Preview الحرب على غزة

قتل الفلسطينيين لن يتوقَّف مع توقّف الحرب

حتى لو توقّفت الحرب على قطاع غزّة الآن فإن آلاف الفلسطينيين سوف يموتون بسبب الآثار طويلة المدى التي خلّفتها هذه الحرب على جميع المستويات. فوفق دراسة صادرة حديثاً، كان سيُقتل 11,580 فلسطينياً إضافياً بعد وقف إطلاق النار لو أنه دخل حيّز التنفيذ في شباط/فبراير الماضي. أمّا إذا استمرّت الحرب على الوتيرة نفسها فسوف يُقتل 66,720 فلسطينياً إضافياً بين شهري شباط/فبراير وآب/أغسطس من هذه السنة، وسوف يرتفع العدد إلى 85,750 شهيداً فلسطينياً إضافياً إذا صعّدت إسرائيل حدّة حربها أكثر.

هذه التقديرات هي خلاصة مشروع بحثي لتقدير الوفيّات الزائدة في غزّة، أطلقه فريق من الخبراء في الصحّة العامّة من جامعة «جونز هوبكنز» و«كليّة لندن للصحّة والطب الاستوائي». ويُعتبر هذا البحث فريداً من نوعه لأنه يحصي الوفيّات التي تنتج عن الإصابات المباشرة جرّاء الحرب، بالإضافة إلى الوفيّات التي تنتج عن الظروف التي تخلقها الحرب مثل تدهور البنى التحتية الصحّية والمائية والغذاء. في الخلاصة، تُبرهن هذه الدراسة بالأرقام نوايا الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين.

الحرب على غزة

ظروف الموت الدائمة

تُعرّف «الوفيات الزائدة» في هذا البحث على أنها الوفيّات التي ترتفع عن معدّل الوفيّات الطبيعية والمتوقّعة وتسجّل في حالات الحرب أو الأحداث غير المتوقّعة مثل تفشّي الأوبئة أو ظهور موجات حرّ. ساهمت حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل باستشهاد أكثر من 30 ألف فلسطيني وفلسطينية في غزة حتى الآن. ولم تكتفِ دولة الاحتلال بذلك، بل خلقت من خلال حربها الجارية كلّ الظروف التي تؤدّي أو تسهّل موت الفلسطينيين والفلسطينيات حتّى بعد وقف إطلاق النار. من خلال تدمير البنية التحتية الصحّية والمدينية، تضمن إسرائيل موت الفلسطينيين والفلسطينيات السواء جوعاً أو عطشاً أو بالأمراض…

فبحسب الدراسة المذكورة ارتفعت حالات سوء التغذية الحادّ الشامل إلى 14% في شهر شباط/ فبراير، وقد ترتفع من 21% إلى 46% إذا بقي العدوان على الوتيرة ذاتها أو اشتدّ. ولكن حتّى لو تم وقف إطلاق النار، لفتت الدراسة إلى أن هذه الحالات لن تزول بل قد تنخفض إلى 12.4%. ويعود ذلك إلى سياسة الدمار الشامل والتجويع المتعمّد التي تتبعها دولة الاحتلال وصعوبة حلّ تبعاتها بالمساعدات على المدى القصير. أيضاً لم تستثنِ الدراسة عامل الاضطرابات النفسيّة. عانى 485,000 فلسطينياً في غزّة من اضطرابات مماثلة قبل العدوان الأخير، من المرجّح أن ترتفع الحالات أكثر بسبب الصدمات العديدة التي اختبرها سكان غزّة في الأشهر السابقة. ومن المعروف أن الاضطرابات النفسية تُنهك العقول والأجساد وقد تتسبّب بالموت المباشر، أو تدهور الوضع الصحّي للحالات طبيّة، أو تدهور جودة الحياة إن سلمت الأجساد.

للموت أشكال عدّة 

ترسم الدراسة صورة مأساوية لأشكال الموت الفلسطيني، إذ تضع تصوّرات عن إجمالي الوفيات الزائدة وتوزيعها بحسب مُسبّبات الموت والتي تتوزّع كالآتي: 

1. إصابات الحرب المباشرة: تشمل هذه الفئة من الوفيّات الأفراد الذين يُقتلون مباشرةً بسبب إصاباتهم أو يموتون لاحقاً بسبب جروحهم والمضاعفات التي تنتج عنها مثل الالتهابات والجلطات وغيرها. وتشمل أيضاً الأشخاص الذين يموتون بسبب تعرّضهم اللاحق لذخائر غير منفجرة. وفي حال توقّف إطلاق نار فوري سوف تكون هذه الفئة من الوفيات الأكثر انخفاضاً وتبلغ 3,250 حالة، مقارنةً مع 53,450 في حال استُكمل العدوان و68,560 إذا اشتدّت حدّته. وبحسب الدراسة، تتوزّع الوفيات جراء إصابات الحرب على كل الشرائح العمريّة، ما يؤكّد الاستهداف المُمنهج لكل الفلسطينيين والفلسطينيات، ويناقض حجج دولة الاحتلال باستهداف المقاتلين.   

