معاينة يبيل الديون

الديمقراطية والديون: هل انقطعت الصلة؟

  • فكرة البنك المركزي المستقل باعتباره «السمة المميزة للديمقراطية» ليست أكثر من تعبير ملطّف من التخلي عن القرار السياسي الأكثر أهمية - القدرة على خلق النقود والائتمان - للقطاع المالي
  • كل اقتصاد مخطط. وكانت هذه تقليدياً وظيفة الحكومة. والتخلّي عن هذا الدور تحت شعار «الأسواق الحرة» يتركه في أيدي البنوك

عبودية الديون – لماذا دُمّرت روما، ولماذا ستدمّرنا ما لم نوقفها

يصف الكتاب الخامس من «السياسة» لأرسطو الانتقال الأبدي للأوليغارشيات التي تتحوّل إلى أرستقراطيات وراثية – وينتهي أمرها إما بالإطاحة بها من قبل الطغاة أو بتطوّر صراعات داخلية حيث تقرّر بعض العائلات «استمالة العامة إلى صفها» وإدخال الديمقراطية، التي تنبثق منها أوليغارشية مرة أخرى، يليها حكم أرستقراطي، ثم ديمقراطي، وهكذا دواليك.

وقد كانت الديون الدينامية الرئيسة التي تدفع هذه التحوّلات، مع تطوّرات جديدة وتحوّلات. يعمل هذا النظام على استقطاب الثروة لخلق طبقة من الدائنين، ينتهي حكمها الأوليغارشي عندما يكتسب زعماء جدد، «طغاة» بحسب أرسطو، الدعم الشعبي من خلال إلغاء الديون وإعادة توزيع الممتلكات أو أخذ حق الانتفاع بها للدولة.

ولكن منذ عصر النهضة، حوّل المصرفيون دعمهم السياسي إلى الديمقراطيات. ولم يعكس هذا قناعات سياسية مساواتية أو ليبرالية بحدّ ذاتها، بل كان رغبة في الحصول على ضمانات أفضل لقروضهم. وكما أوضح جيمس ستيوارت في العام 1767، ظلت الاقتراضات الملكية شؤوناً خاصة لا ديوناً عامة حقيقية.1 ولكي تصبح ديون المَلك ملزمة للأمة بأكملها، كان على الممثلين المنتخبين سنّ الضرائب لدفع رسوم الفائدة عليها.

ومن خلال منح دافعي الضرائب هذا الصوت في الحكومة، وفّرت الديمقراطيات الهولندية والبريطانية للدائنين مطالبات أكثر أماناً بالسداد مقارنة بالملوك والأمراء الذين ماتت ديونهم معهم. ولكن الاحتجاجات الأخيرة ضدّ الديون من أيسلندا إلى اليونان وإسبانيا، تشير إلى أن الدائنين يحوّلون دعمهم بعيداً من الديمقراطيات، ويطالبون بالتقشّف المالي وحتى ببيع الأصول الخاصة.

وهذا يحوّل التمويل الدولي إلى أسلوب جديد من أساليب الحرب. والهدف من التمويل الدولي هو كما الغزو العسكري في الماضي: الاستيلاء على الأراضي والموارد المعدنية والبنية الأساسية المجتمعية واستخراج الجزية. ورداً على ذلك، تطالب الديمقراطيات بإجراء استفتاءات عمّا إذا كان ينبغي سداد الديون للدائنين من خلال بيع المجال العام ورفع الضرائب لفرض البطالة وانخفاض الأجور والكساد الاقتصادي. والبديل هو شطب الديون أو حتى إلغاؤها، وإعادة تأكيد السيطرة التنظيمية على القطاع المالي.

حكّام الشرق الأدنى يعلنون عن «السجلات النظيفة» للحفاظ على التوازن الاقتصادي

لم يكن فرض الفائدة على السِلف المقدّمة للسلع أو الأموال مقصوداً في الأصل باستقطاب الاقتصادات. كان تطبيق نظام الفائدة على الأراضي الزراعية في أوائل الألفية الثالثة قبل الميلاد بمثابة ترتيب تعاقدي بين معابد وقصور سومر والتجّار ورجال الأعمال الذين كانوا يعملون عادة في البيروقراطية الملكية، وكان من المفترض أن يعادل معدّل الفائدة بنسبة 20% (مضاعفة رأس المال في خمس سنوات) حصة عادلة من عائدات التجارة لمسافات طويلة أو تأجير الأراضي وغيرها من الأصول العامة مثل الورش والقوارب والمقاهي.

