Preview موازنة مصر

السمّ المدسوس في الموازنة العامّة المصرية

قد يكون العام 2023 الأسوأ اقتصادياً في مصر. للمرّة الأولى منذ العام 1989، كانت الحكومة المصرية مهدّدة باحتمال التخلّف عن سداد استحقاقات الديون، فضلاً عن تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي على نحو قاسٍ، ما أوصل سعر الدولار في السوق الموازية إلى ضعف قيمته وأكثر في السوق الرسمية، وأدّى بدوره إلى إحجام المستثمرين عن ضخّ الأموال في الاقتصاد المصري بانتظار توحيد سعر الصرف، كما أدّى إلى تراجع تحويلات المصريين في الخارج للسبب نفسه، في إعادة إنتاج للأزمة التي دفعت معدّلات التضخّم إلى مستويات قياسية. لكن بحلول آذار/مارس 2024، حظى الاقتصاد المصري بجرعات إنقاذ مُعتبرة، ويمكن القول إنها أبعدت المخاطر التي كان الاقتصاد المصري يواجهها في تلك اللحظة. 

تتمثّل تلك الجرعات في صفقة مدينة رأس الحكمة مع الإمارات بقيمة 35 مليار دولار، من ضمنها 6 مليارات دولار قيمة وديعة إماراتية في البنك المركزي المصري، تسقط عن مصر في مقابل ضخّ قيمتها بالجنيه المصري كاستثمارات في المشروع، وقد حصلت مصر على قيمة الصفقة كاملة بالفعل على دفعتين، آخرهما كانت 20 مليار دولار في أيار/مايو الجاري. و8 مليارات دولار دولار قيمة قرض من صندوق النقد الدولي بعد تعديل اتفاق سابق مع الصندوق يرفع قيمة القرض من 3 إلى 8 مليارات، حصلت مصر بالفعل على دفعتين من القرض بقيمة تتجاوز 1.6 مليار دولار. واتفاق آخر مع الاتحاد الأوروبي بدعم يصل إلى 7.6 مليار يورو في شكل منح وقروض واستثمارات.

هكذا تضع الحكومة المصرية الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2024/2025، بعد تلقيها جرعة إنعاش كبيرة، دفعت عنها مخاطر كانت وشيكة، وسوف يبدو السؤال عن مدى انعكاس تلك الانفراجة، أياً كان حجمها، على الموازنة العامة للدولة في العام المالي المقبل.

موازنة مصر رسم

جنّة الأغنياء والمستثمرين

بحسب البيان التحليلي لمشروع الموازنة العام للعام المالي المقبل، والصادر عن وزارة المالية تبلغ إيرادات الموازنة العامة حوالي 2.625 تريليون جنيه، في مقابل 2.142 تريليون جنيه في موازنة العام المالي الجاري بزيادة بنسبة 22.6%. فيما بلغت المصروفات في مشروع الموازنة حوالي 3.87 تريليون جنيه في مقابل حوالي 2.99 تريليون جنيه في موازنة العام المالي الجاري وبزيادة بنسبة 26.4% تقريباً.

النسبة الأكبر من الضرائب هي الضرائب المحصّلة على السلع والخدمات التي تتجاوز 828 مليار جنيه، بنسبة 41% من إجمالي الإيرادات الضريبية

وبالنظر للإيرادات، نجد أن الضرائب تمثل الجانب الأكبر من الإيرادات، إذ تتجاوز قليلاً 2 تريليون جنيه بنسبة 77% لإجمالي الإيرادات. واللافت هنا أن النسبة الأكبر من الضرائب هي الضرائب المحصّلة على السلع والخدمات، أي الضرائب غير المباشرة، حيث تتجاوز 828 مليار جنيه، بنسبة حوالي 41% من إجمالي الإيرادات الضريبية، وغني عن القول أن تلك الضريبة تحصّل من الجميع بشكل متساوي وبغض النظر عن مستوى الدخل، وبالتالي لا تتسم بأي عدالة ويتحمّل الفقراء عبئها الأكبر. 

الضريبة التالية في قيمتها هي الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية، وتبلغ قيمتها في مشروع الموازنة العامة 782.2 مليار جنيه، بنسبة 38.7% تقريباً من إجمالي الضرائب. وهذه الضريبة وإن كانت تقل قيمتها عن الضرائب غير المباشرة، إلا أنها تتسم بدرجة من العدالة، حيث تختلف وتتدرّج بحسب الدخل والأرباح. 

