
أزمة الديون السيادية في المنطقة العربية: بين الواقع والاستباق
«إذا قدم الإنسان ذبيحة، فذلك بسبب دَيْنه للآلهة منذ ولادته، وإذا قرأ أحدٌ نصّاً مقدّساً، فذلك بسبب دَيْنه للقديسين، وإذا رغب في ذرية، فذلك لأنه دَيْنٌ للآباء منذ الولادة، وإذا قدّم أحدهم ضيافة، فذلك لأنه دَيْنٌ للناس».
مقتبس من كتاب «الديون: أول 5000 سنة» - ديفيد غرايبر.
مشهد الديون السيادية في المنطقة
يرزح الكثير من بلدان العالم اليوم تحت أعباء ديون ثقيلة تثقل كاهل حكوماتها والمجتمعات القائمة فيها، والبلدان العربية غير النفطية ليست بمنأى عن هذا الواقع. وفقاً لتقرير الأونكتاد (2023)، ارتفع الدين العام في المنطقة العربية بشكل حاد في خلال العقد الماضي، ليصل إلى 1.5 تريليون دولار أميركي في العام 2022، أي ما يعادل حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة. واستحوذت البلدان المتوسطة الدخل في المنطقة – الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس – على أكثر من نصف ديونها السيادية. أما البلدان الأكثر فقراً في المنطقة - جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا والصومال والسودان واليمن – فتواجه مخاطر التخلف عن سداد ديونها، على الرغم من أن بعضها، كالسودان مثلاً، شهد إلغاء 90% من ديونه (حوالي 50 مليار دولار) في العام 2021.
ما يلفت الانتباه هو ازدياد حجم الموارد المخصّصة لخدمة الديون على مدى العقد الماضي مقارنةً بكل من الصادرات والإيرادات الحكومية في المنطقة. فقد سجّلت نسبة خدمة الدين الخارجي إلى الإيرادات الحكومية منحى تصاعدياً في الكثير من هذه البلدان، مقتربة من عتبة 50% في خلال السنوات القليلة الماضية في كلّ من مصر ولبنان.
أما إذا أردنا فحص الجوانب الخارجية للدين الحكومي، فنجد أن متوسط نسبة الدين العام الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية غير النفطية بلغ 35% في العام 2021، وهو أعلى من المتوسط المسجّل في البلدان المتقدمة والنامية والأقل نمواً.
وتشير هذه الاتجاهات إلى تزايد التحديات المرتبطة بالسيولة في بلدان المنطقة، لا سيما في الدول المتوسطة الدخل، ما يقيّد قدرتها على إدارة مالياتها العامة بشكل يخدم رؤى مجتمعاتها واحتياجاتها، سواء داخلياً أم تجاه الخارج.
ومن الجوانب الأخرى المتعلّقة بملف الدين العام الخارجي في المنطقة يظهر التغير الكبير في تكوين حملة الديون الخارجية على مرّ السنين. فقد تزامن ارتفاع الدين العام الخارجي للبلدان العربية، وخصوصاً في الدول غير النفطية، مع تحول بارز في مصادر الديون، من الدائنين الرسميين إلى القطاع الخاص، ولا سيما البنوك التجارية، بالإضافة إلى المؤسسات المالية الدولية.
إن الدور المتزايد للدائنين من القطاع الخاص في مشهد الديون في المنطقة لا يعني ارتفاع تكلفة خدمة الدين الخارجي فقط، بل يؤدي أيضاً إلى زيادة المخاطر المرتبطة بتقلبات أسعار الصرف أو صدمات الميزان التجاري السلبية. يميل الدائنون من القطاع الخاص إلى سحب استثماراتهم عند ظهور بوادر أزمة، ما يفرض ضغوطاً على العملات الوطنية، ويقلّل من فرص تقديم شروط مرنة أو المشاركة في إعادة هيكلة الديون في خلال الأزمات المالية.
