Preview التمويل الأحمر

التمويل الأحمر
تجربة السوق الشيوعية في الصين زمن الحرب

  • كان المعيار المادي الموضوع لتقييد عرض النقود والحفاظ على قيمتها، رمزاً للإدارة المالية الشيوعية المُعتمدة على السلطة السياسية والقانونية الإقليمية. وقد تكون إحدى تبعات هذا الإبداع في عصر الرأسمالية المالية الجامحة، امتلاك اقتصاد حقيقي قويّ لا تزال وسائله المالية والنقدية المثلى قيد التطوير.
  • لا تزال أهمّية السيادة المالية والنقدية واستقرار السوق من نقاط الخلاف الحاسمة عند الاقتصادات النامية والانتقالية في جميع أنحاء العالم. والحال أن الاحتياطيات الحكومية من السلع الأساسية، والنظام العام لبنوك التنمية الإقليمية، والحفاظ على عرض نقدي مستقرّ ليست سوى بعض من تجارب السياسة الشيوعية في زمن الحرب التي تحمل صدى معاصراً.

تمثل السوق الصينية من حيث حجمها وديناميتها ودرجة تكاملها العالمي سوقاً استثنائيةً. ومع أنها معروفة رسمياً بـ«السوق الاشتراكية بخصائص صينية»، فإن سمات السوق فيها ترجع إلى ما قبل صدور قرار العام 1978 بشأن «الإصلاح والانفتاح». لقد اتسم نموذج النمو الصيني الإصلاحي على الدوام ببراغماتية لافتة، اندرجت ضمنها البرامج الماكروية المتكاملة واللوائح التنظيمية، ومزيج الملكية والسيطرة العامة والخاصة وتخصيص الموارد والتوزيع بدرجاتٍ مختلفة عبر السوق، والمحسوبية البيروقراطية في المؤسّسات الإنتاجية والتجارية و«التجارة الحرّة» الدولية.

هذا النموذج وليد عقودٍ من التكيّف والإبداع. والحال أن كتاباتٍ غزيرة تناولت استراتيجية الصين الاقتصادية قبل القرن التاسع عشر، غير أن نقصاً كبيراً يظهر في تناول تجاربها المالية والنقدية زمن الحرب إبان الثورة الشيوعية. ولمعالجة هذا النقص، أراجعُ السياسة الاقتصادية الثورية من عشرينيات القرن العشرين ولغاية أربعينياته، متأملاً في تبعاتها النظرية والمؤسّسية.

الإمبراطورية المسالمة

نشأت دولة تشين-هان الموحّدة من مزيج من حوليات حقبة الممالك المُتحاربة بالتزامن تقريباً مع صعود روما في نصف الكرة الغربي. وإذ سقطت الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس، عاشت الإمبراطورية الصينية أطول منها ومن الإمبراطوريات اللاحقة. ترجع هذه الديمومة إلى تنظيماتها الاجتماعية والاقتصادية. فقد ازدهرت التجارة في وقتٍ مبكرٍ مع وجود شبكات داخلية وخارجية كثيفة عبر الامتدادات القارية والبحرية، تشمل طرق حرير عدّة ومسارات للوصول إلى العديد من المجتمعات والثقافات.

بدلاً من المؤسّسات القانونية الليبرالية وأنظمة الائتمان والموازنات العامّة التي ميّزت أوروبا الحديثة في أيامها الأولى، اشتغل الاقتصاد الصيني من خلال الأنظمة غير الرسمية للممتلكات والعقود والمطالبات والديون والحقوق والالتزامات، التي اعتمدت على الروابط الشخصية والعائلية والجمعيات الأهلية والشراكات الخاصة الأخرىقبل العام 1800، فاقت الاقتصادات الصينية والهندية والشرق آسيوية، والجنوب شرق آسيوية، والعربية في إنتاجيتها نظيراتها في أماكن أخرى. وقد اعترف آدم سميث في كتابه ثروة الأمم بأن «الصين بلد أغنى بكثير من أي جزءٍ من أوروبا»، على الرغم من علامات الركود. أما جيوفاني أريغي فقد ناقش بأن الصين قد حقّقت «ثورة الكدّ» بدلاً من الثورة الصناعية1 ،  بما يتفق مع المسار السميثي بشأن «السير الطبيعي إلى الثراء» وليس المسار الأوروبي «غير الطبيعي والانتكاسي» المُتمثّل في التنافس بين الدول على السلطة والنهب الاستعماري. كانت الصين في أيام مجدها غنية جداً، بفضل مناطق كدلتا اليانغتسي، لدرجة أنه حين اضطرت أوروبا إلى الاعتماد على الآلات لخفض كلفة العمل، «لم تفوت الصين الثورة الصناعية – إذ لم تحتج إليها».

بحلول القرنين الخامس عشر والسادس عشر، صارت الصين التاجر الأكبر على أساس معيار الفضة، مُساهِمةً في ظهور الرأسمالية العالمية، لكن من دون أن تتحوّل إلى إمبراطورية استعمارية. لاحظ جون ماينارد كينز في مراجعته لكتاب تشِن وان تشانغ المبادئ الاقتصادية لكونفوشيوس ومدرسته أن نظام الصين الثلاثي المعادن يعود إلى «أزمنة قديمة»، وأنها في استخدامها النقود الورقية «قد سبقت منذ وقت طويل الشعوبَ الأخرى».

فقد اختُرِعَت «البنوك التعاونية» حوالي العام 220 بعد الميلاد، وفي القرون اللاحقة، تطوّرت إلى بنوك حكومية ومصارف ظل تتعامل في العملات المعدنية والأوراق النقدية والكمبيالات والسندات و«الأموال الطائرة»2 ، والشهادات المالية «لضبط أسعار جميع السلع». وبدلاً من المؤسّسات القانونية الليبرالية وأنظمة الائتمان والموازنات العامّة التي ميّزت أوروبا الحديثة في أيامها الأولى، اشتغل الاقتصاد الصيني من خلال الأنظمة غير الرسمية للممتلكات والعقود والمطالبات والديون والحقوق والالتزامات، التي اعتمدت على الروابط الشخصية والعائلية والجمعيات الأهلية والشراكات الخاصة الأخرى. وعلى الرغم من المعاملات المبتكرة والإقراض في المراكز التجارية في الصين، فإن البنية التحتية المالية وحوافز الاقتصاد المتخلّفة أضعفت قدرتها التنافسية. لاحظ ماكس فيبر أن «الإمبراطورية المسالمة» كانت على النقيض من «رأسماليات الغنائم» المموَّلة بالحرب في أوروبا، حيث أثْرَت تلك الدول «من قروض الحرب والعمولات لأغراض الحرب».

