الإكراه الاقتصادي في عالم متعدّد الأقطاب
- توجد مخاطر في تحوّل العقوبات والممارسات الإكراهية إلى أدوات للمنافسة الهيمنية المفتوحة. فعالم متعدّد الأقطاب، وكلّ قطب فيه يتبنّى سياسة فرض العقوبات قد يكبح الابتكار في الإدارة العالمية الرامية إلى معالجة عدم المساواة وعدم الاستقرار، وقد يزيد من العشوائية في استخدام الإكراه الاقتصادي، ويشجّع أشكالاً أشدّ من العنف الاقتصادي كالعقوبات الثانوية والحصار.
- قد يؤدي الانخفاض النسبي في قوة الدولار مع الوقت إلى خفض عتبة بعض العقوبات المفروضة اليوم، ولكن من الوارد أيضاً أن نشهد عودة أشكال الضغط الأكثر بدائية، كالعقوبات الثانوية أو حتى الحصار على غرار حصار غزة، لا سيما داخل «المساحات الشاسعة» التي تطالب بها القوى الإقليمية المهيمنة الساعية إلى استبعاد النفوذ المنافِس.
على مدى العقود الماضية، كانت العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب امتيازاً شبه حصري للولايات المتحدة. أما اليوم فقد صارت هذه الظاهرة على نحو متزايد ظاهرةً متعددة الأقطاب. في العام 2021، على سبيل المثال، اعتمدت الصين إطاراً تشريعياً جديداً، محوره قانون مكافحة العقوبات الأجنبية. وهذا القانون الذي يعطي مجلس الدولة الصيني صلاحيات واسعة النطاق لتجميد الأصول، ورفض منح التأشيرات، وحظر التجارة مع الأفراد والمنظّمات المستهدفة، يحاكي أبرز جوانب قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية وغيره من التشريعات الأميركية التي تسهل فرض العقوبات.
ومن المفارقات الناجمة عن ممارسة الصين وغيرها من القوى قدراً من الندية إزاء الغرب، أنّ الأخير بدأ في التحشيد ضد فكرة «الإكراه الاقتصادي». الدول الغربية التي عارضت تاريخياً أي محاولة تنشد الاعتراف القانوني بالإكراه الاقتصادي بوصفه انتهاكاً للمعايير الدولية تجد الآن أن هذه التهمة تناسب الصين وتزعم أن أفعالها تمثّل تهديداً عالمياً. كان لهذا التحوّل مجموعة من العواقب، والعديد منها يدعم وجهة النظر التي ناقشتها أسلي بالي مؤخراً على صفحات مدوّنة «إل بي إي بروجكت» (LPE Project)، ومفادها أنّ الوضع الحالي «قد يعطي فرصة جديدة لمقاومة العقوبات وأشكال الإكراه التي تُشرّع وتشرعِن وتفرض نظاماً عالمياً نيوكولونياً غير متكافئ وغير عادل».
الدول الغربية التي عارضت تاريخياً أي محاولة تنشد الاعتراف القانوني بالإكراه الاقتصادي بوصفه انتهاكاً للمعايير الدولية تجد الآن أن هذه التهمة تناسب الصين وتزعم أن أفعالها تمثّل تهديداً عالمياً
لكن توجد في الوقت نفسه مخاطر جديدة في تحوّل العقوبات والممارسات الإكراهية إلى أدوات للمنافسة الهيمنية المفتوحة. ولنوجز بعضاً من هذه المخاطر المحتملة نقول إنّ عالماً متعدّد الأقطاب كلّ قطب فيه يتبنّى سياسة فرض العقوبات قد يكبح الابتكار في الإدارة العالمية الرامية إلى معالجة عدم المساواة وعدم الاستقرار المستحكمين، وقد يزيد من العشوائية في استخدام الإكراه الاقتصادي، ويشجّع أشكالاً أشدّ من العنف الاقتصادي كالعقوبات الثانوية والحصار.