ربما يشير هذا التزامن (ارتفاع المديونية الخارجية مع ازدياد الدور البارز للديون التجارية مقارنة بالديون الثنائية الرسمية) أيضاً إلى تراجع المزايا الجيوسياسية التي كانت المنطقة تتمتّع بها. ففي حين يربط الدائنون الثنائيون، وخصوصاً القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والدول الأوروبية، شروط القروض في بعض الأحيان باعتبارات جيوسياسية تمنح الدول المقترضة قدراً من النفوذ التفاوضي، يفتقر التعامل مع الدائنين من القطاع الخاص إلى هذا البعد. وغالباً ما يستغل هؤلاء الدائنون الضعف المالي والمؤسساتي للدول لفرض شروط تخدم مصالحهم، فتفقد دول المنطقة قدرتها على توظيف المزايا الجيوسياسية للتحوط ضد تزايد الديون أو اتخاذ سياسات عامة تدعم المجتمع وتُرسّخ شرعية الدولة، وهو ما كان عاملًا أساسيًا في دعم العقود الاجتماعية في البلدان العربية خلال العقود الماضية.
أزمة الديون: محدّداتها من منظور الاقتصاد السياسي
تعتبر ديناميات الديون السيادية التي تواجهها المنطقة العربية ظاهرة بنيوية متجذرة تمتد لعقود، ناتجة عن تفاعل معقد بين عوامل داخلية ترتبط بضعف بنيان الدولة، وعوامل خارجية مرتبطة بالبنية الاقتصادية العالمية. ومن أبرز هذه العوامل:
- الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي، بما في ذلك القروض والمساعدات الخارجية، لتلبية الاحتياجات التمويلية.
- ارتفاع الميل الحدّي للاستيراد، في مقابل تركيز الصادرات على السلع الأساسية التي تتسم أسعارها بتقلبات شديدة في الأسواق العالمية.
- علاقات تجارية واستثمارية غير متكافئة، مثل اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، التي أدّت إلى تعميق عجز الميزان التجاري لصالح الاتحاد من دون تحقيق تقدّم يُذكر في تنويع الصادرات أو تعزيز الصناعات المحلية في دول المنطقة.
- ديناميات القوة العالمية غير المتكافئة، التي تقيّد الدول العربية ضمن أنماط هيكلية تعيد إنتاج أزمات الديون بشكل متكرر.
- التعرض للصدمات الجيوسياسية (والمناخية)، إذ تواجه دول المنطقة مخاطر متزايدة بسبب الحروب، وبدرجة أقل، التغيرات المناخية.
لا شك أن الاقتصاد السياسي وتوازن القوى في هذه البلدان يسهم في تعزيز وإعادة إنتاج هذه الديناميات. ففي تونس، يُعيق التوازن الحسّاس بين النقابات العمّالية والقيادة السياسية تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، نتيجة لرفض التنازلات المتبادلة. أما في لبنان، فيعرقل النظام الطائفي الهشّ الإصلاحات، إذ تعتمد القوى السياسية التقليدية على شرعية طائفية تجعل الإصلاح تهديداً مباشراً لمصالحها. وفي الأردن، كما في لبنان، يعتمد الاقتصاد بشكل كبير على المساعدات الخارجية. وفي مصر، تتأثر كفاءة إدارة الدين بعوامل مثل افتقار الموازنة العامة إلى الشمولية، بالإضافة إلى تحدّيات توزيع الموارد.