كانت الصعوبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية المحيطة بالانتقال من حكم مينغ إلى تشينغ مثالاً على الضعف المالي للنظام النقدي الإمبراطوري الصيني. في ظل الهيمنة المالية الأوروبية، نتجَ التضخّم الرئيس في الصين مباشرةً من شحّ تدفّق الفضّة أثناء الأزمة العالمية في القرن السابع عشر. ربطت السفن الأوروبية في مسارها القطن الأميركي ومنتجات التعدين المُستخرجة بأيدي العمّال المُستعبَدين والتجارة من أفريقيا بالأسواق الصينية الهندية والعربية. تناول غوندر فرانك هذا المثلّث التجاري الضخم الذي استخرج فيه الأوروبيون الفضّة الأميركية واستخدموها «لشراء تذاكر لأنفسهم في القطار الآسيوي». فإذ وجدت الصين نفسها «بئراً بلا قرار» لتدفّق الفضّة الأميركية وتسييلها، أمست تعتمد على إمدادات العملات الأجنبية وأسعار الصرف الخارجية. لم يكن هذا الأمر مكلفاً من الناحية الاقتصادية فحسب، بل من الناحية السياسية أيضاً، إذ أضعفَ تعددُ أسعار الصرف المفروضة من الخارج الدولةَ الصينية. كما أتت البنوك الأجنبية والمؤسسات المالية الأخرى إلى الصين منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن هنا تشكّلت طبقة كومبرادور صينية من رجال المال والوسطاء الماليين سهّلوا في الداخل تحصيل الأرباح والريوع الإمبريالية الفائقة.

وإذ افتقرت الصين الما قبل حديثة إلى آليّات التدمير الخلّاق الرأسمالية والتراكم غير المحدود، فقد اتبعت أنماطها الخاصة من النمو - أو نمو بلا تنمية3 كما يفضّل بعض المؤرّخين الاقتصاديين وصفها. والأمثلة على هذه الأنماط عديدة ومنها: استخدام «إهراءات الحبوب» الحكومية لموازنة أسعار الحبوب المتقلّبة حسب الموسم وفروق الأسعار بين الأقاليم؛ وشراء الحكومة للسلع الأساسية على نحو دوري استعداداً للإغاثة من الكوارث وتخفيف ضغوط السوق في الأوقات الصعبة؛ وإجراء الإصلاحات المُتكرّرة لتوحيد الضرائب وتنظيم التجارة وضبط المنافسة. هذه الأفكار والمؤسّسات التي صُقِلت على مدار أنظمة متعاقبة عالجها الاقتصاديون والمؤرِّخون وعلماء الاجتماع في دراسات مُتزايدة عن التاريخ الاقتصادي المقارن.

افتقرت الصين ما قبل حديثة إلى آليّات التدمير الخلّاق الرأسمالية والتراكم غير المحدود، ولكن اتبعت حكوماتها أنماطاً خاصة من النمو - أو نمو بلا تنمية كما يفضّل بعض المؤرّخين الاقتصاديين وصفها، مثل موازنة أسعار الحبوب المتقلّبة حسب الموسم وفروق الأسعار بين الأقاليم، وإجراء الإصلاحات المُتكرّرة لتوحيد الضرائب وتنظيم التجارة وضبط المنافسةيُعد كتاب غوانزي (القرن السابع قبل الميلاد) من الكلاسيكيات المشهورة. قبل ألفي عام من ظهور الاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، يبرز هذا النصّ الاقتصادي الفلسفي وكأنه كُتِب اليوم، ويُعتقد أنه سجل يعكس المبادئ الاقتصادية التي ناقشها دوق تشي ورئيس وزرائه غوان شونغ في فترة شون-تشيو. وتدور حجّته الرئيسة حول التمييز بين «الثقيل والخفيف» في هرم الأهمّية المنسوبة إلى السلع في إنتاجها وتداولها، الأمر الذي يحدّد الحاجة إلى التسعير الرسمي وتقنيّاته. وعلى سبيل المثال، لكي تضمن الحكومة تأمين إمدادات كافية من العناصر «الأثقل»، يجب عليها «تثبيت سعر الحبوب من أجل تثبيت مستوى السعر الإجمالي وقيمة النقد». ومن الكلاسيكيات المشهورة أيضاً كتاب بصدد الملح والحديد، يتألّف من وثائق نقاش حول الملح والحديد بين الغوانزيين الواقعيين والكونفوشيوسيين الأخلاقيين. في مؤتمر وست هان (81 قبل الميلاد)، أيّدت المجموعة الأولى سياسة تدخّل الدولة كضرورة للازدهار الاقتصادي واستقرار الأسعار. أما المجموعة الثانية، وبالنيابة عن المنتجين المتضرّرين والتجّار الذين يعانون من تغول المسؤولين، أعربت عن أسفها على زمن فات كانت فيه الحكومات مرنة.

بعد الإمبراطور وو (141-87 قبل الميلاد) الذي أقرّ سلسلة من الإصلاحات النقدية، تطوّرت الاحتكارات المركزية للملح والحديد، وصارت سياسة مُعتادة. كبحت الدولة المنافسة الشرسة بين أصحاب المصالح الكبيرة والمرتزقة. وقد ورد تحليل هذه الأحداث في كتابات مثل أطروحة بصدد المواد الغذائية والمرابون. واعتمد بان على ما وثّقته في السابق السير الذاتية للمرابين (الكتاب 129) وأطروحة التسوية (الكتاب 30) الواردة عند سيما شيان في عمله التاريخ الكبير. كُلِّف مسؤولو التسوية بعمل موازنة لاستقرار السوق من خلال تنظيم «بيع [المحاصيل وما إلى ذلك] عندما تكون نادرة وغالية، وشرائها حين تكون وفيرة ورخيصة». ربما يكون هذا المفهوم والقياس عند إدارة التسوية، جنباً إلى جنب مع ترتيب الأولويات على أساس الأهمّية، أبرز الحكم الاقتصادية القديمة في إقامة الأساس السياسي للأداء الاقتصادي المستقبلي للصين.

القوة والتكيّف

على عكس التاريخ والفكر الاقتصادي للصين قبل تبنيها الشيوعية، لم تلقَ الإدارة الاقتصادية الشيوعية زمن الحرب أيَّ اهتمامٍ تقريباً خارج الصين. والحال أن المزج بين الحكمة القديمة والمُستجدة في هذه التجربة الفريدة يستحق اهتماماً أكبر.