الهدف من التمويل الدولي هو كما الغزو العسكري في الماضي: الاستيلاء على الأراضي والموارد المعدنية والبنية الأساسية المجتمعية واستخراج الجزية

ومع خصخصة هذه الممارسة من قبل جامعي الرسوم والإيجارات الملكيّة، فإن «الملكيّة الإلهية» كانت تحمي المدينين الزراعيين. وألغت قوانين حمورابي (حوالي العام 1750 قبل الميلاد) ديونهم في أوقات الفيضانات أو الجفاف. وبدأ جميع حكّام سلالته البابلية في أول عام كامل لهم على العرش بإلغاء الديون الزراعية من أجل تسوية متأخرات الدفع من خلال إعلان صفحة بيضاء. وأعيد العبيد وحقوق الأراضي أو المحاصيل والتعهدات الأخرى إلى المدينين «لاستعادة النظام» في حالة «أصلية» مثالية من التوازن. وقد استمرت هذه الممارسة في سنة اليوبيل للشريعة الموسوية في سفر اللاويين 25.

كان المنطق واضحاً بما فيه الكفاية. فقد احتاجت المجتمعات القديمة إلى نشر الجيوش للدفاع عن أراضيها، وكان هذا يتطلّب تحرير المواطنين المدينين من العبودية. وكانت قوانين حمورابي تحمي سائقي المركبات الحربية وغيرهم من المقاتلين من الوقوع في عبودية الديون، كما منعت الدائنين من الاستيلاء على محاصيل المستأجرين في الأراضي الملكية وغيرها من الأراضي العامة والأراضي المشتركة التي كانت يدين أفرادها بالخدمة العسكرية للقصر.

وفي مصر، أعلن الفرعون باكن رانيف (حوالي 720-715 قبل الميلاد، أو «بوكوريس» باليونانية) عفواً عن الديون وألغى عبودية الديون عندما واجه تهديداً عسكرياً من إثيوبيا. ووفقاً لديودورس الصقلي (1، 79، كتب في 40-30 قبل الميلاد)، فقد حكم بأنه إذا طعن المدين في المطالبة، فإن الدين يُلغى إذا لم يتمكّن الدائن من إثبات مطالبته بإبراز عقد مكتوب. (يبدو أن الدائنين كانوا دائماً ميالين إلى المبالغة في الأرصدة المستحقة). كان الفرعون يعتقد أن «أجساد المواطنين يجب أن تنتمي إلى الدولة، حتى تتمكن من الاستفادة من الخدمات التي يدين بها مواطنوها لها، في أوقات الحرب والسلم. لأنه شعر أنه سيكون من السخافة أن يسحب دائن جندي إلى السجن بسبب قرض غير مدفوع، وأن جشع المواطنين الأفراد من شأنه أن يعرّض سلامة الجميع للخطر بهذه الطريقة».

إن حقيقة أن الدائنين الرئيسيين في الشرق الأدنى كانوا القصر والمعابد وجامعيها جعلت من السهل سياسياً إلغاء الديون. ومن السهل دائماً إلغاء الديون المستحقة على الذات. حتى أن الأباطرة الرومان أحرقوا سجلات الضرائب لمنع الأزمة. لكن إلغاء الديون المستحقة للدائنين من القطاع الخاص كان أصعب بكثير مع انتشار ممارسة فرض الفائدة غرباً إلى مشيخات البحر الأبيض المتوسط ​​بعد حوالي 750 قبل الميلاد. ولكن في نهاية المطاف، لم يكن الدين هو العامل الوحيد الذي ساعد على تقليص الفجوات بين الدخل والمصروفات. فبدلاً من تمكين الأسر من سدّ الفجوات بين الدخل والمصروفات، أصبح الدين هو الرافعة الرئيسة لمصادرة الأراضي، الأمر الذي أدّى إلى انقسام المجتمعات بين الأوليغارشيات الدائنة والعملاء المدينين. وفي يهوذا، ندّد النبي إشعيا (5: 8-9) بالدائنين الذين «يضيفون منزلاً إلى منزل ويربطون حقلاً إلى حقل حتى لا يتبقى أي مساحة، وتعيش وحدك في الأرض».

