Preview التعليم في لبنان

تمرين عملي عمَّا يعنيه غياب الدولة

ارتفعت كلفة التعليم في لبنان بنسبة 2,916% بين عامي 2019 و2023 وفق «إدارة الإحصاء المركزي». وفي حين كانت وتيرة الارتفاع بطيئة في السنتين الأوليتين من الأزمة، بالمقارنة مع حجم الانهيار العام، إلا أنها سجّلت ارتفاعات أعلى في السنوات اللاحقة، وصلت إلى 191% في العام 2022 بعد تحرير أسعار العديد من السلع ولا سيما المحروقات، وصولاً إلى 595.2% في هذا العام بعد رفع رسوم التسجيل في التعليم الرسمي ورفع الأقساط ودولرتها في التعليم الخاص، وفي جميع المراحل الدراسية من الابتدائي إلى الجامعي. 

التعليم في لبنان

لا شك أن كلفة التعليم تأثّرت بارتفاع العديد من السلع والخدمات ودولرتها، لكن التأثير الأكبر الطارئ عليها منبعه التعليم الخاص المدرسي والجامعي، بحيث تشكّل كلفته الثقل الأكبر في المؤشّر (87%)، في مقابل 13% لكلفة لتعليم الرسمي، وأسعار الكتب والقرطاسية، والنفقات المدرسية الأخرى مثل النقل والأكل وغيرها. 

المقلق في قراءة هذه الأرقام، بحسب الاقتصادي رضا حمدان، «ليس مدى ارتفاع كلفة التعليم بنحو 29 ضعفاً منذ العام 2019، بل أن هذا الارتفاع لا يزال أدنى من الارتفاع المُسجّل في مؤشر الأسعار العام، الذي ارتفع بنحو 52 ضعفاً في خلال الفترة نفسها»، وهذا يعني بحسب حمدان أن «كلفة التعليم في السنة الدراسية المقبلة (2024-2025)، سوف ترتفع بعد لتلحق الارتفاع في مؤشر الأسعار العام، ضمن مساعي المؤسّسات التعليمية لإجراء تصحيحات ذاتية على ميزانياتها، بما يضمن محافظتها على أرباحها وزيادتها، في مقابل توزيع الخسائر على الأهالي من خلال الأقساط المرتفعة والأساتذة من خلال الأجور المتدنية».

يحدث كلّ ذلك في ظل تقاعد الدولة وانكفائها عن أي دور يتصدّى لأزمة التعليم التي تهدّد مستقبل الأجيال الحاضرة والمقبلة. تفيد إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء أن 71% من التلاميذ والطلّاب في لبنان يتابعون تحصيلهم العلمي في التعليم الخاص، ما يعني أن غياب الدولة عن تأمين تعليم رسمي جيّد يؤدّي إلى إخضاعهم لهاجس الربح الذي يحكم القطاع الخاص، فيما مستقبل الباقين الذين لا سبيل لهم إلّا التعليم الرسمي سيكون فقيراً بالفرص بسبب تردّي التعليم الرسمي وانهياره.

التصحيح الذاتي في ظل اضمحلال الدولة

يبدو واضحاً أنه تحت ذريعة التكيّف مع الانهيار النقدي ومجاراة التضخّم، «يخضع قطاع التعليم الخاص لعملية تصحيح ذاتي، من جهة تطال الإيرادات وفقاً للتركيبة الطبقية الغالبة لكل مؤسّسة تعليمية، ومن جهة أخرى تنقض على الأجور من أجل العودة إلى هوامش الأرباح الني كانت تحقَّق سابقاً» على ما يقول الاقتصادي كمال حمدان. 

يقدّر متوسّط الأقساط في المدارس الخاصة حالياً بنحو 4 آلاف دولار، بالمقارنة مع متوسّط بقيمة 4,500 دولار قبل الأزمة، وبالنظر إلى ارتفاع عدد التلاميذ المسجّلين في المدارس الخاصة فإن إيراداتها باتت قريبة من إيراداتها قبل الأزمة

لا توجد أرقام واضحة لمعدّلات الأقساط والأجور في الجامعات والمعاهد المهنية الخاصة التي لا تخضع لأي رقابة رسمية من الدولة وتغيب عنها القوى النقابية والطالبية الفاعلة، وتنحصر الأرقام المُتاحة بالمدارس الخاصّة التي تعطي مؤشراً عن المنحى العام المتبع في هذه المؤسّسات.

تقول رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة، لمى الطويل، إن «الأقساط الدراسية باتت تقسم إلى جزئين، قسم يتم تقاضيه بالليرة اللبنانية ويدرج ضمن الميزانية المدرسية وقسم بالدولار الأميركي يوضع في صندوق لا يعرف كيف يتم توزيعه. وفي العموم ارتفعت الأقساط ما بين 44 إلى 53 ضعفاً بحسب كلّ مدرسة وتصنيفها: يتراوح القسط بين 80 مليون في حدّه الأدنى في المدارس المنخفضة الكلفة بالمقارنة مع 1,8 مليون ليرة قبل الأزمة، وصولاً إلى 790 مليون ليرة بحدّه الأقصى في المدارس المصنّفة «راقية» بالمقارنة مع 15 مليون ليرة قبل الأزمة. علماً أن هذه المبالغ لا تشمل تكاليف النقل المدرسي وفتح الملف ونفقات أخرى لا تدخل في الميزانية. وبالتالي عند تقييم هذه الأقساط بالدولار، يتبيّن أن أقساط المدارس الخاصة اقتربت من مستويات ما قبل الأزمة، وفي بعض الحالات تجاوزتها». 