تبدأ القصّة مع أول موجة للحركة العمّالية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. قرّر الحزب الشيوعي الصيني وأمانته النقابية دمج الصراع الطبقي السياسي والاقتصادي. وتمثّلت تجربته الأولى مع التعاونيات المساهمة في تعاونية ذاتية الإدارة لعمّال مناجم الفحم وعمّال السكك الحديدية في أنيوان، بمقاطعة هونان، في العام 1923. أطلق هذا التوجّه استخدام «الأسهم الحمراء» وقسائم العضوية. وقد شغل ماو تسي مين، الأخ الأصغر لماو تسي تونغ، منصب مديرها العام مرّتين. لكن بعدما ذبح الجناح اليميني في الكومينتانغ عشرات الآلاف من الشيوعيين والمتعاطفين معهم في العام 1927، تراجع الحزب الشيوعي الصيني عن التجييش في المدن واتجه إلى تجنيد أبناء الهوامش الريفية. في هذه المناطق، تطوّرت إلى حدّ كبير المزارع التعاونية وورش العمل وشبكات الائتمان والتجارة والتحويلات مع مشاركين متطوّعين بصفة مساهمين في تعاونيات متخصّصة ومتعددة الوظائف.

كانت التعاونيات وسيلة للمساعدة المُتبادلة والتثقيف السياسي. أدرك يو شود، العضو المُتمرّس في الحزب منذ العام 1922، أن «إنشاء قوّة جماعية من خلال التعاون» كان وسيلةً عند الغالبية الضعيفة من الشعب الصيني لتكوين روابط سياسية. وكان هدفها النهائي استبدال الملكية الخاصة، ولكن «قبل إنشاء التنظيم الاجتماعي الجديد، كان التعاون إنقاذاً لصغار المنتجين». شاعت هذه الفكرة وتردّد صداها في حركات الإصلاح غير الشيوعية من أجل إعادة الإعمار الريفي والتعليم الشعبي. وبرزت لاحقاً في الحملة التعاونية الريفية الوطنية في الخمسينيات وأعيد إحياؤها عبر «النظرية الماركسية في التعاون» لشرعنة العمل الجماعي في أوائل الثمانينيات.

أسفرت الطبيعة غير المُتكافئة للتطوّر الصيني والخصائص الزمانية-المكانية للثورة الصينية عن تبعات بليغة على التوجه الاقتصادي للثورة. وهكذا بدأ بناء الدولة في الجمهورية الشعبية في الأطراف الريفية قبل عقودٍ من وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة الوطنية، مع إستراتيجية «تطويق المدن من الريف». فأُنشِئَت القواعد الثورية وتوسّعت في مناطق منفصلة لكسر الروابط الضعيفة للثورة المضادة. وقد أمكن ذلك بسبب انقسام القوى الإمبريالية وركائزها المحلية في الصين، وتفشّي الصراعات بين أمراء الحرب. سلّط ماو الضوء، في تحليله لكيفية تمكّن الأنظمة الحمراء الانفصالية الصغيرة من النجاة من الحرمان والعزلة، على الطبيعة شبه الاستعمارية وغير المباشرة للحكم الإمبريالي.

سعى الشيوعيون لتغيير الانقسام بين تراكم رأس المال والاستثمار الإنتاجي الناتج عن شراء الأراضي والربا. وعلى نفس المنوال، بينما كانت الطبقات المالكة للأراضي والمال والسلطة تدمر القاعدة الزراعية للمجتمع الصيني، تنشطت القوى الإنتاجية الأسطورية ولكن المخنوقة في البلاد بفضل إعادة توزيع الأراضيبغياب سوقٍ وطنية متكاملة، تمكّنت القوى الحمراء أن تقتطع لنفسها أراضٍ حول حدود مقاطعات عدّة بعيداً من معاقل الثورة المضادة. وبصرف النظر عن ضآلة فرصة الاقتطاع، فقد تولّد عنها المحاولة الجريئة المُتمثلة في بناء «القوة المسلّحة المستقلّة للعمّال والفلّاحين» كـ«قوّة مُضادة سهلة الحركة». في النهاية، سعى الثوّار إلى تجميع كتلة تاريخية من هذه «الدولة داخل الدولة». وفي الموجات التالية من الثورة، أثبتت هذه المساعي صحّتها، إذ أشعلت شرارة واحدة حريقاً في البراري.

خطّ ماو كتاباته في أطراف المقاطعات الجبلية حيث قاتلت أفواج الجيش الأحمر الصيني الأولى للفوز بمأوى بدائي يكون مهدَ ثورةٍ مسلّحة. كانت قاعدة جين غانغ أولى الأنظمة المحلّية الشيوعية التي نجت من هجمات الأعداء المتطرّفين. كانت الجدوى الاقتصادية عند هذه القاعدة مسألة حياة أو موت.

كانت ثورة الأرض إحدى ركائز البرنامج المُصغّر للحزب. كان لهذه الثورة أهمّية تاريخية في الإطاحة بالنظام «الإقطاعي» الصيني الذي يعود إلى آلاف السنين (الإقطاعي مصطلح مستعار في المفردات الشيوعية)، والذي انطوى على الاستقطاب بين تركّز ملكية الأراضي في جانب وعدم امتلاكها في جانب آخر، وتواطؤ ملّاك الأراضي والبيروقراطيين، وانتشار البؤس والتحديث المتعثّر. سعى الشيوعيون لتغيير الانقسام بين تراكم رأس المال والاستثمار الإنتاجي الناتج عن شراء الأراضي والربا. وعلى نفس المنوال، بينما كانت الطبقات المالكة للأراضي والمال والسلطة تدمر القاعدة الزراعية للمجتمع الصيني، تنشطت القوى الإنتاجية الأسطورية ولكن المخنوقة في البلاد بفضل إعادة توزيع الأراضي.

في العقدين التاليين، اضطلع الحزب الشيوعي بهذه الجهود وظل في آنٍ حسّاساً للظروف السياسية المتغيّرة. اشتركت في سياسات توزيع الأراضي وتخفيض الريع كلّ من الحكومات الشيوعية الإقليمية والجيش الأحمر والنقابات والجمعيات الفلاحية والاتحادات النسائية وغيرها من المنظّمات الجماهيرية. ومع غياب المواثيق الاقتصادية التي توجّهها سلالة الأعيان، أعطى الحزب الأولوية للاكتفاء الذاتي المُنتج وتأمين سبل العيش الشعبية والتزويد العسكري.