تعتبر ديناميات الديون السيادية في المنطقة العربية ظاهرة بنيوية متجذرة تمتد لعقود، ناتجة عن تفاعل معقّد بين عوامل داخلية ترتبط بضعف بنيان الدولة، وعوامل خارجية مرتبطة بالبنية الاقتصادية العالمية
لكن القاسم المشترك بين هذه البلدان وغيرها في المنطقة هو تركيز إنفاقها على النفقات المتكررة مثل الأجور والدعم، وهي أدوات اقتصادية تحمل في جوهرها أهدافاً سياسية ترمي إلى تعزيز مصالح مجموعات محدّدة على حساب أخرى، من دون إيلاء اهتمام كافٍ لقضايا التنمية والتحرّر من القيود البنيوية القائمة. ذلك أن الحلقات السياسية غالباً ما تفتقر إلى الحوافز اللازمة للإصلاح الحقيقي، خوفاً من فقدان الشرعية أو تأثّر مصالحها الخاصة. ويتجلّى ذلك بوضوح في لبنان، حيث تأخرت إصلاحات القطاع المالي على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبّدها الاقتصاد.
تشاؤم الديون وتفاؤل الإرادة السياسية
في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها الفجوات البنيوية في النظام المالي العالمي، أُعلن عن مبادرات دولية بارزة لمعالجة هذه القضايا. من أبرزها اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2015 قراراً يتضمّن المبادئ الأساسية لإعادة هيكلة الديون السيادية، بهدف تقديم إطار عمل يُسهم في جعل عمليات إعادة الهيكلة أكثر تنظيماً وعدالة وكفاءة. وفي العام 2020، أطلقت مجموعة العشرين «الإطار المشترك»، الذي يهدف إلى تعزيز مشاركة الدائنين في مفاوضات الديون ودعم الجهود الرامية إلى إنشاء آلية دائمة لإعادة هيكلة الديون تحت قيادة الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن هذه المبادرات تمثل خطوة إيجابية، فإنها لا تزال تعمل ضمن الإطار القائم للنظام المالي العالمي، الذي يواصل الترويج لسياسات التقشف على حساب الإنفاق العام المنتج. ونتيجة لذلك، تسهم هذه السياسات، بشكل مباشر أو غير مباشر، في ترسيخ أنماط تؤدي إلى استمرار أزمات السيولة والملاءة المالية التي تواجهها البلدان النامية، بما في ذلك البلدان العربية.
تسهم سياسات التقشف على حساب الإنفاق العام المنتج في ترسيخ أنماط تؤدي إلى استمرار أزمات السيولة والملاءة المالية التي تواجهها البلدان النامية
إذا كان لا بد من دور للمؤسّسات المالية الدولية في مساعدة البلدان العربية على التكيّف مع تحديات الديون السيادية، فيجب على هذه المؤسّسات أن تعدّل مقارباتها بما يتلاءم مع الواقع المعقّد والخصوصيات الفريدة لكل بلد، مع الأخذ بالاعتبار السياق السياسي لكل دولة. كما ينبغي أن تركز جهودها على معالجة الأسباب الجذرية التي تعيق تحقيق التنمية في هذه البلدان.
لكن الأهم من ذلك هو إدراك الفاعلين السياسيين على المستوى الوطني، سواء كانوا من الأحزاب التقليدية أم الحديثة النشأة، أن الإصلاحات الاقتصادية والسياسية ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها إذا أرادت بلدان المنطقة تفادي تفاقم أزمة الديون السيادية. تسهم هذه الإصلاحات بشكل كبير في ترسيخ شرعية الدولة وتعزيز الثقة بالمؤسسات. وحتى في البلدان التي تعاني من ضعف في بنية الدولة، فإن الإرادة السياسية والتنظيم الجاد لتغيير الواقع يمكن أن يسهما في تعبئة الجهود الجماعية وتشكيل ائتلافات تسعى إلى تحقيق الإصلاحات المنشودة. كما يمكن لهذه الائتلافات أن تبني توافقاً اجتماعياً يخفّف من حدّة المعارضة للتغيير الحقيقي، وليس الشكلي، من خلال توفير قدر من الطمأنينة لأولئك الذين يخشون الخسارة، وتشجيع المشاركة الإيجابية للذين يتطلعون إلى تحقيق مكاسب مستقبلية.