الغروندريسة
- مراجعة لكتاب كارل ماركس «الغروندريسة» الذي يعتبر مرجعاً مهماً لفهم فكر ماركس ويشكّل المواد التحضيرية لكتاب رأس المال ولو أنه يتضمّن معالجة أعمق وأثرى لمجموعة من القضايا مقارنة بـ«رأس المال».
من بداية شباط/فبراير حتى نهاية تموز/يوليو من هذا العام، قرأت مجموعة Past & Present Reading Group «الغروندريسة». تتألّف «الغروندريسة»، ومعناها «الخطّة الأولية» أو «المسوّدة»، من 7 دفاتر كتبها كارل ماركس بين عامي 1857 و1858. لم يُنشر الكتاب في حياة ماركس، وطبيعة العمل غير المكتملة سمة مميّزة له. تمتدّ «الغروندريسة» على أكثر من 900 صفحة، وأي محاولة لتقديم ملخّص لهذا العمل ستكون عبثاً. لذا، بالنظر إلى الصعوبة المعترف بها للنص، ونظراً لأنّه يشكّل المواد التحضيرية لكتاب رأس المال، النتيجة الأكثر تنقيحاً، أتساءل: ما قيمة قراءة هذا العمل؟ لِمَ لا نقفز مباشرة إلى المنتج النهائي؟ في هذه المادة القصيرة، سأقدّم عدداً من الأسباب تدفعني إلى الاعتقاد بأن قراءة «الغروندريسة» تجربة تستحق ولازمة لتحصيل فهم أوسع لعمل ماركس.
قبل رأس المال وقبل كتاب «رأس المال»
تمثّل «الغروندريسة» مرجعاً هاماً لكلّ مهتمّ بتطوّر فكر ماركس. وهي بهذا الصدد تأتي بين كتاب «الأيديولوجيا الألمانية» والمجلّد الأول من «رأس المال». جاء كتاب «الأيديولوجيا الألمانية» بسيطاً للغاية ومباشراً في تطوّره المرحلي، لكنه طرح فرضيات هامّة في الفكر المادي التاريخي. أما في «رأس المال» فتدخل إلى الصورة مفاهيمٌ أكثر تطوراً تتعلق بالاتجاهات والصراعات الملموسة لفهم الرأسمالية بصفتها نمط إنتاج مميّز. توفّر لنا «الغروندريسة» نافذة نطل منها على تطوّر تفكير ماركس في هذه القضايا. وكما يوضح مارتن نيكولاوس في مقدمته، «الغروندريسة» هي سجّل لعقل ماركس أثناء العمل، وصراعه مع مشكلات نظرية جوهرية. ومن زاوية منهج ماركس، يمكن للقارئ أن يكتسب فهماً واضحاً لأسلوبه في تثبيت شيء واحد، ثمّ إضافة المزيد من التحديدات إليه لينكشف تعقيده الداخلي وتناقضاته: كما يوضح ماركس لنفسه في مرحلة ما، «جميع هذه العبارات صحيحة حصراً في هذا التجريد من العلاقة من وجهة النظر الحالية. ستدخل علاقات إضافية تعدّلها بشكل كبير». يأخذنا هذا إلى مفهومه الأوسع عن الكلية و«الملموس» بوصفهما «تركُّز الكثير من التحديدات». وبالتالي يؤسِّس منظوراً فريداً للعالم الاجتماعي. هذا المنظور مستمد من التجريدات العقلانية (أو التجريدات الملموسة) التي تجمع بين الأجزاء العامة والخاصة المكوِّنة للكل الاجتماعي. وكما يلخّص ماركس، «النتيجة التي نصل إليها ليست أنّ الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك متطابقة، بل أنّها جميعاً تشكّل أعضاء في كلية، أي تمايزات داخل وحدة».
