معاينة mining minerals

حرب باردة للاستحواذ على المعادن الحرجة

بالتوازي مع حرب التعرفات الجمركية، يبدو أن هناك «حرباً باردة» من نوع آخر لا يسلّط الضوء عليها بالقدر نفسه، وهي الحرب الدائرة اليوم للسيطرة على «المعادن الحرجة» (Critical Minerals) حول العالم. فقد أصبحت هذه الأخيرة على سلّم أولويات الحكّام وصنّاع السياسات نظراً إلى أهمّيتها في تصنيع الكثير من تقنيات الطاقة النظيفة والتحول الطاقوي، كما للأغراض العسكرية والتكنولوجية ذات التّقنيات العالية. ساهم ذلك في زيادة الطّلب عليها في السنوات الأخيرة، ما أدّى إلى تقلّبات في الأسعار واختناقات في سلاسل التوريد نتيجة العوامل الجيوسياسية والمخاوف المرتبطة بها.

في الواقع، لم يعد الأمن الطاقوي يتعلّق بضمان أمن إمدادات النفط فقط، بل تعدّى ذلك ليصبح مرتبطاً بالغاز والكهرباء، وبشكل متزايد، بالمعادن الحرجة، إذ تحوي بعض بلدان الجنوب العالمي أكثر من 50% من العرض العالمي لبعض المعادن الأساسية، ما يزيد شهية الدول الرأسمالية للسيطرة والاستحواذ عليها بشتى أساليب الضغط والابتزاز. فما هي أهم هذه المعادن الحرجة؟ وما هو دورها وكيف تتوزّع جغرافيتها حول العالم؟

خريطة توزّع المعادن الحرجة حول العالم

ما هي المعادن الحرجة؟

تُعرّف المعادن بشكل عام على أنها مجموعة من العناصر الكيميائية التي تُعتبر ضرورية لاحتياجات التصنيع والتكنولوجيا للشركات والصناعات والدول. وتُصنّف بعض المعادن على أنها حرجة عندما تكون ضرورية وتؤدّي وظيفة أساسية في الاقتصاد، إلا أن سلاسل توريدها معرّضة للاضطرابات والخضّات. في العام 2022، وضعت الولايات المتّحدة لائحة بحوالي 50 سلعة معدنية بالغة الأهمية للاقتصاد الأميركي، ومثلها فعل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، إلا أن بعض هذه المعادن اكتسب أهمّية أكبر في الآونة الأخيرة نظراً إلى استخداماتها في التكنولوجيات الناشئة مثل السيارات الكهربائية والبطاريات ومنتجات الطاقة المتجدّدة والتطبيقات العسكرية.

تشمل هذه المعادن 4 عناصر أساسيّة هي الليثيوم والكوبالت والنحاس والنيكل، تحتلّ المراتب الأولى في دعم عملية التحوّل الطاقوي. تتركّز هذه المعادن الحرجة في مناطق جغرافية متفرّقة حول العالم، إلا أن معظمها يقع في بلدان الجنوب العالمي، حيث تستخرج وتوفّر بطرق معقدّة وصعبة. وهنا يجدر التفرقة بين البلدان التي تحوي على الاحتياطات من هذه المعادن، أي المكامن القابلة للاستخراج بحسب ظروف السوق، وتلك التي تعالجها وتنتجها لتصبح قابلة للاستخدام، فغالباً ما يتمّ نقل المعادن الخام من مصدرها إلى دول أخرى لمعالجتها.

وبحسب وكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن يحتاج العالم في العام 2040 إلى 4 أضعاف كمية المعادن الأساسية اللازمة لتقنيات الطاقة النظيفة مقارنة بما يستخدم اليوم.

الليثيوم: المصدر الأساس للتخزين

يُعتبر الليثيوم المعدن الأكثر أهمية اليوم من بين المعادن الأربعة، وذلك لأهمّيته في مجال التحوّل الطاقوي، فهو مكوّن أساسي للسيارات الكهربائية والبطّاريات وأنظمة تخزين الطاقات المتجدّدة حول العالم. ويُستخدم أيضاً في مجال الأبحاث عن أنواع أخرى من التخزين. شهد الطلب على الليثيوم نمواً قوياً في العام 2023، إذ ارتفع بحوالي 30%، وانخفضت أسعاره بحوالي 80% في العام نفسه.

بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS)، تحوي كلّ من تشيلي وأستراليا على أكبر احتياطيات الليثيوم المتوفرة في المناجم حول العالم اليوم. وتُقدر هذه الاحتياطيات بحوالي 9.3 مليون طن للأولى و6.2 مليون طن للثانية (ما يعادل قيمة بحجم 323 مليار دولار و215 مليار دولار على التوالي)، كما تمتلك الأرجنتين حوالي 2.7 مليون طن، والصين حوالي مليوني طن، والولايات المتحدة وكندا حوالي مليون طن لكلّ منهما. يُضاف إلى هذه الدول بوليفيا التي تتمتّع بأكبر موارد الليثيوم، إلا أن معظم هذه الموارد لم تطوّر بعد.

أمّا من حيث الانتاج، فقد أنتجت أستراليا حوالي نصف إنتاج العالم من الليثيوم في العام 2023، وحصدت تشيلي ربع الإنتاج الآخر، تليها الصين بنسبة 18%.

الكوبالت للاستخدام العسكري أيضاً

يُستخدم الكوبالت في عدد من الصناعات الاستهلاكية ويتواجد في الهواتف الذكيّة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، كما كمحفّزات في صناعة النفط. يدخل أيضاً في صناعة بطاريّات التخزين والصناعات العسكرية كالطائرات الحربية والمركبات العسكرية المستخدمة في البيئات الصعبة. نتيجة لذلك، ترتبط سلسلة التوريد الخاصة به بالكثير من القضايا المتعلّقة بالبيئة والعبودية وعمل الأطفال في المناجم

يُستخرج الكوبالت الخام من مناجم جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تحوي على أكثر 50% من الاحتياطات، تليها أستراليا (15,5%) ومن ثمّ كوبا وإندونيسيا بحوالي 5% لكلّ منها. تقدّر احتياطات الكونغو بحوالي 4 مليون طن قيمتها توازي حوالي 133 مليار دولار في العام 2023، وقد أنتجت حوالي 75% من الكوبالت الخام المستخدم حول العالم في العام نفسه، إلا أن هذه الكميّات نُقلت إلى الصين التي تعالج أكثر من 75% منه قبل بيعه في الأسواق.

من هنا، تبرز شهيّة الولايات المتحّدة والضغوط الكبيرة التي تمارس للسيطرة على كمّيات كبيرة من هذا المعدن، والتي دفعت برئيس الكونغو إلى القبول بالتوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب مقابل الحماية الأمنيّة من متمرّدين مدعومين من رواندا استولوا على مساحات شاسعة من شرق البلاد تحوي كميّات من الكوبالت.

النحاس لنقل وتوزيع الكهرباء

يُعدّ النحاس أقلّ تركّزاً جغرافيّاً من الكوبالت، وهو مكون حيوي في الأنظمة الكهربائية الحديثة حيث يستخدم في البنية التحتية لتوليد الطاقة أي شبكات النقل والتوزيع، وكذلك في تقنيات الطاقة المتجدّدة مثل الألواح الشمسية وطاقة الرياح. على سبيل المثال، تتطلّب توربين لطاقة الرياح في البحر حوالي 10 أطنان من النحاس لكل ميغاواط من الطاقة. ويبلغ السعر الحالي لطن النحاس في السوق حوالي 9 آلاف دولار، إلا أن تكاليف الاستخراج قد تبلغ ضعف هذا الرقم، ما يشكل تحدّيات كبيرة للدول.

بالإضافة إلى دوره في الطاقة النظيفة، يُستخدم النحاس في الصناعات العسكرية، وتحديداً في صناعة الذخائر وقذائف المدفعية والذخائر المضادة للدبابات، كما لتغليف الطلقات للأسلحة الصغيرة. على سبيل المثال، ذكر تقرير لمعهد الدفاع الأميركي استخدام وزارة الدفاع الأميركية حوالي 106 آلاف طن من النّحاس في العام 2008، ما جعله في حينه ثاني أكبر معدن مستخدم في صناعة الأسلحة الأميركية.

تُسيطر التشيلي على كلّ من الاحتياطات والإنتاج من النّحاس، إذ تستحوذ على حوالي 20% من الاحتياطي العالمي أو ما يعادل 190 مليون طن بقيمة سوقية توازي 1,6 تريليون دولار في العام 2023، وتسيطر على أكثر من 20% من الإنتاج العالمي. تليها أستراليا (97 مليون طن)، البيرو (81 مليون طن و12% من الإنتاج)، روسيا (62 مليون طن) والمكسيك (53 مليون طن)، وأيضاً الولايات المتّحدة وجمهوريّة الكونغو (12% من الإنتاج أيضاً).

