تشريح «أسطورة» رائد الأعمال

كلّنا شعرنا بافتتانٍ أمام لحظة «التأسيس من المرآب»، التي عاشها رائد أعمال شرّع دروب عوالم المال والتجارة المتشعّبة، من مرآب بيت العائلة، ليبني واحدة من أنجح الشركات على هذا الكوكب، مجسّداً روح «البراعة الأميركية». إن الشاب الذي يبدأ من اللاشيء ليصنع عملاقاً تجارياً أو رقمياً يقود العالم بيد واحدةٍ، أصبح نموذج الشباب في العالم وقدوتهم. 

اكتشف العالم هذا السحر بشكل أكثر وضوحاً في أعقاب وفاة، ستيف جوبز، المؤسّس المشارك والرئيس التنفيذي السابق لشركة آبل، عندما تجمع الآلاف من الناس أمام مكاتب الشركة وفروعها يحملون أجهزة الآيباد والآيفون في أيديهم ويبكون الرجل، فيما احتل الحدث مساحات واسعة من التغطية الإعلامية، في مشهد حداد غير مسبوق لشخصية تنتمي إلى عالم الأعمال.  كان ذلك مؤشر على أن رائد الأعمال أصبح كالفنانين والممثلين والرياضيين، يحتل مكانه في الخيال الإعلامي والشعبي المعاصر، مجسّداً القوة والابتكار والعبقرية، التي تجتمع في شخص يوجّه البشرية على مسارات التقدّم التكنولوجي. 

لا حرج في مشهد المرآب. لكن الأسطورة تلغي أي واقع اجتماعي واقتصادي أو حتى سياسي، وكأن رائد الأعمال معلّق في سماء العبقرية، لا يتأثّر بالتنظيم الاجتماعي، وبفضل عبقريته وعقله وإرادته قادر على إعادة تشكيل العالم

في كتابه: «أسطورة رائد الأعمال: دحض خيال وادي السيليكون»، يفكّك أنتوني غالوزو، المحاضر في جامعة «سانت إتيان»، الفرنسية، والمتخصّص في دراسات «الخيال التجاري وثقافات المستهلك»، أسطورة رائد الأعمال، ويشرّح مكوّناتها والعوامل التي تؤدّي إلى إنتاج الخيال الريادي بالاستناد إلى منهج تحليل الخطاب، ويحلّل في الوقت نفسه التأثيرات الحقيقية لممارسات روّاد الأعمال لناحية طريقة إدارة الصراعات الاجتماعية وتنظيم العمل. 

تشريح الأسطورة

أول أركان الأسطورة، التي يحاول الكاتب تفكيكها، هي أن رائد الأعمال، الذي يقاربه ليس فاعلاً اقتصادياً واجتماعياً، ولكنه فئة من الخطاب. هو شخصية تتشكّل في خيالنا من خلال المقالات الصحافية والمجلات والأفلام والتقارير. إنه «منتج»، بمعنى أنه جزء من مجتمع المشاهير. ستيف جوبز، وبيل غيتس، وإيلون ماسك، قصصهم عبارة عن مجموعات من الاقتباسات واللافتات والحكايات والصور والخيالات. ينطلق الكاتب من نموذج ستيف جوبز، بوصفه رائد هذا التيار من الروّاد. من خصائص أسطورة الرائد كما تتجلّى عند جوبز، هو التأسيس من العدم. من العوز إلى الوفرة، من المرآب إلى الشركات متعدّدة الجنسيات. تتلاشى الوساطات ويبقى فقط أداء رجل الأعمال البطل. لا حرج في مشهد المرآب. ولكن الأسطورة تلغي أي واقع اجتماعي واقتصادي أو حتى سياسي، وكأن رائد الأعمال معلق في سماء العبقرية، لا يتأثر بالتنظيم الاجتماعي، وبفضل عبقريته وعقله وإرادته قادر على إعادة تشكيل العالم. 