ولكن بالنظر إليها بدرجة من التفصيل سوف نجد أنها تتفادى بدورها كبار المموِّلين. فمن ضمن حصيلة الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية البالغة 782.2 مليار جنيه، هناك حوالي 170.7 مليار جنيه ضرائب على الأجور، أما الجانب الأكبر من الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية هو الضرائب على أرباح شركات الأموال التي تبلغ 481.3 مليار جنيه، ولكن جانب كبير من تلك الضريبة يحصّل من الشركات المملوكة للدولة مثل هيئة قناة السويس والتي تسدد 157.22 مليار جنيه، وهيئة البترول والتي تبلغ حصتها حوالي 84 مليار جنيه، وباقي الشركات تبلغ حصتها حوالي 340 مليار جنيه، علماً أن ضمنها أيضاً يوجد شركات وهيئات مملوكة للدولة، ما يعني أن نسبة مساهمة الضرائب التي تحصّل من كبار المستثمرين تمثّل نسبة محدودة للغاية من حصيلة الضرائب.

لا يتسم تحصيل الإيرادات الضريبية بالعدالة، وهي سمة لم تغادر الموازنة العامة في مصر طوال السنوات الماضية، فقد شكّلت الضرائب غير المباشرة النسبة الأكبر من حصيلة الضرائب لسنوات، بينما أسهمت سياسات دعم القطاع الخاص والمستثمرين في تخفيف العبء الضريبي على رجال الأعمال. 

لاعدالة مستمرّة 

الملاحظة الأولى على إيرادات الموازنة العامة لعام 2024/2025، أنها لم تتجاوز عدم العدالة في تحصيل الضرائب، عبر تحميل القطاعات الفقيرة العبء الأكبر منها.

ويبدو الأمر الأكثر وضوحاً في المصروفات. فالبند الأكبر في  المصروفات البالغة 3.87 تريليون جنيه على الإطلاق هو لفوائد الديون التي تبلغ 1.835 تريليون جنيه تقريباً، وهو ما يشكل نسبة 47.4% من إجمالي المصروفات، أي أن ما يقرب من نصف المصروفات يذهب لسداد فوائد الديون، وبلغت هذه النسبة 37.5% في العام المالي الجاري. والملاحظ أيضاً أن بند الفوائد يستهلك وحده حوالي 70% من إيرادات الموازنة العامة مقابل 52.3% في العام المالي الجاري. القفزة التي حقّقتها أعباء الفوائد على الموازنة العامة تتضح أكثر بمقارنتها بمدفوعات الفوائد في العام المالي الجاري والتي بلغت 1.12 تريليون جنيه تقريباً، وهو ما يعني أن الزيادة في مدفوعات الفوائد في مشروع الموازنة للعام المقبل 63.8% تقريباً مقارنة بمدفوعات المالي الجاري.

القفزة الهائلة في مدفوعات الفوائد لا تضاهيها أي زيادة في بنود المصروفات الأخرى، بل يبدو واضحاً أثر أعباء الدين على الإنفاق في الموازنة العامة، خصوصاً الإنفاق الاجتماعي

القفزة الهائلة في مدفوعات الفوائد لا تضاهيها أي زيادة في بنود المصروفات الأخرى، بل يبدو واضحاً أثر أعباء الدين على الإنفاق في الموازنة العامة، خصوصاً الإنفاق الاجتماعي، فبند الأجور مثلاً ارتفع من 470 مليار دولار في العام المالي الجاري إلى 575 مليار جنيه في مشروع الموازنة، بزيادة بنسبة  22.34%، لا يمكن بالطبع مقارنة الزيادة في بند الأجور بالزيادة في مدفوعات الفوائد، ولكنها أيضاً أقل من الزيادة في المصروفات التي بلغت 26.4%، ولكن الانخفاض الحقيقي في الأجور يظهر عند مقارنته بمعدلات التضخّم التي تجاوزت 35% في العام المنصرم، وهو ما يبيّن لنا نسبة الانخفاض في القدرة الشرائية للأجور.