احتلّت التجارة أولوية أولى عند المناطق الحمراء الفقيرة. على سبيل المثال، مثَّلَ تعدين التنغستن في جبال جين غانغ مصدر دخل لا غنى عنه، ومثله تداول الحديد الخام مع التجّار غير المحلّيين مقابل بعض الضروريات اليومية والأدوية التي يحتاجها الجنود المصابون. في خلال سلسلة من الانتصارات العسكرية، أُعلِنَت جمهورية الصين السوفيتية في بلدة رويجين في جيانغشي من العام 1931 إلى العام 1934، وقادت العشرات من سوفييتات المنطقة الحدودية على المستوى الوطني. شكَّلت هذه نقطة تحوّل في فنّ الحكم الشيوعي.

لكن وجب على هذه الأنظمة المُحاصرة أن تطوّر بسرعة العلاقات التجارية والمالية. يُعدُّ بنك شي تشينغ في شِنيانغ مثالاً جيداً على الجهود المبذولة لتحقيق ذلك. كان البنك أحد الأصول الحيوية للحزب الذي يكافح من أجل تزويد المتطوّعين ضد العدوان الياباني في الشمال الشرقي بالإمدادات الطبّية والأسلحة. ومن اللافت للنظر أن الحزب أدار محطة تجارية في هونغ كونغ جاعلاً منها منشأة داعمة في شريان حياة قواعده ومقاتليه. كان تشين بانغ لي، وهو مصرفي وشقيق بو غو، الأمين العام للمكتب السياسي من العام 1931 إلى العام 1935 «رأسمالياً في الممارسة وشيوعياً في العقيدة، ادخر كلّ دولار من عمله في هونغ كونغ» من أجل الثورة بينما كانت أسرته تعيش في شقّة مستأجرة حقيرة.

بصرف النظر عن معركة واحدة خيضت بغرض الدفاع عن النفس، فقد اجتِيحَت الأنظمة الحمراء على نحو دوري، وقُطِع بعضها عن بعض، وأُضعِفَت اقتصادياً. عانى السوفيات المركزي من نقص وتضخّم هائلين، واضطرت سلطاته بالتالي إلى اللجوء إلى الاقتراض بالمقايضة في العام 1934. وبعدما خسر الشيوعيون رويجين أمام حملات الإبادة العسكرية للكومنتانغ في نفس العام، شرعوا في مسيرة ملحمية طويلة «لونغ مارش» ونقلوا مقارهم إلى يانان في شمال شانشي (شانبي). حملت مجموعة خاصّة من قوّات «لونغ مارش» خزانة السوفيات المليئة بالذهب والفضّة والأوراق النقدية وآلات سك النقود في رحلة محفوفة بالمخاطر بلغت 6 آلاف ميلٍ.

استندت إعادة إطلاق البنك السوفياتي المركزي في العام 1935 إلى هذه الصناديق الرأسمالية هذه واحتياطيات البنك السوفيياتي المحلي. بعد فترةٍ وجيزةٍ من اندماج الجيوش الحمراء الثلاثة في شانبي في العام 1936، أُعيد هيكلتها تحت مظلّة الجبهة الثانية المتحدة (شيوعي-كومينتانغ) في إطار حرب المقاومة الوطنية، وحاربت اليابانيين وجيشهم العميل في أكثر الظروف مشقّة. بحلول نهاية العام 1945، سيطر الشيوعيون على «المناطق المُحرّرة» الواسعة التي يقطنها تسعون مليون شخص، أو خُمس السكان وراء خطوط العدو. ومع ازدياد الزخم خلال الحرب الأهلية، شنَّ الجيش، بعدما صار اسمه جيش التحرير الشعبي، الهجمات لتحرير شمال الصين وبحلول أوائل صيف العام 1949 عبر نهر يانغتسي ليضع يده على الجنوب. فانهارت قوّات الكومينتانغ المدعومة من الولايات المتّحدة وفرت إلى تايوان.

أدارت كلّ منطقة حدودية أنظمتها المصرفية والضريبية لتعزيز الأعمال التجارية المحلية مع مواجهة التلاعبات العدائية في السوق، وكانت البنوك الإقليمية والأنظمة الضريبية مستقلة نسبياً بسبب الظروف الاقتصادية غير المتكافئة عبر المناطق والحالات الفردية الخاصة في خضم الحرب والثورةجاهد القادة الشيوعيون لتعزيز الكفاف وتنمية الزراعة التجارية، بالإضافة إلى الصناعات البسيطة بتسهيل هيكل الملكية، وطرح برامج إعانات، وتخفيضات ضريبية وغيرها من الحوافز. اعتمد الجيش الأحمر بالأساس على الموارد من ساحة المعركة ولكنه أدار أيضاً مصانع الملابس العسكرية والذخيرة. ضمّت «حملة الإنتاج بكمّيات كبيرة» على حدود منطقة شان غان نينغ في الفترة من 1940 إلى 1946 جميع وحدات الحكومة والجيش؛ وكُلِّفَ كلٌّ من قادة الحزب والجيش بأداء حصص عمل أو إنتاج. ضمنت هذه الحركة أن القوى الإقليمية الشيوعية الرئيسة ستكون قابلة للحياة اقتصادياً. كما خلقت طقساً يتمثل في الاعتماد على الذات وأداء الجيش أدواراً إنتاجية وبنَّاءة في وقت السلم.

أظهرت حملة خواخاي الضخمة في شتاء 1948-1949 كيف تغيّرت نتائج الحرب بفعل الإصلاح الشامل للأراضي وما صاحبته من سياسات اجتماعية واقتصادية. فبفضل تطوّع الفلّاحين أصحاب الأراضي، قُيّضَ لجيش التحرير الشعبي هزيمة جيش الكومينتانغ الأفضل من ناحية التجهيز. وانشقّت كتيبة إثر أخرى عن الكومينتانغ، وانضمّت على الفور إلى جيش التحرير الشعبي، واختارت القتال من أجل أراضيها.

ولا ريب في  حقيقة أن التكتلات المحلّية الشيوعية قد حافظت على نفسها منذ حقبة يانان، بل تحوّل بعضها إلى معاقل اقتصادية أيضاً تساعد على تفسير نجاحها. إذ استعادت على نحو انتقائي أساليب من تقليد حضاري بديع واخترعت أساليبها الخاصة. ومن الأمثلة الأبرز شراء الحصاد في أوقات الوفرة وتوزيعه في الأوقات العجاف. كما كيَّفَ احتكار الملح لإدارة السوق وتأمين الإيرادات. وعلى الرغم من افتقارها إلى إيديولوجيا اقتصادية منهجية، فقد التقطت، ورعت، هذه السياسات فرص الحياة الاقتصادية المشتركة في السوق، سيما في التجارة داخل حدودها وخارجها.

