ماذا يعني تراجع هيمنة الدولار؟
- الدولار، كعملة احتياطية، مفيد لكلّ العالم الرأسمالي المتقدّم وليس للولايات المتّحدة فحسب. فهو ما يجعل النظام مُتماسكاً ويعمل بسلاسة، ولكنّه يديم أيضاً الترتيبات الإمبريالية نظراً لارتكاز النظام عليها.
- هيمنة الدولار مُهدّدة حالياً. فالتبادلات التجارية بالعملات المحلّية أو بعملات جديدة، أسوة بما تنوي دول مجموعة البريكس فعله، تحقّق تقدّماً ملموساً بدفعٍ من الدول التي تفرض عليها البلدان الرأسمالية المتقدّمة عقوبات.
إنّ دور الدولار كعملة احتياطيّة ليس مفيداً فقط للولايات المتّحدة، بل للعالم الرأسمالي المُتقدّم ككلّ. وأي تهديد لذلك الدور يمكن أي يزعزع النظام الإمبريالي بأكمله.
كيف يرتبط الدولار - كعملة احتياطية تحديداً - بالإمبريالية؟ يتكوّن هذا السؤال من جزأين: كيف ترتبط وضعية الدولار بالإمبريالية الأميركية؟ وكيف ترتبط بالنظام الإمبريالي بأكمله؟
بما أنّ الدولار (والأصول المقوّمة بالدولار عموماً) عملة احتياطية للعالم، يجعله ذلك وسيلة لحفظ الثروة في الاقتصاد العالمي. تاريخياً، أدّت المعادن الثمينة هذا الدور مثل الذهب وبدرجة أقل الفضّة، ومن ثمّ العملات لفترات طويلة نظراً لقابليّة تحويلها إلى ذهب بسعرٍ ثابت، ولا سيّما في خلال حقبة نظام بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية. في الوقت الحالي، لم يعد تحويل الدولار إلى الذهب ممكناً رسمياً، ومع ذلك يعتبره أثرياء العالم مُماثلاً للذهب لسببين.
إذا اعتبر أثرياء العالم الدولار «جيّداً مثل الذهب»، فهذا يُجلِس الولايات المتّحدة على منجم لا ينضب من الذهب، يمكن من خلاله أن تموّل العجز في حسابها الجاري من دون اللجوء إلى تخفيض قيمة عملتهاأولاً، على عكس السلع، تُعدُّ تكاليف نقل الدولار زهيدة للغاية. وثانياً، من غير المتوقّع أن تنخفض قيمة الدولار المحفوظة في السلع لفترات طويلة على الرغم من التقلّبات السنوية في القيمة. يتمّ ضمان ذلك من خلال الإبقاء على جيش احتياطي من العاطلين عن العمل (لإبقاء الأجور منخفضة في الولايات المتّحدة)، ومن خلال ضغط الأجور بواسطة الإكراه السياسي و«الشروط» التي يفرضها صندوق النقد الدولي على مُنتجي السلع الرئيسيين في العالم الثالث لإبقاء أسعارهم منخفضة.
ولكن إذا اعتبر أثرياء العالم الدولار «جيّداً مثل الذهب»، فهذا يُجلِس الولايات المتّحدة على منجم لا ينضب من الذهب، يمكن من خلاله أن تموّل العجز في حسابها الجاري من دون اللجوء إلى تخفيض قيمة عملتها.
من المؤكّد أن الدولار ليس العملة الوحيدة المُستخدمة كمخزن للثروة. هناك عملات أخرى تستخدم للغرض نفسه مثل اليورو والاسترليني والين (أو الأصول المقوّمة بتلك العملات). ولكن ما يجعل هذه العملات مخزناً للثروة هو التوقّعات بثبات قيمتها أمام الدولار على المدى البعيد.
تُكيِّف الدول المتقدّمة الأخرى مستويات الطلب الكلّي، وبالتالي معدّلات البطالة، لضمان احتفاظ عملاتها بقيمها النسبية أمام الدولار، ومن ثمّ الحفاظ على التوقّعات المرتفعة لتلك العملات. باختصار، إنّ دور العملات الأخرى كمخزن للثروة مُستمدّ من الدولار. فوحده الدولار هو العملة «الجيّدة مثل الذهب»، وهذه الحقيقة تسمح للولايات المتّحدة بتمويل العجز في حسابها الجاري من دون أي عوائق.
