Preview تبادل الاتهامات حول التضخم

لعبة تبادل الاتهامات حول التضخّم

  • يكمن الخطر في أن تقود السياسات النقدية التوسّعية المستمرة إلى إطلاق العنان لتضخّمٍ مفرطٍ في قيمة الدولار بصفةٍ خاصة، وهو من شأنه أن يدمّر قيمته ويضع حدّاً لدوره كعملةٍ عالميةٍ مهيمنة. ومن وجهة نظر أصحاب الواحد في المئة من مالكي ثروات العالم، لا بد من الحيلولة دون وقوع هذا بأي ثمن.
  • يدرك الرأسماليون أنهم في حاجة إلى جرعات جديدة من طباعة النقود والإنفاق الحكومي لإنقاذ نظامهم. لا ينتج الرأسماليون إلا إذا تمكّنوا من بيع البضائع لتحقيق الربح. ولا يقرضون المال إلّا إذا شعروا أنهم سوف يستعيدون أموالهم مع الفوائد. وفي الأساس، تدخّلت الدولة في كلّ بلد تقريباً لحماية تلك الأرباح كلّما تعرّضت للتهديد.

لقد عاد التضخّم إلى العالم أجمع، وعادت معه لعبة إلقاء اللوم، فما هي الحقيقة وراء ما يُقَدَّم من ادِّعاءاتٍ وادّعاءاتٍ معاكسة؟

أولاً، خلفية بسيطة 

أدّى الركود العالمي الوشيك في أواخر العام 2019، الذي أنذر به تجميد أسواق الريبو (إعادة الشراء) في الولايات المتّحدة، إلى الشروع في طباعة كمية كبيرة من النقود. وخُفِّضتْ أسعار الفائدة من أجل تحرير الائتمان.

وفي أوائل العام 2022، أدّت تدابير الصحة العامة - الإغلاق الاقتصادي - التي فرضتها الاستجابة لجائحةِ كوفيد إلى المزيد من تَعطُّلِ الإنتاج والتجارة العالميين. توسّعت البنوك المركزية في طباعة النقود عبر العالم أجمع، كما ارتفع عجز الموازنة الحكومية ارتفاعاً كبيراً للتكيّف مع ذلك. وانخفضت أسعار الفائدة إلى ما دون الصفر في بعض الحالات. وقد دُفع للناس مقابل اقتراض المال، تَخيَّل! 

كما استغلت الاحتكارات التي تُهيمن على الإنتاج والتجارة العالميين النقص الحقيقي أو المتلاعب به لفرض التلاعب بالأسعار حيثما أمكن. وهو ما أدّى إلى ارتفاع أرباح شركات الطاقة، على سبيل المثال، إلى مستوياتٍ هائلة.

تجاهل النقديون نظرياتهم في سبيل إنقاذ نظامهم آنذاك، وبدا وكأن الأمر نجح تلك المرّة من دون التسبّب في اتساع نطاق التضخّم مقارنة بالتضخم الذي ألمَّ بأصولهم، ولذلك فقد كانوا يأملون أن ينجح أيضاً في هذه المرّة

تجاهلت معظم البنوك المركزية، بما فيها بنك الاحتياطي النيوزيلندي، التضخّم المتزايد، وألقت باللائمة على التَّعطُّل المؤقّت لسلسلة التوريد فيما يخصّ ارتفاع الأسعار.

أمّا الأصوات الاقتصادية والسياسية اليمينية التي تتلمذت في المدارس الفكرية «النقدية»، والتي تذهب إلى أن التضخّم دائماً هو ظاهرة نقدية (على الرغم من اختلافهم جميعاً على ماهية النقود)، فقد التزمت الصمت. حيث شعروا أن نظامهم نجح في النجاةِ من رصاصة الانهيار الاقتصادي الشامل. وإني لعلى يقين من أن الانفجار الاستثنائي الذي شهدته ثروة الأصول العالمية للطبقة الحاكمة، والذي بدأ في أواخر العام 2020 وحتى العام 2021، قد شكَّل كذلك عاملاً في إخماد الانتقادات. 

ولكن من المفترض أن هؤلاء النقديين أنفسهم كانوا مسؤولين عن السياسة الاقتصادية والنقدية في خلال العام 2008، عندما بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عملية طباعة النقود، والتي أطلق عليها مسمى «التيسير الكمّي»، للمرّة الأولى في محاولة للخروج من أعمق أزمة في الرأسمالية العالمية منذ أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين. لقد تجاهل النقديون نظرياتهم في سبيل إنقاذ نظامهم آنذاك، وبدا وكأن الأمر نجح تلك المرّة من دون التسبّب في اتساع نطاق التضخّم مقارنة بالتضخم الذي ألمَّ بأصولهم، ولذلك فقد كانوا يأملون أن ينجح أيضاً في هذه المرّة. 

