
3 مؤشرات على وهم ردّ الودائع في لبنان
«عهدي أن لا أتهاون في حماية أموال المودعين».
رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون – خطاب القسم في 09/01/2025
«أول ما يجب شطبه هو الكلام عن شطب الودائع».
تصريح لرئيس الحكومة اللبنانية نوّاف سلام – 11/02/2025
في تقرير جديد صدر في الرابع من شباط/فبراير الجاري بعنوان «لبنان: السياسة والاستقرار قبل الاقتصاد»، استخدم قسم الأبحاث في بنك JPMorgan العبارة التالية: «Depositors will likely have to face the music». الترجمة الحرفية لهذه العبارة إلى العربية هي التالية: «الأرجح أن يضطر المودعون لمواجهة الموسيقى». وما تعنيه «مواجهة الموسيقى» في هذه العبارة يشبه إلى حدّ كبير «دفع الثمن»، أي أن أصحاب الودائع لا بد وأن يواجهوا الحقيقة وأن يتحمّلوا المسؤولية والعواقب.
هذه العبارة هي تعبير واضح ومباشر عن وهم ردّ الودائع كلّها، وهي تأتي على لسان JPMorgan، وهي واحدة من أكبر شركات الخدمات المالية والمصرفية في العالم، التي تدير أصولاً بقيمة 3.9 تريليون دولار وعمليات في 100 دولة. وبالتالي، لا تنمّ عن دوافع انتقامية وكره للمصارف والمودعين، وإنّما هي حصيلة تحليل تقني للمؤشّرات والوقائع التي تدحض كلّ الخطابات الشعبوية التي تتردّد منذ أكثر من خمس سنوات، ولا تزال، عن «قدسية الودائع» والوعود بردّها إلى أصحابها كاملة، والتي ردّدها أخيراً رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطاب القسم ورئيس الحكومة نوّاف سلام في المقابلة الأولى له بعد تشكيل الحكومة.
المؤشّر الأول
خسائر القطاع المالي أكبر من تُنْقَذ
قُدِّرت خسائر النظام المالي بأكثر من 70 مليار دولار سواء في تقرير المادة الرابعة الأخير عن لبنان الصادر عن صندوق النقد الدولي في حزيران/يونيو 2023، أو في تقرير المرصد الاقتصادي لخريف 2024 الذي يعدّه البنك الدولي دورياً. ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي في العام 2023، كان صافي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان عاجزاً بنحو 60 مليار دولار. طبعاً لا جديد في الأرقام المعروضة، لكن بحسب خبراء JPMorgan «لكي يتمكّن مصرف لبنان من تحقيق أهدافه السياسية باستقلالية، لا بد أن تصبح وضعيّته المالية الصافية صفراً»، أو أكثر. بمعنى أكثر وضوحاً أن يعالج الخسائر المُترتبة عليه ويتخلّص منها.
وبالنظر إلى عجز الدولة اللبنانية عن ضخّ السيولة بسبب ثقل جبال الديون المترتبة عليها وضعف وارداتها النقدية، يرجّح خبراء أحد أكبر الشركات المالية في العالم «أن يضطر مصرف لبنان إلى شطب معظم التزاماته تجاه المصارف بقيم تساوي العجز المُسجّل لديه».
بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بلغت قيمة ودائع المقيمين وغير المقيمين في المصارف اللبنانية نحو 88.2 مليار دولار. وبالتالي إن شطب 60 مليار دولار من ودائع المصارف الموجودة لدى مصرف لبنان، يعني محو نحو 60% إلى 70% من ميزانيات المصارف.
لا تتوقف المسألة هنا، منذ بدء الأزمة ارتفعت القروض المُتعثرة بشكل كبير، إما بسبب عجز الدائنين عن ردّها أو تمنّعهم عن ذلك، أو ردّها بالليرة اللبنانية بسعر 1,500 ليرة للدولار. وعلى اعتبار أن القروض هي بالأساس ودائع موجودة لدى المصارف، فإن التعثّر عن دفعها سوف يزيد قيمة الودائع التي ستعجز المصارف عن ردّها إلى أكثر من 60 مليار دولار.