التقارب الصيني-الأميركي في الإدارة الاقتصادية الحكومية
تشكّل بعض الأحداث المرتبطة بالعقوبات في ذروة الوباء، فضلاً عن نتائجها، مثالاً على التوجّهات الحالية. في شباط/فبراير 2020، أصدر برنامج الأغذية العالمي تقريراً يقدّر أنّ واحداً من كل ثلاثة فنزويليين يعاني من انعدام الأمن الغذائي، وربع الشعب الفنزويلي يعاني بحدّة من انعدام الأمن الغذائي. وفي تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، أشارت منظّمة «كاريتاس - فنزويلا» غير الحكومية إلى ارتفاعٍ قدره 73% في عدد الأطفال دون سن الخامسة المصابين بسوء التغذية. في هذه الأثناء، ضرب الوباء العالمي مُجتمعاً أصبح اقتصاده ومؤسّساته وأجسامه أضعف بسبب آثار خمس سنوات من العقوبات المتصاعدة طالت الأسعار وتوفر الغذاء والدواء والمأوى.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من إحالة فنزويلا القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، تظل المساءلة عن التأثيرات الإنسانية المترتبة على العقوبات بعيدة الاحتمال هناك أو في أي مكان آخر. وإذ قبعت هذه الشكوى بلا أي تقدم (على عكس تحقيقات المحكمة مع مسؤولي فنزويلا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من بينها الاعتقال التعسّفي)، حسمت حكومة مادورو قرارها بتمتين العلاقات المالية مع بكين من خلال، على سبيل المثال لا الحصر، اعتماد التجارة المقومة بالرنمينبي. وبهذا، تنضم فنزويلا إلى البرازيل والأرجنتين والعراق وإيران وروسيا ومصر ودول أخرى في خطوات نحو «يوانة»1 تدفّقات التجارة العالمية.
من جانبها، كانت بكين سعيدة باستخدام حالة المعارضة لنظام الدولار الأميركي المسلّح بازدياد من أجل تعزيز هدفها في التخلّص من الدولار. لكن تظل هذه أجندة بعيدة الأمد: لم تبلغ حصة اليوان من المدفوعات العالمية عبر الحدود مع منتصف العام 2023 إلا 2.5% مقارنة بـ 42.6% للدولار. ومن المستبعد أن يمتلك اليوان قوة تدميرية تضاهي قوة الدولار في القريب العاجل، لا سيما إذا كانت وسيلته في ذلك اتفاقيات وتفاهمات متعددة الأطراف على شاكلة سلة عملات مجموعة البريكس. في المقابل، قد تأمَن مناطق واسعة في الجنوب العالمي إلى حدٍ ما من بطش الدولار.
بيد أنّ طموح بكين في التحوّل إلى مركزٍ لنظامٍ نقدي عالمي منفصل يدلّ على تراكم أشكال جديدة من النفوذ الجيواقتصادي. بعيداً من الادعاءات الغربية الاختزالية (أو المنافقة) بشأن «دبلوماسية فخّ الديون»، تبرز مخاوف مشروعة بشأن ترتيبات بكين المالية الغامضة وغير المتّسقة وطريقة استغلالها من جانب الإدارات المستقبلية، إنْ لم يكن من جانب الإدارة الحالية. كما أنّ الدعم المالي لا يُترجم إلى دعم مبادرات أكثر جذرية. وفي حين قد تساعد التجارة المقوّمة بالرنمينبي، على سبيل المثال من خلال تبني ترتيبات «البترو يوان»، في زيادة القدرة على الصمود الإنساني في فنزويلا وأماكن أخرى، فإنّ بكين لم تُبدِ أي اهتمام بدعم القضية الفنزويلية في المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من الجهود لفرض قيود رسمية على العقوبات.
في حين قد تساعد التجارة المقوّمة بالرنمينبي في زيادة القدرة على الصمود الإنساني في فنزويلا وأماكن أخرى، فإنّ بكين لم تُبدِ أي اهتمام بدعم القضية الفنزويلية في المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من الجهود لفرض قيود رسمية على العقوبات
وبالعموم، تميل مواقف بكين الدولتية إلى استبعاد أي اجتهاد جوهري في النظام القانوني الدولي – كما يظهر، على سبيل المثال، في وجهات نظرها المحافظة من الاختصاص الاستشاري في محكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار والمحاكم الأخرى. لكن على الرغم من الدعم الخطابي التقليدي لإعلان العلاقات الودّية ومفهومه عن عدم التدخل الذي يشمل الإكراه الاقتصادي، فقد حوَّلت الصين اليوم ممارساتها الحكومية فيما يتعلق بالعقوبات لتغدو شبيهة إلى حدٍ كبير بممارسات الولايات المتحدة.