ولكن متوسط التضخّم اليوم يتراوح بين 6% إلى 10% في قسمٍ كبير من العالم. وهذه أرقام لم نشهدها منذ عقود. وتتراوح معدّلات التضخّم في تركيا والأرجنتين وسريلانكا بين 60% و80%.

وفي ظل هذه الظروف، يكمن الخطر في أن تقود السياسات النقدية التوسّعية المستمرّة إلى إطلاق العنان لتضخّمٍ مفرطٍ في قيمة الدولار بصفةٍ خاصة، وهو ما من شأنه أن يدمّر قيمته ويضع حداً لدوره كعملةٍ عالميةٍ مهيمنة. ومن وجهة نظر أصحاب الواحد في المئة من مالكي ثروات العالم، فلا بد من الحيلولة دون وقوع هذا بأي ثمن.

لقد كان التضخّم المفرط مهدداً من قَبل في أواخر سبعينيات القرن العشرين عندما بلغ 13% في الولايات المتّحدة، وكان هناك هروب من الدولار إلى الذهب الذي تضاعف سعره على مدى بضعة أشهر في أواخر العام 1979. ولقد تطلّب هذا ما أُطلق عليه وصف «صدمة فولكر»، المشتق من اسم مدير بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي آنذاك بول فولكر، الذي توقّف عن «تخفيف» التوسّع النقدي واستعادة الثقة في الدولار من خلال رفع سعر الفائدة الرسمي لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى 20%. 

كما استهدف تخفيض الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعية والتعليم. وباتت «ميزانيات التقشّف» هي القاعدة. وأصبح السعي إلى تحقيق فائض في الميزانية من التقاليد الاقتصادية السائدة في الدول الرأسمالية الكبرى، على الرغم من أن هذا لم يتحقّق إلّا بصورةٍ مؤقتةٍ في الولايات المتّحدة، نظراً لمقتضيات حروبها الإمبريالية الدائمة عبر العالم.

وبعد مرحلة السبعينيات التضخّمية في نيوزيلندا، شهدنا نسختنا من صدمة فولكر في ظل حكومة حزب العمّال الجديدة المنتخبة في العام 1984، وبلغ سعر الفائدة الرسمي أعلى مستوياته على الإطلاق في خلال العام 1985 حيث بلغ 18%. وتصل معدّلات فوائد الرهن العقاري المتغيّرة إلى 20%.

الأمْولة وانحسار التصنيع 

وبطبيعة الحال، كان الرأسماليون، الذين يعملون في مجال إقراض المال يستفيدون إلى حدّ كبير من أسعار الفائدة المرتفعة بدلاً من إنتاج السلع. كما لا يوجد سبب للبدء في مشروع تجاري ما لم يكن معدّل الربح أعلى من تكلفة المال. أوضح ماركس في رائعته «رأس المال» أن الرأسمالي لن يستثمر أبداً في الإنتاج الجديد إلا إذا كان ربح المشروع أعلى من معدّل الفائدة بما يكفي ليتمكّن من توليد متوسط معدل الربح الذي يحتاجه لكي يظل قادراً على المنافسة. هذا هو الأصل الاقتصادي للأمولة وانحسار التصنيع في الدول الرأسمالية المتقدّمة، حيث أصبحت شركة جنرال إلكتريك حرفياً رأسمال جنرال إلكتريك.

الرأسماليون، الذين يعملون في مجال إقراض المال يستفيدون إلى حدّ كبير من أسعار الفائدة المرتفعة بدلاً من إنتاج السلع. كما لا يوجد سبب للبدء في مشروع تجاري ما لم يكن معدّل الربح أعلى من تكلفة المال

لا يعبأ الواحد في المئة بكيف يجنون أموالهم. ولكن الثروة المتراكمة لا بد وأن تُخزَّن في أصول مالية وغير مالية. وتاريخياً، كانت هذه الحصة مناصفة بوجهٍ عام، غير أن الفجوة بدأت تتوسّع لصالح الأصول المالية منذ العام 2008.

