معاينة sisi and army

التقشّف يقوّض التعليم في مصر

قوّضت السلطات المصرية الحقّ في التعليم في خلال السنوات الأخيرة نتيجة سياسات التقشف التي تتبعها في تقديم الخدمات العامّة والأساسية وعدم تخصيص الموارد المالية الكافية لتأمينها، ويترافق ذلك مع سياسات قمعية تكبّل حرية التعبير وتعيق الانتخابات الحرّة وتحول دون تمكين المصريين من الاعتراض على أولويات الإنفاق الحكومي.

خفّضت الحكومة المصرية الميزانية العامة المُخصّصة للتعليم من حيث القيمة الحقيقية، وكذلك من حيث النسبة من الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق بحسب «هيومن رايتس ووتش»، وهو ما فاقم بشكل كبير أزمة التعليم في مصر، الذي يعاني بالأساس من تراجع في الجودة والنوعية، ونقص في عدد المعلمين المتمتعين بالتدريب والأجر المناسبين، وعدم تناسب وكفاية البنية التحتية للمدارس الحكومية.

ميزانية التعليم في مصر (بالجنيه المصري)

خصّصت الحكومة المصرية ميزانية للتعليم تبلغ 295 مليار جنيه مصري (حوالي 6 مليارات دولار) في السنة المالية 2024/2025، أي ما يعادل 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر البالغ 17 تريليون جنيه (حوالي 380 مليار دولار). وهو ما يمثّل 5.3% من إجمالي الإنفاق الحكومي البالغ 5.5 تريليون جنيه (حوالي 110 مليار دولار). ومع ذلك، يعتبر إنفاق مصر على التعليم أقل بكثير من المتطلبات الدستورية والمعايير الدولية. فقد ألزم دستور مصر لعام 2014 الدولة بإنفاق ما لا يقل عن 6% من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، بما في ذلك 4% على التعليم قبل الجامعي. كما يقل بكثير عن المعايير الدولية بتخصيص  4 إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وما لا يقل عن 15 إلى 20% من الإنفاق العام على التعليم. كما يقل بنحو النصف بالمقارنة مع مخصّصات الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل، التي تخصّص حوالي 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي أو 13.1% من الإنفاق العام على التعليم وفقا لبيانات البنك الدولي.

ارتفع إنفاق مصر على التعليم اسميا فقط، إلا أنه ينخفض بمرور الوقت من حيث القيمة الحقيقية، وكنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي وكنسبة من الإنفاق العام. وبحسب تحليل «هيومن رايتس ووتش» لميزانية الدولة على مدى السنوات الخمس الماضية، انخفض الإنفاق على التعليم من 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020/2021 (6.7% من الإنفاق الحكومي) إلى 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي (5.3% من الإنفاق الحكومي) في ميزانية 2024/2025، وهو أدنى مستوى له في خمس سنوات. كما انخفض الإنفاق على التعليم بشكل كبير مقارنة بالعام الأول من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ بلغ 3.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2014/2015. ووجد تحليل «هيومن رايتس ووتش» أيضاً أن إنفاق مصر على التعليم انخفض 24% بالقيمة الحقيقية منذ العام 2014، وفقا لمعدلات التضخم. وقد وجدت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» أن الإنفاق في العام 2023/2024 يعكس بعضاً من أدنى مخصّصات التعليم في تاريخ مصر.

تثير نتائج التعليم في مصر مخاوف كبيرة. لدى مصر معدل أمية مرتفع، إذ أن أكثر من واحد من كل أربعة بالغين لا يجيدون القراءة والكاتبة بحسب أرقام العام 2021، كما أن حوالي 16% من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 10 سنوات غير قادرين على القراءة أو الكتابة بحسب أرقام العام 2023. وفي بعض الفئات العُمرية، نجد أن النساء والفتيات غير قادرات على القراءة والكتابة بمعدل يتجاوز ضعف معدّل الفتيان والرجال تقريباً. أيضاً وبحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2019، يعاني 70% من الطلاب في مصر من «فقر التعلم»، ما يعني أنهم غير قادرين على قراءة وفهم نص مناسب لعمرهم بحلول سن العاشرة. علماً أن هذه النسبة في مصر تزيد بنحو 14.5% عن المتوسط في الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل. فيما  قالت «اليونيسف» في العام 2024 إن «جودة التعليم الابتدائي تشكل تحدياً بالغ الأهمية»، مستشهدة بدراسة دولية أجريت في العام 2021 لتقييم مهارات القراءة لدى طلاب الصف الرابع، واحتلت مصر المرتبة 42 من بين 43 دولة، نظراً لأن «غالبية» الطلاب لم يصلوا إلى المستوى الأساسي من مهارات القراءة.

