Preview إنقاذ أكثر من نصف الودائع الكبيرة في لبنان بين 2017 و2023

إنقاذ أكثر من نصف الودائع الكبيرة في لبنان بين 2017 و2023

بدأت موجة هروب الودائع من المصارف اللبنانية منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017، عندما قامت السلطات السعودية باستدعاء رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى الرياض واعتقاله (بين 3 و22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) وإجباره على إعلان استقالته من هناك قبل أن تتمكّن الوساطات من إخراجه من السعودية وإعادته إلى لبنان. مثلت تلك اللحظة ذروة الضغوط الخارجية على لبنان والتدخّلات لفرض تغيير في ميزان القوى الداخلي. 

التغيّرات حسب شرائح الحسابات في المصارف اللبنانية

في تلك اللحظة، أي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 كان يوجد في المصارف العاملة في لبنان 24 ألف و421 حساباً يحتوي كل منها على وديعة تفوق قيمتها مليون دولار. ولكن، هذا العدد انخفض كثيراً منذ ذلك الوقت، وبلغ في كانون الأول/ديسمبر 2023، نحو 10 آلاف و494 حساباً، ما يعني أن أصحاب الودائع الكبيرة أقفلوا أو خفّضوا 13 ألف و927 حساباً من حساباتهم في غضون 6 سنوات من عمر هذه الأزمة، ونجحوا بإنقاذ نحو 36.7 مليار دولار، أو أكثر من 53% من ودائعهم بالعملات الأجنبية. ووفق أحدث البيانات الصادرة من دوائر مصرف لبنان، بلغت الودائع بالعملات الأجنبية المتبقية في الحسابات المصرفية التي تفوق مليون دولار نحو 32.5 مليار دولار في نهاية العام 2023، بالمقارنة مع نحو 69.2 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2017. وبعدما كانت هذه الشريحة، لا تمثّل سوى أقل من 0.8% من مجمل الحسابات المصرفية، وتستحوذ وحدها على نحو 60.70% من مجمل ودائع الزبائن بالعملات الأجنبية، أصبحت في نهاية العام 2023 تمثّل أكثر من 1% من مجمل الحسابات، ولكنها لم تعد تستحوذ سوى على 37.7% من مجمل الودائع بالعملات الأجنبية.

هذه هي واحدة من نتائج ما يجري منذ انهيار المخطّط الاحتيالي (بونزي) والإمعان في سياسات الإفلات من العقاب. فقد جرى تمكين أصحاب الودائع الكبيرة من الفوز بالمكاسب الكبيرة من جراء الفوائد السخيّة والهندسات المالية، ثم جرى تمكينهم من الهروب بهذه المكاسب، أو الجزء الأكبر منها، عبر التحويلات إلى الخارج والسحوبات النقدية وتسديد الديون وشراء الأصول. 

تبيِّن إحصاءات مصرف لبنان (غير منشورة) أن شرائح الحسابات المصرفية التي يحتوي كل منها على وديعة تقلّ عن مليون دولار شهدت تغيّرات معاكسة للشريحة العليا من أصحاب الودائع الكبيرة. ففي حين انخفض عدد الحسابات التي يحتوي كل منها على وديعة تتراوح قيمتها بين 100 ألف ومليون دولار، من 207 آلاف و477 حساباً إلى 142 ألفاً و873 حساباً، أي بمقدار 64 ألفاً و604 حسابات، إلا أن قيمة حسابات هذه الشريحة ارتفعت من 33.7 مليار إلى 38.3 مليار دولار، أي بزيادة 4.6 مليار دولار. وينطبق الأمر على الشريحة الدنيا التي يحتوي كل حساب منها على وديعة تقل عن 100 ألف دولار، فقد انخفض عدد الحسابات نحو مليون و795 ألفاً و193 حساباً، من مليونين و660 ألفاً و586 حساباً في العام 2017 إلى 865 ألفاً و393 حساباً، في حين ارتفعت قيمة الودائع في حسابات هذه الشريحة نحو 4.2 مليار دولار، من 11.1 مليار إلى 15.3 مليار دولار.