ونادراً ما اجتمعت قوة الدائنين والنمو المستقر. وكانت أغلب الديون الشخصية في هذه المدة الكلاسيكية نتاجاً لمبالغ صغيرة من المال تُقرض لأفراد يعيشون على حافة الكفاف ولا يستطيعون تلبية احتياجاتهم. وأجبرت مصادرة الأراضي والأصول - والحرية الشخصية - المدينين على العبودية التي أصبحت لا رجعة فيها. وبحلول القرن السابع قبل الميلاد، ظهر «الطغاة» (القادة الشعبيون) للإطاحة بالطبقة الأرستقراطية في كورنثوس وغيرها من المدن اليونانية الغنية، وحظوا بالدعم من خلال إلغاء الديون. بطريقة أقل استبداداً، أسّس سولون الديمقراطية الأثينية في العام 594 قبل الميلاد من خلال حظر عبودية الديون.

ولكن عادت الأوليغارشية إلى الظهور واستدعت روما عندما سعى ملوك أسبرطة أغيس وكليومينس وخليفتهم نابيس إلى إلغاء الديون في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. فقُتلوا وطُرد أنصارهم. وكان من الثابت السياسي في التاريخ منذ العصور القديمة أنّ تعارض مصالح الدائنين الديمقراطية الشعبية والسلطة الملكيّة القادرة على الحدّ من الغزو المالي للمجتمع - وهو الغزو الذي كان يهدف إلى ربط مطالبات الديون ذات الفائدة بالسداد على أكبر قدر ممكن من الفائض الاقتصادي.

وعندما حاول الأخوان غراتشي وأتباعهما إصلاح قوانين الائتمان في العام 133 قبل الميلاد، تصرّفت الطبقة المهيمنة في مجلس الشيوخ بعنف، فقتلتهم وافتتحت قرناً من الحرب الاجتماعية، التي انتهت بصعود أغسطس كإمبراطور في العام 29 قبل الميلاد.

أوليغارشية الدائنين في روما تفوز بالحرب الاجتماعية وتستعبد السكان وتجلب عصراً مظلماً

كانت الأمور أكثر دموية في الخارج. لم يذكر أرسطو بناء الإمبراطوريات كجزء من مخطّطه السياسي، لكن الغزو الأجنبي كان دائماً عاملاً رئيساً في فرض الديون، وكانت ديون الحرب السبب الرئيس للديون العامة في العصر الحديث. وكانت أشد ضريبة ديون في العصور القديمة من نصيب روما، التي انتشر دائنوها لتعيث فساداً في آسيا الصغرى، أكثر مقاطعاتها ازدهاراً. واختفت سيادة القانون تقريباً عندما وصل «فرسان» الدائنين العشارين. قاد ميثريداتس البنطي ثلاث ثورات شعبية، وانتفض السكان المحليون في أفسس ومدن أخرى وقَتلوا ما قيل إنه 80 ألف روماني في العام 88 قبل الميلاد. وردّ الجيش الروماني، وفرض سولا جزية حرب بلغت 20 ألف تالنت في العام 84 قبل الميلاد. وتضاعف هذا المبلغ 6 أضعاف بسبب رسوم الفائدة المتأخرة في العام 70 قبل الميلاد.

الحاجة إلى تمويل الحرب كانت هي التي عززت الديمقراطية، وشكّلت ثالوثاً تكافلياً بين صناعة الحرب والائتمان والديمقراطية البرلمانية في عصر كان المال فيه لا يزال عصب الحرب

ومن بين أبرز مؤرّخي روما، ألقى ليفي وبلوتارش وديودوروس باللوم في سقوط الجمهورية على تعنّت الدائنين في شن الحرب الاجتماعية التي استمرّت قرناً من الزمان، والتي اتّسمت بالقتل السياسي من العام 133 إلى العام 29 قبل الميلاد. وسعى الزعماء الشعبويون إلى كسب أتباع من خلال الدعوة إلى إلغاء الديون (على سبيل المثال، مؤامرة كاتلين في العامي 63 و62 قبل الميلاد). وقد قُتلوا. وبحلول القرن الثاني الميلادي، تمّ إجبار ربع السكان تقريباً على العبودية. وبحلول القرن الخامس انهار اقتصاد روما، وجُرّد من المال. وعادت حياة الكفاف إلى الريف مع حلول العصر المظلم.

