Preview أزمة الديون

تفجير الديون لإنقاذ الرأسمالية العالمية

  • الحلول التي يقدّمها البنك وصندوق النقد الدوليين لأزمات الدول تتمثّل في المزيد من سياسات السوق الحرّة والخصخصة. وهذا ما يُفرض على سريلانكا المفلسة ثمناً لقاء إنقاذها من الإفلاس. وهو الثمن نفسه الذي وافق نظام زيلينسكي في أوكرانيا على دفعه للحصول على دعم الناتو ضدّ روسيا.

  • تتحدّد فترات الركود عندما ينكمش نظام الائتمان بسبب نقص النقد الجاهز. وهذا يجبر قطاع الأعمال على الحدّ من الإفراط في التداول والإنتاج والتحوّل إلى تصفية فائض الإنتاج السابق

لقد خرجت الرأسمالية العالمية من أزمتي 2008 و2020 عبر خَلْقِ ديونٍ هائلة. إن الدين العام الأميركي هو المؤشّر الأهم على عملية خلق الديون هذه، نظراً لثقل الاقتصاد الأميركي. فبعد أن كانت النسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي قبل أزمة العام 2007، تجاوزت 130% بعد ركود العام 2020.

أزمة ديون

في الاتحاد الأوروبي، كان متوسّط نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي 88% في نهاية العام 2021. وعلى الرغم من أن معاهدة ماستريخت المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي تنَصُّ على 60% كحدٍّ أقصى، فإن النسبة في العديد من البلدان تبدو أعلى بكثير من مستوى 100% من الناتج المحلي الإجمالي، كما يبيّن الجدول أدناه.

أزمة ديون

في العام 2020، على المستوى العالمي، بحسب صندوق النقد الدولي، «لاحظنا أكبر إرتفاع للديون في عامٍ واحد منذ الحرب العالمية الثانية، مع ارتفاع الدين العالمي إلى 226 تريليون دولار بعد تعرّض العالم لأزمةٍ صحّية عالمية وركود عميق». كانت الديون مُرتفعة بالفعل مع اندلاع الأزمة، ولكن يتعيَّن على الحكومات الآن أن تُبْحر عبر عالم يتَّسم بارتفاعِ مستويات الديون العامة والخاصة إلى مستويات غير مسبوقة، وطفرات الفيروسات الجديدة، وارتفاع معدّلات التضخّم. «ارتفع الدين العالمي [العام والخاص] بنسبة 28 نقطة مئوية، ليصل إلى 256% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2020 [أي في خلال عام واحد]. وقفزت نسبة الدين العام العالمي إلى مستوى قياسي بلغ 99% من إجمالي الناتج المحلّي في العالم».

في نهاية الحرب العالمية الثانية، بلغ إجمالي الدين بعد الاقتراض الهائل لدفع تكاليف الحرب، حوالى 100% من الناتج المحلّي الإجمالي. وظل عند هذا المستوى حتى نهاية السبعينيات. وإلى جانب استخدامها كقيدٍ على الإنفاق الحكومي، فإن هذا الطوفان من الديون، مقترناً بارتفاع أسعار الفائدة، من شأنه أن يدفع بالعديد من الاقتصادات باتجاه العجز عن سداد. وينطبق هذا على بعض الدول الغنية المثقلة بالديون مثل اليونان وإيطاليا، كما يضرّ بالعديد من الدول الفقيرة.

هذا الطوفان من الديون، مقترناً بارتفاع أسعار الفائدة، من شأنه أن يدفع بالعديد من الاقتصادات باتجاه العجز عن سداد. وينطبق هذا على بعض الدول الغنية المثقلة بالديون مثل اليونان وإيطاليا، كما يضرّ بالعديد من الدول الفقيرة