نجد «مشاهد مرآب» أخرى في قصص ريادة الأعمال تكشف عن ولادة شركات: Hewlett-Packard أو Disney أو Mattel أو Google أو Amazon. في وادي السيليكون، يقع المرآب في قلب عملية تخليد الذكرى التأسيسية للأسطورة، التي تحوله نصباً تاريخياً. فقد تم إدراج منزل طفولة ستيف جوبز في العام 2013 ضمن المعالم التاريخية. وتركيب لوحة تذكارية أمام «مرآب HP». يقوم المرآب بتحويل أنطولوجيا القيمة، فالشركة تولد من فعل فردي، وليس نتيجة عمل جماعي ضمن علاقات إنتاج رأسمالية. 

الملمح الآخر من ملامح هذه الأسطورة هو الصفات التنبؤية، التي يحاول الخيال الإعلامي والشعبي إسباغها على رائد الأعمال. قبل سنوات كان محترفو تجارة العملات الرقمية ينتظرون رأي إيلون ماسك في بعض العملات كي يقرّروا البيع أو الشراء. وكان البعض يحاول تأويل تغريدات ماسك الغامضة، ليصل إلى بر اليقين بشأن هذه العملة أو تلك. هذه القوة البصيرية لرائد الأعمال تشكل جزءاً أساسياً من سلطته الأسطورية. فرائد الأعمال يخرج من الغموض ليفرض رؤيته على العالم؛ بوصفه «المبدع» و «البصير»، فهو يتمتع - وفقاً لهذا الخيال - بقوة غير عادية، تمكّنه من «رؤية» ما لا يستطيع أحد تخيله بعد. طوال حياته المهنية، تم الاحتفاء بستيف جوبز في القصص الإعلامية بسبب «رؤاه» العديدة. وأولها كان الكمبيوتر الشخصي. في منتصف السبعينيات، في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الكمبيوتر لا تزال كبيرة جدًا ومكلفة للغاية، عرف جوبز أن هذا الجهاز سيكون في وقت قريب في كل منزل. 

السوق الأميركية، التي يُنظر إليها على أنها ليبرالية، يتم تنظيمها من قبل حكومة شديدة التدخل. فالدور الموضوعي للدولة في ظل الرأسمالية، ليس دور الطفيلي ولا دور الميسّر أو الحكم البسيط. إن مشاركة الدولة شرط لا غنى عنه في صناعة التكنولوجية

يحاول السرد الإعلامي، والتسويقي لشركة جوبز ترسيخ فكرة أنه هو من يقف وراء اختراع الكمبيوتر الشخصي. وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، حيث أصبح ذلك جزءاً من أسطورته الشخصية.  لكن من خلال النظر في تاريخ التقنية، يدرك المرء بسرعة عبثية هذا النوع من الادعاءات. فقد شهدت صناعة الكمبيوتر في أوائل السبعينيات عملية متزايدة للتصغير وانخفاض التكاليف. وتم استبدال أجهزة الكمبيوتر المركزية الكبيرة التي تملأ الغرف بأجهزة كمبيوتر صغيرة. وكما كتب بول فرايبرغر ومايكل سوين في كتابهما «تاريخ الحوسبة»: «لم يتطلب الأمر رؤية خلاقةً لمعرفة أنه في نهاية الطريق سيكون هناك جهاز كمبيوتر يمكن وضعه على مكتب أو في حقيبة». وعلى الرغم من ذلك، لا تزال فكرة أن ستيف جوبز «تنبّأ وتصوّر» وجود الكمبيوتر الشخصي قبل أي شخص آخر منتشرة حتى يومنا هذا. إنها راسخة في مقالات نعيه وفي سيرته الذاتية التي نشرت في العام 2013. وهي من الآثار طويلة المدى لحملة العلاقات العامة التي نفّذتها شركة آبل في الثمانينيات ووكيلها ريجيس ماكينا، والتي تهدف إلى ترسيخ ستيف جوبز باعتباره صاحب رؤية ومخترع. 