تأتي هذه النتائج الكارثية في مستويات كانعكاس لفقر البنية التحتية للتعليم في مصر والتي جرى تقويضها على مرّ السنين بسبب تراجع التمويل العام. والواقع، تعاني مصر من نقصّ حاد في المدارس وأزمة مزمنة في الفصول الدراسية المكتظة. في العام 2024، أشارت وزارة التربية والتعليم الفني إلى وجود عجز بحوالي 250 ألف فصل دراسي. وتضمّ الفصول الدراسية في المدارس الحكومية من 43 إلى 55 طالباً في المتوسط، إلا أن عدد الطلاب في بعض المدارس قدد يصل إلى 200 طالب في فصل دراسي واحد. كما نقلت وسائل إعلام محلية أن الطلاب ليس لديهم مقاعد أو مكاتب كافية في بعض المدارس.

هناك أيضاً نقص شديد في عدد المعلمين. وفي حين فتحت الوزارة مسابقة في العام 2022 لتوظيف 30 ألف مدرس مُساعد بعقود مؤقتة، خضع المتقدّمون لامتحانات لياقة بدنية يديرها الجيش، وتم إجراء مقابلات شخصية معهم من قبل ضباط عسكريين في مقرات وزارة الدفاع. وبحسب «هيومن رايتس ووتش» فقد استبعد الجيش آلاف المتقدمين بذرائع تعسفية غير قانونية وتمييزية، بما في ذلك «الوزن الزائد» أو الحمل أو الفشل في اختبارات اللياقة البدنية. فيما اعتقلت السلطات بعض المعلمين الذين احتجوا سلمياً على استبعادهم وأحالتهم إلى النيابة. أما بالنسبة إلى المعلمين المقبولين، فإنهم يخضعون لعقود مؤقتة، ما يجعلهم وفقاً للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية أكثر عرضة لانتهاكات العمل، إذ يتلقون رواتب شهرية تبلغ حوالي 1,920 جنيهاً (39 دولاراً)، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور البالغ 6 آلاف جنيه (120 دولاراً).

لطالما ردّ المسؤولون المصريون على الانتقادات الموجّهة حيال نقص الإنفاق على التعليم  بإلقاء اللوم على الاكتظاظ السكاني حيناً أو تضخيم الميزانياتا العامة لتشمل الأموال المخصّصة لخدمة الدين العام. مع ذلك، اعترف الرئيس السيسي في حزيران/يونيو 2023 في تصريحات علنية أن حكومته أخفقت في تحقيق الأهداف الدستورية للتعليم، وعزا ذلك إلى نقص الموارد. ومع ذلك، قلّل من أهمية الحاجة إلى تعزيز ميزانية التعليم واعتبر أن الأولويات هي للاحتياجات الأمنية والعسكرية.

مع ذلك، تتمتع مصر بنسبة ضرائب منخفضة إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 14.1% (2022)، أقل من الحد الأدنى البالغ 15% الذي يعتبره البنك الدولي ضرورياً لدولة تتوفر لها مقومات الاستمرار وللاستقرار الاقتصادي. وقدّرت «شبكة العدالة الضريبية» أن مصر تخسر ما لا يقل عن 438 مليون دولار سنوياً بسبب إساءة استخدام الضرائب، ووثقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن السياسة الضريبية للحكومة تتقاعس عن توليد إيرادات كافية، وخصوصاً فيما يتعلق بالأفراد والشركات ذات الدخل المرتفع.

تتقاعس الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها بموجب الدستور و«قانون التعليم» لعام 1981 و«القانون الدولي لحقوق الإنسان» بتوفير التعليم المجاني. وتفرض المدارس الحكومية رسوماً تتراوح بين 210 و520 جنيهاً مصرياً (حوالي 5-10 دولارات) سنوياً، يُعفى منها بعض الفئات من الطلاب ذوي الدخل المنخفض. في العام 2019، أي قبل موجات التضخم وأزمات تكلفة المعيشة الأخيرة، أنفقت الأسر التي لديها أطفال في المدارس ما معدّله 10.4% من دخلها على تكاليف متعلّقة بالمدارس، خصوصاً أن ضعف جودة التعليم، يدفع الكثير من الأهالي إلى دفع مقابل لقاء الدروس الخصوصية والتقوية.

الحق في التعليم مكرّس في القانون الدولي، بما في ذلك «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية» و«اتفاقية حقوق الطفل»، وكلاهما صادقت عليه مصر. وبحسب «هيومن رايتس ووتش»، استشهد السيسي في كثير من الأحيان بـ «الحقوق الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها محور تركيز حكومته لصرف الانتقادات الموجّهة إلى القمع السياسي الواسع والمستمر، لكن سياسة الحكومة على مدى العقد الماضي أظهرت تقاعساً ذريعاً عن تمويل التعليم الحكومي الجيد بشكل كاف، ما ألحق ضرراً بالغاً بملايين الأطفال والأسر في جميع أنحاء مصر».

هيومن رايتس ووتش - مصر: تراجع التمويل يقوّض التعليم - 27/01/2025.