ولكن لماذا ترتفع العجوزات في الأساس؟ على مدار تاريخ الرأسمالية، حافظت الدولة الرأسمالية المُهيمنة على عجزٍ في حسابها الجاري مقابل القوى الرأسمالية الصاعدة، مانحة إياهم فرصة الوصول إلى أسواقها (حتى مع حماية القوى المنافسة أسواقها أمام الدولة الرأسمالية المُهيمنة) من أجل استيعاب طموحهم، وبالتالي الحفاظ على موقعها القيادي. في الواقع، إن الإبقاء على العجز في الحساب الجاري هو شرط أساسي للحفاظ على موقعها المُهيمن أمام القوى المنافسة الأخرى.
عندما قادت بريطانيا العالم الرأسمالي، أبقت على العجز في الحساب الجاري أمام أوروبا القارية والولايات المتّحدة، التي شكّلت القوى الصاعدة آنذاك. وعوّضت بريطانيا عجزها أمام تلك الدول بمصادرة كمّيات كبيرة من الذهب من مستعمراتها ومراكمة الأرباح عبر فرض التزامات عليهم أو بالأصح «استنزافهم».
الولايات المتّحدة مضطرة بحكم الضرورة إلى اللجوء إلى مراكمة العجوزات، التي تقابلها بطبع المزيد من الدولارات أو تصدير سندات دين مقوّمة بالدولار. وبالتالي، يؤدّي الدولار، كعملة احتياطية، دوراً ضرورياً للحفاظ على هيمنتها على العالم الرأسمالي
ودُعِم هذا الاتجاه عبر دفع الصادرات غير الصناعية إلى مستعمراتها، لدرجة تحقيقها فوائض في ميزان المدفوعات الكلّي، أي قيامها بتصدير رأس المال. والمفارقة، أنها صدّرت رأس المال إلى البلدان التي عانت من عجزٍ تجاهها، أي أوروبا القارية والولايات المتّحدة والمُستعمرات الأخرى.
لا تستطيع الولايات المتّحدة حالياً انتهاج سياسة «الاستنزاف» بالمقدار نفسه كما في السابق، ولا تستطيع دفع الصادرات غير الصناعية بشكل كافٍ نحو بلدان العالم الثالث (جميع البلدان ما عدا القوى الرأسمالية الصاعدة). لذلك، فهي مضطرة بحكم الضرورة إلى اللجوء إلى مراكمة العجوزات، التي تقابلها بطبع المزيد من الدولارات (أو تصدير سندات دين مقوّمة بالدولار). وبالتالي، يؤدّي الدولار، كعملة احتياطية، دوراً ضرورياً للولايات المتّحدة للحفاظ على هيمنتها على العالم الرأسمالي.
ويُحدّد ذلك أيضاً مستوى النشاط داخل الولايات المتّحدة، وبالتالي، داخل العالم الرأسمالي بأكمله. وفيما الدول الأخرى مقيّدة باستحالة زيادة الطلب الكلّي عبر زيادة النفقات، كما حدث في خلال حقبة بريتون وودز نظراً للحدود القصوى التي يفرضها رأس المال المالي المعولم على معدّل العجز المالي كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، فإنّ الولايات المتّحدة معفاة من هذا القيد، ولا تسجّل هروباً للرساميل طالما أنّ عملتها «جيّدة مثل الذهب».
لذلك، وباستثناء «فقّاعات أسعار الأصول»، تُحدّد نفقات الولايات المتّحدة مستوى النشاط في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفقاً لكلّ مستوى من توزيع الدخل. قد تضطر حكومة الولايات المتّحدة نفسها للحدّ من نفقاتها من أجل تجنّب الوقوع في دين تجاه دول أخرى (عندما تمتلك هذه الأخيرة الدولارات وسندات الحكومة الأميركية)، ولكنها غير مُلزمة بفعل ذلك. ما تفعله مُتعلّق بسياساتها، بحيث تحدّد ما سيحدث في الإنتاج والعمالة في العالم الرأسمالي.
يمكن النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. دعونا نفترض أن الدولار ليس عملة احتياطية. عندئذ، ستضطر الولايات المتّحدة إلى تقليص العجز في الحساب الجاري عبر تخفيض القيمة الخارجية للدولار. لو نجح هذا التخفيض، ولم يتلاشَ من خلال حدوث ارتفاع مُماثل في الأجور والأسعار داخل البلد، سيؤدّي بالضرورة إلى سحق الأجور الفعلية، وبالتالي إثارة مقاومة الطبقة العاملة المحلّية (ولمواجهة القوّة التفاوضية للعمّال ترفع معدّلات البطالة). وحتى لو أثبت تخفيض العملة كفاءته بإضعاف مقاومة العمّال، سيثير ردود فعل من البلدان الرأسمالية المتقدّمة الأخرى، التي ستوسّع الولايات المتّحدة تجارتها على حسابها من أجل تقليل عجز الحساب الجاري لديها.