لم يكن الإنفاق على الدعم بدوره أفضل من الإنفاق على الأجور فقد بلغ في مشروع الموازنة حوالي 636 مليار جنيه، مقابل حوالي 530 مليار جنيه في العام المالي الجاري، أي بزيادة حوالي 20% فقط، ولكن اللافت هو بند الدعم المخصّص للسلع التموينية، وهو الدعم الموجّه للفقراء مباشرة والذي بلغ حوالي 134.2 مليار جنيه، مقابل 127.7 مليار جنيه في العام المالي الجاري أي بزيادة 5.1% فقط، وهو ما يعني انخفاض فعلي حاد في دعم السلع التموينية نتيجة معدلات التضخم المسجلة.

الكلّ في خدمة الدائنين

لا يحتاج مشروع الموازنة العامة للكثير من التدقيق للتأكد من أن الديون لا تزال تهيمن على مصروفات الموازنة وتحدّ من القدرة على الإنفاق على البنود ذات البعد الاجتماعي، ولكن الأسوأ هو ما يوضحه مشروع الموازنة عن أن المشكلة ليست في طريقها للحل بل على العكس تتصاعد. 

إجمالي أعباء الديون بالإضافة إلى أقساط الديون تبلغ حوالي 3.44 تريليون جنيه، وهو ما يمثل 62.1% تقريباً من إجمالي استخدامات الموازنة العامة

بالإضافة إلى مدفوعات الفوائد، تستهلك أقساط الديون جانباً هاماً من استخدامات الموازنة العامة، فبينما تبلغ استخدامات الموازنة العامة 5.541 تريليون جنيه، (استخدامات الموازنة هي إجمالي المصروفات مضاف ليها سداد أقساط الديون، ومدفوعات حيازة الأصول الأجنبية)، تبلغ أقساط الديون حوالي 1.61 تريليون جنيه، أي أن إجمالي أعباء الديون بالإضافة إلى أقساط الديون تبلغ حوالي 3.44 تريليون جنيه، وهو ما يمثل نسبة 62.1% تقريباً من إجمالي استخدامات الموازنة العامة، وهو ما يعني أن هناك حاجة للمزيد من الاقتراض، وهذا بالضبط ما يذهب إليه مشروع الموازنة العامة، حيث تشمل موارد الموازنة على قروض بقيمة 1.243 مليار جنيه، مقابل 824.1 مليار جنيه في موازنة العام الجاري، وبزيادة بنسبة 50.8% أي أن أعباء الديون في الموازنات المقبلة لن تنخفض، بل سوف ترتفع.

لم يطرأ على الموازنة العامة للعام المالي المقبل أي تحسن، يتناسب مع التدفقات التي أعلنت عنها الدولة واعتبرتها قصة نجاح للسياسات الاقتصادية التي طبقتها، لا تزال الديون تستهلك الجانب الأكبر من الإنفاق، وما زال الإنفاق على البنود ذات البعد الاجتماعي يتراجع، ولازالت القروض تتزايد لتلقي بأعباء جديدة على الموازنات المقبلة. والحقيقة التي يصعب تجاهلها أن التدفقات النقدية التي حصلت عليها الحكومة المصرية لم تهدف أصلاً لا إلى تخفيف أعباء الديون ولا تحسين أداء الموازنة العامة، بل على العكس. بالنظر جيداً إلى تلك التدفقات يمكن اكتشاف دورها في الأزمة.

فالاستثمار الضخم في مشروع رأس الحكمة الذي جلب 29 مليار دولار فضلاً عن التنازل عن وديعة بقيمة 6 مليار دولار، كان مشروطاً منذ البداية، وككل الاستثمارات الأجنبية، بتحرير سعر الصرف، كذلك قرض صندوق النقد الدولي كان مشروطاً بالشرط نفسه فضلاً عن خفض الإنفاق على الدعم وتشديد السياسة النقدية.

أدّى تحرير سعر الصرف بشكل فوري إلى تراجع قيمة الجنيه من أقل 31 جنيه للدولار إلى حوالي 47 جنيه للدولار، وإلى قفزة في أعباء الدين الخارجي، وتشديد السياسة النقدية برفع سعر الفائدة 6% دفعة واحدة بعد سلسلة من الزيادات السابقة، كما أدى إلى زيادة كبيرة في أعباء الدين المحلي للحكومة، وتراكم أعباء الدين الخارجي والمحلي اللذين يضغطان على الإنفاق الاجتماعي للموازنة، ويرفعان العجز ويدفعان إلى المزيد من الاقتراض لسد الفجوة، في دوامة لا تنتهي. هكذا لم تحمل التدفقات الضخمة التي ضخّها صندوق النقد والمستثمرون في شرايين الاقتصاد المصري من الدواء بقدر ما حملت من السم.