كيف احتلّت الشركات العالم؟

  • في مقدمته الجديدة لكتاب «انقلاب صامت» للكاتبين كلير بروفوست ومات كينراد، يلخص زعيم حزب العمال البريطاني السابق أفكاره بشأن السطوة المتنامية للقطاع الخاص على المجتمع.

يتمحور «كتاب الانقلاب الصامت: كيف أطاحت الشركات بالديمقراطية» حول قوّة الشركات. ويعود فيه المؤلفان إلى تحقيقاتهما الجريئة بشأن وقائع الصعود الجامح للشركات العالمية، التي تشغل فراغ القوة الذي خلفه انهيار الإمبراطوريات الأوروبية وتخرب نمو الديمقراطية. وبتعريتهما آليات عمل هذه الشركات، يوضحان مواطن ضعف هذه الشركات حين تُكشف.

ينظر الناشطون السياسيون، في أحيان كثيرة، إلى وجودهم برمته من منظور الدولة القومية التي يعيشون ويعملون فيها. يساعدنا هذا الكتاب على أن نتجاوز هذه الآفاق المحدودة وأن نطوّر إحساساً قوياً بالتفكير العالميّ والأممية. ففي نهاية المطاف، أياً كانت الدولة التي نعيش فيها، لا تكترث الشركات العالمية للحدود الوطنية. ما يهم الشركات عبر الوطنية هو قوتها وأسواقها وسلاسل التوريد الخاصة بها.

سمعت توني بين يتحدث لأول مرة في العام 1970، كان ذلك في اجتماع على هامش مؤتمر حزب العمال. كان ينظر في السنوات التي قضاها في الحكومة البريطانية. وكان حزب العمّال قد خسر لتوه انتخابات العام 1970 بعد خمس سنوات ونصف قضاها في منصبه كوزير للتكنولوجيا تحت قيادة هارولد ويلسون.

لا تكترث الشركات العالمية للحدود الوطنية. ما يهم الشركات عبر الوطنية هو قوتها وأسواقها وسلاسل التوريد الخاصة بها

كان يصف كيف حاول أن يعقد اجتماعات مع أكبر الشركات آنذاك، كيف دخلوا مكتبه كأباطرة زائرين، ليملوا عليه ما يفعله عوضاً عن التعامل معه بوصفه وزيراً منتخباً يحاول أن يدير سياسات بشكل ديمقراطي؛ سياسات مثل توسيع الملكية العامة وزيادة مشاركة العمّال؛ سياسات متضمنة في بيان نال تفويضاً انتخابياً.

حفز كشف توني بين لقوة الشركات التفكير لدى يسار حزب العمال حول كيفية مجابهتها على مستوى عالميّ. فأدركنا أن السياسات التقليدية المتصلة بالملكية العامة كانت ضرورية، غير أنها لم تكن كافية. ومنذ ذلك الحين، نمت سطوة الشركات على حكوماتنا نمواً كبيراً.

لننظر، مثلاً، إلى آخر الأنباء حول كيف تلوّث شركات المياه الأنهار والبحار البريطانية بسماحها لمياه الصرف الصحيّ أن تتدفق إليها. فأنهارنا تلوثت 300 ألف مرة في العام 2022 وحده. ووعدت الحكومة أن تخفض عدد عمليات التصريف الملوِّثة بنسبة 25% في خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهذا يعني أنه حتى لو حققت الشركات هذا الهدف، فلا يزال هناك 225 ألف تصريف ملوِّث سنوياً؛ وهذا لا يتضمن أيّ شيء عن حجم تلك عمليات التصريف تلك. 

الاستيلاء على الدولة

إذن، ما الحل؟ أن نسمح لهؤلاء اللصوص أن يفلتوا بفعلتهم ويستمروا في تدمير أنهارنا وجداولنا وبحارنا؟ أم أن نتخذ الخيار الواضح، أن ننبذهم ونجعل مرافق المياه لدينا ملكيةً عامةً. فبوصفها مورداً طبيعياً ومصدراً للحياة، هذا هو مكانها الطبيعيّ.

يبيّن كتاب «انقلاب صامت» كيف تؤثر قوة الشركات في الناس في مختلف أنحاء العالم. يوضح كيف أصبحت النُظم الزراعية، التي لم تُطوَّر بطريقة مستدامة، غير مستدامة. وتحلّ الزراعة الأحادية محلّ التنوع في الزراعة. ويُنظر إلى فكرة المزرعة المختلطة على أنها فكرة مُفوَّتة وبالية وغير فعّالة.

