معاينة egypt

الموازنة العامّة المصرية: الجميع في خدمة الدائنين

في ظل التزام الحكومة المصرية ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي، تم اعتماد مشروع موازنة العام المالي 2025-2026، الذي يبدأ في تموز/يوليو المقبل، بإجمالي مصروفات قدرها 4.6 تريليون جنيه (كل دولار يساوي 50.16 جنيه)، وهو ما يشكّل زيادة بنحو 18% بالمقارنة مع الموازنة السابقة. وتستهدف الموازنة تحقيق إيرادات تبلغ 3.1 تريليون جنيه، ما يُسفر عن عجز يقدّر بنحو 1.5 تريليون جنيه، أي ما يعادل حوالي 30 مليار دولار.

تعكس هذه الزيادات الجزئية في الإنفاق ارتفاع معدل التضخم السنوي الذي بلغ 12.8% في شباط/فبراير الماضي، على الرغم من محاولات خفضه من ذروة 38% في أيلول/ سبتمبر 2023، وذلك في إطار برنامج قرض بقيمة 8 مليارات دولار وقعته مصر مع صندوق النقد الدولي في آذار/ مارس 2024.

تستهدف الموازنة الجديدة تحقيق فائض أولي قدره 807 مليار جنيه، أي ما يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي، بزيادة عن الفائض الأولي البالغ 3.5% المستهدف في موازنة 2024-2025. وقد منح صندوق النقد الدولي الحكومة إعفاءً في المراجعة الرابعة بعد أن جاء الفائض أقل بنسبة 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي عن التزام مصر السابق.​

موازنة مصر لعام 2025-2026 ممن تأخد؟ ولمن تعطي؟

تراجع فعلي في الدعم المُقدّم للمواطنين

على الرغم من الإعلان عن زيادة مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية إلى 742.5 مليار جنيه، إلا أنها استمرار لمنحنى تنازلي بدأ منذ العام 2014 حين بلغت 20.2% من إجمالي الاستخدامات، وانخفضت إلى 11% حالياً، مقارنة بنحو 11.5% في العام السابق. كذلك، لا تمثل هذه الزيادة فرقاً حقيقياً في حياة المستفيدين، إذ أن غالبية المبلغ موجّهة لصناديق المعاشات ولا يصنف دعماً فعلياً للفئات الأضعف.

عند النظر إلى تطور قيمة الدعم على مدار أكثر من عقد، يتضح الاتجاه التراجعي الحاد في الإنفاق الاجتماعي في مصر. فإذا احتسبنا قيمة الدعم بالدولار، نجد أنه قد تقلّص من 32.6 مليار دولار في العام 2014 إلى 14.3 مليار دولار في العام 2025. تكشف هذه النسبة حقيقة التناقص المتخفي خلف الأرقام المعلن عنها، وهو ما يظهر على سبيل المثال في دعم الوقود الذي انخفض بنسبة 51% مقارنة بالعام الماضي.

وكانت الحكومة قد أعلنت عزمها رفع الدعم عن المواد البترولية بالكامل بحلول نهاية العام 2025. وجاءت الخطوة ضمن حزمة إجراءات فرضها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي يشدّد على ضرورة إعادة هيكلة الدعم لضمان توجيه الإنفاق العام بشكل أكثر كفاءة. ووفقاً لما صرّح به رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، لا يزال التحرير التدريجي لأسعار الوقود مستمراً في محاولة لاحتواء عجز الموازنة المتفاقم.

ومع الأهمية الحيوية للسلع التموينية في حماية حياة ملايين المصريين من الانزلاق إلى الفقر المدقع، تكشف بيانات الموازنة عن تراجع واضح في مخصّصات هذا الدعم، إذ خُصص له نحو 160 مليار جنيه (ما يعادل 3.2 مليار دولار) في موازنة 2025-2026، مقارنة بـ 5 مليارات دولار في العام 2014. 

الإنفاق على الصحة والتعليم 

وفقاً لما ورد في البيان المالي للموازنة الجديدة، تدّعي الحكومة تخصيص ما نسبته حوالي 10.7% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاعات التعليم والصحة والبحث العلمي مجتمعة، بواقع 684.7 مليار جنيه للتعليم قبل الجامعي، و358.2 مليار جنيه للتعليم الجامعي والعالي، بالإضافة إلى 173 مليار جنيه للبحث العلمي، و617.9 مليار جنيه لقطاع الصحة (3.6%). لكن هذه النسب لا تُعبر عن الإنفاق الفعلي وفق التصنيف الوظيفي للموازنة، بل تعتمد على احتساب يشمل بنوداً إضافية لا ترتبط مباشرة بجوهر الإنفاق على الخدمات، مثل فوائد الديون أو إنفاق مؤسسات غير تعليمية كالأزهر. بالتالي، تبدو هذه الأرقام أقرب لمحاولة تجميل الصورة المالية منها إلى التزام حقيقي بروح النص الدستوري، الذي ينص على حد أدنى محدد للصحة والتعليم، وليس على جمع نفقات متعددة وتقديمها ككتلة واحدة لتجاوز عتبة الالتزام النظري.