الواحد في المئة يكرهون التضخّم كرهاً شديداً بما أنه يقلّل من قيم أصولهم المالية بتلك النسبة أو أكثر. كما يغضب العمّال من ارتفاع الأسعار وربما ينضمّون إلى الاحتجاجات والإضرابات دفاعاً عن مستويات المعيشة. وفي الظروف العادية، سوف تتحرّك البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة وإبطاء الاقتصاد لمنع ذلك. وهذا من شأنه أن يلحق الضرر، ولو بشكل مؤقّت، بالأرباح وأسعار سوق الأسهم، بيد أن هذه هي تكاليف استعادة استقرار الأسعار.

لكن في عامي 2008 و2020، حاولت البنوك المركزية منع الاقتصاد من الانكماش إلى حدٍّ أكبر مما كان عليه بالفعل (في العام 2008) أو مما كان متوقعاً له (في العام 2020) عن طريقِ طباعة النقود، عبر جولة أخرى مما يسمى «التيسير الكمّي». وفي العام 2008، لم يؤدِّ هذا إلى قدر كبير من التضخّم، حيث كان الركود قد ضرب الولايات المتّحدة بشدةٍ فعلاً، لذلك اكتنزت شريحة الواحد في المئة الأموال أو استخدمتها لتسوية الديون فيما بينها بدلاً من تعزيز الإنفاق على نطاق أوسع.

ولكن الجولة الأخيرة من التيسير الكمّي اشتملت على طباعة نقود البنك المركزي وعجز الميزانية الحكومية لإنقاذ النظام. كما مُنِحَت الأموال للناس العاديين لإنفاقها. لم يكن هناك مهرباً من التضخّم في هذه الظروف، كما سأبيِّن. 

إن أصحاب الثروات هم الذين يحدّدون سياسات البنوك المركزية والحكومة فيما يتصل بهذه الأمور، وسوف تستمرّ الحرب على التضخّم طالما كانت ضرورية لتحقيق أهدافهم، ولا بد وأن يتم تبريرها باعتبارها ضرورة أساسية لبقاء أي أمة اقتصادياً.

والواقع أن الساسة اليمينيين و«مفكّريهم» الاقتصاديين الذين يطلق عليهم صفة خبراء الاقتصاد «النقديين» أعادوا اكتشاف معتقداتهم التقليدية، وقالوا إن الخطأ يكمن في الإفراط في الإنفاق الحكومي والإفراط في طباعة أموال البنوك المركزية. والمؤسف أنهم محقّون إلى حدّ ما، ولكن من دون أن يفهموا السبب فهماً كاملاً. والسؤال الذي يجب طرحه عليهم هو لماذا ظلوا صامتين عندما حدث ذلك.

عجز الموازنة كسبب للتضخّم

في السبعينيات، تمثّلت الوسيلة الرئيسية لخلق المال وتغذية التضخّم في إدارة العجز في الميزانية. وكان لزاماً على الولايات المتحدة أيضاً أن تفعل هذا لتمويل الحرب في فيتنام. أصبحت الأرثوذكسية الاقتصادية في ذلك الوقت تعرف باسم الكينزية نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز. كان جون ماينارد كينز اقتصادياً كلاسيكياً ينتمي إلى الطبقة العليا ويؤيّد الرأسمالية والسوق الحرّة. بيد أنه أقرَّ بوجودِ شيء ما خاطئ في وجهة النظر الكلاسيكية حين وقع الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات القرن العشرين، الذي كانت تلك النظريات تستبعد إمكانية حدوثه. 

وقد توصَّل إلى وجهة نظر مفادها أن الاقتصاد قد يحتاج إلى المساعدة عبر تخفيض أسعار الفائدة للبنوك المركزية أو عجز الميزانية في بعض الأحيان من أجل حفز الطلب والتوظيف. كان روبرت مولدون في نيوزيلندا، رئيس الوزراء ووزير المالية من العام 1975 إلى العام 1984، والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) من المؤيدين العلنيين للسياساتِ الكينزية على الرغم من سياساتهما اليمينية. لم يكن كينز صديقاً للعمّال. كان يعتقد أن علاج التضخّم يتمثّل في خفض الأجور عن طريق فرض الضوابط على الأجور.

تم تقليص تمويل عجز الموازنة على نحوٍ حاد - ولا سيما على الإنفاق الذي يساعد الطبقة العاملة - مثل الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم. وحُرِمَت البنية التحتية من الإنفاق، ولقي الملايين من الناس حتفهم نتيجة لذلك

ومع ذلك، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح العجز في الميزانية متوطِّناً. وقد أُطلق على هذه النتيجة وصف «الركود التضخّمي»، وهو مزيج من التضخّم والركود الاقتصادي. وهذا هو الأسوأ بالنسبة للعمّال، وذلك لأن التضخّم يؤدّي إلى خفض الأجور في حين يؤدّي ارتفاع معدّلات البطالة إلى تقويض قدرتنا على المقاومة. ولهذا السبب لا يفضّل الاشتراكيون السياسات الكينزية على السياسات النقدية. إن المشكلة تكمن في النظام الرأسمالي وأزماته المحتومة، وليس في السياسات المصمّمة لإدارة الأزمات.

