
ندوب قد يصعب ترميمها لعقود
التداعيات الاقتصادية للعدوان الإسرائيلي على لبنان
كلّ الترجيحات والتقديرات الموضوعة للعدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان تشير إلى أن هذا العدوان وتداعياته الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية سوف تكون أطول وأقسى بكثير مما أفرزه عدوان العام 2006. يتسم العدوان الإسرائيلي الحالي عمّا سبقه بمشاركة إقليمية أكبر، وانخراط أميركي أوسع وأشرس دفاعاً عن إسرائيل، واستخدام الأخيرة تكنولوجيات عسكرية متقدّمة تجعل الناس غير آمنين اينما كانوا. أيضاً يأتي هذا العدوان فيما لبنان يعاني انهيارات على مستويات متعدّدة: انهيار الدولة والاقتصاد والنظام السياسي وانتظام العمل في المؤسسات الدستورية. كلّ هذه المؤشرات تدفع نحو استنتاج بديهي بأن العدوان الإسرائيلي الجاري ستكون له تأثيرات عميقة وبعيدة المدى.
حتى لو انتهت الحرب في العام 2024، من المتوقّع أن تستمر تداعياتها لسنوات، ما يجعل كلّ التوقعات لمستقبل اقتصاد لبنان قاتمة»، وهو ما قد يترجم بـ«انكماش اقتصادي طويل الأمد كنتيجة لانخفاض النشاط الإنتاجي والاقتصادي وتراجع الاستثمارات
وبالفعل هذا ما يشير إليه «تقييم سريع» لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عن «التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لتصعيد العدوان في لبنان». فالتأثيرات الناجمة عن العدوان الحالي «لا تنحصر بالخسائر المأساوية في الأرواح بل تهدّد بزعزعة الاقتصاد اللبناني الهشّ بالأساس». وهذه التأثيرات «لن تكون قصيرة المدى ولن ترتبط حصراً بمخاطر قطع طرق التجارة البرية مع سوريا، وتراجع قطاعات حيوية في لبنان بحكم العدوان مثل النقل والاتصالات والسياحة، والإضرار بقطاعات حيوية مثل الصناعة والتجارة والمخزون السكني، بل ستترك ندوباً في الاقتصاد اللبناني قد يصعب ترميمها لعقود». وبحسب التقرير نفسه «حتى لو انتهت الحرب في العام 2024، من المتوقّع أن تستمر تداعياتها لسنوات، ما يجعل كلّ التوقعات لمستقبل اقتصاد لبنان قاتمة»، وهو ما قد يترجم بـ«انكماش اقتصادي طويل الأمد كنتيجة لانخفاض النشاط الإنتاجي والاقتصادي وتراجع الاستثمارات، ما سيؤدّي بدوره إلى ارتفاع البطالة وانخفاض الاستهلاك الخاص، وكذلك انخفاض الإيرادات العامة وبالتالي القدرة على تمويل الخدمات العامة والبرامج الأساسية، وصولاً إلى زعزعة الاستقرار المجتمعي».
يعتمد التقييم على افتراضيين أساسيين وهما استمرار العدوان حتى نهاية العام 2024، ما سيؤدّي إلى انخفاض بنسبة 20% في الأنشطة التجارية بسبب إغلاق الحدود اللبنانية السورية، وهو أمر بالغ الأهمية لطرق التجارة والأمن الغذائي لا سيما مع تدمير الكثير من البنية التحتية الزراعية. ويضاف إلى ذلك انكماش القطاعات الاقتصادية، وأبرزها قطاعي النقل والاتصالات بنسبة 10%، ويعود ذلك أساساً إلى انخفاض حركة المطار، فضلاً عن انكماش قطاع الخدمات بنسبة 4% بما يتضمّنه من ضيافة وترفيه وسياحة.
انكماش اقتصادي حادّ وتباطؤ طويل الأمد
يُعد تراجع النشاط الاقتصادي من التداعيات الأبرز للعدوان الإسرائيلي. وبحسب تقييم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.2% في العام 2024، وهو ما يقدّر بنحو 2 مليار دولار. علماً أن التداعيات لن تنحصر بهذا العام فقط، بل ستمتدّ إلى العام 2025 مع انكماش إضافي بنسبة 2.28%، ومن ثمّ انكماش بنسبة 2.43% في العام 2026. وهذا ما يشير إلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد سيعاني منه لبنان. يشار إلى أن بعد التصعيد الأخير، تعرّضت الطرق لأضرار جسيمة، وهو ما قد يؤدّي أيضاً إلى تعطيل التجارة والأنشطة الاقتصادية لأشهر عدة بعد انتهاء الحرب، ويجعل التعافي أبطأ من المتوقع، وأن تستغرق إعادة الإعمار سنوات.
أما فيما يتعلّق بإجمالي الأضرار الاقتصادية فهي قد لا تختلف كثيراً عن تقديرات عدوان العام 2006، التي تراوحت بين 2.5 مليار و3.6 مليار دولار، أو ما يعادل 8% إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد شكّلت الخسائر في البنية التحتية المادية والإسكان والقدرات الإنتاجية الحصة الأكبر منها.
خسارة الوظائف في القطاعات الرئيسة
من المتوقع أن ترتفع البطالة بنحو 2.3 نقطة أساس، لتصل إلى 32.6% في العام 2024، وأن يستمر هذا المنحي لعامين مقبلين، مع تسجيل البطالة ارتفاعاً بنسبة 1.3 نقطة أساس في العام 2025، و1.4 نقطة أساس في العام 2026، كانعكاس لفقدان الوظائف والفرص المحدودة لاستعادتها.