إن مشكلة الديون لا تؤثِّر على الدول فحسب، بل على الشركات أيضاً. لا يوجد معيار رسمي للشركات «الزومبي» غير القادرة على خدمة الديون، ومن ثمّ تختلف التقديرات فيما يتصل بالعدد. وبحسب تقارير ألفا: «في العام 2021 ذكرت غولدمان ساكس أن حوالى 13% من الشركات المُدرجة في الولايات المتّحدة يمكن اعتبارها شركات زومبي»، ووصفتها «بالشركات التي لم تنتج ما يكفي من الأرباح لخدمة ديونها». وجدت دراسة الاحتياطي الفيدرالي أن حوالى 10% لا أكثر من الشركات العامة كانت شركات زومبي في العام 2019. وأخيراً، وجدت دراسة دويتشه بنك التي كتبها جيم ريد في العام 2021 أن أكثر من 25% من الشركات الأميركية كانت شركات زومبي في خلال العام 2020». وتفيد تقارير بلومبرغ أن إجمالي ديون شركات الزومبي يبلغ 900 مليار دولار. هذه ليست ظاهرة مقصورة على أميركا. تمثِّل شركات الزومبي أكثر من 20% من الشركات في أوروبا بحسب DW. وأسعار الفائدة المرتفعة من شأنها أن تزيد من صعوبة إعادة تمويل هذه الشركات لديونها، وهو ما قد يؤدّي إلى التخلّف عن السداد، ما يعني بدوره تسريح أعداد كبيرة من العمّال.

يتعرّض العالم كذلك لضربةٍ مزدوجة من الانكماش الناجم عن الحروب وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية والأسمدة وغير ذلك من السلع الأساسية. وهذا من شأنه أن يزيد من حدِّة الانكماش. ذلك أن عملة الولايات المتّحدة ترتفع في مقابل غالبية العملات الأخرى بسبب هروب الرساميل إلى الأمان في أكبر الأسواق المالية على مستوى العالم. وهذا يعني أن ديون البلدان الفقيرة، التي عادةً ما تكون بالدولار الأميركي، أصبحت غير قابلة للسداد على نحو متزايد. 

وكما أشارت منظّمة أوكسفام في تحليل جديد، فقد وافق صندوق النقد الدولي أثناء العام الثاني للوباء (من آذار/مارس 2021 إلى آذار/مارس 2022) على 23 قرضاً إلى 22 دولة في الجنوب العالمي ــ وكلها إمّا شجّعت أو فرضت تدابير تقشّفية.

تسارع الفقر العالمي

أعلن صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العالمي يدخل في ركودٍ كبير، ممّا أدّى إلى خفض توقّعات النمو في 143 دولة. وفي الوقت نفسه، بلغت معدّلات التضخّم مستويات تاريخية. في جميع أنحاء العالم، يسقط مئات الملايين من الناس في براثن الفقر، ولا سيّما في الجنوب العالمي. وقد دقّت أوكسفام ناقوس الخطر بما يفيد بأننا «نشهد أعمق سقوط للبشرية نحو الفقر المدقع والمعاناة».

حتى قبل أزمة أوكرانيا، كنا نواجه أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة. ثم اعتقدنا أن الأمر لن يتفاقم أكثر من ذلك، بيد أن هذه الحرب كانت مدمّرة

ويصف ديفيد بيزلي، مدير برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتّحدة، الوضع على النحو التالي: «حتى قبل أزمة أوكرانيا، كنا نواجه أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة. ثم اعتقدنا أن الأمر لن يتفاقم أكثر من ذلك، بيد أن هذه الحرب كانت مدمّرة». وأضاف: «ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع المزمن من 650 مليون إلى 810 مليون في السنوات الخمس الماضية … وزاد عدد الأشخاص الذين يعانون من صدمة الجوع من 80 مليون إلى 325 مليون في خلال الفترة نفسها. وهم يصنّفون على أنهم يعيشون في مستويات أزمة انعدام الأمن الغذائي، وهو مصطلح يعني أنك تسير نحو المجاعة وأنت لا تعرف من أين تؤمن وجبتك التالية… بعد الانهيار الاقتصادي في الفترة 2007-2009، اندلعت أعمال الشغب وغيرها من الاضطرابات في 48 بلداً حول العالم مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية والتضخّم… والعوامل الاقتصادية التي لدينا اليوم هي أسوأ بكثير من تلك التي رأيناها قبل خمسة عشر عاماً». وقال إنه إذا لم تُعالَج الأزمة، فإنها ستؤدي إلى «المجاعة وزعزعة استقرار الدول والهجرة الجماعية». وختم: «إنها مرحلة مخيفة للغاية. سوف نواجه جحيماً على الأرض إذا لم نُبادر على الفور».