يضع هذا البعد الرومانسي لأسطورة رجل الأعمال، خصاص محددةٍ لهذا الفرد الخارق، فهو ليس إنساناً اقتصادياً موجوداً في شبكة مهنية تزوّده بالمعلومات اللازمة للتنبؤ. وليس وكيلاً اقتصادياً عادياً يقيّم عمله من خلال حساب منطقي ووفقاً للبيانات الموجودة تحت تصرّفه عن إمكانات السوق. بل هو كائن غريزي ملهم، يحرّكه وميض من الحدس ويتقدّم بالضرورة ضد جهل العصر وعجزه. لذلك فإن نجاحه مرتبط بهذه الرؤية المعجزة التي يتملكها، وفشل غيره مرتبط بافتقاره للمعجزة.

يلقي الكاتب - ضمن مساعيه لتشريح الأسطورة - الضوء على فاعل غير مرئي: الدولة. هذا الكيان الذي يبدو أنه لا مكان له في أساطير نشأة ريادة الأعمال، يرتبط بعلاقة عضوية بمجتمع ريادة الأعمال. يستعين أنتوني غالوزو، بكتاب ماريانا مازوكاتو، «دولة ريادة الأعمال» (2011)، الذي تثبت فيه أن السوق الأميركية، التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها ليبرالية للغاية، يتم تنظيمها من قبل حكومة شديدة التدخل. فالدور الموضوعي للدولة في ظل الرأسمالية، ليس دور الطفيلي ولا دور الميسر أو الحكم البسيط. إن مشاركة الدولة شرط لا غنى عنه في صناعة التكنولوجية. فهي من يدفع تكاليف البحث الأساسي وتؤمّن المخاطر في المراحل الأولى من عملية الابتكار، حيث يكون عدم اليقين أكبر. المستثمرون من القطاع الخاص لا ينخرطون في العملية إلا في وقت لاحق في سلسلة الابتكار، عندما يصبح من الممكن استغلال التقنيات الناضجة تجارياً. وهكذا، وعلى عكس تصوّرات معينة، فإن أمجاد العمل الخلاق والرؤيوي والمحفوف بالمخاطر تذهب إلى الدولة وليس الأفراد أو المؤسسات الخاصة. ولتوضيح أطروحتها، تعتمد مازوكاتو على نموذج شركة آبل، وتكشف أن مسيرة ستيف جوبز التي نالت استحساناً كبيراً كانت مبنية على استغلال التقنيات التي تم تطويرها خلال عقود من الزمن من خلال الاستثمار العام. فتقنيات تبدو ثوريةً مثل اللمس على الشاشة، وعجلة النقر، والكشف السعوي المستخدم لتشغيل لوحات اللمس، وشاشة اللمس المتعدد كلها تقنيات مدمجة في منتجات آبل، تم تطويرها من خلال استثمارات الدولة، وغالباً ضمن استثمارات تكنولوجية عسكرية.

