Preview ديون مصر الخارجية

تعاظم كلفة ديون مصر الخارجية

الخبر السيء لعام 2024 أن إجمالي ما يتوجّب على مصر سداده من فوائد وأقساط دين خارجي يتجاوز 42 مليار دولار. وبحسب تقرير الوضع الخارجي الصادر عن البنك المركزي المصري في كانون الأول/ديسمبر الماضي، فإن استحقاقات الديون المتوسطة والطويلة الأجل في النصف الأول من العام 2024 تبلغ 16.9 مليار دولار، وفي النصف الثاني من العام نفسه تبلغ 15.9 مليار دولار، بمجموع 32.8 مليار دولار، أمّا الديون قصيرة المدى فتبلغ استحقاقاتها 9.5 مليار حتى نهاية حزيران/يونيو، ليصبح مجموع مستحقات الدين الخارجي 42.3 مليار دولار في 2024، من دون احتساب مستحقات الديون قصيرة المدى في النصف الثاني من العام. 

توضح بيانات البنك المركزي المصري، ليس فقط الزيادة المطردة للدين الخارجي على مدار السنوات الماضية، وزيادة نصيب الفرد من الدين، ولكن أيضاً الارتفاع المتسارع للأعباء السنوية لهذا الدين، والتي شهدت طفرة قد تصل إلى الضعف في العام الحالي بالقياس مع العام السابق. ارتفعت نسبة أعباء الدين الخارجي إلى الصادرات أيضاً من 25.5% إلى 34.3% بين عامي 2019 و2023، فيما ارتفعت نسبتها إلى إجمالي إيرادات الدولار من 17% إلى 25.7% بين عامي 2019 و2023، أي أن أكثر من ربع إيرادات الدولار ذهبت من أجل سداد أعباء الديون في العام الماضي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.

الدين الخارجي لمصر

مصادر النقد الأجنبي

إن ارتفاع مستحقات الديون بالعملات الأجنبية يضع الاقتصاد المصري أمام تحدٍ حقيقي، ويطرح تساؤلات عن قدرة الحكومة المصرية على الوفاء بمستحقات الديون، التي تعتمد على حجم الإيرادات بالدولار وانتظام تدفّقها في شرايين الاقتصاد المصري، وهو ما يتوقّف على الكثير من العوامل والمتغيّرات التي سيشهدها العام 2024 أو بدأ يشهدها بالفعل. 

من غير المتوقع أن تظل إيرادات الدولار الأميركي على المعدل نفسه للعام الماضي، فهناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في هذه التدفقات

تعدّ تحويلات العمّال المصريين في الخارج من أهم موارد النقد الأجنبي، بالإضافة إلى الصادرات، وإيرادات السياحة، وإيرادات قناة السويس. في العام 2023، بلغت تحويلات المصريين العاملين في الخارج نحو 22.1 مليار دولار، بانخفاض كبير عن العام الذي سبقه، فيما بلغت إيرادات قناة السويس 8.8 مليار دولار، وإيرادات خدمات النقل التي تشمل إيرادات قناة السويس 14 مليار دولار، والصادرات غير البترولية نحو 25.8 مليار دولار، وبلغت إيرادات السياحة نحو 13.6 مليار دولار في تحسّن ملحوظ عن العام السابق. ليصل مجموع هذه المصادر إلى نحو 75.5 مليار دولار، ويضاف إليها 410 ملايين دولار من فائض الميزان التجاري البترولي، أي الفارق بين صادرات وواردات البترول والغاز الطبيعي، ليصبح إجمالي تدفّق الإيرادات الدولارية الرئيسية 75.9 مليار دولار، هذا في العام الماضي.

من غير المتوقع أن تظل إيرادات الدولار الأميركي على المعدل نفسه للعام الماضي، فهناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في هذه التدفقات. على سبيل المثال، تأثّرت تحويلات المصريين في الخارج بتراجع الأجور في دول المهجر وارتفاع تكاليف المعيشة فيها على ما ورد في التصريحات الرسمية، وهو ما قد يدفع إلى استمرار تراجعها. كما يبرز عامل آخر أكثر تأثيراً في تحويلات المصريين في الخارج وهو ازدواج سعر الصرف، ففي حين يقل سعر الدولار في السوق الرسمية عن 31 جنيهاً، يرتفع في السوق الموازية إلى أكثر من 65 جنيهاً، وهذا يدفع المصريين العاملين في الخارج إمّا للإحجام عن التحويل أو التحويل عبر السوق الموازية، ما أدّى بالنتيجة إلى تراجع التحويلات من 31.9 مليار دولار إلى 22.1 مليار بين عامي 2022 و2023.