وجد الدائنون سبباً قانونياً لدعم الديمقراطية البرلمانية

عندما استعادت المصارف عافيتها بعد أن نهبت الحروب الصليبية بيزنطة وأدخلت الفضة والذهب لمراجعة التجارة الأوروبية الغربية، تغلّبت المعارضة المسيحية لفرض الفائدة على الجمع بين المقرضين المرموقين (فرسان الهيكل وفرسان الإسبتارية الذين قدّموا الائتمان في أثناء الحروب الصليبية) وعملائهم الرئيسيين -الملوك، الذين كانوا في البداية يدفعون للكنيسة ثم يخوضون الحروب على نحو متزايد. ولكن الديون الملكيّة أصبحت سيئة عندما مات الملوك. فقد أفلست عائلتا باردي وبيروزي في العام 1345 عندما تبرأ إدوارد الثالث من ديونه الحربية. وخسرت العائلات المصرفية المزيد من الأموال على القروض التي حصلت عليها من طغاة هابسبورغ وبوربون على عروش إسبانيا والنمسا وفرنسا.

وتغيّرت الأمور مع الديمقراطية الهولندية، التي سعت إلى الفوز بحريتها وتأمينها من إسبانيا الهابسبورغية. وحقيقة أن برلمانها كان عليه أن يتعاقد على ديون عامّة دائمة نيابةً عن الدولة مكّنت البلدان المنخفضة من جمع القروض لتوظيف المرتزقة في عصر حيث كان المال والائتمان هما عصب الحرب. ولقد كان الحصول على الائتمان «بهذا الشكل أقوى سلاح لهم في النضال من أجل حريتهم»، كما يلاحظ إيرينبيرغ: «كان كل من قدّم ائتماناً لأمير يعلم أن سداد الدين يتوقف فقط على قدرة المدين وإرادته في السداد. وكانت الحال مختلفة تماماً بالنسبة للمدن، التي كانت تتمتع بالسلطة باعتبار أن سكانها كانوا أسياداً، ولكنها كانت أيضاً شركات، وجمعيات من الأفراد الذين تربطهم رابطة مشتركة. ووفقاً للقانون المقبول عموماً، كان كل مواطن مسؤولاً عن ديون المدينة سواء بشخصه أو بممتلكاته».2 وكان الإنجاز المالي للحكومة البرلمانية هو إنشاء ديون لم تكن مجرّد التزامات شخصية للأمراء، بل كانت حقاً عاماً وملزماً بغض النظر عمن يشغل العرش. ولهذا السبب طوّرت أول دولتين ديمقراطيتين، هولندا وبريطانيا بعد ثورتها في العام 1688، أسواق رأس المال الأكثر نشاطاً، وشرعتا في التحول إلى قوى عسكرية رائدة. ومن عجيب المفارقات أن الحاجة إلى تمويل الحرب كانت هي التي عززت الديمقراطية، وشكّلت ثالوثاً تكافلياً بين صناعة الحرب والائتمان والديمقراطية البرلمانية في عصر كان المال فيه لا يزال عصب الحرب.

في ذلك الوقت «كان الوضع القانوني للملك كوا باعتباره مقترضاً غامضاً، وكان من المشكوك فيه ما إذا كان دائنوه لديهم أي وسيلة منصفة ضده في حالة التخلف عن السداد».3 وكلّما ازدادت إسبانيا والنمسا وفرنسا استبداداً، كلما ازدادت الصعوبة التي واجهتها في تمويل مغامراتها العسكرية. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، أصبحت النمسا «من دون ائتمان، وبالتالي من دون ديون كبيرة» وهي الدولة الأقل جدارة بالائتمان والأسوأ تسليحاً في أوروبا (كما لاحظ ستيوارت 1767: 373)، معتمدةً بشكل كامل على الإعانات وضمانات القروض البريطانية بحلول وقت الحروب النابليونية.