كما الكوبالت، سيطرت الصين على معالجة وتصنيع ما يقارب 50% من النحاس الخام ليصبح صالحاً للاستخدام الصناعي.

النيكل

يُعتبر معدن النيكل ذات أهميّة أيضاً للتحوّل الطاقوي، فهو مكوّن رئيس في تركيبة بطاريات الليثيوم للسيارات الكهربائية وأنظمة تخزين الطاقة، وقد يُستخدم مستقبلاً كمحفّز في إنتاج الهيدروجين الأخضر من الطاقات المتجدّدة. كما له دورٌ بارز وضروري في إنتاج الفولاذ، الذي يُستخدم في دروع الدبابات والسفن والبطاريّات العسكرية.

تستحوذ إندونيسيا على أكثر من 40% من احتياطات النيكل في العالم، تليها أستراليا (19%) والبرازيل (13%). وقد أنتجت إندونيسيا أيضاً أكثر من 50% من النحاس حول العالم في العام 2023، تليها الفيليبين وكاليدونيا الجديدة وروسيا وكندا وأستراليا بكمّيات ضئيلة ومتقاربة. وقد زاد الطلب على النحاس ليلامس حدود 15% في العام 2023.

يضاف إلى هذه اللائحة الأساسية معادن أخرى تدخل في صناعات عدّة مكمّلة للتحوّل الطاقوي كالغرافيت (الصين هي أكبر منتج له في العالم) والبوكسايت والكروميوم والمانغانيز وغيرها من المعادن النادرة.

أميركا ودول الخليج على قائمة السباق نحو السيطرة

يفسّر هذا العرض من حيث أهميّة المعادن الحرجة ووظيفتها، فضلاً عن تركّزها الجغرافي في دول عالم الجنوب، السعي والضغط الكبيرين الذين تتّبعهما الولايات المتحدة، إلى جانب دول الخليج ودول أخرى، في تأمين إمدادات مستقرة من هذه المعادن، في عالم أصبح أكثر جنوحاً نحو التسلّح المفرط والسيطرة على المواد الخام المساهمة في صناعات التحوّل الطاقوي.

من هنا، يُفهم سبب استثناء الرئيس الأميركي دونالد ترامب معدني النحاس والكوبالت وتحييدها من حرب التعريفات الجمركية. من جهة، تطمح الإدارة الأميركية إلى تخزين المعادن الحرجة للتّقليل من خطر انقطاع سلاسل التوريد، خصوصاً من الصين. ومن جهة أخرى، تسعى إلى عقد اتفاقيات ثنائية طويلة الأمد مع الدول ذات الاحتياطات الكبيرة عبر استخدام الضغط السياسي والاقتصادي كما الوعود بالحماية الأمنية. وقد قدّمت الأشهر القليلة الفائتة نموذجين عن هذه الاستراتيجية، عبر التفاوض على صفقات لتقديم المساعدة العسكرية للدول التي مزّقتها الحرب في أوكرانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية مقابل السيطرة على المعادن للعقود المقبلة. 

على مقلب آخر، تسعى السعودية للدخول على خطّ تطوير المعادن الحرجة، سواء محلياً أو خارجياً. ومن أجل هذا الغرض، وقّعت شركة أرامكو اتفاقية مع شركة «معادن» المدعومة من الدولة، لتأسيس مشروع مشترك يركّز على الليثيوم، وذلك بهدف بدء الإنتاج التجاري بحلول العام 2027، مع تقديرات بأن يبلغ حجم هذا السوق في السعودية حوالي 2.5 تريليون دولار. من جهة أخرى، استحوذت السعودية العام الماضي على حصة 10% في شركة Vale Base Metals البرازيلية المنتجة للنحاس والنيكل، في مقابل 2.5 مليار دولار، كما وقّعت اتفاقيات تعاون مع الكونغو والمغرب ومصر لاستكشاف آفاق المعادن الحرجة.

بدورها، استثمرت الإمارات في قطاع المعادن الأفريقي، إذ استحوذت على حصة في مناجم النحاس في زامبيا، وتسعى إلى فرص استثمارية أخرى في أنغولا وبوروندي وتنزانيا وكينيا. أمّا قطر، فتسير في مسار الاستثمار في شركات ناشئة تهدف إلى الحد من هيمنة الصين على المعادن الحيوية والحرجة.