والنتيجة أنّ الصين لربما تكسر نموذج العقوبات الأميركي على أساس براغماتي وبحسب كل حالة على حدة، لكن من عجيب المفارقات أنّها تعمل على تعزيز الموقف الغربي المعياري فيما يتعلّق بمستقبل العقوبات في القانون الدولي. والفارق الأساسي هنا أنّ الأخيرة حين تفرض عقوبات بناءً على مجموعة من الأسباب القانونية، جلُّها يشدّد على انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة، فإنّ العقوبات الصينية تُصنّف عموماً على أنّها «رد بالمثل» على أعمال التدخل المزعومة. بيد أنّ كليهما تشفعه تفسيرات داخلية جدالية وإعلاء من معايير فضفاضة، كالحقوق المدنية والسياسية عند طرف، وصلاحيات الدولة عند الطرف الآخر.
تعميم استثنائية العقوبات الأميركية؟
من الإمبراطورية إلى الجمهورية إلى الجمهورية الشعبية، لم تكن الصين أبداً غريبة عن ممارسات الإكراه الاقتصادي. في تاريخها الحديث، كانت الدولة هدفاً لأشكال متطرّفة من التدخل باستقلالها الاقتصادي، لكنها خلقت بالمقابل أشكالاً من المقاومة. على سبيل المثال، احتضنت منذ فترة طويلة حركات المقاطعة القومية الشعبية رداً على التدخل الأجنبي. ومع أنّ تأثيرات مثل هذه الحملات كانت هامشية في خلال عقود من النمو المركّز الموجّه نحو التصدير، في أعقاب سياسات دنغ شياو بينغ الإصلاحية والانفتاحية، فقد ازدادت فعاليتها في الآونة الأخيرة وحجمها.
إذ شهد عهد شي جين بينغ منذ العام 2012 زيادة ملحوظة في استخدام عمليات المقاطعة شبه الرسمية التي تستهدف الدول أو الشركات الأجنبية على خلفية ما تراه الصين إهانات بحقها (أو بحق مطالباتها الإقليمية). اقترنت هذه المقاطعة بأشكال أخرى من الإكراه، وانطوت في الغالب على معاقبة الجيران الإقليميين أو الدول الأصغر في أماكن أخرى لتبنّيها خيارات السياسة الأمنية «المؤيّدة للولايات المتّحدة». على سبيل المثال، فرضت الصين، في سياق ردّها على قرار كوريا الجنوبية استضافة نظام دفاع صاروخي أميركي، مزيجاً من الحظر التجاري شبه الرسمي والمقاطعة. وفي الآونة الأخيرة، شملت الإجراءات الصينية بحق أستراليا حظر الحديد والنبيذ ولحم البقر والشعير وغيرها من الواردات رداً على موقف الأخيرة من التحقيق في مصدر كوفيد-19، فضلاً عن تعاونها مع الولايات المتحدة في مسائل الأمن الدولي. أتت هذه التحرّكات العقابية في صورة تغيير حصص التعريفة الجمركية أو رفض منح التراخيص أو لوائح تنظيمية صادرة عن اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح أو غيرها من الهيئات المحلّية التابعة لمجلس الدولة، ولم تأتِ في صورة عقوبات صريحة.
ولم تظهر أي أدوات علنية وصريحة بالكامل لتنفيذ سياسة العقوبات إلّا مع التشريع الجديد. وتفعل هذه الأدوات فعلها عن طريق إدراج الأسماء والأوامر «الصادرة عن وزارة الخارجية أو أي إدارة أخرى ذات صلة في مجلس الدولة». وتشمل هذه الصلاحيات، من بين أمور أخرى، الترحيل أو الحرمان من الدخول أو رفض منح التأشيرات أو إلغائها، وتجميد الممتلكات داخل الصين، وحظر المعاملات أو الأنشطة الأخرى التي يقوم بها أفراد أو منظّمات معيّنة داخل الصين. ومن بين الأهداف المشروعة لهذه العقوبات، بحسب تعريفها، أفراد الأسرة أو المنظّمات المرتبطة بالأفراد المدرجين في قوائم الرد بالمثل.