لذلك، لو لم يكن الدولار عملة احتياطية، لما استطاعت الولايات المتّحدة الاستمرار في قيادة العالم الرأسمالي، وربّما كانت انخرطت في صراعات مع البلدان الرأسمالية المتطوّرة الأخرى (مع محاولة كلّ منها انتزاع أسواق الأخرى)، فيما تواجه مقاومة عمّالية أقوى من الموجودة اليوم.
ولو رُفِع معدّل البطالة داخل الولايات المتّحدة لإضعاف القوة التفاوضية للعمّال، فذلك يعني نشاط اقتصادي أقل للعالم الرأسمالي ككلّ. لا يمكن مواجهة الأثر الناتج عن انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي في البلدان الرأسمالية المتطوّرة الأخرى من خلال تدخّل أكبر للدولة، لأنه غير مُمكن في عالم يحكمه رأس المال المعولم.
بسبب هذا التضخّم المرتفع، سوف يحصل هروب للرساميل تحسّباً لانهيار قيمة عملات العالم الثالث مقابل الدولار، ممّا يؤدّي إلى انخفاض قيمة العملة بشكل مُتكرّر. من أجل إيقاف تدهور قيمة العملة، غالباً تُفرض سياسات «تقشفية» على بلدان العالم الثالث، ممّا يُفاقم معدّلات البطالة ويضغط الأجور
يفسّر هذا الواقع، لماذا الدولار، كعملة احتياطية، مفيد لكلّ العالم الرأسمالي المتقدّم وليس للولايات المتّحدة فحسب. فهو ما يجعل النظام مُتماسكاً ويعمل بسلاسة، ولكنّه يديم أيضاً الترتيبات الإمبريالية نظراً لارتكاز النظام عليها.
إنّ الدولار، كعملة احتياطية، ليس وسيلة لتخزين الثروة فحسب، بل أيضاً وسيلة للتداول. في الحقيقة، لا يمكنه أن يكون وسيلة لتخزين الثروة من دون أن يكون وسيلة للتداول، إذ تحتاج الدول إلى الدولار للتبادل فيما بينها. لو كان هناك ندرة في أي من المواد الخام أو السلع الاستهلاكية المُنتجة في العالم الثالث نسبة للطلب عليها في السوق العالمية، فسوف يرتفع سعرها. ولكن التضخّم سيكون أعلى في اقتصاد يعتمد على هذه السلعة بشكل أوحد، أو تُعدُّ المنتج الرئيسي فيه، بالمقارنة مع اقتصاد تكون فيه هذه السلعة أحد مُدخلات الإنتاج الكثيرة، أي في اقتصادات العالم الثالث بالمقارنة مع الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة حيث القيمة المضافة كبيرة.
بسبب هذا التضخّم المرتفع، سوف يحصل هروب للرساميل تحسّباً لانهيار قيمة عملات العالم الثالث مقابل الدولار، ممّا يؤدّي إلى انخفاض قيمة العملة بشكل مُتكرّر. من أجل إيقاف تدهور قيمة العملة، غالباً تُفرض سياسات «تقشفية» على بلدان العالم الثالث، ممّا يُفاقم معدّلات البطالة ويضغط الأجور.
إنّ الطلب المتزايد على السلع الاستهلاكية والمواد الخام من جانب المراكز الرأسمالية، يُقابل من الجانب الآخر، حتى لو ظل إنتاجهم ثابتاً، بضغط الأجور والطلب على تلك السلع. لكن لن يحصل ذلك إذ لم يستخدم العالم الثالث الدولارات وتداول بها بشكل كبير. تشكّل هيمنة الدولار بالتالي أساس الإمبريالية المعاصرة.
هذه الهيمنة مُهدّدة حالياً. فالتبادلات التجارية بالعملات المحلّية أو بعملات جديدة، أسوة بما تنوي دول مجموعة البريكس فعله، تحقّق تقدّماً ملموساً، مدفوعة من الدول التي تفرض عليها البلدان الرأسمالية المتقدّمة عقوبات. لا يعني ذلك أن انهيار هيمنة الدولار باتت وشيكة، ولكنّها لا شكّ دخلت في مسار التدهور على المدى الطويل.
نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من News Click - حزيران/يونيو 2023