إن تاريخ وادي السيليكون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ القوة العسكرية الأميركية. فقد تطوّرت صناعة الإلكترونيات في منطقة بالو ألتو في وقت مبكر من العقد الأول من القرن العشرين، حيث زوّدت شركات مثل (Federal Telegraph Corporation - FTC) البحرية الأميركية بأنظمة الاتصالات اللاسلكية. تتمتع كاليفورنيا بموقع استراتيجي لاستضافة منشآت عسكرية، لذلك نمت الأعمال التجارية في وادي سانتا كلارا - وهي منطقة سُميت فيما بعد بوادي السيليكون. فقد تطورت شركة Hewlett-Packard، التي كانت في البداية شركة صغيرة جداً، بشكل كبير من خلال بيع أجهزة قياس وكشف إشارة الرادار للجيش. عملت جامعة ستانفورد كمحفّز لتطوير صناعة الإلكترونيات منذ البداية: كان مبتكرو FTC وHewlett-Packard طلاباً سابقين في المؤسسة واعتمدوا على موارد ومختبرات الجامعة لتطوير تقنياتهم. ظهرت شركة فاريان أيضاً في ستانفورد في العام 1948، والتي تم استخدام أنابيبها الجديدة كليسترون لتزويد أنظمة الرادار للجيش الأميركي. تحت إشراف فريدريك تيرمان، عميد كلية الهندسة، استفادت جامعة ستانفورد من الهبات الكبيرة من وزارة الدفاع الأميركية وبدأت في تحريك النسيج الصناعي الذي كان يتشكّل في وادي سانتا كلارا. في العام 1951، تم إنشاء مجمع ستانفورد الصناعي لتنظيم نقل التكنولوجيا من مختبرات الجامعة إلى الشركات الخاصة المحيطة. جذبت المنطقة بسرعة شركات الساحل الشرقي الكبرى، مثل لوكهيد للقذائف والفضاء، التي أنشأت مختبراتها هناك في العام 1956. وقد فازت شركة الطيران هذه بالعديد من العقود مع سلطات الدفاع الأميركية وسرعان ما أثبتت نفسها كواحدة من أكبر أصحاب العمل في المنطقة. أما على صعيد صناعة الكمبيوتر، فقد تشكّلت بعمق من خلال البحوث العسكرية. تم اختراع أجهزة الكمبيوتر في الأربعينيات من القرن الماضي لتزويد أنظمة الأسلحة بأجهزة توجيه. في العام 1958، بعد بضعة أشهر من إطلاق الاتحاد السوفياتي للقمر الصناعي سبوتنيك، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها الاستثمارية وأسست وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة (DARPA)، التي مولت إنشاء أقسام الكمبيوتر والتطوير في الجامعات الأميركية. وقد ساعدت العديد من الشركات في صناعة الإلكترونيات. ونجحت كاليفورنيا في جذب هذه الاستثمارات الضخمة لمصلحتها الخاصة. في أوائل الستينيات، تم تنظيم صناعة أشباه الموصلات في المنطقة، والتي ستكون ضرورية لثورة الحوسبة الصغيرة المقبلة. في السنوات الأولى، عندما كان الطلب الخاص على هذه المنتجات شبه معدوم، كان الجيش الأميركي هو الزبون الرئيسي. وينطبق الأمر نفسه على المعالجات الدقيقة المبكرة، التي دعمت برنامج الصواريخ Minuteman التابع لسلاح الجو الأميركي ومهمة Apollo التابعة لناسا.

في العام 1958، بعد بضعة أشهر من إطلاق الاتحاد السوفياتي للقمر الصناعي سبوتنيك، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها الاستثمارية وأسست وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، التي مولت إنشاء أقسام الكمبيوتر والتطوير في الجامعات الأميركية

الركن الأساسي الثاني في بناء هذه الأسطورة هو فكرة البطولة. يرى ستيف جوبز أن الكمبيوتر الشخصي هو أداته لتغيير العالم. في المقابل، يعتبر بيل غيتس الكمبيوتر أداة لجني كل دولار. في القصص التي تحكي قصة ستيف جوبز، لا يظهر الخصم بيل غيتس كتجسيد منافس للأسطورة. لم يتم تعريفه كرائد أعمال، ولكن كرجل أعمال تقليدي. رائد الأعمال، الكائن الذكي غير العادي، الذي يتمتّع بقدرة خارقة على قراءة الأسواق. على عكس رجل الأعمال، الذي يكرّس هذه القوة للغزو. فلا يحرّكه شغف إبداعي، بل يبحث عن الربح. تقدم أسطورة رائد الأعمال، هؤلاء الروّاد كنموذج ريادي لا يتصرّف كجشع يسعى إلى تعظيم أرباحه فقط. همّه الوحيد الخلق والابتكار. هذا المفهوم الرومانسي لرائد الأعمال غير المهتم بالمال، يختلف جذرياً عن الوكيل الاقتصادي العقلاني الكلاسيكي (رجل الأعمال). كما يتمتّع هذا الرائد بصفات استثنائية تجعله قادراً على هزيمة البيروقراطية الإدارية، وإسقاط النماذج الربحية القائمة وإحداث ثورة في هياكل السوق ذاتها. وهنا تحاول الأسطورة إخفاء نمط الإنتاج الذي ينتمي إليه رائد الأعمال ورجل الأعمال على حد السواء، وتلبيس كل تشوّهات الرأسمالية وعواقبها السيئة اجتماعياً وقيمياً لرجل الأعمال الجشع، لذلك يبدو تضخيم أسطورة رائد الأعمال، وتسويقه إعلامياً وشعبياً، مندرج ضمن خطاب جديد لتجديد شباب الرأسمالية في طورها النيوليبرالي، القائم على الفردانية.