أُزيح الكينزيون من إدارة العمليات، وحلّ محلهم أتباع المدرسة النقدية. كان المنظّرون الرئيسيون للنظرية النقدية من كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو، بقيادة ميلتون فريدمان. بالإضافة إلى رغبتهم المزعومة في السيطرة على التضخّم، كانوا أيضاً من دعاة السوق الحرّة الراديكاليين الذين وصفوا التقشّف للعمّال، وتحرير تجارة السلع، وتحرير حركة رأس المال، وتحرير أسعار الفائدة الحرة، وخصخصة كل شيء، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية. كما كانوا يؤيدون إلغاء الحدّ الأدنى للأجور والنقابات لأنها «تتدخّل في السوق». يعتبر حزب القانون في نيوزيلندا من أتباع هذه المدرسة. وقد آثروا خفض الضرائب المفروضة على الأغنياء وفرض ضرائب الاستهلاك التنازلية، مثل ضريبة السلع والخدمات، على بقيتنا.

ومع تولّي النقديين المسؤولية، تم تقليص تمويل عجز الموازنة على نحوٍ حاد - ولا سيما على الإنفاق الذي يساعد الطبقة العاملة - مثل الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم. وحُرِمَت البنية التحتية من الإنفاق، ولقي الملايين من الناس حتفهم نتيجة لذلك، حيث عانت حتى أغنى دول العالم من آثار جائحة كوفيد-19 لأن وظائف الدولة الأساسية كانت تتقلّص على مدى عقود.

فقد أصبحت البنوك المركزية مثل نيوزيلندا «مستقلة» لغايةٍ حصرية تتمثّل في استهداف التضخّم لإبقائه عند مستوى منخفض. وكان من المقرّر التحكّم في المعروض النقدي عبر زيادة سعر الفائدة في كل مرة يبدأ فيها الاقتصاد بالنمو قليلاً وتشرع البطالة في الانخفاض. ومن الملائم للقادة السياسيين اليمينيين أن نظرياتهم كانت مناهضة بشدة للطبقة العاملة.

دُعي «فتيان شيكاغو» كما بات يُطلق على فريدمان وزملاؤه إلى تشيلي بهدف تحويل الاقتصاد لصالح الأغنياء في ظل الدكتاتورية العسكرية للجنرال أوغستو بينوشيه، بعد استيلائه على السلطة من حكومة ذات توجّه اشتراكي في انقلاب العام 1973.

اتبعت المملكة المتّحدة سياسات تشيلي في عهد رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في العام 1979، والولايات المتّحدة في عهد الرئيس رونالد ريغان في العام 1981، ونيوزيلندا في العام 1984 بقيادة وزير المالية في حكومة حزب العمّال وزعيم حزب العمل المستقبلي، رودجر دوغلاس. 

النيوليبرالية المنتصرة

أُطلق على هذه السياسات اسم «الليبرالية الجديدة» لتمييزها عن الكينزية السابقة. ومن الممكن نظرياً للحكومة أن تُوقف عجز الميزانية وأن تحارب أثره التضخّمي عن طريق فرض الضرائب على الأغنياء أو إلغاء ميزانيات الحرب. ولكن منذ ذلك الوقت لم تحاول أي حكومة رأسمالية أن تفعل ذلك بطبيعة الحال. وجرى تكليف مؤيدي النظرية النقدية وعقيدة السوق الحرة المرتبطة بها بمسؤولية كافة جوانب السياسة الحكومية. وهذا هو السبب في أن خبراء الاقتصاد في الهيئة الحكومية النيوزيلندية المسؤولة عن سياسات سوق العمل – وزارة الأعمال والابتكار والتوظيف – يتوقعون كل عام أن الارتفاع المقترح في الحد الأدنى للأجور سوف يؤدّي إلى المزيد من البطالة عندما يحدث العكس عاماً بعد عام على مدى العقدين الماضيين، وتراوح الحد الأدنى للأجور من 40 إلى 60% من متوسط الأجر.