أكثر من ذلك، يبدو أن ودائع المقيمين ستكون الأكثر تضرّراً، خصوصاً أنها تشكّل 65% من مجمل التزامات المصارف، في مقابل 20% لودائع غير المقيمين. وفي حين انخفضت ودائع غير المقيمين من نحو 36 مليار دولار في منتصف العام 2019 إلى 20.9 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي بنحو 15 مليار دولار، لا تزال النسبة الأكبر من ودائع المقيمين عالقة في الجهاز المصرفي، وبالتالي قد يزيد خطر فقدانها في ظل غياب أي قانون لحماية جزء منها حتى سقوف مُحدّدة، في حال شطبها لحلّ مشكلة العجز في المصرف المركزي.
المؤشّر الثاني
الهيركات على اليوروبوندز ليس بديلاً عن شطب الودائع
المودعون ليسوا وحدهم من تضرّروا من انهيار النظام المصرفي، يضاف إليهم حاملو سندات الدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز). يتحدّث الكثير من الخبراء عن تصادم مُحتمل بين هاتين الفئتين في أي عملية لإعادة الهيكلة، على اعتبار أنه إذا كان هناك من «نيّة» لردّ الودائع، لا بد أيضاً أن يجري دفع سندات اليوروبوندز التي توقّفت الحكومة اللبنانية عن سدادها منذ آذار/مارس 2020. كذلك في حال كان هناك «توجّه» لإجراء «هيركات» لا بد أن تكون نسبته متساوية بين المودعين وحاملي السندات.
يقدّر خبراء JPMorgan أنه «قد يتم فرض هيركات بنسبة 70% على سندات اليوروبوندز»، وهو ما يتوافق مع سعرها الحالي بالسوق، في حال تمّ تبنّي هذا الخيار، «مع تمديد أجل استحقاق هذه السندات لمدّة 10 سنوات». ومع ذلك، ستكون آثار «الهيركات» على اليوروبوندز محدودة على النظام المصرفي. بحلول تشرين الثاني/نوفمبر، كانت المصارف تحمل في محفظتها سندات يوروبوندز بقيمة 2.3 مليار دولار، وهو ما لا يشكّل أكثر من 2% من مجمل أصول المصارف. ما يعني أن الأعباء التي تلقيها هذه السندات على ميزانيات المصارف أقلاً ثقلاً من عبء الودائع، وبالتالي لن يؤدّي تسديدها إلى زيادة الهوامش المتاحة لردّ أموال المودعين.
المؤشّر الثالث
التقشّف وتشديد السياسات النقدية ليسا الحل
منذ آب/أغسطس 2023، قيّد مصرف لبنان طبع العملة لضخّها في الاقتصاد أو لتمويل الدولة، وهو ما حتّم سياسات تقشّفية أثّرت على مجمل الخدمات العامّة، واستمرّت حتى مع تصاعد العدوان الإسرائيلي واشتداد الحاجة إلى خدمات الدولة. بالإضافة إلى ضبط سعر الصرف كأحد الأسباب المعلنة للجم طبع العملة، سعى المصرف المركزي إلى استخدام الليرات المتواجدة من أجل شراء الدولارات من السوق وزيادة احتياطاته منها، وهو ما اعتبره كثيرون حلاً لتقليص الفجوة بالعملات الأجنبية لديه.
مع ذلك، لم ترتفع الاحتياطات الرسمية الإجمالية بالعملات الأجنبية (من دون احتساب الذهب) سوى بقيمة 0.5 مليار دولار في الأشهر الـ11 الأولى من العام 2024، بحسب JP Morgan. ووصلت قيمة العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان إلى نحو 10.1 مليار دولار في نهاية العام الماضي، وهي «لا تزال أقل من قيمة متطلّبات احتياطي ودائع البنوك بالعملات الأجنبية»، وبطبيعة الحال أقل بكثير من الفجوة المفترض تقليصها.
بمعنى آخر، لم يكن التصحيح المتبع على حساب مصالح المجتمع نافعاً لتقليص الفجوة بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، وبالتالي لا يزال الشطب أمراً لا مفر منه.