التمويل يتكيّف مع الديمقراطية ولكنه يدفع بعد ذلك نحو حكم الأقلية

في حين أدت الإصلاحات الديمقراطية في القرن التاسع عشر إلى تقليص سلطة الأرستقراطيين من أصحاب الأراضي في السيطرة على البرلمانات، تحرّك المصرفيون بمرونة لتحقيق علاقة تكافليّة مع كل أشكال الحكومة تقريباً. في فرنسا، روّج أتباع سان سيمون لفكرة أن البنوك تعمل مثل صناديق الاستثمار المشتركة، وتمد الائتمان مقابل الأسهم العادية في الأرباح. لقد أقامت الدولة الألمانية تحالفاً مع البنوك الكبرى والصناعات الثقيلة. وكتب ماركس متفائلاً عن الكيفيّة التي قد تجعل بها الاشتراكية التمويل منتجاً بدلاً من أن يكون طفيلياً. وفي الولايات المتحدة، سار تنظيم المرافق العامة جنباً إلى جنب مع العائدات المضمونة. وفي الصين، كتب صن يات سين في العام 1922: «إنني أنوي تحويل جميع الصناعات الوطنية في الصين إلى صندوق ائتماني عظيم يملكه الشعب الصيني، ويمول برأس مال دولي لتحقيق المنفعة المتبادلة».4

وشهدت الحرب العالمية الأولى استبدال الولايات المتحدة ببريطانيا كدولة دائنة رئيسة، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كانت قد استحوذت الولايات المتحدة على نحو 80% من الذهب النقدي العالمي. وقد شكّل دبلوماسيوها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على أسس موجّهة نحو الدائنين والتي مولت الاعتماد التجاري، خصوصاً على الولايات المتحدة. وكانت القروض لتمويل العجز التجاري وعجز المدفوعات خاضعة لـ«شروط» حوّلت التخطيط الاقتصادي إلى الأوليغارشيات العميلة والدكتاتوريات العسكرية. ولم تتمكن الاستجابة الديمقراطية لخطط التقشّف الناتجة عن ذلك من تجاوز «أعمال شغب صندوق النقد الدولي»، حتى رفضت الأرجنتين ديونها الخارجية.

بدلاً من تمكين الأسر من سدّ الفجوات بين الدخل والمصروفات، أصبح الدين هو الرافعة الرئيسة لمصادرة الأراضي، الأمر الذي أدّى إلى انقسام المجتمعات بين الأوليغارشيات الدائنة والعملاء المدينين

والآن تفرض البنوك المركزية الأوروبية والبيروقراطية الأوروبية سياسة تقشف مماثلة موجّهة نحو الدائنين على أوروبا. فقد تم توجيه الحكومات الديمقراطية الاجتماعية ظاهرياً لإنقاذ البنوك بدلاً من إنعاش النمو الاقتصادي والعمالة. وتم تحميل الخسائر الناجمة عن القروض المصرفية المعدومة والمضاربات على الميزانية العمومية العامة في حين تم تقليص الإنفاق العام وحتى بيع البنية الأساسية. وكان رد فعل دافعي الضرائب الذين عانوا من الديون الناتجة عن ذلك هو تنظيم احتجاجات شعبية بدأت في أيسلندا ولاتفيا في كانون الثاني/يناير 2009، ثم مظاهرات أكثر انتشاراً في اليونان وإسبانيا في الخريف نفسه للاحتجاج على رفض حكومتيهما عقد استفتاءات على عمليات الإنقاذ المشؤومة لحاملي السندات الأجانب.

تحويل التخطيط بعيداً عن الممثلين العامين المنتخبين إلى المصرفيين

كل اقتصاد مخطط. وكانت هذه تقليدياً وظيفة الحكومة. والتخلّي عن هذا الدور تحت شعار «الأسواق الحرة» يتركه في أيدي البنوك. ومع ذلك، تبيّن أن امتياز التخطيط المتمثل في خلق الائتمان وتخصيصه أكثر مركزية من امتياز المسؤولين العموميين المنتخبين. إن ما يزيد الطين بلة هو أن الإطار الزمني المالي قصير الأجل، وينتهي به الأمر إلى تجريد الأصول. ومن خلال السعي إلى تحقيق مكاسب خاصة، تميل البنوك إلى تدمير الاقتصاد. وينتهي الأمر بالفوائض إلى الاستهلاك من خلال الفائدة والرسوم المالية الأخرى، فلا يتبقى أي إيرادات للاستثمار الرأسمالي الجديد أو الإنفاق الاجتماعي الأساسي.