في التقسيم الوظيفي لمصروفات الموازنة، وهو الأداة الأكثر دقة لقياس الإنفاق الحقيقي، تظهر مخصصات وزارة التربية والتعليم عند حدود 315 مليار جنيه فقط، بما يعادل 1.8% من الناتج المحلي، وهو أقل بكثير من النسبة الدستورية المطلوبة. بالمثل، يظهر الرقم الحقيقي لمخصصات الصحة في التقسيم الوظيفي، فيبلغ 246 مليار جنيه فقط، بنسبة 1.2% من الناتج المحلي.

ينص الدستور المصري الساري منذ العام 2014، بوضوح في مواده «18، 19، 21»، على إلزام الحكومة بتخصيص حد أدنى من الناتج القومي الإجمالي لقطاعات الصحة والتعليم: 3% للصحة، 4% للتعليم قبل الجامعي، و2% لكل من التعليم الجامعي والبحث العلمي.

في تقييمه لأداء الاقتصاد المصري، وجه تقرير الأمم المتحدة حول «الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه حتى العام 2025» انتقاداً لأولويات الحكومة المصرية في الإنفاق العام، مشيراً إلى أن مخصصات خدمة الدين العام تجاوزت الإنفاق على التعليم والصحة مجتمعين، كما حذر من أن فوائد الديون باتت تستنزف أكثر من 70% من عائدات الدولة.

منذ العام المالي 2016-2017، تبنت وزارة المالية في مصر نهجاً مثيراً للجدل لتضخيم مخصصات التعليم والصحة على الورق، بما يسمح ظاهرياً بتحقيق الاستحقاقات الدستورية، من دون أن يواكب ذلك تحسن حقيقي في الخدمات أو البنية التحتية.

أبرز هذه الحيل يتمثل في تحميل قطاعي التعليم والصحة جزءاً من فوائد الديون العامة، عبر توزيع لتلك الفوائد يتناسب مع نسبة الإنفاق على كل قطاع على الرغم من أن تلك الديون لم تُوجه إلى القطاع، وهو ما يؤدي إلى تضخيم غير حقيقي للأرقام.

لا تتوقف الحكومة عند هذا الحد، بل تضم أيضاً موازنات لجهات لا تنتمي وظيفياً  للقطاع، أو اعتبارات تتعلق بمشروعات مثل «مياه الشرب والصرف الصحي» ضمن قطاع الصحة، في محاولة لرفع الأرقام المُعلنة شكلاً.

الأجور

انخفاض لافت في الوزن النسبي لبند الأجور وتعويضات العاملين داخل هيكل الإنفاق العام كشفت عنه المؤشرات التفصيلية لمشروع الموازنة، حيث تراجع هذا البند من 20.2% من إجمالي استخدامات الموازنة في 2014-2015 إلى أقل من 11% في الموازنة المرتقبة. 

هذا التراجع يأتي في ظل زيادة اسمية كبيرة في إجمالي مخصصات الأجور، التي ارتفعت من 198.4 مليار جنيه في 2014 إلى 679.1 مليار جنيه في 2025، بنسبة نمو تتجاوز 240%. كما ارتفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالحكومة من 1200 جنيه (ما يعادل 170 دولاراً وقتها) إلى 7000 جنيه (ما يعادل 135 دولاراً حالياً) اعتباراً من تموز/ يوليو المقبل. لكن هذا التحسن الشكلي لا يخفي حقيقة التآكل الفعلي في القوة الشرائية، مع التضخم الحاد وتراجع قيمة العملة.

في الوقت ذاته، تراجع أعداد العاملين في الجهاز الإداري للدولة، كجزء من توجه استراتيجي معلن. فقد انخفض عدد العاملين بالحكومة من 5.75 مليون موظف في العام 2014 إلى 4.43 مليون موظف بحلول 2023-2024، كما تقلّص عدد العاملين في القطاع العام وقطاع الأعمال العام من 879 ألفاً إلى 705 آلاف خلال الفترة نفسها، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وتنفذ الحكومة هذه السياسة من خلال أدوات واضحة، تشمل التوسع في برامج المعاش المبكر، وفرض قيود صارمة على التعيينات الجديدة، إلى جانب عمليات إعادة هيكلة واسعة للوزارات والهيئات، في مسعى لخفض العدد الإجمالي ليصبح هناك موظف واحد لكل 40 مواطناً بحلول عام 2030، وفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة (رؤية مصر 2030).