السياسات المالية والنقدية الشيوعية على مستوى المقاطعات

استخدم الشيوعيون في البداية آلات التعدين المحمولة لسك العملات المعدنية وتداولها إلى جانب الدولار الفضي. وأصبحت العملة الوطنية المُعتمدة. وعلى الرغم من بدائية الصور على هذه العملات، لكن «ما قد تفتقر إليه هذه العملات المعدنية في المظهر، تعوضه النزاهة». أي أن الشيوعيين كانوا صادقين في تعاملاتهم مع الفلّاحين، وضمنوا حفاظ مسكوكاتهم على وزن وجودة جيّدين - بخلاف البدائل التي كان لها أوزان ونوعيات متنوّعة.

وينطبق هذا على أولى الأوراق النقدية الحمراء التي، على الرغم من خشونة ملمسها، وعدت بضمان القيمة كاملة. ابتكر ماو تسي مين، حاكم بنك الدولة السوفياتية الصينية الذي تأسّس في العام 1931، رفقة لين بوك ودينغ تسي هوي، وزيرَي الاقتصاد والمال على التوالي، أموالاً إقليمية مستقلّة تسمى الغوبي في تموز/يوليو 1932. وبهدف خلق نظام مالي موحّد، أُعلِنَت الغوبي العملة الوحيدة المقبولة لدفع الضرائب والمدفوعات الرسمية الأخرى.

أصدر البنك سندات عامة وأطلق مجموعة من الخدمات المصرفية كالإيداع والرهن العقاري والقروض وصناديق الائتمان وخصم الفواتير والتحويلات لدعم الاقتصاد المحلي. ولتعزيز الخزانة المركزية المنشأة حديثاً وتأمين مصدر دخل للنفقات المالية والعسكرية، أدارت السلطة المالية شركة تعدين حكومية بالإشراف المباشر. واللافت للانتباه أنها كانت رائدة أيضاً في إنشاء مناطق تجارية خاصة لتجاوز الحظر المفروض على الشيوعية قبل نصف قرنٍ من ظهور المناطق الاقتصادية الخاصّة في حقبة الإصلاح في الصين. بتشجيعه تصدير المنتجات المحلّية الرخيصة مثل الحبوب والأخشاب والورق وخام الحديد، واستيراد السلع المطلوبة محلياً، أنشأ «مكتب التجارة الخارجية الحكومي» العديد من المكاتب والمستودعات على طول الحدود بين السلطات القضائية الحمراء والبيضاء.

وهكذا اجتمع منطق السوق والتناقضات داخل الأنظمة البيضاء لتوليد طفرة تجارية في أماكن كهذه. كما استخدم سوفيات مين تسي غان المجاور طرق نقل سرّية بحماية مسلّحة، ودعا التجّار في الخارج إلى أسواقه الداخلية لتعزيز التجارة. ونجح بنكه الإقليمي في تقديم عروض حكومية وتمكّن من مساعدة السوفيات المركزي مالياً.

في كانون الثاني/يناير 1935، دخلت قوّات «لونغ مارش» إلى مدينة زوني الصغيرة في غويتشو، وتمركزت هناك لمدّة أسبوعين. وقامت بضخّ الغوبي الذي جلبته معها من رويجين في السوق على الفور، وربطته بالملح، وهو أندر سلعة محلّية. ولكونها مدعومة من احتياطي الملح المُصادر من أمراء الحرب، اكتسبت «أوراق الجيش الأحمر النقدية»، كما أطلق عليها آنذاك، مسمى «أوراق الملح» في تلك المنطقة. وكانت قوتها الشرائية للملح والسلع الأساسية الأخرى أقوى من أي عملات أخرى في السوق المحلية. في غضون ذلك، ضَمِن البنك السوفياتي تبادل أوراق الجيش الأحمر بالدولار الفضي.

ركّزت نظرية شو على «المعيار المادي» للنقود الورقية بدلاً من «معيار الذهب العالمي»، وتقرّر أن تكون «السلع، سيما السلع الصناعية» الاحتياطي الأساسي للبيانبي. وبمثل هذا الدعم المادي يمكن للعملة المحلّية الصادرة بشكل مستقلّ الاحتفاظ بقيمتها وثقة السوقكانت النتيجة فورية ومعجزة بكل المقاييس. فقد حفزت العملة الجديدة السوق، بما تحمله من موثوقية، وأعانت الفقراء وجدّدت إمدادات الجيش المنهك. وقبل مغادرته المدينة، فتح البنك عدداً من متاجر الطوارئ ليتمكّن الناس من استخدام أوراق الجيش الأحمر بسرعة لشراء المواد أو الدولارات الفضية، محققاً سحباً شبه كامل للعملة. ولا غرابة أن البنوك الحمراء التي كانت موجودة بالفعل في شانبي قد ربطت عملاتها بالملح أيضاً. ظل التكتيك المشترك لاحتكار الملح مستمراً بعد ظهور السوفيات المركزي.

في العام 1937، أطلق الشيوعيون رسمياً بنك شان غان نينغ الإقليمي برئاسة كاو جفرو بصفته بنك الدولة السوفياتية الجديد، وحلّ محل الفرع الشمالي الغربي برئاسة لين بوكو منذ العام 1935. وإذ واجه ماو تحدّيات اقتصادية ومالية حرجة في منطقة فقيرة، ومع إصدار الأوراق النقدية الجديدة للمنطقة الحدودية أو البيانبي بفئات مختلفة على الورق أو القماش، أرسل برقية لقادة الحزب السياسيين في 17 آب/أغسطس 1938. وشدّد على مبادئ السياسة النقدية في الحرب الطويلة ضد الغزو الياباني: استقرار العملة الأساسية المحلية، وتجنّب زيادة العرض وبالتالي انخفاض قيمة العملة؛ ووجود احتياطيات بنكية عينية كافية، وكذلك احتياطيات كافية من الأوراق المالية اليابانية أو «الويبي» وعملة الكومينتانغ الوطنية «الفابي»؛ وتجارة خارجية فعّالة؛ وإمدادات متواصلة للجيش. كان المفتاح هو «الحفاظ على قيمة الأوراق النقدية الإقليمية مساوية أو أعلى من، سعر صرف النقود اليابانية». وتقرّر أيضاً إخراج العملات الصغيرة والأقل موثوقية من التداول.