وهذا هو السبب في أن التخلي عن السيطرة على السياسات لفئة الدائنين نادراً ما يقترن بالنمو الاقتصادي وارتفاع مستويات المعيشة. وكان ميل الديون إلى النمو بسرعة أكبر من قدرة السكان على السداد ثابتاً أساسياً طوال التاريخ المسجل. وتتراكم الديون بشكل كبير، فتمتص الفوائض وتقلّص جزءاً كبيراً من السكان إلى ما يعادل عبودية الديون. ولاستعادة التوازن الاقتصادي، سعت صرخة العصور القديمة لإلغاء الديون إلى تحقيق ما حققه الشرق الأدنى في العصر البرونزي بمرسوم ملكي: إلغاء النمو المفرط للديون.

وفي العصور الحديثة، حثّت الديمقراطيات الدولة القوية على فرض الضرائب على دخل وثروات أصحاب الريع، وعندما دعت الحاجة إلى ذلك، شُطبت الديون. ويتم ذلك بسهولة أكبر عندما خلقت الدولة بنفسها المال والائتمان. إن هذا الأمر لا يتم بسهولة إلا عندما تترجم البنوك مكاسبها إلى قوة سياسية. فعندما يُسمح للبنوك بتنظيم نفسها وتمنح حق النقض على الهيئات التنظيمية الحكومية، فإن الاقتصاد يصبح مشوّهاً بما يسمح للدائنين بالانغماس في المقامرة المضاربية والاحتيال الصريح الذي ميّز العقد الماضي. ويوضح سقوط الإمبراطورية الرومانية ما يحدث عندما لا يتم التحكّم في مطالب الدائنين. وفي ظل هذه الظروف فإن البديل للتخطيط الحكومي وتنظيم القطاع المالي يصبح طريقاً إلى عبودية الديون.

التمويل مقابل الحكومة: الأوليغارشية مقابل الديمقراطية

تتضمن الديمقراطية إخضاع الديناميات المالية لخدمة التوازن الاقتصادي والنمو - وفرض الضرائب على دخل أصحاب الريع أو إبقاء الاحتكارات الأساسية في المجال العام. وتحرير دخل الملكيّة من الضرائب أو خصخصته «يُحرر» بحيث يمكن رهنه للبنوك، وتحويله إلى قروض أكبر. وبتمويل من الاستدانة، يعمل التضخم في أسعار الأصول على زيادة ثروة أصحاب الريع في حين يثقل كاهل الاقتصاد ككل بالديون. وينكمش الاقتصاد، ويسقط في الأسهم السلبية.

لقد اكتسب القطاع المالي نفوذاً كافياً لاستخدام مثل هذه الحالات الطارئة كفرصة لإقناع الحكومات بأن الاقتصاد سوف ينهار إذا لم «تنقذه البنوك». وفي الممارسة العملية، يعني هذا تعزيز سيطرتها على السياسة، التي تستخدمها بطرق تزيد من استقطاب الاقتصادات. والنموذج الأساسي هو ما حدث في روما القديمة، عندما انتقلنا من الديمقراطية إلى الأوليغارشية. والواقع أن إعطاء الأولوية للمصرفيين وترك التخطيط الاقتصادي ليمليه الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي يهدّد بتجريد الدولة القومية من سلطة سك أو طباعة النقود وفرض الضرائب.

والصراع الناتج عن ذلك يضع المصالح المالية في مواجهة تقرير المصير الوطني. والواقع أن فكرة البنك المركزي المستقل باعتباره «السمة المميزة للديمقراطية» ليست أكثر من تعبير ملطّف من التخلي عن القرار السياسي الأكثر أهمية - القدرة على خلق النقود والائتمان - للقطاع المالي. وبدلاً من ترك اختيار السياسات للاستفتاءات الشعبية، فإن عملية إنقاذ البنوك التي نظّمها الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي تمثّل الآن الفئة الأكبر من الديون الوطنية المتصاعدة. فقد تحوّلت ديون البنوك الخاصة التي أضيفت إلى الميزانيات العموميّة للحكومات في أيرلندا واليونان إلى التزامات دافعي الضرائب. وينطبق الأمر ذاته على 13 تريليون دولار أميركي أضيفت إلى الميزانية العمومية للحكومة الأميركية منذ أيلول/سبتمبر 2008 (بما في ذلك 5.3 تريليون دولار من الرهن العقاري السيء لفاني ماي وفريدي ماك، و2 تريليون دولار من مقايضات «النقد مقابل القمامة» التي ينفذها بنك الاحتياطي الفيدرالي).