قوّة الأسطورة: الإبادة الرمزية للعمّال

تخبرنا أسطورة رائد الأعمال عن الطريقة التي يتم بها وضع الاقتصاد في حيّز الخطاب. فهي تظهر لنا رأسمالية بطولية، يقودها أفراد لامعون. رجال عظماء يغذّون مسيرة لا نهاية لها نحو التقدّم التكنولوجي. تخفي هذه الرواية وجهاً آخر: عملية الإنتاج وعمّالها. يحلّل الكاتب في فصل كامل، كيف فرض رائد أعمال السيليكون في نهاية القرن العشرين نفسه في تصوّراتنا كقوة غير مادية، تخلّصت تماماً من علاقات الإنتاج.

ولدت شركة آبل في كاليفورنيا، لكنها في وقت مبكر نقلت تصنيع منتجاتها إلى دول ذات تكاليف إنتاج منخفضة. منذ الثمانينيات، قامت الشركة بتفويض أجزاء كبيرة من إنتاجها لمقدمي الخدمات في كوريا الجنوبية واليابان والصين وسنغافورة. في بداية العام 2000، كان خط إنتاج آبل، الذي هجر بالكامل أراضي الولايات المتحدة، يعمل على دمج شركة Foxconn التايوانية، التي عهد إليها بتجميع أجيالها الجديدة من أجهزة كمبيوتر ماك. حتى العام 2010، كانت Foxconn غير معروفة تماماً لعامة الناس، حتى قام أربعة عشر من عمالها، تتراوح أعمارهم بين 17 و25 عاماً، بالقفز من أعلى مبانيها. بين شهري كانون الثاني/يناير وآذار/مارس، عندما حدثت أولى حالات الانتحار، لم تعلن الشركة عن الحوادث. بعد حادثة انتحار خامسة في شهر نيسان/أبريل، حاولت الشركة تقديم الأحداث على أنها أعمال منعزلة لا علاقة لها بظروف العمل داخلها. لكن الضغط الإعلامي تصاعد في شهر أيار/مايو، عندما انتحر 6 موظفين آخرين دفعةً واحدةً. اضطر الرئيس التنفيذي لشركة Foxconn، تيري غو، إلى التوضيح: فقد كان سبب الانتحار، كما يقول، «مشاكل شخصية في حياة الضحايا». في نهاية أيار/مايو، وبعد حادثة الانتحار الثالثة عشر، قامت السلطات، بحذف مقالات من المواقع الإخبارية والمدونات لاحتواء التصعيد وتجنّب الأزمة الإعلامية. لكن الأوان كان قد فات: تصدّرت القضية المزيد من العناوين الرئيسية في الصحافة الغربية، لتدفع شركة آبل للرد ببيان صحافي تعلن فيه «أسفها وحزنها من حالات الانتحار، وثقتها بأن مزوّد خدماتها Foxconn يأخذ الموضوع على محمل الجد» من دون أن تشير إلى ظروف العمل القاسية في مصانع الشركة. 