يرجع سبب الاحتفاظ بعملة الويبي «الأجنبية» كاحتياطي ثانوي إلى حتمية «التجارة الخارجية» مع المناطق المحتلّة من اليابان بغرض استيراد السلع الصناعية والاستهلاكية الأساسية وحماية البيانبي من التقلّبات المفرطة. أما في حالة الفابي، فقد كان من الضروري الاحتفاظ به للتجارة بين المناطق الحمراء والبيضاء بالنظر إلى هيمنته على السوق الوطنية بصفته عملة قوية نسبياً مدعومة بالدولار والاسترليني (بعد انقضاء المعيار الفضّي في الصين في العام 1935). بعد حادثة وانان في كانون الثاني/يناير 1941 حين تعرّض الجيش الرابع الشيوعي للهجوم على حين غرة وقضى عليه الكومينتانغ تقريباً، ومع قيام المحتلّين اليابانيين بضخّ المليارات من الويبي في السوق لتقليل قيمة الفابي، كان على الشيوعيين تغيير سياساتهم النقدية.

أدارت كلّ منطقة حدودية أنظمتها المصرفية والضريبية لتعزيز الأعمال التجارية المحلية مع مواجهة التلاعبات العدائية في السوق. كانت البنوك الإقليمية والأنظمة الضريبية مستقلة نسبياً في علاقتها مع يانان، بسبب الظروف الاقتصادية غير المتكافئة عبر المناطق والحالات الفردية الخاصة في خضم الحرب والثورة. ولكونها مؤسّسات الدولة داخل الدولة، فقد شكّلت نظاماً مُنفصلاً عن السلطة الاقتصادية والمالية الوطنية. قامت هذه المؤسّسات مقام الوصي على المرونة الاقتصادية المحلّية، والميِّسر لها، لتمكِّن القواعد الثورية بالتالي من الحياة.

في منطقة شان-غان-نينغ، اشتركت الشركات التجارية الحكومية، مثل متجر غوانغوا، والعديد من تجّار التعاونيات، في «الحرب المالية» دفاعاً عن البيانبي. فقدّموا كوبونات أو قسائم نقدية مربوطة بالنقود الحمراء. ولتحقيق التوزيع العادل بين الإيرادات والأعباء الضريبية، سنت منطقة جين-تشا-جي الحدودية قواعد ضريبية إجمالية وعدّلتها في أوائل الأربعينيات. عمل قادة الحزب والمكاتب الموفدة بجدّ لتصميم نظام يحسِّن القدرة المالية للدولة من دون إثقال كاهل دافعي الضرائب. في منطقة جين-جي-لو-يو ولدعم قيمة الجينانبي الصادر عن بنك جينان، قوَّمَت الحكومة الإقليمية «التجارة الخارجية» بالجينانبي ليكون العملة المعتمدة، وكان التحكّم في الأسعار وسيلة مفيدة لتدفيع حاملي الويبي المزيد مقابل البضائع نفسها.

لكن كانت الصعاب هائلة، وانخفضت قيمة البيانبي في بعض الأحيان. تأثّرت منطقة شانبي بالتضخّم من وقتٍ لآخر بسبب الاقتصاد المُنهك من الحرب وعجز ميزان المدفوعات. لم يكن تصدير الملح والنفط والسلع الأخرى كافياً لتعويض استيراد السلع غير المتوفرة محلياً. اضطر بنك جينان إلى ضخّ أوراق نقدية وعملات إضافية في السوق للتنافس مع الفابي والويبي اللذين حُظِر تداولهما ولكن من دون جدوى. استمرّ التعامل بهما بسبب تقلّبات البيانبي. ولاحتواء الضرر، أبقت الحكومة الإقليمية الباب مفتوحاً أمام تبادل العملات بطريقة شرعية، مع تطبيق معدّلات «مُتدرّجة» بين المناطق المركزية والأطراف. حمى هذا التحرك على الأقلّ قيمة الجينانبي في السوق الرئيسة للمنطقة الحمراء وأصولها ومخزونها. ولم توضَع طريقة أكثر فاعلية إلّا في وقتٍ لاحقٍ في قاعدة شاندونغ الثورية حيث طُرِحت جانباً المعايير النقدية المعمول بها.

كان بنك بيهاي الإقليمي في شاندونغ، المؤسَّس في العام 1938، قد طوّر منذ ذلك الحين مجموعة من الفروع مع التقدّم العسكري الشيوعي في شرق الصين. تعامل البنك مع التجارة كسلاح في أيدي الشيوعيين لدمج الإنتاج والتجارة والتمويل تحت مظلّة نظام مُستدام للنقد والتسعير. قاد شو موشياو، كبير المستشارين الماليين للحكومة الإقليمية في 1943-1947، فريقاً من الخبراء لإنهاء التهديدات التضخمية المستمرة. تمحور التشخيص حول استمرارية تدفّق الويبي وانهيار الفابي. وبالفعل أُعلِنَ البيهابي أو البيبياو الصادر عن بنك بيهاي عملةً رئيسة وحيدة في العام 1942، جنباً إلى جنب مع مهمّة السلطة المالية المُعلنة المتمثّلة في «إصدار الكانغبي، واستبدال الفابي، وحظر الويبي». (كان الكانغبي أو «المال لمقاومة اليابان»اسماً آخر للبيانبي وهنا البيبياو). لكن لم يتحقّق هذا الهدف إلّا بعد عامين تقريباً، حين حقّقت الحكومة هدفين ابتدائيَين: امتلاك مخزون كافٍ من السلع الأساسية لدعم البيبياو، والتكافؤ في سعر صرف البيبياو للتجارة الخارجية. اكتسبت هذه العملة الإقليمية شيئاً فشيئاً ثقة شعبية وإمكانية تحويل إيجابية، وترسّخت لنشهد «الأموال الجيدة تطرد الأموال السيئة». ونظراً لأن التجّار من القطاعين العام والخاص وحاملي الفابي قد أنفقوا الأموال في مكانٍ آخر أو استبدلوا بها البيبياو، فقد زادت مصداقية هذه الأخيرة بسرعة. وأصبحت العملة الأكثر استقراراً وتفضيلاً ليس فقط محلياً بل في المناطق المحيطة أيضاً.