لكن الحلول التي يقدّمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للأزمة التي تواجهها هذه الدول تتمثّل في المزيد من سياسات السوق الحرّة والخصخصة. وهذا ما يُفرض الآن على سريلانكا المفلسة ثمناً لعملية الإنقاذ من الإفلاس. وهذا هو الثمن الذي وافق نظام زيلينسكي في أوكرانيا على دفعه في مقابل دعم الناتو ضدّ روسيا.

كما تتفاقم أزمة المناخ لأن الأزمات الرأسمالية والحروب الإمبريالية تزيد من إنتاج مصادر الطاقة المدمّرة لكوكب الأرض. وليس أمام الرأسماليين من بديل سوى أن يكونوا رأسماليين، وكوكب الأرض محكوم عليه بالفناء إذا ما واصلنا التصرف جرياً على العادة.

طفرة ما بعد كوفيد

إن السبب وراء الأزمة الحالية هو الإفراط في إنتاج السلع في خلال فترة الازدهار التي أعقبت فيروس كوفيد. كان تاريخ الرأسمالية بالكامل منذ أوائل القرن التاسع عشر يتسم بحركة دورية من الانتعاش والكساد كل عقد من الزمان أو ما إلى ذلك. أطلق ماركس على الأزمات اللاحقة أزمات فائض الإنتاج. ولم يكن هذا فائضاً في الإنتاج من حيث الاحتياجات الإنسانية، بل كان فائضاً في الإنتاج من حيث القدرة على بيع السلع بمعدل متوسّط للربح على الأقل.

بعد أزمة البنوك في الفترة 2007-2009 والركود الأعظم، كان الرأسماليون حذرين بشأن مراكمة مخزون السلع والاستثمار. وقد حال ذلك دون حدوث أزمة جديدة في فائض الإنتاج على الصعيد العالمي لبضع سنوات على حساب استمرار البطالة وتدهور مستويات المعيشة. وبدا أن الركود قد أصبح «الوضع الطبيعي الجديد للاقتصاد العالمي».

خشيت الطبقة الحاكمة من أن يؤدّي الفيروس إلى القضاء على الطبقة العاملة وإضعاف قدرتهم على استخراج فائض القيمة، فاستخدموا سلطة الدولة لإغلاق الاقتصاد مما أدّى إلى تعطُّل الملايين عن العمل

ومع ذلك، بحلول أواخر العام 2019، ظهرت علامات الإفراط في الإنتاج مرّة أخرى، ممّا تسبّب في ارتفاع أسعار الفائدة، على الرغم من أن الوضع لم يصل بعد إلى الأزمة.

ولكن بعد ذلك جاء فيروس كورونا. في آذار/مارس 2020، خشيت الطبقة الحاكمة من أن يؤدّي الفيروس إلى القضاء على السكان من الطبقة العاملة إلى الحدّ الذي ستضعف فيه قدرتهم على استخراج فائض القيمة من الناجين. واستخدموا سلطة الدولة لإغلاقِ جزءٍ كبير من الاقتصاد، مما أدّى إلى تعطُّل الملايين عن العمل بين عشية وضحاها.

تسبّبت عمليات الإغلاق الناجمة عن فيروس كورونا في عجزٍ قسري في إنتاج السلع وانخفاض المخزونات. وعندما تم تخفيف عمليات الإغلاق، بدأت الطفرة في إعادة بناء المخزونات مع ارتفاع الطلب على السلع الأساسية. تجاوز الطلب العرض ممّا أدّى إلى ارتفاع الأسعار وارتفاع الأرباح. كان هناك ارتفاع في الطلب على القوى العاملة. بيد أن الأجور لم تواكب التضخّم، وعليه انخفضت الأجور الحقيقية.