غلب على العديد من استخدامات القانون الجديد حتى الآن، على الأقل، الاستخدام الشكلي وليس العملي. على سبيل المثال، تعرّضت مكتبة رونالد ريغان الرئاسية للعقوبات بسبب استضافتها اجتماعاً بين تساي إنغ وين رئيسة مجلس النواب التايوانية ورئيس مجلس النواب الأميركي السابق كيفن مكارثي. وفي مثل هذه الحالات، لا توجد روابط مالية مع الصين أو أصول داخلها. أما إزاء أهداف أخرى، مثل رايثيون ولوكهيد مارتن، أو شركة المحاماة البريطانية إسيكس كورت تشامبرز، أو ميريكس (أكبر مؤسّسة فكرية في أوروبا تركّز على الصين)، فالتأثيرات المحتملة أوضح. إذ إنّ حظر السفر وقطع العلاقات التجارية والتأثيرات في أفراد الأسرة، وما إلى ذلك، تستشعرها الأهداف المتمركزة في المعاقل المالية في الغرب. مع هذا النطاق الواسع من الأهداف والمسوّغات تغدو جهود بكين العَرَضية لوصف تحركاتها بأنّها «رد بالمثل» بموجب القانون الدولي أقل وجاهة.
لقد تمكّنت بكين، على غرار واشنطن في العقود الأخيرة، من الجمع بين الممارسات الروتينية للإكراه الاقتصادي والالتزام العام بهياكل التجارة النيوليبرالية. وهي تصوّر نفسها الآن البطلَ الأبرز لنظام منظمة التجارة العالمية المتعثر
في الوقت نفسه، على الرغم من حرص بكين حتى الآن على عدم استهداف الدول النامية بعقوباتها الرسمية، فقد لا يستمر هذا الإحسان إلى الأبد. والسؤال الكبير الآخر الذي يطرحه الشركاء الأضعف والأفقر مؤداه: أتحاكي بكين في نهاية المطاف الولايات المتحدة بانتهاجها فرض العقوبات الثانوية على مَن يتعامل مع الدول أو المنظّمات أو الأفراد المستهدفين. ومن بين الأسئلة الأخرى المطروحة سؤال الحظر الشامل، على غرار ما فرضته الولايات المتحدة على كوبا أو كوريا الشمالية، وهو ما لم يتطرق إليه قانون مكافحة العقوبات الأجنبية صراحةً ولم يستبعده. ظهرت إحدى المؤشرات على هذا الاحتمال إبان المواجهة الصينية الأميركية على تايوان في صيف العام 2022، حيث انخرطت القوات البحرية لجمهورية الصين الشعبية في «حصار صوري» على تايوان وحاكت قطع طرق التجارة والاتصالات عن الجزيرة.
لقد تمكّنت بكين، على غرار واشنطن في العقود الأخيرة، من الجمع بين الممارسات الروتينية للإكراه الاقتصادي والالتزام العام بهياكل التجارة النيوليبرالية – وفي الواقع، تصوّر نفسها الآن البطلَ الأبرز لنظام منظمة التجارة العالمية المتعثر. لعل كثرة المتنافسين على الهيمنة اليوم، مِمَن يجمعون بين أجندات التجارة الحرة (نوعاً ما) والامتيازات الأحادية، مجردُ تطورٍ آخر فيما وصفه ديفيد سينغ غريوال بـ«جدلية العولمة، حيث يولِّد النشاط العابر للحدود الوطنية من جانب أطراف تمارسه حديثاً مزيداً من الضغوط تدفع نحو إدارة عالمية فوق وطنية و[غير ديمقراطية]».
فرصة لإعادة توزيع المخاطر؟
في العام 1961، وصف المحاميان الدوليان من كلية نيو هاڤن، مايريس مكدوغال وفلورنتينو فيليسيانو، الإكراه الاقتصادي، كالتدابير التي اتخذتها آنذاك إدارة كينيدي ضد كوبا، بأنّه أمرٌ «لا مفر منه في العلاقات العادية بين الدول». وذكرا أنّ مَن يقول بخلاف ذلك هو في أفضل الأحوال مثالي موهوم. واليوم، يبدو أنّ نهجاً مماثلاً في التعامل مع هذه المسألة بدأ يترسّخ في بكين.