كل اقتصاد مخطط، وكانت هذه تقليدياً وظيفة الحكومة. والتخلّي عن هذا الدور تحت شعار «الأسواق الحرة» يتركه في أيدي البنوك

إن هذا الأمر يتم إملاءه من قبل وكلاء ماليين يُطلق عليهم لقب التكنوقراط. إن دور هؤلاء الذين تتم تسميتهم بمجموعات الضغط الدائنة هو حساب مقدار البطالة والكساد اللازمين لاستخراج فائض لسداد الديون المستحقة للدائنين. والواقع أن ما يجعل هذا الحساب هزيلاً هو حقيقة مفادها أن الانكماش الاقتصادي - انكماش الدين - يجعل عبء الدين أكثر صعوبة.

ولم تحسب البنوك ولا السلطات العامة (أو الأكاديميون السائدون، في هذا الصدد) القدرة الواقعية للاقتصاد على الدفع - أي الدفع من دون انكماش الاقتصاد. ومن خلال وسائل الإعلام ومراكز البحوث، أقنعوا الشعوب بأن السبيل إلى الثراء السريع هو اقتراض المال لشراء العقارات والأسهم والسندات التي ترتفع أسعارها - والتي تضخّمت بفعل الائتمان المصرفي - وعكس اتجاه الضرائب التصاعديّة على الثروات في القرن الماضي.

إن النتيجة كانت اقتصاداً زائفاً. والهدف من هذا النظام هو تعطيل الضوابط والتوازنات العامة، وتحويل سلطة التخطيط إلى أيدي كبار رجال المال بزعم أن هذا أكثر كفاءة من التنظيم العام. ويُتهم التخطيط الحكومي ونظام الضرائب بأنه «الطريق إلى العبودية»، وكأن «الأسواق الحرة» التي يسيطر عليها المصرفيون الذين يتمتعون بحرية التصرف بتهور لا يتم تخطيطها من قبل مصالح خاصة بطرق أوليغارشية وليست ديمقراطية. ويُطلب من الحكومات أن تسدد ديون الإنقاذ التي تتحملها ليس للدفاع عن البلدان في الحروب العسكرية كما كان الحال في الماضي، بل لمصلحة الطبقة الأكثر ثراءً من السكان من خلال تحويل خسائرها إلى دافعي الضرائب.

إن الفشل في أخذ رغبات الناخبين في الاعتبار يجعل الديون الوطنية الناتجة، على أرضٍ غير مستقرة سياسياً وحتى قانونياً. وقد تكون الديون المفروضة بموجب مرسوم، من الحكومات أو الوكالات المالية الأجنبية التي تواجه معارضة شعبية قوية، ضعيفة مثل الديون التي فرضها آل هابسبورغ وغيرهم من الطغاة في العصور الماضية. ونظراً لافتقارهم إلى المصداقية الشعبية، قد تموت هذه الديون مع النظام الذي تعاقد معهم. إن الحكومات الجديدة قد تتصرف بطريقة ديمقراطية لإخضاع القطاع المصرفي والمالي لخدمة الاقتصاد، وليس العكس.

وعلى أقل تقدير، قد تسعى الحكومات إلى الدفع من خلال إعادة فرض الضرائب التصاعدية على الثروة والدخل، وتحويل العبء المالي إلى الثروات والممتلكات الريعية. إن إعادة تنظيم العمل المصرفي وتوفير خيار عام للائتمان والخدمات المصرفية من شأنه أن يجدد البرنامج الديمقراطي الاجتماعي الذي بدا وكأنه في طور التنفيذ قبل قرن من الزمان.

إن أيسلندا والأرجنتين أحدث مثالين، ولكن قد ينظر المرء إلى الوراء إلى وقف ديون الأسلحة بين الحلفاء والتعويضات الألمانية في العام 1931. وهناك مبدأ رياضي وسياسي أساسي يعمل على هذا النحو: الديون التي لا يمكن سدادها، لن يتم سدادها.

نُشِر هذا المقال في CADTM في 8 كانون الثاني/يناير 2025 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.

  • 1

    جيمس ستيوارت، مبادئ الاقتصاد السياسي (1767) ، ص 11. 353.

  • 2

    ريتشارد إيرينبيرغ، رأس المال والتمويل في عصر النهضة (1928):44 وما يليها، 33.

  • 3

     تشارلز ويلسون، تدريب إنكلترا: 1603-1763 (لندن: 1965):89.

  • 4

    صن يات صن، التنمية الدولية للصين (1922):231 وما يليها.