ينتقد ماركس فكرة الفرد المعزول في الخطاب الليبرالي، ويدعو بدلاً من ذلك إلى «إنتاج الفرد المحدّد اجتماعياً». ولتقديم مثال إضافي عن التجريدات الملموسة، يطلب منا ماركس أن نأخذ في الاعتبار ديناميات الصراع داخل الطبقة
هذه الطريقة في تشكيل التجريدات الملموسة سمةٌ مميّزة للمادية التاريخية كمنهج في العلوم الاجتماعية، وتتناقض مع تلك النظريات التي تستند بدلاً من ذلك على أشكال تجريد مثالية. في الصفحات الافتتاحية، ينتقد ماركس فكرة الفرد المعزول في الخطاب الليبرالي، ويدعو بدلاً من ذلك إلى «إنتاج الفرد المحدّد اجتماعياً». ولتقديم مثال إضافي عن التجريدات الملموسة، يطلب منا ماركس أن نأخذ في الاعتبار ديناميات الصراع داخل الطبقة. ويستحق حديثه عن هذه النقطة إيراده كاملاً لأنّه يكشف عن طريقته العامة:
«دراسة رأس المال بشكل عام ليست مجرّد تجريد. إذا نظرتُ إلى إجمالي رأس المال في أمة معيّنة، على سبيل المثال، وميّزته عن إجمالي العمل المأجور (أو عن الملكية العقارية)، أو إذا رأيتُ إلى رأس المال قاعدةً اقتصادية عامة لطبقة معيّنة مميّزة عن طبقة أخرى، فأنا أتعامل معه بشكل عام. مثلما أنظر إلى الإنسان، على سبيل المثال، وأميّزه فيزيولوجياً عن الحيوانات. الاختلاف الحقيقي بين الربح والفائدة يظهر في صورة اختلاف بين طبقة رأسمالية مالية وأخرى رأسمالية صناعية. ولكن لتتواجه هاتان الطبقتان، فإنّ وجودهما المزدوج يفترض مُسبقاً حدوث تباين داخل فائض القيمة المقدّم من رأس المال».
يضيء لنا هذا الاقتباس على مجموعة أوسع من الموضوعات في «الغروندريسة» تتعلّق بالافتراضات المسبقة والفرضيات والصراع السياسي.
ما من دليل أفضل على أنّ «الغروندريسة» كانت وسيلة ماركس لمعالجة مجموعة أفكار تمهيدية أكثر من ملاحظته لنفسه، قرب نهاية النصّ (الصفحة 881)، «يجب تقديم هذا القسم. المقولة الأولى التي تقدم فيها الثروة البرجوازية نفسها هي مقولة السلعة. السلعة نفسها تظهر كوحدة بين جانبين». وبالفعل، تصبح نهاية «الغروندريسة» الصلية الافتتاحية في الفصل الأول من رأس المال. لكن وعلى الرغم من اعتقادي بإمكانية استخدام «الغروندريسة» لفهم تطوّر فكر ماركس، أود القول أيضاً بأنّها تدحض فكرة «القطيعة الإبستمولوجية» المزعومة عن كتاباته السابقة. إذ تجد فيها إشارات إلى مفاهيم مثل «الكائن النوعي»، وموضوعة الاغتراب لازمة تتكرّر دائماً في هذا العمل. بهذا المعنى، يعمل النصّ على تكملة وتعزيز الموضوعات الموجودة في الأعمال السابقة من قبيل المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 (بدلاً من تجاوز هذه الأفكار).
ومثلما كانت «الغروندريسة» وسيلة لتطوّر فكر ماركس، فإنّه يمكننا من خلالها تتبّع بعض الأفكار في مراحلها الأولية، وزِد على هذا أنّنا نجد فيها معالجة أعمق وأثرى لمجموعة من القضايا مقارنة بـ«رأس المال». وبرأيي أهم تلك القضايا كانت قضية العلاقة بين رأس المال وما ليس رأسمال. ومن النقاط القوية في «الغروندريسة» تركيزها على رأس المال كسيرورة صيرورة، أو ما أطلق عليه ماركس في مرحلة معينة «التناقض المتحرك». وبهذا المعنى، تركّز «الغروندريسة» بشكل كبير على تحليل العلاقات الاجتماعية قبل الرأسمالية، والشروط اللازمة لظهور الرأسمالية، وكيف تشابكت المجتمعات ما قبل الرأسمالية مع النظام الرأسمالي وتحوّلت بفعل تأثيره. لذلك، لا بد من قراءة «الغروندريسة» لفهم ما قبل ظهور رأس المال/الرأسمالية، وما قبل كتاب «رأس المال».
زملائي في مجموعة القراءة ممن لديهم مهارات رياضياتية أفضل مني رأوا الانخراط في الجبر أمراً ضرورياً لفهم النصّ بعمق
التغلّب على الصعوبات الرياضياتية
لا يعني هذا أنّ قراءة «الغروندريسة» سهلة. بل على العكس تماماً. توجد فيها أقسام مملّة ومُتكرّرة، بالإضافة إلى الكثير من الإشارات إلى كمّيات القمح، ومقادير التالرات، وأطوال القماش، فتغدو قراءتها في بعض الأحيان مرهقة. وبما أنّني أفتقر إلى العقلية الرياضياتية، أعترف أنّني شعرت أحياناً بالارتباك من المعادلات الجبرية، وبدأت عيناي تملان من النظر إلى النصّ. لكن أزعم أنّ الجهد المبذول في عبور هذا النص المعقّد يستحق العناء، إذ يُمكن العثور على نقاشات دقيقة بشأن نظرية القيمة ومُسبّقات العمل المأجور ودور الصراع، وغيرها من الموضوعات. وأود أن أضيف أيضاً، للحق، أنّ زملائي في مجموعة القراءة ممن لديهم مهارات رياضياتية أفضل مني رأوا الانخراط في الجبر أمراً ضرورياً لفهم النصّ بعمق.
