معاينة egypt central bank

من الذي يتحكّم في القرار الاقتصادي المصري؟

هل تملك الإدارة الاقتصادية للاقتصاد المصري حرية القرار الاقتصادي لمصلحة مصر ومستقبلها؟ أم إنها تخضع لضغوط متنوّعة تؤثر على حرية قرارها الاقتصادي أو تبعيتها؟ يوجد 4 معايير يمكن من خلالها قياس التبعية.

أولاً؛ الديون الخارجية

تحتلّ مصر المرتبة الثانية عالمياً في مديونيتها لصندوق النقد الدولي، وتعتبر أكبر دولة مدينة في أفريقيا وأكبر دولة عربية مدينة. فكيف ينعكس ذلك على القرار الاقتصادي؟

لم تتجاوز ديون مصر الخارجية 46 مليار دولار في العام 2014، لكنها قفزت إلى 152.8 مليار دولار في العام 2024 وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري عن الديون الخارجية. ما يعني أن الديون زادت بنحو 107 مليارات دولار في خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس عبد الفتّاح السيسي.

تمثّل ديون المؤسّسات الدولية فتشكّل 32% من ديون مصر الخارجية وتبلغ قيمتها 33.3 مليار دولار. اشترط صندوق النقد ضمن شروط قرض العام 2016 تقليص عدد موظّفي الحكومة، وإصدار قانون جديد للخدمة المدنية، وقوانين للعمل والتأمينات الاجتماعية والتأمين الصحي، والتحوّل إلى ضريبة القيمة المضافة التي تحمّل الفقراء أعباء تمويل الموازنة. وقد نفذت الحكومة معظم تعهداتها للصندوق باستثناء قانون العمل الذي سيتم إقراره خلال الأيام المقبلة. وعلى الرغم من ذلك لا يزال الصندوق غير راضٍ عن أداء الاقتصاد، ويتحفّظ على سياسة سعر الصرف المقيّد، ويطالب بالمزيد من التحرير، وهو ما يعني المزيد من تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار من 7 جنيهات في 2014 إلى 50 جنيه في 2024، في ظل ضعف الإنتاج الزراعي والصناعي والصادرات وزيادة أعباء الديون والواردات الغذائية مع تراجع نسب الاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى اعتماد الزراعة والصناعة المصرية على استيراد الخامات ومستلزمات الإنتاج. وتمثل صناعة الدواجن نموذج في صناعة قائمة على مستلزمات مستوردة من الخارج وتخضع لأسعار السوق العالمية.

أما ديون الإمارات والسعودية وودائعهما في البنك المركزي وما ضخّه البلدان من مساعدات فتصل إلى 18 مليار دولار، أي ما يشكل 13.1% من ديون مصر الخارجية. وهنا، نجد تفسيراً للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية ثم خليج رأس الحكمة للإمارات في ظل ضغوط الصندوق لتحويل الديون لاستثمارات، كما نجد تبريراً لبيع الشركات المتميزة للدولتين مثل أبوقير للأسمدة وموبكو والشرقية للدخان وفنادق مصر التاريخية.

من المفترض أن تسدّد مصر 43.2 مليار دولار من الالتزامات الخارجية في خلال الأشهر الـ 9 الأولى من العام 2025، من بينها 5.9 مليار دولار فوائد، و37.3 مليار دولار أصل قروض

إلى ذلك، من المفترض أن تسدّد مصر 43.2 مليار دولار من الالتزامات الخارجية في خلال الأشهر الـ 9 الأولى من العام 2025، من بينها 5.9 مليار دولار فوائد، و37.3 مليار دولار أصل قروض، بحسب بيانات البنك الدولي.

لذلك عندما تفكر مصر في أي قرار اقتصادي أو سياسي تجد سيف القروض مسلطاً عليها ويضع الكثير من القيود على حرية القرار في ظل الاحتياج لسداد مليارات الدولارات، بالإضافة إلى الاستمرار في المشروعات غير الضرورية والاعتماد على المزيد من القروض.

ثانياً؛ المعونات

تعد المعونات المعيار الثاني من معيار قياسنا للتبعية، وهي تنقسم لمجموعات عدة: المجموعة الأولى للولايات المتحدة الأميركية، والمجموعة الثانية للاتحاد الأوروبي، والمجموعة الثالثة لدول مجلس التعاون الخليجي.

