الإكراه واللامساواة: الآثار التوزيعية للعقوبات في إيران
«السباكة» هي الاستعارة الملائمة لوصف الطريقة التي تعمل بها العقوبات. ترمي العقوبات إلى وقف تدفّق الأموال إلى الحكومة المستهدفة؛ بحيث تُجمَّد الاحتياطيات، وتُحظَر التجارة، وتجفّ عائدات التصدير، وتُستنزف الموازنات الحكومية. وحتى الالتفاف على العقوبات تجري مناقشته بمصطلحاتٍ هيدروليكية. عندما سُئِلت عن الالتفاف على العقوبات المفروضة على روسيا في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، أجابت ليندا توماس غرينفيلد، ممثّلة الولايات المتّحدة لدى الأمم المتّحدة، بأن إدارة بايدن «تبحث في هذا التسرُّب». وقالت: «في كلِّ مكانٍ نلحظ فيه تسرُّبَاً، فإننا نعمد إلى إيقافه». وقد تغدو الاستعارة واقعية في بعض المناسبات: حيث تحظر ضوابط التصدير الخاصّة بالاتحاد الأوروبي تصدير «الشطّافات والمراحيض والخزّانات وغيرها من تجهيزات السباكة» إلى روسيا.
أدّت العقوبات إلى زيادة الأرباح واتساع فجوة اللامساواة، وسهّلت التحوّل البنيوي للاقتصاد الإيراني الذي يحابي أولئك الذين يسيطرون على رأس المال
يعكس مجاز «السباكة»، غالباً، مفهوماً ميكانيكياً ومُضلِّلاً للإكراهِ الاقتصادي. وفي بيانٍ صدر مؤخّراً، اعترفت وزيرة الخزانة جانيت يلين بأن العقوبات الأميركية على إيران «أنتجت أزمة اقتصادية حقيقية في البلاد»، بيد أن هذه التدابير لم «تنجح في إحداث تغيير في السلوك». يعبِّر اعتراف يلين عن اتساع الشكوك وتناميها بشأن فعالية العقوبات. وحتى التدابير التي تضرّ الاقتصاد المستهدف بوضوح ـ عبر إعاقة التدفّقات واستنزاف الموازنات العامة ـ قد لا تؤدّي إلى إحداث التغيير المنشود في السلوك الذي استوجب فرضها. وفي سياسة العقوبات، يُعامل الاقتصاد المستهدف كنظامٍ ثابت، أي كآلةٍ. ولكن من أجل فهم العقوبات حقاً، علينا أن نتحرّى الكيفية التي ترتبط بها الجهات الفاعلة في نظامٍ مُعقّدٍ ببعضها البعض، وكيف يتأتّى لتغيُّر تلك العلاقات أن يُغيِّر النظام نفسه. إن التأثيرات التوزيعية المترتبة على العقوبات هي الأكثر أهمّية.
خضعت إيران لبرنامج عقوبات الأكثر شمولاً على مستوى العالم في خلال الشطر الأكبر من العقد الماضي. والواقع أن تجربتها تنطوي على فائدة: ففي حين كان المقصود من العقوبات استهداف النخبة في البلاد، كان أداء الأُسَر الأكثر ثراءً أفضل بكثير من أداء الأُسر الأكثر فقراً أثناء تلك الفترة. ويبدو في الواقع أن العقوبات غشَّت في اللعبة، وسمحت بإحداثِ تحُّولٍ بنيوي في الاقتصاد أتاح لأغنى الأُسر في إيران الحصول على حصَّةٍ أكبر من ثروة البلاد.
الآثار التوزيعية
إن المقصود من العقوبات الاقتصادية الواسعة هو تقليص تكامل الاقتصاد المستهدف (أو القطاعات الرئيسة في ذلك الاقتصاد) مع الاقتصاد الغربي (أو الاقتصاد العالمي على نطاق أوسع). وتمتلك العقوبات المستهدفة الهدف نفسه، بيد أنها ترمي إلى التأثير على أفرادٍ أو شركاتٍ بعينها. في خلال العقدين الماضيين، حدّد مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة (OFAC) ما يزيد عن 9 آلاف جهة خاضعة للعقوبات. والمقصود من العزلة أن تؤدّي إلى نتائج اقتصادية تؤثّر سلباً على الدولة أو القطاع أو الكيان أو الفرد المستهدف، ممّا يحدّ بدوره من قوّة هذا الهدف. بيد أن التغيّرات في القوة النسبية كثيراً ما تخرج عن نطاق برامج العقوبات.