يقدّر متوسّط الأقساط في المدارس الخاصة حالياً بنحو 4 آلاف دولار، بالمقارنة مع متوسّط بقيمة 4,500 دولار قبل الأزمة، وبالنظر إلى ارتفاع عدد التلاميذ المسجّلين في المدارس الخاصة من نحو 558 ألف تلميذ في العام الدراسي 2019-2020 إلى 611 ألف تلميذ في 2022-2023، فإن الإيرادات التي حصّلتها المدارس الخاصة في العام الدراسي 2023-2024 باتت قريبة جدّاً من إيراداتها في العام الدراسي 2019-2020.

أمّا لناحية النفقات، فتنصّ المادة الثانية من القانون 515/96 الذي ينظّم الموازنة المدرسية ويضع أصول تحديد الأقساط في المدارس الخاصة على أن لا تقل حصّة رواتب وأجور ومخصّصات الأساتذة عن 65% من مجمل الميزانية، في مقابل 35% للمصاريف التشغيلية، لكن  بحسب الباحث نعمة نعمة «لا تتجاوز كتلة الأجور بما فيها بدلات النقل والمساعدات الاجتماعية نسبة 10% إلى 30% من مجمل الموازنات الدراسية وفقاً لتصنيف كلّ مدرسة».

في الواقع، تراوحت أجور الأساتذة في السنتين السابقتين بين 50 و150 دولاراً، وفق نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض، لكن «جهود الحركة النقابية أفضت إلى إرساء معادلة جديدة في احتساب الرواتب، تقضي بحصول الأستاذ على أساس راتبه المسجّل بالليرة اللبنانية، والذي يتراوح بين 1,5 مليون ليرة و4 ملايين، بالإضافة إلى 30% منه بالدولار وهو ما يشكّل ما بين 350 و950 دولار، مضافاً إليها بدلات النقل والمنافع الاجتماعية الأخرى».

ما يعني عملياً أن متوسّط راتب أساتذة التعليم الخاص بالدولار انخفض من 1,850 دولاراً قبل الأزمة إلى 650 دولاراً الآن، ومع تراجع عدد الأساتذة بسبب تدهور الرواتب، باتت كتلة الأجور تقدّر بنحو 30,5 مليون دولار بالمقارنة مع 94,7 مليون دولار قبل الأزمة. 

الخسائر للأساتذة وأهالي الطلّاب والأرباح للمؤسّسات التعليمية 

من الواضح أن هذا التصحيح في ميزانيات المدارس يتمّ على حساب الأساتذة والأهالي على حدّ سواء.

يحتاج ربّ الأسرة الذي يعمل لقاء أجر يعادل متوسّط الأجور إلى راتب 6 أشهر لدفع أقساط تعليم ولد واحد من أبنائه في مدرسة خاصة متدنية الكلفة، أو راتب سنتين و7 أشهر لدفع أقساط التعليم في مدرسة متوسطة.

لطالما شكّل إنفاق الأسر على التعليم قبل الأزمة «ما لا يقلّ عن 9% من الناتج المحلّي الإجمالي بالمقارنة مع 0.4%  في فرنسا و2.2% في الولايات المتّحدة».1  وهو ما جعل كلفة التعليم في لبنان من بين الأغلى في العالم، ومع ذلك كانت الأسر تتحمّله باعتباره تأشيرة ارتقائها الاجتماعي وجواز عبور إلى أسواق العمل الخارجية. في ظل الأزمة الراهنة وتراجع الناتج المحلّي الإجمالي وتآكل الأجور بالتضخّم، يُعدّ رفع أقساط التعليم الخاص، بمثابة أثقالٍ مضاعفة تُلقى على عاتق الأسر في ظل عدم وجود خيارات بديلة نتيجة تردّي التعليم الرسمي وتراجع الالتحاق به. 

تكفي الإشارة إلى أن متوسّط الأجور المصرّح عنها للضمان الاجتماعي في الربع الأول من العام 2023 بلغ نحو 14 مليون ليرة، بارتفاع 7 أضعاف فقط عمّا كان عليه في العام 2019، وبالتالي تشكّل أقساط المدارس الخاصة المنخفضة الكلفة والمتوسّطة ما بين 6 إلى 31 ضعف متوسّط الأجر الشهري. بمعنى آخر يحتاج ربّ الأسرة الذي يعمل لقاء أجر يعادل متوسّط الأجور إلى راتب 6 أشهر لدفع أقساط تعليم ولد واحد من أبنائه في مدرسة خاصة متدنية الكلفة، أو راتب سنتين و7 أشهر لدفع أقساط التعليم في مدرسة متوسطة.

في المقابل، ارتفعت أجور الأساتذة بنحو 21 ضعفاً ولكنها لم تلحق التضخّم العام الذي ارتفع 52 ضعفاً، وباتت قيمتها بالدولار تساوي ثلث ما كانت عليه قبل الأزمة، وهذا ما يفسّر انخفاض عدد الأساتذة بنحو 10,4% في مجمل القطاع التعليمي، و14.9% في التعليم الخاص بين عامي 2019 و2023 بحسب بيانات المركز التربوي.

  • 1شربل نحاس، اقتصاد ودولة للبنان، دار رياض الريّس للكتب والنشر، 2020.