كان ماركس أيضاً رجلاً يميل إلى الهجاء. وزعم البعض ربطه بمعاناته من الدمامل التي كان يذكرها كثيراً في مراسلاته مع إنغلز. لا يخلو نصّ له من الهجمات اللاذعة على أعدائه وخصومه لتصفية الحسابات. في «الأيديولوجيا الألمانية»، يتوجّه غضبه نحو الهيغليين الشباب أمثال برونو باور ولودفيغ فيورباخ وماكس شتيرنر. وفي «البيان الشيوعي»، يصبّ نقده على الاشتراكيين الطوباويين. أما في «الغروندريسة» فضحاياه هم ديفيد ريكاردو وبيير جوزيف برودون، لكن على طول النص يُسدّد ماركس وابلاً من الهجوم اللفظي على شخصيات منها آدم سميث وجون ستيوارت ميل وتوماس مالثوس وكلود-فريدريك باستيا. في الواقع، أستغربُ أنّ أحداً لم يجمع بعد أعظم الشتائم الواردة عند ماركس.
قراءة «الغروندريسة» سياسياً
تكشف لي قراءة «الغروندريسة» عدداً من النقاط المهمّة من الناحية السياسية. أولاً، يوجد بالطبع الاقتصاد السياسي المتجذّر في النصّ نفسه. ويمثِّل في الوقت نفسه نقداً جوهرياً للفكر السائد في زمن ماركس. وكما ورد سابقاً، يشمل ذلك التنظير لمنطق رأس المال ومستوى الإكراه اللازم لتطبيق هذا النظام. لكن هذا النصّ، ربما يكشف أكثر من الكثير من الأعمال الأخرى لماركس عن الفوضى وعدم اكتمال التحوّلات الرأسمالية. إذ لا تحدث هذه التحوّلات في العلاقات الاجتماعية على صفحة بيضاء، بل تتصادم مع العلاقات الاجتماعية القائمة وأنماط الوجود الثقافي، وبالتالي تتطوّر كتشكّلات متناقضة. لنستشهد بمقولة ماركس مباشرة:
«المجتمع البرجوازي أكثر التنظيمات التاريخية تطوّراً وتعقيداً في الإنتاج. والمقولات المعبّرة عن علاقته، وفهم بنيته، تسمح لنا بالتالي برؤية أوضح لبنية الإنتاج وعلاقاته في جميع التشكيلات الاجتماعية المندثرة التي قام المجتمع البرجوازي على أنقاضها وعناصرها، ولا تزال البقايا غير المهزومة كلياً لتلك التشكيلات فاعلةً فيه وظلالها البسيطة وضعت بصمة عميقة داخله».
ليست «الغروندريسة» مجرّد نصّ له قيمة تاريخية، بل تحتوي على الكثير من الموضوعات والأفكار المتعلقة بفهم ظروفنا الحالية
كما قلت في مكان آخر، يمكننا أن نقف على بصمة هذه «البقايا غير المهزومة كلياً» في أشكال النضال المعاصرة لشعوب السكّان الأصليين في مجموعة متنوّعة من البلدان في أميركا اللاتينية، حيث ينافس التوسّع السلعي الأشكال الجماعية للملكية والسياسات المناطقية، ولكنّه في المقابل يعزّز الدفاع ضدّ هذا الشكل من التهجير وبناء اقتصاد سياسي بديل. ليست «الغروندريسة» مجرّد نصّ له قيمة تاريخية، بل تحتوي على الكثير من الموضوعات والأفكار المتعلقة بفهم ظروفنا الحالية.
ذكّرتني قراءة هذا النصّ بأهمّية القراءة الجماعية من الناحية السياسية، وما توفّره من تضامن ورفاقية. كان من الممكن، وإنْ كان صعباً، قراءة نصّ بهذا الحجم والكثافة والتعقيد بمفردي. لكن رفقة مجموعة للنقاش والحوار سهّلت لي التعامل معه. إنّ قوة العمل الجماعي في قراءة هذا النص أسبوعياً، ومشاركة الأفكار، وتوفير مساحة لاختبار فهم المرء، لهي مسألة بالغة الأهمّية، وأنا ممتن جداً لأعضاء مجموعة Past & Present على هذه المشاركة الجماعية.
نُشِر هذا المقال في Progress in Political Economy في 10 أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.