تقع مصانع الشركة التايوانية في مجمعات صناعية عملاقة مجهّزة بالمهاجع حيث يأتي مئات الآلاف من العمّال للعمل هناك. تتكوّن الغرف من سلسلة من الأسرّة بطبقتين وتتسع بشكل عام لما بين 6 إلى 12 عاملاً لكل منها. لا يتم تقديم المهاجع مجاناً للموظّفين، بل يتم دفع أجرها، لأن رواتبهم لا تسمح لهم باستئجار شقة قريبة. لم يتم تصميم هذه الأماكن للتعلم أو العيش المشترك أو الترفيه، ولكن للتحكّم في قوة العمل. إن تمركز العمال في المهاجع يجعل من الممكن إتاحتهم في جميع الأوقات للإنتاج ووضعهم تحت الإشراف المستمر للشركة. كما أنه يجعل من الممكن عزل العمال وكسر شبكات التضامن: عند وصولهم إلى مواقع الإنتاج، تتفرق مجموعات من الأصدقاء أو أشخاص من المدرسة نفسها أو القرية نفسها في سلاسل ومهاجع مختلفة. حتى المتزوجين، لا يمكنهم البقاء في المساحة نفسها. كما أن الزيارات محدودة ويسجّلها جهاز الأمن. لا تتاح الفرصة للكثيرين للقاء، فبعضهم يعمل في الليل والبعض الآخر أثناء النهار. وحتى الأنشطة اليومية، ووجبات الطعام، والاستحمام، والنوم، يتم التخطيط لها بدقة بطريقة تزيد من الإنتاجية. تستمر أيام العمل في المصانع من 10 إلى 12 ساعة. أما العمل الإضافي فهو مجاني، إذ لا يستفيد العمّال من أي حماية نقابية أو قانونية، ويمكن فصلهم بسهولة في حالة الرفض. وبينما ينص القانون على 36 ساعة عمل إضافي كحد أقصى شهرياً، فإن معظم عمال الشركة يعملون 80 ساعة عمل. في خلال فترات ذروة الإنتاج، تصل أيام الراحة إلى أربعة أيام كحد أقصى شهرياً لمعظم العمال. عندما سُئل ستيف جوبز عما يحدث في Foxconn قال: «أعتقد أن آبل تقوم بواحدة من أفضل نماذج التوظيف لأي شركة في الصناعة. لفهم ظروف العمل في سلسلة التوريد الخاصة بنا، نحن حريصون للغاية وشفافون للغاية بشأن هذا الأمر. فقط عليك أن تذهب إلى موقعنا الإلكتروني ويمكنك قراءة التقارير التي ننشرها مرة واحدة في السنة حول الموضوع. Foxconn ليست ورشة عمل شاقة. لديهم مطاعم ودور سينما ومستشفيات وحمامات سباحة. إنه مصنع رائع حقاً. لكن لديهم 13 حالة انتحار حتى الآن هذا العام، وفي المقابل لديهم 400,000 عامل هناك. إذن، 13 من أصل 400,000 لنقل 7 لكل مائة ألف شخص. لا يزال هذا أقل من معدل الانتحار في الولايات المتحدة البالغ 11 لكل 100 ألف شخص».

إن تمركز العمال في المهاجع يجعل من الممكن إتاحتهم في جميع الأوقات للإنتاج ووضعهم تحت الإشراف المستمر للشركة. كما أنه يجعل من الممكن عزل العمال وكسر شبكات التضامن

يلفت الكاتب إلى أن جوبز كان يتحدّث عن المصنع التايواني بشكل مستقل، وكأنه لا يرتبط بشركته بأي صلات تتعلق بالإنتاج. واللافت أكثر أن التصريحات التي أدلى بها جوبز، لم تثر أي استياء ولا فضيحة. لقد كان لدى المعلقين الأميركيين العديد من الموارد والأرقام تحت تصرفهم لكشف زيف حججه أمام الرأي العام، لكنهم لم يستعملوها. يرتبط هذا النهج بسياسة الاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج، التي كانت آبل، أحد روّادها منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما حصرت عملها في التصميم والتسويق، تاركةً مشاكل الإنتاج واضطهاد العمّال لشركات المقاولات التكنولوجية في دول ذات تكاليف إنتاجية منخفضة. 