لقد تم التخلّي عن الجانب النقدي من هذه السياسات بين عشية وضحاها تقريباً عندما اندلعت أزمة العام 2008. أصبح التيسير الكمّي هو القاعدة عبر العالم الرأسمالي المتقدّم بأسره فيما عدا أستراليا ونيوزيلندا.

وقد اعتبر هذا ضرورياً لوقف الانهيار الشامل للنظام المصرفي والمالي في الولايات المتّحدة وأوروبا. تفجرت أشكال الديون كافّة في مختلف أنحاء العالم، ولكن كان يُنظَر إلى ذلك باعتباره ثمناً لإنقاذ النظام الذي يتمحور حول الربح. ولكن انتعاش الرأسمالية العالمية بعد ذلك كان الأبطأ في تاريخها. أصبح من الواضح أن العالم يستعد لتباطؤ جديد في أواخر العام 2019، حين ضرب الوباء. 

كان الحكام الرأسماليون يدركون أنهم كانوا في احتياج إلى جرعات جديدة من طباعة النقود والإنفاق الحكومي لإنقاذ نظامهم. لا ينتج الرأسماليون إلا إذا تمكّنوا من بيع البضائع لتحقيق الربح. ولا يقرضون المال إلاَّ إذا شعروا أنهم سوف يستعيدون أموالهم مع الفوائد. وفي الأساس، تدخّلت الدولة في كلّ بلد تقريباً لحماية تلك الأرباح كلّما تعرضت للتهديد.

تفجرت أشكال الديون كافّة في مختلف أنحاء العالم، ولكن كان يُنظَر إلى ذلك باعتباره ثمناً لإنقاذ النظام الذي يتمحور حول الربح. ولكن انتعاش الرأسمالية العالمية بعد ذلك كان الأبطأ في تاريخها

يمكن للبنك المركزي أن يخلق النقود بمجرد طباعتها إلكترونياً. ومع ذلك، فإن ما يتم استخدامه من أجله هو شيء يمكن أن يكون مختلفاً في فترات مختلفة. وخلال الأزمة الأخيرة، استخدمت الولايات المتّحدة الأموال لشراء السندات من البنوك والشركات الصناعية المتعثرة للحيلولة دون إفلاسها. 

وانضم بنك الاحتياطي النيوزيلندي إلى نادي التيسير الكمّي في العام 2020 ومُنحت البنوك 28 مليار دولار بالمجان تقريباً لإقراضها مباشرة لمن تريد. ولقد منحوا غالبيتها للمضاربين العقاريين الذين كانوا السبب وراء ارتفاع أسعار المساكن بنسبة 30% في غضون عام واحد. تم توفير 100 مليار دولار أخرى للحكومة من أجل دعم الشركات خلال الوباء.

ومن شأن هذا أيضاً أن يسمح للحكومة بإدارة العجز الضخم في الميزانية من دون مطالبة أصحاب رؤوس الأموال الخاصة بأسعار فائدة رهيبة (على الأقل في البداية) بالسندات التي يصدرونها لتمويل الدين. وهذا أمرٌ «غير تقليدي» بأي مقياس، ولكنه عُدَّ ضرورياً بنظر الجميع مع اندلاع الأزمة.

والآن يُقال لنا إن البنوك المركزية سوف تعود إلى المزيد من السياسات التقليدية على المدى المتوسط. وهذا يعني أن البنك المركزي لا بد أن يسحب السندات التي أنشأها عبر شرائها من جديد، ويتعيّن عليه أن يدفع بأسعار الفائدة إلى الارتفاع حتى يتسنى له أن يفعل ذلك.

ولكن في غياب الضرائب على الثروة، يغدو العجز في الميزانية مستهدفاً كذلك لأنه يخلق الإنفاق اصطناعياً ــ وهو شكل من أشكال خلق النقود إلاَّ أنه يختلف عن طباعة البنوك المركزية للنقودِ على نحوٍ مباشر. وسوف يكون خفض هذا العجز انعكاساً لانكماش الاقتصاد. 

وسيؤدي ذلك لا محالة إلى الركود في نيوزيلندا في خلال السنة المقبلة أو نحو ذلك. وينطبق هذا أيضاً على أوروبا والولايات المتحدة، وعلى العالم أجمع. إن تكلفة إنقاذ النظام الرأسمالي الساعي إلى تحقيق الأرباح سُيلْقَىَ بها الآن على عاتق الطبقة العاملة، لأن الأزمة المقبلة أصبحت أكبر بكثير وأكثر خطورة بسبب مستويات الديون المتصاعدة.

نُشِر هذا المقال في The Daily Blog في 2 آب/ أغسطس 2023.