تشير بيانات وزارة الخارجية الأميركية إلى إن إجمالي المساعدات الأميركية لمصر بلغت نحو 85 مليار دولار منذ العام 1946 وحتى العام 2024. ومن ضمنها 52 مليار دولار عبارة عن مساعدات عسكرية، ونحو 31 مليار دولار مساعدات اقتصادية. وتفيد بيانات الخارجية الأميركية أن مساعدات واشنطن لمصر بدأت في العام 1946 بمبلغ لم يتجاوز 100 مليون دولار سنوياً، ولكنها توقفت بعد هزيمة العام 1967 واحتلال إسرائيل لسيناء، قبل أن تعود في عهد الرئيس السابق أنور السادات في العام 1972، وزادت إلى نحو 2.3 مليار دولار بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979، وشملت مساعدات اقتصادية وعسكرية. ثم تحولت إلى منح لا تُرد منذ العام 1982، واستلام الرئيس السابق حسني مبارك السلطة. واستقرت المساعدات طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات وتراوحت بين 1.2 إلى 2.5 مليار دولار سنوياً. وللمعونة شروط سياسية مثل المناورات العسكرية المشتركة المعروفة باسم النجم الساطع. بالإضافة إلى الإلزام بشراء منتجات أميركية والتحكّم في قطع الغيار ودفع أجور الخبراء الذين ترسلهم الولايات المتحدة، والأخطر هو التغلغل داخل مفاصل الدولة المصرية وفتح كل الملفات والمعلومات وإتاحتها، وبناء شبكات مصالح مستفيدة من استمرار المعونة بغض النظر عن تأثيرها. وقد شاهدنا كيف تم تقليص المعونة في عهد باراك أوباما بسبب رفض محاكمة محمد مرسي وجماعة الأخوان المسلمين، كما نشاهد دورياً تقدم أعضاء بالكونغرس ومجلس الشيوخ بوقف وتخفيض المعونة بسبب مواقف مصر السياسية. لذلك المعونة ليست نوعاً من زكاة المال الأميركي ولكنها وسيلة للسيطرة السياسية والاقتصادية على العالم مقابل أقل من 1% من الموازنة الأميركية.

بعد ذلك تأتي معونات الاتحاد الأوروبي التي وصلت في خلال العام الماضي إلى مليار يورو ضمن حزمة مساعدات وقروض بلغت قيمتها 7.4 مليار يورو. أيضاً تستورد مصر نحو 19.4 مليار دولار من الاتحاد الأوروبي. ولكي ندرك الجانب السياسي والعسكري للمعونة الأوروبية، لا بد من الإشارة إلى زيارة جوزيف بوريل لمصر في أيلول/سبتمبر 2020، ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي، والفريق أول محمد زكي القائد العام للقوات المسلحة، وزير الدفاع والإنتاج الحربي، وكذلك وزير الخارجية سامح شكري، وأحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية. إذا هي ليست معونات ومساعدات لوجه الله.

المعونة ليست نوعاً من زكاة المال الأميركي ولكنها وسيلة للسيطرة السياسية والاقتصادية على العالم مقابل أقل من 1% من الموازنة الأميركية

أما العنصر الثالث في المعونات فيتأتي من دول مجلس التعاون الخليجي، التي دافعت عن نظام مبارك حتى سقوطه، وموّلت ودعمت الرئيس السيسي بعد الإطاحة بالأخوان المسلمين. تدفّقت مليارات الدولارات على مصر بعد 30 حزيران/يونيو في صورة ودائع ومعونات ومنح لا ترد. وقدّرت مساعدات الخليج بأكثر من 114 مليار دولار ما بين عامي 2011 و2022. ومنذ العام 2022 حدث تحول في المعونات وتحولت إلى استحواذات على الأصول المصرية مقابل الديون والودائع الموجودة لدى البنك المركزي وتمثل صفقة رأس الحكمة نموذجاً واضحاً لهذا التوجه.

ثالثاً؛ الواردات

تعد مصر ثاني أكبر مستورد للقمح في العالم وخامس مستورد للذرة في العالم، بالإضافة إلى الاعتماد على الخارج في توفير الكثير من السلع الغذائية ومستلزمات الإنتاج. وقد بلغ حجم الواردات 72.1 مليار دولار في 2023-2024 وفقاً للنشرة الشهرية لوزارة المالية مقابل صادرات لا تتجاوز 32.5 مليار دولار، ما يعني أن مصر تستورد ضعف قيمة صادراتها.

ومن بين الواردات تستورد مصر بأكثر من 13 مليار دولار منتجات بترولية. وقد تحوّلت من دولة مصدّرة للغاز الطبيعي إلى دولة مستوردة. لا بل تستورد من العدو الصهيوني وقد شهدت المصريون معاناة انقطاع الكهرباء بسبب الاعتماد على الغاز الطبيعي المستورد.

