Preview الإنفاق العام على التعليم في لبنان

الحاجة إلى مقاربةٍ جديدة لتمويل التعليم في لبنان

في تشرين الأول/أكتوبر 2022، انهار سقف في مدرسة «الأمريكان» الرسمية في طرابلس فوق رأس التلميذة ماغي محمود، إبنة الـ16 ربيعاً، وأودى بحياتها، فيما أصيبت زميلتها بجروحٍ. تأتي هذه المأساة على الرغم من أن الدولة في لبنان أنفقت على التعليم نحو 23.2 مليار دولار أميركي على الأقل في خلال الأعوام 2011 إلى 2021، أي بمعدّل 2,3 مليار دولار سنوياً.

الإ

قد يبدو هذا الرقم ضخماً قياساً إلى عدد السكّان، ومحدوديّة دور الدولة الاجتماعي، ورمي كلفة التعليم على عاتق الأسر، وهو يكفي لتخيّل مستوى أفضل بكثير للتعليم العام وشموليّته. إلّا أنّ نظرة سريعة على بنية الإنفاق العام على التعليم سوف تكشف فوراً عن أنّ الجزء الأكبر منه يذهب لدعم قطاع التعليم الخاص، الذي يغلب عليه الطابع الطائفي. وهذا يفسّر لماذا أنفقت الدولة هذه الأموال كلّها في حين أن التعليم الرسمي في حالة تدهور مستمرّ وتدنّي مُقلق في الجودة.

تركيز الإنفاق على تطوير التعليم العام وتحسين جودته وتمكين جميع السكّان من الوصول إليه مجّاناً، ليس خياراً رديفاً للفقراء فحسب بل خيار أساس للجميعالآن، وبعد أربع سنوات من انهيار الليرة وقيمة الأجور الحقيقية، تواجه الأسر موجة جديدة من رفع الأقساط المدرسية ودولرتها، وسوف تواجه المالية العامّة ضغوطاً إضافية من المدارس الخاصّة المدعومة والمستفيدين من المنح التعليمية. وبالتالي، تمثّل الأوضاع القائمة مأساةً للكثيرين، ولكنّها تمثّل فرصة أيضاً لإعادة النظر بالسياسات والمؤسّسات التي تنظّم التعليم في لبنان، في اتجاه تركيز الإنفاق على تطوير التعليم العام وتحسين جودته وتمكين جميع السكّان من الوصول إليه مجّاناً، ليس كخيارٍ رديف للفقراء فحسب بل كخيارٍ أساس للجميع.

ماهية منح التعليم

بحسب دراسة «كلفة الإنفاق على التعليم في لبنان: إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع»، أكثر من ربع الإنفاق الحكومي على التعليم (6 مليارات دولار) في السنوات العشر الأخيرة، ذهب كمنحٍ تعليمية من مختلف الوزارات والمؤسّسات والصناديق التعاضدية. علماً أن هذا الإنفاق يوازي نصف موازنة وزارة التربية. وإذا ما أضفنا حوالي 2.9 مليار دولار أنفقتها الحكومة من موازنة وزارة التربية والتعليم على المنح المدرسية للأساتذة وموظّفي الوزارة في خلال السنوات العشر الماضية، يصبح مجموع ما تنفقه وزارة التربية على الرواتب والإيجارات والمدارس الرسمية والمساعدات للمدارس الخاصّة يوازي مجمل الإنفاق الحكومي على المنح المدرسية التي وصلت في خلال السنوات العشر الأخيرة إلى متوسّط سنوي يبلغ 890 مليون دولار.

تُعدُّ المنح أشبه بدعم مُقنّع للمدارس الخاصّة، وتحت مسمى الحماية الاجتماعية وتوفير فرص التعليم لأبناء موظّفي القطاع العام تتسرّب أموال دافعي الضرائب إلى جيوب مالكي المدارس الخاصّة. وأي مساءلة عن هذا الإنفاق المعوّج تصوّر وكأنها انتهاكٌ لحقوق الموظّفين والعاملين في القطاع العام ونزعٌ لمكتسباتهم، في حين أنّ الهدف هو إعادة التفكير بهذا النموذج الذي يؤدّي في حصيلته إلى حرمان فئات واسعة من السكّان في لبنان من حقّهم في الحصول على التعليم الجيّد المجّاني.

يشير كاتب الدراسة والباحث في السياسات التربوية في مركز الدراسات اللبنانية نعمة نعمة، في حديث مع موقع «صفر»، إلى أن قيمة المنح التعليمية تدحض المزاعم بعدم وجود إمكانيّات مالية لتعزيز التعليم الرسمي في لبنان، إذ أن تحويل أموال المنح التعليمية لصالح تطوير وتحسين المدرسة الرسمية يمكن أن يترك آثاراً إيجابية سريعة، «شرط أن يكون هذا الإنفاق مبنياً على سياسات فعّالة»، ويضيف: «من أصل 1.4 مليار دولار، هي ميزانية وزارة التربية الأخيرة، ينفق 500 مليون دولار تقريباً على التعليم ما قبل الجامعي كرواتب أساتذة وتحسينات في المدرسة الرسمية، بينما تحصل المدارس الخاصة على مساعدات بقيمة 300 مليون يضاف إليها 290 مليون دولار منحاً مدرسية».