تجدر الإشارة، أن إحصاءات مصرف لبنان في نهاية العام 2023 تتضمّن ما يسمّى الحسابات الطازجة، أي التي جرى فتحها أو أودِعت فيها أموال بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019، عندما أقفلت المصارف أبوابها وقامت بمصادرة الودائع من دون إعلان توقفها عن الدفع، واعتمدت إجراءات استنسابية مكّنتها من تحرير ودائع البعض على حساب البعض الآخر. ولكن هذه الإحصاءات لا تشمل الودائع في مصارف الأعمال.

كما تجدر الإشارة، أن اعتماد المقارنة مع تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2017، لأن هذا التاريخ هو أبعد ما يمكننا الذهاب إليه، إذ لم يكن مصرف لبنان ينشر توزّع الحسابات المصرفية حسب الشرائح، ولكن لجنة الرقابة على المصارف اضطرت في ظل أزمة اعتقال الحريري في السعودية إلى وضع تقرير يحذِّر من موجهة هروب الودائع الكبيرة، وقد تزامنت هذه الموجة مع استحقاق جزء مهم من الودائع الكبيرة التي جرى توظيفها في الهندسات المالية مع مصرف لبنان، إذ جنى أصحاب هذه الودائع معدّل فائدة يبلغ 25% على الدولار. وكان تقرير نُشر في ملحق «رأس المال» مع جريدة «الأخبار» قد كشف أن الحسابات التي تفوق قيمة كل منها عن 3 ملايين دولار انخفضت بقيمة 5.6 مليار دولار وتم تسكير نحو 438 حساباً في هذه الشريحة، وفق الإحصاءات التي تغطّي الفترة من نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2017 حتى نهاية حزيران/يونيو 2019، أي قبل 3 أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية وإقفال المصارف في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

للاسف، لا تسمح هذه الإحصاءات بتحليل التغيّرات وفق الشرائح الأضيق، ولا سيما لجهة عدد الحسابات وقيمتها التي انتقلت من شرائح الحسابات فوق مليون دولار إلى الشرائح الأدنى، إذ يجب الإقرار أن تغيّرات كبيرة حصلت داخل كل شريحة وبين الشرائح من أعلى إلى أسفل، ففي حين انخفض مجمل الودائع بالعملات الأجنبية في الحسابات جميعها نحو 27.9 مليار دولار، انخفضت الودائع في الشرائح فوق مليون دولار نحو 36.7 مليار دولار. فإذا اعتبرنا (وهذا غير صحيح إطلاقاً) أن الزيادة في قيمة الحسابات تحت مليون دولار، البالغة 8.8 مليار دولار، نجمت كلّها من انتقال الحسابات من الشرائح الأعلى إلى الشرائح الأدنى بسبب السحوبات والتحويلات الجزئية، فهذا لن يغيّر من الحقيقة الإحصائية التي تقول إن أصحاب الحسابات الكبيرة أنقذوا جزءاً مهماً من ودائعهم، ويواصلون حربهم الضروس لإنقاذ الجزء المتبقّي أو ما استطاعوا إليه سبيلاً.

وللأسف أيضاً، لا توجد إحصاءات دقيقة عن قيمة الحسابات التي جرى تحويلها من الليرة إلى الدولار في هذه الفترة، إلا أن مستشار رئيس الحكومة سمير ضاهر أورد في ورقة قدّمها إلى مجلس النواب ونشرتها «نداء الوطن» أن نحو 31 مليار دولار جرى تحويلها بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 من حسابات بالليرة إلى حسابات بالعملات الأجنبية على سعر الصرف الثابت (1,500 ليرة للدولار)، وانخفضت قيمة هذه الحسابات إلى 22 مليار دولار، أي أن أصحابها تمكّنوا من إنقاذ 9 مليارات دولار منها بين عامي 2021 و2022. وهذا يعني أن قيمة انخفاض الحسابات بالعملات الأجنبية هو أكبر بكثير ممّا تبيّنه المجاميع الكلية.