تريد شركة «بريتيش بتروليوم» أن نصدّق أنها موجودة لحماية الكوكب فحسب

في المزرعة المختلطة، يتغذى محصول على آخر. والنتيجة اتساق يحمي البيئة. أتذكر ما كان والدي يشرحه لي حين كنتُ طفلاً عندما كنّا ننظر إلى هذه الأراضي الزراعية القريبة من المكان الذي كنّا نعيش فيه في شروبشاير.

كان والدي يوضح لي كيف ظلت هذه الأرض خصبة لأكثر من ألف عام لأنها كانت تُدار بطريقة مستدامة. بعدها كان يشرح لي كيف سادت العقلية الرعوية وقتئذ حيث جرى تدمير الأسيجة وقطع الأشجار والحدّ من تنوّع الإنتاج في المزارع في اتجاه إلى الزراعة الأحادية.

فضلاً عن ذلك، بدلاً من التسميد بالسماد الطبيعي، تستخدم الزراعة الصناعية الجديدة مبيدات أعشاب ومبيدات حشرية وأسمدة كيمائية تترك تأثيراً طويل الأمد على السلسلة الغذائية لنا جميعاً. لمَ يحدث هذا الأمر؟ لأن الشركات الكبرى تروّج للأسمدة الكيميائية التي تجني أموالاً طائلة منها.

في استجابة جزئية لهذه الانتقادات المتزايدة لكل هذا التلويث لمياهنا وغذائنا، إلى جانب التهديدات المتعلّقة بتغيّر المناخ، نواجه ظاهرة «غسيل السمعة الأخضر».

تريد شركة «بريتيش بتروليوم» أن نصدّق أنها موجودة لحماية الكوكب فحسب. تحكي لنا ذلك كل يوم وتنفق أموالاً طائلة لتفعل ذلك. ولا تذكر شيئاً عن المستويات البشعة للتسربات النفطية والأضرار التي تلحق بالبيئة.

لا تحدثنا شركة «إكسون موبيل» عن القصة المروعة لما حدث في الإكوادور. ولا تخبرنا شركة «شِل» عمّا حدث في مناطق الدلتا في نيجيريا.

استحواذ صامت

يوضّح هذا الكتاب، بأمثلة عديدة، كيف يعني الاستحواذ الصامت، والمطرد في الوقت نفسه، لقوة الشركات على الحكومة والاقتصاد أننا نواجه مزيجاً من جشع الشركات ونزعة استهلاكية ووسائل إعلام غير مستعدة للتقصي عن حقيقة ما يحدث أمامها.

كنتُ في كولومبيا لحضور الانتخابات الرئاسية في العام 2022، حيث التقينا مجموعة ناشطة في مجال الحقوق في الأراضي. وصفوا عملهم وشجاعتهم في الوقوف أمام مصالح الشركات، بما فيها الشركات التي اغتالت عديد من الناشطين.

لا تحدثنا شركة «إكسون موبيل» عن القصة المروعة لما حدث في الإكوادور. ولا تخبرنا شركة «شِل» عمّا حدث في مناطق الدلتا في نيجيريا

سألتهم عمّا قد يحدث إذا لم يفز المرشح اليساري غوستافو بيترو بالانتخابات. فقال أحد قادتهم: «سوف نواصل حملاتنا من أجل الحقوق في الأراضي. سوف نواصل حملاتنا من أجل التعليم في المجتمعات الريفية. وسوف نواصل حملاتنا من أجل الاستدامة».

لكن ماذا لو فاز بيترو بالانتخابات؟ (وهو ما حدث بالفعل)، أجابني: «سوف نواصل حملاتنا من أجل الحقوق في الأراضي، ومن أجل حقوق العمّال، ومن أجل الطاقة المستدامة. لأن القوة السياسية تنبع من قدرة الجماعات على التأثير فيمن هم في الحكومة والضغط عليها. لا يُمكننا أن نسلّم كل شيء إلى أشخاص أعلى منا ليقوموا بذلك نيابةً عنّا. فالأمر يتمحور حول تمكين الناس».

يلبي «الانقلاب الصامت» أغراضاً عديدة. وعلاوةً على كل شيء، يثقف الناس. وتثقيف الناس يعني إعلامهم. وإعلامهم يعني تمكينهم وتفعيل دورهم. مكّن كلير بروفوست ومات كينراد قرائهما وفعلّا دورهم.

نُِشرت هذه المراجعة في Declassified UK في 23 أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجِمت إلى العربية ونُشرت في موقع بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.