ارتفعت قيمة واردات مصر من 81.9 مليار دولار في العام 2018 إلى 96.1 مليار دولار في 2022. لذلك تتحكّم أسعار السوق العالمية في اتخاذ القرارات الاقتصادية عندما نستورد نصف استهلاكنا من القمح والذرة. و78% من استهلاكنا من الفول، و30% من السكر، و95% من الزيوت، فضلاً عن 85% من مكونات صناعة الدواء المصري، وأكثر من 90% من مستلزمات صناعة الدواجن.

بلغ حجم الواردات 72.1 مليار دولار في 2023-2024 وفقاً للنشرة الشهرية لوزارة المالية مقابل صادرات لا تتجاوز 32.5 مليار دولار، ما يعني أن مصر تستورد ضعف قيمة صادراتها

في العام 2022 استوردت مصر منتجات بترولية بأكثر من 14 مليار دولار، وقمح وذرة وفول صويا بنحو 12.8 مليار دولار، وفضلاً عن سلع وسيطة بقيمة 36.5 مليار دولار. كما بلغت الواردات من الدول العربية 12.4 مليار دولار، ومن دول شرق أوروبا 9 مليار دولار، ومن دول غرب أوروبا 15 مليار دولار، فيما  بلغت قيمة الواردات المصرية من الولايات المتحدة الأميركية نحو 6,76 مليار دولار، وهي تمثل 7% من إجمالي الواردات المصرية.

رابعاً؛ الاستثمار الأجنبي المباشر

ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر من 6.4 مليار دولار في العام 2014 ليصل ووصل إلى 46 مليار دولار في العام 2023-2024. وطبقاً للتقرير المالي الشهري لوزارة المالية، تسيطر الإمارات العربية المتحدة وحدها على 85% من الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، تليها الولايات المتحدة بنسبة 7%، وبريطانيا بنسبة 6% والسعودية بنسبة 2%.

ووفقاً لتقرير مناخ الاستثمار في الدول العربية لعام 2023 يتضح أن مدن استثمارية عدة استقبلت استثمارات مباشرة منها القاهرة بنحو 46 مشروعاً بلغت بقيمة 2.5 مليار دولار، والعين السخنة التي استقبلت 14 مشروعاً بقيمة 40.8 مليون دولار، والقاهرة الجديدة التي استقبلت 6 مشروعات بكلفة 92 مليون دولار. ويقول التقرير إن المجلس الأعلى للاستثمار أصدر 22 قراراً لتحسين مناخ الاستثمار، كما أعلن عن طرح 32 شركة مملوكة للدولة. ثم رأينا كيف تم تعيين إماراتيين وسعوديين أعضاء في مجلس أمناء المتحف المصري الكبير. لذلك فإن استمرار تدفق هذه الاستثمارات مرتبط بالسياسات الخاصة للدول المصدّرة. وقد عشنا مشاكل استخراج الغاز الطبيعي مع شركة إيني الإيطالية وتأثرها بقضية مقتل الشاب جوليو ريجيني.

تسيطر الإمارات العربية المتحدة وحدها على 85% من الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، تليها الولايات المتحدة بنسبة 7%، وبريطانيا بنسبة 6% والسعودية بنسبة 2%

تشكل هذه الدعائم الأربعة ركائز التبعية الاقتصادية والسياسية في مصر وهي تضع قيوداً على حرية القرار المصري وتلزم مصر بالدخول في تكتلات إقليمية ودولية والقيام بأدوار سياسية تفرضها القيود الأربعة. ولذلك، لن تستطيع مصر استعادة سيادتها الاقتصادية إلا بالاكتفاء الزراعي والصناعي وتقليل اعتمادها على الخارج في الديون والمعونات والاستيراد ومضاعفة الصادرات. مع وضع خطة واضحة لوقف الاستدانة والاعتماد على المعونات لكي تستعيد مصر حرية قرارها الاقتصادي والسياسي. ولكن ذلك يحتاج مناخ سياسي ديمقراطي وتداول حقيقي للسلطة وتغيير في موازين القوى التي تصنع السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

نفهم من كل ما سبق لماذا يوجد نفوذ أميركي إماراتي قوي في مصر، قد تصاعد خلال العقد الأخير، ونعرف كيف يتمدّد النفوذ الإماراتي من العاصمة الإدارية للعلمين الجديدة والساحل الشمالي وكيف يحاول العبار الاستيلاء على منطقة القاهرة الخديوية ليدمر تراثها المعماري ويحولها لمسخ إماراتي. ولماذا يحتج عمال الشركة الشرقية للدخان ضد بيع حصة العاملين للإمارات. وهم يهتفون «مش هنصوت مش نبيع.. حق أولادنا مش هيضيع» «باطل، باطل.. بيع الشركة باطل» ويطالبون بسحب الثقة من الإدارة الحالية.