس هذا فحسب، فعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة من العقد الثاني في الألفية الجديدة، كانت ثمة زيادة في متوسط إعادة التوزيع غير الديمقراطية في أميركا اللاتينية (Ramírez، المصدر السابق)، ما يعني أن توزيع الدخل اتجه إلى أن يكون غير ديمقراطياً منذ بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. في هذا السياق، لا يجب أن ينصب الاهتمام على تعظيم الحدود الدنيا، بل على تقليل الحدود القصوى، سعياً إلى الالتقاء في المركز المتنامي، وبهدف القضاء على التراكمات الفاحشة والفروق المهينة.

إذا أردنا، في المقابل، تأسيس مساواة تحطّم علاقات القوة، من الضروري أن نلاحظ بشكل ممنهج كيف يتطوّر التوزيع الأولي للدخل، أي العلاقة بين حصتي الرأسماليين والعمّال. وربما هناك بلدان خفضت حصة الـ1% أو الـ 10% الأغنى، لكنها زادت حصة الرأسماليين أو خفضت حصة العمال من الأجور. وفي هذه الحالات، يُمكن الإشارة إلى أنه جرى تقليص اللامساواة من دون تحطيم عدم تكافؤ القوة. هكذا، يُمكن الإشارة إلى أن مراقبة المساواة الديمقراطية تعني دراسة ما إذا كانت الفروق في الأجور بين الرأسمالي/العامل، والذكر/الأنثى، والمحلي/المهاجر، والسكان غير الأصليين/الأصليين، وغيرها من الفجوات في الأجور تتلاشى. من منظور آخر، يعني التمكين توفير الحرية لعيش حياة جيدة، وهو ما يعني إضفاء طابع ديمقراطي على الزمن والاعتراف بالزمنيات المتعددة للتنوّعات (الحيوية) (Ramírez, 2023).

ينطوي بناء ديمقراطية كاملة، من هذا المنظور، على بناء مجتمع يحطم الفروق المهينة فيه (سواءً مادية وذاتية وزمنية) مع إرساء مساواة تقوض ضروب اللاتكافؤ البنيوية في السلطة.

في الختام: الفقر/ اللامساواة أو اللامساواة/ الفقر؛ ترتيب العوامل يغير النتاج.

من الواضح أن النضال من أجل مساواة ديمقراطية هو نضال يهدف إلى النجاة من النظام الرأسمالي، النظام الذي يميل نحو تشكيل الاحتكارات التي تركّز السلطة السياسية. لكن من أجل التحرّك في هذا الاتجاه، لا بد من كشف السياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي الذي يعيد إنتاج ذاته في ممارساتها الموضوعية وتراكيبه الذاتية. على الرغم من أن السردية التي جرى بناؤها علناً باعتبار الفقر المحور المركزي للنقاش الاجتماعي، ما حاولنا الإشارة إليه في هذه المقدمة هو أن وجهة النظر هذه تدعم نمطاً معيّناً من المجتمعات، على الرغم من أنه يتوافق مع مبدأ «الفقراء أولاً»، فهو لا ينفصل عن بنى السيطرة والاستغلال والتمييز التي تهدد الديمقراطية والتعايش الاجتماعي.

على هذا النحو، إذا لم يكن الفقر «المسألة الاجتماعية»، نؤكد على أن المشكلة هي الإفقار، الإفقار الناجم عن اقتصاد سياسي احتكاري يتسم بإثراء مفرط التركّز يميز مجتمعاتنا. في هذا السياق، يجب أن يكون الاقتصاد السياسي لإرساء فروق معقولة وتراكم لا مركزي - وتحطيم علاقات القوة التاريخية التي كانت موجودة في مجتمعاتنا وأعادت إنتاج نفسها في نمط التراكم السائد (النمط الذي يتضمّن النظر إلى الطبيعة على نحوٍ سلبي بوصفها موضوعاً للاستخلاص)، في العلاقات الاجتماعية وممارساتها الثقافية - في قلب النقاش في المسألة الاجتماعية. وإذا كان الفقر هو الأولوية، لا يُمكن بناء ديمقراطية متساوية أو مساواة ديمقراطية من دون الأخذ في الاعتبار الفروق الاجتماعية الناتجة عن علاقات القوة غير المتكافئة التي بُنيت تاريخياً. وأثبتت الأدلة التاريخية للنيوليبرالية ذلك. فكان النتاج الاجتماعي لعلم الفقر هو مجتمعات ذات ثروات مركّزة وفروق مهينة وغير ديمقراطية (إذا كانت خيّرة).

إذا أردنا التغلّب على الفقر، يجب أن تكون القضية الاجتماعية هي بناء مساواة تحطم علاقات القوة وتبني مجتمعات لا تكون الفروق فيها كبيرة لدرجة توليد الفقر، وقصيرة بما يكفي لتؤدي إلى إمكان المعاملة بالمثل والاعتراف المتبادل. وعلى مستوى مصفوفة التراكم، يعني ذلك تغيير البنى الإنتاجية وإعطاء الأولوية لملكية رأس المال، حيث يكون المواطنون والعمال هم المالكين أو الأغلبية في رأس المال. في هذا السياق، يجب أن يكون واضحاً أن التدخل أولاً في شؤون الفقراء ثم السعي إلى الحد من اللامساواة ليس هو الشيء نفسه، بقدر ما يعني السعي إلى بناء ديمقراطية لائقة وفروق معقولة وتراكم غير مركّز، حيث، في سيرورة توليد الثروة نفسها، يجري تمكين الطبقات الشعبية وبناء المواطنة.

إن ما بعد الرأسمالية غير قابلة للحياة مع مساواة من أي نوع كان؛ لا بد من مساواة ديمقراطية. ومن الواضح، بهذا المعنى، أن ترتيب العوامل يغيّر النتاج!

نشر هذا المقال في Progressive International في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

  • 1bbc.com/mundo/noticias-internacional-58779754
  • 2[ii] La pregunta realizada en Ecuador en la consulta popular fue: ¿Está usted de acuerdo en que, para desempeñar una dignidad de elección popular o para ser servidor público, se establezca como prohibición tener bienes de capital, de cualquier naturaleza, en paraísos fiscales? Con 55,12% la población votó por el “sí” y el 44.88% por el “no”.
  • 3Para analizar detalladamente el argumento planteado en este inciso ver: Ramírez, R. y Albertone, B. (2022).
  • 4 Para un análisis de todas las trampas ver, Ramírez (2023) Quien parte y reparte, ¿se queda con la mejor parte? Las derechas y las izquierdas en la distribución del pastel en América Latina, 2000-2020, IPET: LANUS.
  • 5Para un análisis sobre esta temática ver Andreoni, Chang, 2017.
  • 6En el caso de Ecuador, la incidencia de la riqueza en el 2008 era del 2.1% (Ver Ramírez & Burbano, op. cit).
  • 7“Los resultados muestran que, si se redistribuyera el 28% del Ingreso Total Familiar del 1,4% de la población más rica, se eliminaría la pobreza medida por ingresos sin modificar significativamente la situación de los “ricos” (OCEPP, 2020, 2).
  • 8De una muestra de 46 gobiernos analizados durante los últimos 20 años en la región, únicamente en las presidencias de Rafael Correa, Cristina Fernández, Raúl Castro y José Mujica se consiguió un RRA menor a 1. (Ver Ramírez, 2023).