ما تمنعنا الأسطورة من رؤيته وفهمه هو البعد المنهجي وغير المتجسد للإنتاج المعولم. وهي الحركة التي ينقلها رأس المال للمؤسسات مهما كانت. حيث أن شركة آبل ليست العميل الوحيد لشركة Foxconn، التي تسيطر على ما يقرب من 50% من السوق العالمية للتعاقد، والتي تنتج أيضاً لشركة Amazon وHP وDell وIBM وIntel وSony وNintendo وحتى Lenovo. في المقاولين الفرعيين الآخرين لشركة آبل، كما هو الحال في منافسي Foxconn، يُطلب من العمال العمل في ظروف عمل مماثلة، إن لم تكن أسوأ. فالنظام الإنتاجي الذي طورته آبل وFoxconn ليس بسيطاً، إنه جزء من حركة عالمية لعولمة سلاسل الإنتاج الإلكترونية التي بدأت في الستينيات. وخلال هذه الفترة بدأت الشركات الأميركية الكبيرة في نقل جزء من إنتاجها العمل في جنوب شرق آسيا: في كوريا الجنوبية والفلبين وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا وهونغ كونغ. يمكن تفسير هجرة رأس المال الصناعي من قلب أميركا إلى الأطراف الآسيوية بعوامل عدّة، من بينها النقص المتزايد في العمالة في وادي السيليكون، وتراجع المشتريات التي يقوم بها الجيش الأميركي والقوة المتنامية للمنافسين اليابانيين. شكلت كل هذه العوامل حدوداً كثيرة لإعادة إنتاج رأس المال الصناعي في كاليفورنيا.

لقد أتاح التوحيد القياسي والوحدة النمطية للمكوّنات والأجهزة الإلكترونية فصل وتشتت الأنشطة الإنتاجية من خلال شبكة عالمية واسعة، نظراً لأن المواد التي سيتم نقلها كانت صغيرة وخفيفة وطرق النقل - الشحن الجوي، النقل البحري بالحاويات - أصبحت أكثر كفاءة، أصبح من الممكن تحديد موقع كل مهمة منتجة حيث ستكون أقل تكلفة. في أوائل الثمانينيات، تم إجراء 85% إلى 90% من أعمال التجميع في صناعة أشباه الموصلات الأميركية في الخارج. بدلاً من تجهيز المصانع الأميركية بآلات باهظة الثمن، كان من الأفضل إقامتها في البلدان المتأثرة بالنزوح الريفي، كان هؤلاء السكان يتحولون إلى بروليتارية ليشكلوا خزانات ضخمة من العمالة غير المنظمة ومنخفضة التكلفة. وكانت بعض هذه البلدان أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة للمستثمرين لأنها أقامت مناطق تجارة حرة وسياسات إعفاء ضريبي، مع ضمان مرونة وخضوع العمّال، في بعض الأحيان بفضل دعم الجيش الأميركي. تم تعزيز هذا التقسيم الدولي للعمل في الثمانينيات مع ظهور صناعة الكمبيوتر الشخصي، والتي تم تنظيمها أيضاً وفقاً لنمطية كبيرة. أدت العملية إلى ولادة وتطوير شركات التعهيد المحلية في آسيا، والتي أخذت نصيباً متزايداً من العمل الإنتاجي في خدمة العلامات التجارية الإلكترونية العالمية الكبرى. يقوم المصنعون المتعاقدون بدمج المزيد من المهام الإنتاجية - الهندسة، والتجميع شبه الآلي، والخدمات اللوجستية -عبر شبكة كثيفة بشكل خاص من المصانع. عزّزت الأزمات الاقتصادية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الحركة، مع تزايد تفويض العلامات التجارية لإدارة التكاليف لهؤلاء المقاولين. وهنا تظهر بوضوح العلاقة بين التقسيم الدولي للعمل وازدهار الخيال الريادي.

أسطورة رائد الأعمال هي جزء من الخيال السياسي الذي يفترض المساواة المحتملة والفعالة بين جميع الأفراد. يمكن للجميع التنافس في السوق والكشف عن أنفسهم للعالم. تتحقّق العدالة الاجتماعية من خلال تكافؤ الفرص المدرجة في حالة المنافسة المعمّمة. إن الخطورة الذهنية والنفسية التي ينطوي عليها مثل هذا السرد السائد، هي اعتبار التفسيرات الفردية صحيحة بداهة؛ حيث يمكن للجميع أن يعيشوا في وهم امتلاك صفاتهم. إن مثل هذه الرؤية للعالم تجعل من الممكن أن يتجاهل المرء مسألة البناء الاجتماعي التاريخي للواقع، وتنزع أي تفكير نقدي حول السلطات السائدة سياسياً واقتصادياً. وتجعل الفرد مكتفياً بخصاله الشخصية على نحو مثالي لتفسير العالم المادي.