المواطن يسدّد فاتورة الدين

تواصل أعباء الديون الضغط على الموازنة العامة، حيث تتزايد نسبتها عاماً بعد عام من دون تسجيل أي تحسن جوهري في المؤشرات الاقتصادية أو مستويات المعيشة. فقد ارتفعت نسبة فوائد الدين من إجمالي الإنفاق الحكومي من 30% في العام 2015 إلى 47.4% في العام المالي الماضي، وصولاً إلى 49.9% في مشروع موازنة 2025-2026 بقيمة 2,298 مليار جنيه.

واذا احتسبنا إجمالي خدمة الدين، أي الفوائد وأقساط الدين معاً، فتصل القيمة إلى 4.38 تريليون جنيه من إجمالي استخدامات مقدّرة بـ 6.76 تريليون جنيه، ما يعني أن خدمة الدين تستهلك نحو 64.8% من إجمالي الموازنة. هذه النسبة كانت قد بلغت 62% في موازنة 2024-2025، و54% فقط في العام الذي سبقها.

زيادات ضريبية

في مشروع الموازنة العامة الجديدة، تستهدف الحكومة تحصيل 2.6 تريليون جنيه كإيرادات ضريبية من إجمالي 3.1 تريليون جنيه من الإيرادات العامة، أي أن أكثر من 83% من إيرادات الدولة تأتي من جيوب المواطنين، مقارنة بنحو 76% في العام المالي السابق.

الأمر اللافت هنا أن الحكومة التي تعلن بلا تردد عن سعيها لخفض الدين الخارجي عبر بيع أصول الدولة، هي ذاتها التي تعتبر الإنفاق على التعليم والصحة والغذاء عبئاً على الموازنة العامة، ما يعني أن الموارد المُخصصة لتأمين الاحتياجات الأساسية للمصريين تُقتطع لتذهب كفوائد للبنوك، ومن ثم إلى كبار المودعين، الذين غالباً ما يكونون رجال أعمال مقربين من السلطة. في خلال العام الحالي، اعتمدت الحكومة بدرجة كبيرة على رفع أسعار الوقود والكهرباء لتغطية الفجوة الناتجة عن ارتفاع تكاليف خدمة الدين.

تعتزم الحكومة رفع حصيلة الضرائب على السلع والخدمات في خلال العام المالي 2025-2026 بنسبة 34.4% لتصل إلى نحو 1.103 تريليون جنيه. ويُعزى هذا الارتفاع بشكل كبير إلى زيادة متوقعة في إيرادات ضريبة القيمة المضافة على السلع المحلية والمستوردة بنسبة ضخمة تبلغ 50.2%.

وتُعبر هذه الزيادة عن التوجه الحكومي نحو تقليص الإعفاءات الضريبية الممنوحة سابقاً بموجب قانون ضريبة القيمة المضافة، إذ تخطط السلطات لإلغاء جزء كبير من الإعفاءات الـ 58 المعمول بها حالياً، استجابةً لتوصيات سابقة من صندوق النقد الدولي، الذي أشار إلى إمكانية تحقيق إيرادات إضافية تعادل 1% من الناتج المحلي خلال عام واحد فقط عبر هذه الخطوة.

ومع أن نسبة ضريبة القيمة المضافة لم تتغير رسمياً، فإن إلغاء عدد كبير من الإعفاءات المطبقة على سلع وخدمات أساسية يوسع من القاعدة الضريبية بشكل فعلي، ويضيف عبئاً مالياً على فئات أوسع. هذا التوجه يُنذر بتداعيات مباشرة على أسعار السلع والخدمات، ويُفاقم الضغوط الاقتصادية التي يعيشها المواطن، خصوصاً في ظل تآكل الدخل الحقيقي وارتفاع تكاليف المعيشة.

تمتد الزيادات الضريبية على السلع من الضروريات اليومية إلى الكماليات، لكن الضرائب لم تتوقف عند السلع، بل تشمل أيضاً الخدمات الحكومية من خلال زيادات ملحوظة في رسوم جوازات السفر وتذاكر السفر، وكذلك ضريبة الدمغة على استهلاك المياه والكهرباء والغاز والهاتف.