بحلول العام 2020، كان الـ 5% الأعلى دخلاً مسؤولون عن 35% من إجمالي نفقات الأُسر في إيران. وكان هذا الرقم مساوياً لما كان عليه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين
وفي ورقة بحثية حديثة، حدَّد راينر آيكنبرغر وديفيد ستادلمان عشر قنوات تعمل العقوبات من خلالها على «تحويل القوة النسبية بين المواطنين والأنظمة المستبدّة لمصلحة الأخيرة». وعليه، يجادلان أن «القادة المستبدين قد يستسيغون العقوبات الاقتصادية سريعاً، لا سيّما إذا استخدمتها الجهات التي تفرضها كبديلٍ عن العمل العسكري». وحتى عندما تكون الدول المستهدفة بالعقوبات معزولة عن الاقتصاد العالمي، يمكن لها إذا كانت قوية أن تستمرّ في الهيمنة على الاقتصاد الإقليمي، ويظل بوسع قطاع قوي أن يُهيمن على الاقتصاد المحلّي، ويظل بإمكان شركة قوية أن تهيمن على القطاع، ويظل بمستطاع فرد قوي أن يهيمن على شركة أو مؤسّسة حكومية.
فرضت الولايات المتّحدة عقوبات على إيران للمرّة الأولى في العام 1979 ردَّاً على الثورة الإسلامية وأزمة الرهائن في إيران. ووسّعت إدارة كلينتون هذه العقوبات في العام 1996 للحيلولة دون انخراط غالبية الشركات الأميركية في السوق الإيرانية. وعلى الرغم من الحظر الأميركي، استمرّ الاقتصاد الإيراني في الاستفادة من الاستثمار الأجنبي، وفي غالبيته أوروبي، إلى أن نَمَت المخاوف المتّصلة بمخاطر الانتشار المحتمل لبرنامج البلاد النووي.
نستخدم في هذا المقال إنفاق الأُسَر في إيران منذ العام 2002، من أجل دراسة ظروف شريحة الـ5% الأعلى دخلاً من الأُسَر. تغطّي هذه البيانات فترة عقدين من تغيّر سياسة العقوبات.1 في العام 2008، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المّتحدة القرار 1803، الذي شكّل بداية حملة عقوبات متعدّدة الأطراف استهدفت الاقتصاد الإيراني. ومع ذلك، بين عامي 2007 و2012، وبفضل سياسات إعادة التوزيع الحكومية، انخفضت حصّة أثرياء إيران من الدخل - أولئك الذين ينتمون إلى شريحة الـ5% الأعلى دخلاً من الأسر - بينما حقّق أولئك الذين ينتمون إلى الفئات المنخفضة الدخل مكاسب كبيرة، بحيث أصبح المجتمع الإيراني أكثر مساواة. فقد قرّرت النخبة الحاكمة إعادة التوزيع جزئياً استجابةً لاحتجاجاتِ الحركة الخضراء في العام 2009، التي مارست ضغوطاً على حكومة أحمدي نجاد المحافظة من أجل تعزير أجندتها الداعمة للمطالب الشعبية.
ولكن في العام 2012 تغيّرت الأمور. وسّعت إدارة أوباما عقوباتها لفصل البنوك الإيرانية عن النظام المالي العالمي وحظْر صادرات النفط الإيرانية. وقد ألقى ذلك بإيران في أول ركودٍ لها منذ ما يقرب من عقدين، ودفع إلى فرض تقشّف مالي لفترةٍ، تزامن مع زيادة حصّة شريحة الـ5% الأغنى من الدخل. وفي الوقت نفسه، شهد الذين يقبعون عند الطرف الأدنى من سلم الدخل انخفاضاً في استهلاكهم. وبحلول العام 2020، كان الـ 5% الأعلى دخلاً مسؤولون عن 35% من إجمالي نفقات الأُسر في إيران. وكان هذا الرقم مساوياً لما كان عليه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ممّا يشير إلى أن مشاريع إعادة التوزيع الرئيسة التي قُدّمت في الفترة الانتقالية - التحويلات النقدية الشهرية، وبرنامج العدالة للعمّال، ومشروع الإسكان الجماعي في مهر، وبرنامج روحاني للرعاية الصحّية - فشلت في الحدّ من اللامساواة واحتوائها بشكل مستدام حيث كانت العقوبات تضغط على الاقتصاد الإيراني.