2. الأمراض المعدية: تعتبر الدراسة أن تفشي الأمراض المُعدية هو مسبّب الوفيّات الأكثر خطورةً. ويعود ذلك إلى تدمير البنى التحتية الصحيّة والمائية والصرف الصحي، وبسبب الاكتظاظ في خيم غير ملائمة، وأيضاً نتيجة سوء التغذية.

استندت التقديرات على مناعة المقيمين في غزة من حيث تلقيهم للقاحات سابقاً، والإصابات الجرثومية السابقة، والعوامل البيئية مثل الحرارة الجوية لتقدير خطر تفشي أمراض معدية. وتبيّن أن الأمراض المستوطنة، أي الموجودة على مدار السنة في المجتمع مثل كوفيد-19 والانفلونزا سوف تتسبّب بأكبر عدد مؤكّد من الوفيات، الذي قد يتراوح بين  1,522 و2,721 حالة. إلى ذلك، يتراوح خطر تفشي الجراثيم غير الموجودة دائماً في قطاع غزّة، والتي قد تتسبّب بانتشار أوبئة مثل الكوليرا والتهاب الكبد والحصبة، بين 23% و34% بحسب تطوّر مجريات العدوان. وعلى الرغم من أن خطر تفشي الأوبئة ليس مرتفع نسبيّاً، لكن في حال حصل، فقد يقتل الكوليرا 119,661 شخصاً، وقد يتسبّب مرض شلل الأطفال بوفاة 14,906 شخصاً حتّى شهر آب/أغسطس.

3. وفيات الأمهات وحديثي الولادة: لن يتوقّف قتل الأطفال مع توقّف العدوان، إذ قد تصل وفيات الأمهات وحديثي الولادة إلى 100 في حال توقّف العدوان، وإلى نحو 330 حالة إذا اشتدّت الحرب. ويعود ذلك إلى التأخر المتوقّع في إعادة تأهيل الخدمات الصحيّة والبنى التحتية. قد يظن البعض أن هذا العدد منخفض ولكنه في الحقيقة مرتفع، نظراً للتطوّر الذي سجّل في العقود الماضية وسمح بتخفيض حالات وفيّات الأطفال. في الواقع، يعدّ هذا شبيهاً بما كان عليه الوضع الصحّي في قطاع غزة منذ ربع قرن. عدا أن وقعه على المجتمع سوف يكون مأساوياً من حيث الخسارة في سنوات الحياة المرتقبة والوقع الاجتماعي والنفسي الذي ينجم عنه. 

4. الأمراض المزمنة: قدّر البحث أن تردّي الأوضاع الصحّية سوف يؤدّي إلى أن تسبّب الأمراض المزمنة، مثل السكري والسرطان وفشل الكلى والسكتات الدماغية والقلبية، بوفاة 1,680 فلسطيني وفلسطينية في حال توقّف العدوان، على أن يرتفع العدد إلى 2,676 حالة فيما لو اشتدّت وتيرته. ويعود ذلك إلى انهيار أنظمة الرعاية الصحية وانقطاع الأدوية بسبب الحصار، الذي سوف يتسبب بمضاعفة الحالات المرضيّة المزمنة. وتجدر الاشارة هنا بأن الدراسة لم تأخذ في الاعتبار كل الأمراض المزمنة مثل السكري من النوع الثاني وأمراض الرئة المزمنة مثل التليّف، ما يعني أن هناك احتمالية عالية بأن يرتفع عدد الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة إلى مستويات أعلى في الواقع. وحالياً، يُنسب الارتفاع الأكبر في الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة مقارنةً مع نسبته قبل العدوان إلى مرض السكري، ويعود ذلك إلى منع إدخال جرعات الأنسولين من قبل دولة الاحتلال.

نجحت دولة الاحتلال في تثبيت آلة موت في غزّة، وهي آلة شغّالة ولن تتوقّف عن العمل حتّى مع وقف إطلاق النار. ولكن لا يعني ذلك بأن مصير الفلسطينيين والفلسطينيات هو الموت الحتمي، بل أن العمل مطلوب للضغط باتجاه وقف إطلاق النار وحماية الفلسطينيين والفلسطينيات من التطهير العرقي حتّى بعد نهاية العدوان.