في أوائل العام 1949، نقلت الحكومة المحلّية كمّية كبيرة من الحبوب وغيرها من الإمدادات الأساسية إلى المدينة، بشرائها كمّيات كبيرة من تجّار التجزئة الحكوميين لتسريع وتيرة زيادة الأسعار، ثمّ أغرقت السوق بهذه المخزونات لتتسبّب بإفلاس المضاربين المُحتكرينمثَّلت شاندونغ نموذجاً للإدارة الاقتصادية الإقليمية الشيوعية، حيث ازدهرت المزارع والمصانع والمتاجر والجهات الفاعلة الأخرى في السوق. وجرى التخلّي عن عملات العدو وازدهرت التجارة. أصبحت مناطق شاندونغ المُحرّرة قاعدة موارد للنصر الشيوعي في الحرب الأهلية الوشيكة. أوضح شو هذا النجاح من خلال وضع حدّ لكمّية العملات المتداولة وسيطرة النقود الحمراء على السوق. يمكن عكس قانون «الأموال السيئة تطرد الأموال الجيدة» الذي اكتشفه الاقتصاديون البرجوازيون. يجب تجريم التعامل بالفابي محلّياً لأن تداوله المستمرّ إلى جانب العملة المحلّية من شأنه أن يضعف دفاع البيبياو واحتياطياته المادية.

ركّزت نظرية شو على «المعيار المادي» للنقود الورقية بدلاً من «معيار الذهب العالمي». وكما ذكرنا، فقد تقرّر أن تكون «السلع، سيما السلع الصناعية» الاحتياطي الأساسي للبيانبي. وبمثل هذا الدعم المادي، لا بغيره، يمكن للعملة المحلّية الصادرة بشكل مستقلّ الاحتفاظ بقيمتها وثقة السوق. جادل شو، مقتبساً مفهوم ماركس عن المال بأنه «المكافئ العام» للسلع، بأن رؤية الكانغبي (البيانبي) على أنها «قلعة في الهواء» من دون أساس معدني رؤيةٌ خاطئة. إذ يمكن ربط العملة بالمعادن الثمينة أو أي عملة صعبة مثلما يمكن ربطها بالسلع المادية. فما اهتم به السكان المحليون في المناطق القاعدية كان قيمة الأموال التي تتجسّد في أشكال مادية وليس اسمية. في شاندونغ، وبصرف النظر عن السلع المنتجة، كانت الحبوب والفستق وزيت الطهي وملح البحر والقطن ومنتجات العيش الأخرى «أفضل ضمان» للكانغبي.

وفي معرض ردّه على صحافي أميركي سأله كيف انتصر البيبياو، أوضح شو أن «معيارنا المادي يعني أنه علينا مراقبة عرض النقود وفقاً لطلب السوق. لكل 10 آلاف يوان نصدرها... نستخدم ما لا يقل عن 5 آلاف يوان لشراء سلع مادية». مع وجود احتياطيات مادية كافية، يمكن للحكومة الإقليمية أن تكون منظّماً للسوق ومثبتاً للأسعار عن طريق إعادة ضخّ الأموال من المبيعات لمواجهة التضخّم أو زيادة الأموال لزيادة المشتريات وبالتالي تحييد الانكماش.

نحو التخطيط القومي والسوق القومية

تطلّبت حماية الأسواق المستقلّة وتطويرها في المناطق الشيوعية تخصيص عملات أساسية محلية تؤمَّن بالكمية المناسبة وفي الأوقات المناسبة. أدّت البنوك الحمراء وظيفة البنوك المركزية ومجموعة من الأدوار الاقتصادية الجزئية كبنوك تجارية أيضاً. اتبع بنك نورث إيست هذا النمط بإصداره الدونغبيبي وترسيخه بعد استسلام اليابان. وفي السنوات القليلة التالية، استحوذت الثورة على المنطقة بأكملها وحوّلت منطقة الشمال الشرقي إلى مركز قوّتها الصناعية والمالية العملاقة. ازدهر بنكا دونغبي وبيهاي حتى نهاية العام 1948 عندما ظهر بنك الشعب الصيني في شيجياتشوانغ في منطقة خيبي، حيث كانت قيادة الحزب الشيوعي الصيني تستعد لدخول بيبنغ (بكين). بدأ البنك الشيوعي الوطني، الذي ظهر من اندماج البنوك الحمراء هوابي وبيهاي ونورث ويست فارمرز، في إصدار المجموعة الأولى من الرنمينبي أو «دولارات الشعب» عشية تأسيس جمهورية الصين الشعبية.

واجهت الدولة الجديدة فوضى اقتصادية - كان التضخّم الحادّ، ونقص الغذاء في المناطق الحضرية، والتخريب العنيف من أعراض نظامٍ قديمٍ فاسدٍ وفاشلٍ وأُسيئت إدارته لفترة طويلة. اشتدّت الأزمة مع إصلاح الكومينتانغ في العام 1948 الذي أدخل أوراق اليوان الذهبية لتستبدل الفابي الذي خسر الكثير من قيمته. ومع غياب أدنى ضمان في الإعداد المالي وكمية الإصدار، انخفضت قيمة الأوراق النقدية أسرع بكثير من سابقتها، وسرعان ما أصبحت بلا قيمة تقريباً. لقد ساهم التضخّم المتزايد باطراد في سقوط نظام الكومينتانغ.

شهدت شنغهاي عزماً  شيوعياً مشهوداً مع وصول الشيوعيين إلى السلطة. ففي أوائل العام 1949، نقلت الحكومة المحلّية كمّية كبيرة من الحبوب وغيرها من الإمدادات الأساسية إلى المدينة، بشرائها كمّيات كبيرة من تجّار التجزئة الحكوميين لتسريع وتيرة زيادة الأسعار، ثمّ أغرقت السوق بهذه المخزونات لتتسبّب بإفلاس المضاربين المُحتكرين. بالتمييز بين السلع الأساسية أو الثقيلة وغير الأساسية أو الخفيفة، حصلت الأولى على الحماية من خلال صيغة الكلفة زائد ربح على حساب السلع الأخيرة. وباستخدامها أدوات السوق بمهارة لخفض الأسعار المتضخّمة والتدفّقات النقدية الزائدة في الوقت نفسه، استعادت السلطة الجديدة بسرعة قيمة المال والانتظام الاقتصادي. بدا أن الشيوعيين، من خلال تثبيت سعر الحبوب متبوعاً بالسلع الاستهلاكية الوسيطة، قد التقطوا ممارسة تقليدية تتمثّل في شراء الوفير لبيعه في أوقات شحّه.