في خضم التأثيرات الضخمة المترتبة على انكماش الناتج المحّلي الإجمالي، وانخفاض حجم التجارة، وضعف العملة المحلّية، نجحت الأُسر الأكثر ثراءً في إيران في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة في ظل العقوبات
وفي حين شهد دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2016 رفعاً لعقوبات الاتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة وتراجع معظم العقوبات الثانوية الأميركية، إلّا أن هذا التخفيف لم يدم طويلاً. ففي أيار/مايو 2018، أعادت إدارة ترامب فرض عقوبات ثانوية على إيران كجزءٍ من انسحابها أحادي الجانب من الاتفاق النووي. ومرّة أخرى، انزلق الاقتصاد الإيراني إلى الركود، الذي سرعان ما تفاقم بسبب جائحة كوفيد-19. بحلول نهاية العام 2022، أشارت البيانات الاقتصادية إلى تسجيل فترةٍ ركود أليمة لعقدٍ من الزمان. ولكن عند مراجعة الأمر عن كثب، يتبيّن أن تكيّف الاقتصاد الإيراني مع العقوبات كان ديناميكياً إلى حدٍّ مدهش. ففي خضم التأثيرات الضخمة المترتبة على انكماش الناتج المحّلي الإجمالي، وانخفاض حجم التجارة، وضعف العملة المحلّية، نجحت الأُسر الأكثر ثراءً في إيران في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة في ظل العقوبات.
وكما هو موضح في الرسم البياني 1، يمكن أن يُعزى ارتفاع اللامساواة بعد العام 2013 إلى الزيادة الحادّة في ثروة شريحة الـ 5% الأعلى دخلاً، مع تضرّر أولئك الذين ينتمون إلى الـ 80% الأدنى دخلاً. ومن المرجح أن تكون حصّة الإنفاق الخاصة بشريحة الـ 5% الأعلى دخلاً أقل من الواقع. مع ذلك، إن إنفاق شريحة الـ 5% الأعلى دخلاً غير معكوس بالكامل، إذ يميل الأفراد إلى عدم الإبلاغ عن دخلهم ونفقاتهم في المسوحات الاستقصائية لميزانية الأسرة، ولا سيما من هم في أعلى هرم الدخل. وبحسب بيانات المسح، أنفقت الأسرة الواحدة ضمن شريحة الـ 1% الأعلى دخلاً نحو 109 آلاف دولار (وفق تعادل القوة الشرائية) في العام 2021. ومن المؤكّد أن هناك أسر إيرانية تنفق أضعاف هذا الرقم ولم تُمثَّل في عيّنة المسح - حيث أن توزيع الدخل قابل للتركيز أكثر وأكثر. وبالمقارنة، تمكّنت شريحة الـ 6 إلى 20% من الأسر الأعلى دخلاً من الاحتفاظ بحصّتها من الإنفاق. فيما انجرفت جميع الأسر الأخرى إلى وضع أسوأ في خلال العام 2021 ممّا كانت عليه في العام 2011، قبل أن تغيّر عقوبات أوباما المسار الاقتصادي لإيران.
ارتفاع الأرباح
كثيراً ما يلُقي الساسة والنقّاد والجمهور في إيران اللائمةِ على الفساد في اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ولكن ليس كلّ من يزداد ثراءً متورّط في الفساد، إذ تضمّ شريحة الـ 5% الأعلى دخلاً نحو مليون أسرة. إن تنامي اللامساواة ناتج عن تحوّل بنيوي في الاقتصاد الإيراني تحفّزه العقوبات.