تعبر البطالة المتزايدة عن أزمتين متزامنتين وهما تراجع النشاط الاقتصادي وإغلاق المؤسسات، بالإضافة إلى النزوح الاقتصادي. وينجم ذلك بشكل رئيسي عن فقدان الطلب على العمالة في قطاعات أساسية في لبنان، وهي 1) السياحة لا سيما بعد أن تسبّبت الحرب في إلغاء حجوزات الفنادق وانهيار الشركات المرتبطة بالسياحة، وخسارة هذا القطاع نحو 5.1% من وظائفه. 2) الزراعة بعد أن فقد المزارعون والعمّال الريفيون وظائفهم بسبب انخفاض الإنتاج الزراعي في المناطق المتضرّرة من الحرب. وفقدان أكثر من 7% من العاملين الريفيين والزراعيين سبل عيشهم نتيجة تدمير المزارع والبنية التحتية الزراعية. 3) فقدان نحو 3% من الوظائف في قطاع البناء، ففي حين شهدت الفترة السابقة طفرة في البناء في المناطق الطرفية، وجد الكثير من العمّال أنفسهم اليوم بلا عمل نتيجة الحرب التي أوقفت مشاريع جديدة ودمّرت مشاريع جارية.
تعبر البطالة المتزايدة عن أزمتين متزامنتين وهما تراجع النشاط الاقتصادي وإغلاق المؤسسات، بالإضافة إلى النزوح الاقتصادي. وينجم ذلك بشكل رئيسي عن فقدان الطلب على العمالة في قطاعات أساسية في لبنان
الإضرار بالأعمال الصغيرة والمتوسطة
يقدّر البنك المركزي أن المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم تمثل حوالي 90% من الاقتصاد اللبناني، مع تركّز ثلثيها في بيروت وجبل لبنان. نتيجة الحرب، اضطرت الشركات الصغيرة والمتوسطة في جميع أنحاء البلاد إلى إغلاق أو تعليق أعمالها بسبب تعرضها للقصف المباشر وانخفاض الطلب، وأيضاً بسبب النزوح والمخاطر الأمنية وانقطاع سلسلة التوريد وعدم اليقين الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الأساسية، مثل الكهرباء والاتصالات وإمدادات المياه والطرق والصرف الصحي، تعيق إمكانية العمل أو الوصول إلى أماكن العمل، وهو ما يقلّل بدوره من القدرة الإنتاجية.
يشار إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة كانت لا تزال ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة، ومن المرجح أن ينخفض الإنتاج فيها ويتقلّص حجم أعمالها وأن ترتفع ديونها وتنخفض قدرتها على دفع الرواتب. وهو ما يعني أزمة كبيرة في نشاط القطاع الخاص اللبناني. وعليه، يتوقع التقييم أن يؤثّر ارتفاع البطالة بين العاملين بدوام كامل وجزئي والمياومين على ما يقرب من 1.2 مليون موظف وعامل في لبنان.
الشركات الصغيرة والمتوسطة كانت لا تزال ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة، ومن المرجح أن ينخفض الإنتاج فيها ويتقلّص حجم أعمالها وأن ترتفع ديونها وتنخفض قدرتها على دفع الرواتب
تضخّم وفقر
بحسب التقييم لن تكون رفاهية الأسر بمنأى عن تأثيرات الحرب، وهذا أمر بديهي. إذ من المتوقع أن يرتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 6%، وأن يترافق مع تدهور إضافي في سعر الصرف. وقد ينتج عن ذلك انخفاضاً في الاستهلاك الخاص بنسبة 14.8% في العام 2024، وهو ما يعتبره التقييم انكماشاً كبيراً في إنفاق الأسر. ومن المتوقع أن يستمر هذا الانخفاض في العامين المقبلين بنسبة 3.6% في العام 2025 و2.8% في العام 2026، بالتزامن مع استمرار تراجع مداخيل الأسر، ما قد ينعكس على تراجع الواردات بنسبة 10.87% في العام الحالي نتيجة ضعف الطلب المحلي، وبنسبة 3.07% في العام 2025، و2.74% في العام 2026.
عدا عن تراجع الاستهلاك الخاص، يتوقع التقييم انخفاضاً في الاستثمار الخاص بنسبة 2.77% في العام الحالي كمؤشّر إلى انخفاض حادّ في ثقة المستثمرين. وسيتزايد هذا المنحى في العامين المقبلين بنسبة 6.6% في العام 2025 و6.7% في العام 2026.
هشاشة المالية العامة
من المتوقع أن ينخفض إجمالي الإيرادات الحكومية بنسبة 9.16%، وهو ما سيزيد من احتياجات التمويل بنسبة 30%. ويأتي انخفاض الإيرادات العامة كنتيجة لتراجع النشاط الاقتصادي والاستهلاك الخاص الذي قد يستمرّ لسنوات مقبلة، بحيث تنخفض الإيرادات العامة بنسبة 3.22% في العام 2025 و3.11% في العام 2026. وهو ما يحد من قدرة الحكومة على تمويل الخدمات العامة والبرامج الأساسية، أن تظل احتياجات التمويل مرتفعة، عند 21.08% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2025 و27.49% في العام 2026، وبالتالي الاعتماد بشكل متزايد على الديون لتغطية فجوات التمويل الحكومية.