لذا، يجب على مجتمع القانون والاقتصاد السياسي في العالم أن يستشعر القلق من أنّ بكين، وربما القوى الناشئة الأخرى، ماضية علانيةً في تبنّي التسليح الاقتصادي على غرار واشنطن بدلاً من متابعة الجهود لتقييده قانونياً. ومن المُقلق أيضاً أنّها تفعل ذلك جنباً إلى جنب مع صعود عام للحكم التنفيذي المركزي تشفعه مسوّغات قومية تستغل الاستياء المشروع على مدى عقود من الوصفات السياسية المدمّرة التي فرضها إجماع واشنطن. تثير هذه الاتجاهات الجديدة شبح دينامية إكراه تعسفي شميتية تطبَّق على أساس إداري، بدءاً من مجموعة التعليمات التنفيذية غير الخاضعة للرقابة مع صلاحيات واسعة، وصولاً إلى مجموعة واسعة من الأهداف العالمية المعرضة لـ «عملياتها القانونية العابرة للحدود».
من الأفضل النظر إلى تراكم القوة الاقتصادية الإكراهية لدى الصين لا من خلال عدسة «الصعود النسبي لبلدان الأطراف» بل من عدسة (إعادة) تجزئة الاقتصاد السياسي العالمي إلى مراكز متعددة لكلٍ منها أطرافها
باختصار، ربما من الأفضل النظر إلى تراكم القوة الاقتصادية الإكراهية لدى الصين لا من خلال عدسة «الصعود النسبي لبلدان الأطراف» – على سبيل المثال، تشديد مجموعة الـ 77 على الاستقلالية في مواجهة مجموعة السبع –، بل من عدسة (إعادة) تجزئة الاقتصاد السياسي العالمي إلى مراكز متعددة لكلٍ منها أطرافها. وقد يؤدي الانخفاض النسبي في قوة الدولار مع الوقت إلى خفض عتبة بعض العقوبات المفروضة اليوم، ولكن من الوارد أيضاً أن نشهد عودة أشكال الضغط الأكثر بدائية، كالعقوبات الثانوية أو حتى الحصار على غرار حصار غزة، لا سيما داخل «المساحات الشاسعة» التي تطالب بها القوى الإقليمية المهيمنة الساعية إلى استبعاد النفوذ المنافِس. وقياساً على ذلك، ظهرت بالفعل على المستوى المحلي دلائل تشير إلى أنّ جهود الاستبعاد المتبادل في الولايات المتحدة والصين أسفرت عن تدهور القواعد القانونية والضمانات الإجرائية.
ومع ذلك، فبقدر ما يكتب صناع السياسات في الغرب التقارير وينخرطون في التنسيق المتعدد الأطراف لمعارضة «الإكراه الاقتصادي الصيني»، قد يكون بوسع الباحثين والممارسين والناشطين الدفع نحو بعض التحسينات السياسية المفيدة. على سبيل المثال، قد تنشد واشنطن (أو في الواقع بروكسل أو بكين) تحصيل موافقة دبلوماسية إضافية لعقوباتها عبر تأطيرها بمبادئ التناسب المستمدّة من القانون الإنساني الدولي. وقد ينحو صناع السياسة ومستشاروهم القانونيون نحو العمل على (إعادة) إدراج الإكراه الاقتصادي كشكل من أشكال السلوك ذي الصلة الغائب إلى الآن عن التعريفات الأساسية للجرائم ضد الإنسانية أو جريمة العدوان.
وإذا أخذنا التوصيف الرائج اليوم لسياسة واشنطن إزاء العلاقات بين الولايات المتّحدة والصين، أي «التخلّص من المخاطر»، على محمل الجد كمفهوم قابل للتطبيق خارج المصالح الضيّقة – أي كشيء مثل الصالح المشترك الحقيقي، لا سيما ما يتعلق منه بالسكان الأضعف في العالم –، فإنّ ما ورد أعلاه، والسبل الأخرى المؤدّية إلى نزع السلاح الاقتصادي، لا يجب تهميشه بعد الآن.
نشر هذا المقال في The Law and Political Economy Project في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023
- 1على غرار دولرة، لكن بالعملة الصينية اليوان. (المترجم)