أعطى المصنّعون الأولوية للكفاءة وقمعوا الأجور، ما سمح لهم بالاستحواذ على حصّة أكبر من العائدات كأرباح
ويمكن رؤية الأدلة الدامغة على هذا التحوّل البنيوي في بيانات القطاع الصناعي في إيران. بعد بضع سنوات صعبة في أوائل إلى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وجد المصنِّعون طرقاً لتحقيق النمو في ظل العقوبات، وصقل ثروات طبقة حاملي الأسهم. لقد أدّت العقوبات إلى انخفاض الاستثمار مع ارتفاع تكلفة رأس المال وتقييد معظم الشركات المصنّعة بمخزونها الرأسمالي القائم. لكن أدّت العقوبات أيضاً إلى تغيير جذري في بنية الأسعار المرتبطة بالإنتاج والتجارة الدولية. واستفاد المصنّعون من استبدال الواردات وتجديد القدرة التنافسية للتصدير من أجل توسيع الإنتاج ضمن مجالات معيّنة. وتضاعف إجمالي القيمة المضافة وبالقيمة الحقيقية في الصناعات الكبرى منذ العام 2015.
لم يكن بوسع الشركات، التي تسعى إلى تعزيز الإنتاج من أجل الاستفادة من بنية الأسعار الجديدة، أن تستثمر ببساطة في التكنولوجيا الجديدة. بدلاً من ذلك، أعطى المصنّعون الأولوية للكفاءة وقمعوا الأجور، ما سمح لهم بالاستحواذ على حصّة أكبر من العائدات كأرباح. ويبيّن الرسم البياني 2 أن فرض العقوبات في خلال الفترتين 2011-2013 و2018-2020 يقترن بانخفاضٍ حادٍّ في حصّة الأجور من إجمالي القيمة المضافة. في الواقع، انخفض إجمالي أجور العمّال كنسبةٍ من إجمالي القيمة المضافة إلى أقل من 14% في العام 2020، بالمقارنة مع 24% بالمتوسّط في خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ويصوِّر الرسم البياني 3 هذه الديناميكية بمزيدٍ من التفصيل: فقد أدّت العقوبات إلى خفض الأجور الحقيقية للعمّال بصورةٍ كبيرة. وبلغ متوسّط الأجور في المؤسّسات الصناعية الكبرى في العام 2020 أقل بنسبة 22% من متوسّطه في خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وفي الوقت نفسه، أدّت العقوبات إلى رفع متوسّط إنتاجية العمل، ليس من خلال عمليّات التسريح الجماعي للعمّال في القطاع الصناعي، وإنّما عبر زيادة الإنتاج لكلّ عامل مُستبقى. أصبح العمّال الصناعيون في إيران أكثر إنتاجية، ولكن معظم إنتاجهم الإضافي يستحوذ عليه مالكو رأس المال ومديروه.
وتُعزَّز هذه الاستنتاجات من خلال الإفصاحات المالية التي تُظهر أن الشركات المتداولة علناً في إيران أصبحت أكثر ربحية، حتى مع تعرّض الاقتصاد لمعدّلاتِ تضخّمٍ مرتفعة. منذ أن أعاد الرئيس ترامب فرض العقوبات، ارتفع متوسّط هامش ربح الشركات المُدرجة في بورصة طهران (باستثناء القطاع المالي) إلى 26%، من متوسّط 11% في السنوات الأربع التي سبقت آذار/مارس 2018، وهي الفترة التي كان التضخّم خلالها مرتفعاً ولكن تحت السيطرة.
أدّت العقوبات إلى زيادة الأرباح واتساع فجوة اللامساواة، وسهّلت التحوّل البنيوي للاقتصاد الإيراني الذي يحابي أولئك الذين يسيطرون على رأس المال. كما أدّت العقوبات إلى ترسيخ النخبة الإيرانية وتمكينها عبر الحدّ من عملية إعادة التوزيع الاقتصادي التي كانت جارية قبل العام 2012. وقد تساعد هذه التأثيرات التوزيعية في تفسير السبب وراء فشل «الأزمة الاقتصادية الحقيقية»، على حدّ تعبير يلين، في إرغام إيران على تغيير سلوكها، فالأشخاص الأكثر احتياجاً إلى تخفيف العقوبات هم الأقل نفوذاً في الاقتصاد السياسي الإيراني، ولا يزال نفوذهم آخذاً في التضاؤل لأن آلام العقوبات تُوزَّع على نحوٍ غير متكافئ.
نُشِر هذا المقالفي Phenomenal World في 23 آب/أغسطس 2023.