أكثر من ربع الإنفاق الحكومي على التعليم (6 مليارات دولار) في السنوات العشر الأخيرة، ذهب كمنحٍ تعليمية من مختلف الوزارات والمؤسّسات والصناديق التعاضدية. علماً أن هذا الإنفاق يوازي نصف موازنة وزارة التربيةووفقاً لهذه الأرقام، تنفق الحكومة ووزارة التربية على التعليم الخاص أكثر ممّا تنفق على التعليم العام، ولو حوِّلت نفقاتها لصالح المدرسة الرسميّة وفق سياسات فعّالة لأمكن توفير التعليم لفئات اجتماعيّة أوسع وبجودة أفضل، حيث يساهم زيادة الإنفاق على التعليم الحكومي بـ«استعادة المدرسة الرسمية كمعيار أكاديمي للتعلّم في لبنان»، كما يقول نعمة. 

الحصة الأكبر من منح التعليم للقلة من كبار الموظفين

لا تقوم السياسة الحكومية على دعم المدارس الخاصّة فحسب، بل أيضاً تتمكّن فئة مُحدّدة وصغيرة من الاستفادة من المنح المدرسية. فمن تشملهم صناديق تعاضد القضاة المدنيين والدينيين، وصندوق مجلس النوّاب، بالإضافة إلى موظّفي المؤسّسات العامّة والمصالح المُستقلّة... يستفيدون من منح تعليم تصل قيمتها إلى 90% من قيمة الأقساط التي تفرضها المدارس الخاصّة، و«تحتسب قيمة المنحة المدرسية على أساس احتساب متوسّط أقساط أغلى عشر مدارس خاصة في لبنان». وينضمّ إلى هؤلاء كبار الموظّفين في الإدارات العامّة. بحسب الدراسة نفسها، تستحوذ هذه الفئة المحظية من كبار الموظّفين، على قلّة عددها، على 47% من قيمة المنح المدرسية، وتنخفض قيمة الاستفادة من هذه المنح كلّما انخفضنا على السلّم الوظيفي، بحيث لا يحصل عشرات آلاف الموظّفين والجنود في أدنى الرتب إلّا على 3% فقط من المساعدات المدرسية.

جودة التعليم في لبنان: نتائج مُخزية

إنّ غياب المدرسة الرسمية في ظل مواصلة تهشيمها كسياسة حكومية، يطلق العنان لكارتيل المدارس الخاصّة الضخم ليمارس الحدود القصوى من الاستغلال، سواء استغلال الأساتذة والأجراء في المدارس من خلال أجور بخسة، أو استغلال الأهالي من خلال فرض أقساط باهظة، أو استغلال النظام الضريبي الذي يعفيها كلّياً من أي ضريبة على الرغم من الأرباح التجارية التي تجنيها سنوياً.

جودة التعليم مُنخفضة حتّى في القطاع الخاص

يتعلّم في المدارس الخاصة المجّانية وغير المجّانية نحو 66% من التلاميذ في لبنان، إلّا أن 35% منهم فقط يحصلون على كفاءة تعليمية. فوفق نتائج PISA وهي اختبارات دولية لقياس جودة التعليم، شارك فيها تلامذة من المدارس الرسمية والخاصة المجّانية وغير المجّانية في العام 2015، تبيّن أن 70% من التلاميذ تحصيلهم أقلّ من الكفاءة الأساسية في القراءة، و60% أقل من الكفاءة الأساسية في الرياضيات، و63% أقل من الكفاءة الأساسية في العلوم.

يقوم كارتيل المدارس الخاصة باستغلال الأساتذة والأجراء في المدارس من خلال أجور بخسة، أو استغلال الأهالي من خلال فرض أقساط باهظة، أو استغلال النظام الضريبي الذي يعفيها كلّياً من أي ضريبة على الرغم من الأرباح التجارية التي تجنيها سنوياًلا يقتصر فشل النظام التعليمي على انخفاض جودة تعليم الطبقة الفقيرة فقط، حيث أنّ 12% من التلاميذ الفقراء يجتازون مستوى الحدّ الأدنى من الكفاءة، فتلاميذ الطبقات الأكثر ثراءً لا يحصلون أيضاً على مستوى تعليم كفوء وجيّد، إذ أن 33% منهم فقط يحصلون على كفاءة تعليمية متوسّطة وما فوق.

إذاً، أزمة التعليم شاملة، ولا يمكن حلّها على الطريقة المُعتادة، والمسألة لا تتعلّق فقط بطبقية التعليم الفاقعة وطائفيّته، مع ما يعنيه ذلك على صعيد استقرار المجتمع ورفاهيّته، بل تتعلّق أيضاً بفقدان الميزة النسبيّة التي شكّلت المجتمع اللبناني لفترة طويلة، والمُتمثّلة بنسبة سكّانه الذين يتمتّعون بتعليم عالٍ بالمقارنة مع غيره من البلدان المُشابهة أو القابلة للمقارنة. 

إنّ إعادة تصوّر اقتصاد داخلي يلبّي حاجات المجتمع تفرض وضع «التعليم» على جدول الأعمال: إمّا أن نستمرّ في تعميق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وكبح الطاقات الكامنة في المجتمع، وإمّا أن نخرج من الأزمة القائمة نحو مقاربةٍ للتعليم تجمع بين العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية، أي حقّ الجميع بالتعليم الجيّد والمجّاني، الذي يخدم تطوّر المجتمع واقتصاده. وبانتظار ظهور شكلٍ جديدٍ، لا تزال الدولة هي الإطار الذي يمكن من خلاله بناء هذه المقاربة، فالتعليم العادل والكفوء لا يتأمّن في الظروف القائمة من دون نظام ضريبي عادل وكفوء أيضاً، وسياسات مالية عادلة وكفوءة، وسياسة نقدية عادلة وكفوءة أيضاً وأيضاً.