مهَّد زوال الدولة القديمة والمجتمع القديم الطريق أمام التصنيع الاشتراكي من دون حوافز السوق التقليدية أو الضوابط المالية. وكان مشروع «التراكم الداخلي» الشيوعي تنموياً بشكل مذهل سواء من حيث تنمية البنية التحتية المادية أو البشريةسمح كسب المعارك الاقتصادية على المستوى الوطني باتخاذ إجراءات حكومية منسّقة عبر المناطق. وأثبتت تجارب زمن الحرب أنها ذات قيمة كبيرة للدولة الجديدة لإدارة التعافي الاقتصادي (مع الحفاظ على المجهود الحربي في كوريا). في سياق هذه العملية، خرق الاستراتيجيون الاقتصاديون الشيوعيون أيضاً منطق الافتراض النيوكلاسيكي عبر تثبيت مستوى السعر قبل إصلاح عجز الموازنة.

كما أن التغلّب على التضخّم الجامح، والانهيار المالي، والاستقرار السريع للأسعار، منح أصحاب السلطة في الريف موطئ قدم راسخ في المناطق الحضرية في الصين. توقّعت الطبقة الحاكمة الدولية الغاضبة أن الحمر الريفيين لن يقدروا على إدارة المدن الكبيرة والاقتصاد الوطني، ولكن سرعان ما ثبت العكس.

كنزٌ دفين

مهَّد زوال الدولة القديمة والمجتمع القديم الطريق أمام التصنيع الاشتراكي من دون حوافز السوق التقليدية أو الضوابط المالية. وكان مشروع «التراكم الداخلي» الشيوعي، على الرغم من الأخطاء السياسية والنكسات الخطيرة، تنموياً بشكل مذهل سواء من حيث تنمية البنية التحتية المادية أو البشرية.

ولا تزال اليوم أهمّية السيادة المالية والنقدية واستقرار السوق من نقاط الخلاف الحاسمة عند الاقتصادات النامية والانتقالية في جميع أنحاء العالم. والحال أن الاحتياطيات الحكومية من السلع الأساسية، والنظام العام لبنوك التنمية الإقليمية، والحفاظ على عرض نقدي مستقر ليست سوى بعض من تجارب السياسة الشيوعية في زمن الحرب التي تحمل صدى معاصراً.

عند تأمّله في كيفية استمرار الطلب المحلّي على عملة البيانبي الرسمية بعد أربعين عاماً، شدّد شو موشياو على وضعية هذه العملة بصفتها العملة المتداولة الوحيدة التي تخضع لحراسة يقظة من حيث الحجم والقيمة. فقد تمثلت «السياسة الأساسية للنضال النقدي» في الدفاع عن استقلالية وأمن سوق البيهايبي وتوطيدهما. وتوقّع شو أن هذا الفهم لا بد أن يفيد دول ما بعد الاستعمار التي لا تزال تفتقر إلى الوسائل لمواجهة آلات طباعة النقود الإمبريالية والسندات قصيرة الأجل والتضخّم المُعدِي. إذ قد يكون التكامل المالي على حساب الاستقلالية في سوق عالمية مضارِبة وتعاني من أزمات أمراً محفوفاً بالمخاطر.

وفي سياق متصل، لا يزال تنظيم عرض النقود موضع نقاش. نص الميثاق المؤقّت لبنك الدولة السوفياتي الصيني في العام 1932 على أنه «يجب توفير الأموال بما يتماشى مع طلب السوق» و«بحذر شديد» وبطريقة منظّمة، وقد أُعيدَ تأكيد هذا مرّة أخرى في المؤتمر الوطني السوفياتي الثاني في العام 1934. بالإضافة إلى تحديد سقف لحجم تداول العملات بصفته عملاً فنياً مُعقداً يُضبَط بحسب الطلب المتغيّر، خضعت أسعار صرف العملات للمراقبة عن كثب. في الأربعينيات من القرن الماضي، لجأ تشو ليتشي، محافظ بنك شان-غان-نينغ الإقليمي، إلى المرونة المالية. ردّاً على عجز الميزانية الخطير، رفع شو من مستوى عرض البيانبي، وشجّع الإقراض التجاري وقروض الرهن العقاري من أجل تنقيد العجز وتأمين التدفّق النقدي للمشروعات. إذ من شأن الأساليب التقشّفية من جانب واحد، كما رأى، أن تضرّ بالسيولة وتؤدّي بدورها إلى تفاقم التضخّم.

كما شكّلت احتياطيات الدولة إحدى آليّات ضبط الأسعار. فقد وازنت الاحتياطيات المادية خلف البيانبي الوفرة والندرة في السوق، وساهمت في استقرار العملة بتمكينها التدخّل الحكومي. هكذا، من شأن السلطة المالية استخدام سلطتها الاستنسابية لزيادة المعروض من السلع لخفض الأسعار في مواجهة التضخّم، أو زيادة تداول الأموال وشراء السلع للحفاظ على الأسعار في مواجهة الانكماش. كان هذا «المعيار المادي»، الموضوع لتقييد عرض النقود والحفاظ على قيمتها، رمزاً للإدارة المالية الشيوعية المُعتمدة على السلطة السياسية والقانونية الإقليمية. يمكن أن تكون إحدى تبعات هذا الإبداع في عصر الرأسمالية المالية الجامحة، امتلاك اقتصاد حقيقي قوي لا تزال وسائله المالية والنقدية المثلى قيد التطوير.

نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من Phenomenal World - آذار/مارس 2023.

  • 1طرح المؤرخ الاقتصادي جان دي فريس مفهوم «ثورة الكدّ» في أواخر القرن العشرين، وفيه يشير إلى فترة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر قبل الثورة الصناعية. بخلاف الثورة الصناعية التي تميّزت بالتقدّم التكنولوجي والتحوّل إلى المصانع، ركّزت ثورة الكدّ على التغيير في أنماط العمل والإنتاج المنزلي وممارسات الاستهلاك والادخار، أو بعبارة أخرى على التحوّل في المواقف تجاه العمل والإنتاجية لغرض تكوين الثروة ومراكمتها. (المترجم)
  • 2سُمّيَت هكذا لأنها تنقل الأموال على الورق عبر الحدود الإدارية من دون الحاجة إلى نقلها بالفعل. (المترجم)
  • 3 يعني هذا الوصف حدوث نمو لكنه لا ينعكس، أو ينعكس بصورة طفيفة، في تحسين مستوى معيشة الفرد ودخله وإنتاجيته. (المترجم)

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.