سلّطت مدوِّنة نقد نظرية الأزمات الضوء على العلامات المتسارعة للأزمة في منشور بتاريخ 22 أيار/مايو بعنوان «الأزمة الزائفة، الأزمة الحقيقية، وسوط الجوع».  ولاحَظَتْ أن الإنتاج الزائد الهائل الناجم عن الطفرة التي أعقبت فيروس كورونا، دفع الاقتصاد إلى حافة ما يمكن أن يصبح ركوداً عميقاً. ويظهر ذلك من خلال انهيار أربعة بنوك إقليمية، فضلاً عن المؤشرات الرئيسية كالعلاقة بين أسعار الفائدة القصيرة والطويلة الأجل، والتي تسمى منحنى العائد - ومقاييس المعروض النقدي، وأوراق الدولار، والعملات المعدنية، والودائع المصرفية، التي تعمل كعملة. لم يكن منحنى العائد معكوساً إلى هذا الحد - الفائدة قصيرة الأجل أعلى من الفائدة طويلة الأجل - منذ أوائل الثمانينيات. كما أن المعروض النقدي العالمي، الذي ينبئ باقتراب الركود، ينكمش بمعدّلات لم نشهدها منذ الأزمة الفائقة في أوائل الثلاثينيات.

وإذا لم يكن هذا كافياً، فإن سعر الذهب بالدولار كان أعلى من 2000 دولار لأسابيع عدّة أثناء كتابتي لهذه السطور في الثالث عشر من مايو/أيار 2023. ويكمن أهميته في أنه إذا حاول نظام الاحتياطي الاتحادي درء الأزمة عن طريق التحرّك لعكس مسار انكماش المعروض النقدي العالمي، فإن التهافت على الدولار يمكن أن يتطوّر بحيث يغرق النظام النقدي الدولي المقوّم بالدولار، وهو الأساس المالي للإمبراطورية الأميركية. وقد نجحت العديد من البلدان بالفعل في تكديس احتياطيات الذهب واتخاذ خطوات أخرى للحدّ من اعتمادها على الدولار.

وكلّما لاحت أزمة عالمية تتعلّق بفرط إنتاج السلع، تتعرّض الحكومات لضغوط من أجل الحدّ من اقتراضها وإنفاقها. فحين يتوفر الكثير من المال والائتمان، يصبح بوسع الحكومات المركزية أن تقترض من دون خفض كمّية أموال القروض المتاحة لبقية قطاعات الاقتصاد. ولكن عندما تبدأ أموال القروض في النضوب، كما حدث قبل الركود مباشرة، فإن الاقتراض الحكومي يعمل على التعجيل باندلاع أزمة الائتمان في الاقتصاد. 

إن الركود في الولايات المتّحدة يحدث الآن. وتتحدّد فترات الركود عندما ينكمش نظام الائتمان بسبب نقص النقد الجاهز. وهذا يجبر قطاع الأعمال على الحدّ من الإفراط في التداول والإنتاج والتحوّل إلى تصفية فائض الإنتاج السابق.

إن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يواجه معضلة. فهو يحتاج إلى الركود حتى يتمكّن من القضاء على الإفراط في الإنتاج. ولكن الركود قبل انتخابات العام 2024 قد يؤدّي إلى انتخاب دونالد ترامب الذي يخشاه كثيرون في الطبقة الحاكمة بسبب تصريحاته الطائشة والدكتاتورية. لذلك يأمل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في حدوث هبوط سلس من خلال إيقاف سلسلة ارتفاعات أسعار الفائدة مؤقتاً في حزيران/يونيو 2023. بيد أن ارتفاع أسعار الفائدة قد استؤنف في 27 تموز/ يوليو، عند 5.5% وهو أعلى مستوى منذ 22 عاماً مع الإشارة إلى المزيد من الارتفاعات. ويتهم خبراء الاقتصاد النقديون بنك الاحتياطي الفيدرالي بأنه ضعيف للغاية. ويتهمه أتباع كينز عموماً بأنه صلب للغاية.

إن هذه المناقشة عن مدى فعالية السياسات النقدية في تنظيم تقلّبات الدورة الاقتصادية صعوداً وهبوطاً ليست من المواضيع التي يشارك فيها العاملون. ولا يضع أي من الجانبين مصالحنا في الاعتبار.

نشر هذا المقال في The Daily Blog في 3 آب/أغسطس 2023.