أيضاً، إن إيرادات قناة السويس مُهدّدة بالتراجع على الرغم من انتعاشها في السنوات الأخيرة، بسبب اضطرابات الملاحة في البحر الأحمر في خلال الأشهر الأخيرة نتيجة نشاط حركة «أنصار الله» الداعم لفلسطين، ما أدّى إلى تراجع إيراداتها بنحو 40% وفق تصريحات رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع، وفي حال استمر الوضع على حاله، فمن غير المتوقع أن تنجو إيرادات القناة.

كذلك، نجحت إيرادات السياحة في مقاومة العوامل السيئة واقتربت بالفعل من مستهدفات الحكومة، وقد تتمكّن من المقاومة وتحقيق معدّلات أفضل في العام الجاري. أمّا إيرادات الصادرات فتسعى الحكومة لرفعها بكلّ السبل، ولكن مع الاعتماد على مدخلات إنتاج مستوردة، فإن ارتفاع الصادرات سيعني بالضرورة ارتفاع الواردات، أي أن تأثير ارتفاع الصادرات سيمحوه الاستيراد.

فجوة العملات الأجنبية

بافتراض أن إيرادات الدولار تفادت العوامل غير المواتية وقاومتها، لكن حجمها يشكّل أزمة حقيقية في مواجهة أعباء ديون تتجاوز 42 مليار دولار. لم تتجاوز قيمة إيرادات أهم موارد الدولار في العام الماضي 76 مليار دولار. في المقابل، بلغت قيمة الواردات وحدها نحو 57.4 مليار دولار، ما يعني أن المتبقي من إيرادات الدولار بعد خصم فاتورة الواردات هو 18.6 مليار دولار، وبالتالي تبرز فجوة بقيمة 23.8 مليار دولار، مع مستحقات الدين البالغة 42.3.

الفجوة بين إيرادات الدولار وفاتورة الواردات واستحقاقات الديون كبيرة، ولا تستطيع احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي المصري سدّها

هذه الفجوة بين إيرادات الدولار وفاتورة الواردات واستحقاقات الديون كبيرة، ولا تستطيع احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي المصري سدّها. بلغ إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي نحو 35.2 مليار دولار في بداية العام 2024. وفي حين أن تجاوز استحقاقات الدين الجاري لاحتياطات النقد الأجنبي في البنك المركزي يعدّ من المؤشرات الخطيرة، وتشتدّ هذه الخطورة نتيجة عدم استقرار موارد النقد الأجنبي وارتفاع فاتورة الواردات. والأسوأ في كل ذلك أن النسبة الأكبر من احتياطيات البنك المركزي عبارة عن ودائع من دول الخليج، منها نحو 15 مليار دولار ودائع طويلة ومتوسطة الأجل، و15.4 مليار دولار ودائع قصيرة الأجل، ما يعني أن 30.4 مليار دولار، أو أكثر من 86% من إجمالي احتياطي النقد الأجنبي عبارة عن ودائع، وهذا يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي.

نصل إلى الاستثمارات الأجنبية، التي تعد من موارد النقد الأجنبي الشديدة الحساسية تجاه الأوضاع الاقتصادية، وخصوصاً الاستثمارات غير المباشرة، التي كان صافي حصيلتها في العام 2023 سالباً بنحو 3.7 مليار دولار، وهو يعني أن خروج الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة كان أكثر من دخولها إلى السوق المصرية بنحو 3.7 مليار دولار، وبالتالي استنزفت من الموارد الدولارية. ولكن هناك عامل إيجابي يتمثّل بارتفاع صافي تدفّقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 10 مليار دولار في العام المالي 2022/2023، وهو يعوّض تراجع الاستثمارات غير المباشرة، ويدعم تدفّق النقد الأجنبي نسبياً، ولكنه لا يسدّ الفجوة بين إيرادات الدولار واستحقاقات الديون بالعملات الأجنبية.

الديون لتمويل الديون

يبدو أن السبيل الوحيد لسدّ الفجوة التي تخلقها استحقاقات الدين الخارجي هو المزيد من الاقتراض، لتستمر معها الدائرة المغلقة المتمثّلة بالاستدانة من أجل سدّ الديون. ولكن الجولة لا تبقى في كلّ مرة على حالها. فمع كل دورة استدانة تتزايد الأعباء، وسط مناخ مضطرب لا يضمن التدفقات الدولارية نفسها، ناهيك عن زيادتها. في الواقع، ارتفعت استحقاقات الديون الخارجية من أقل من 18.5 مليار دولار في العام 2019 إلى أكثر من 42 مليار دولار في العام 2024. ومع دورة جديدة من الاستدانة لسداد الديون، ستكون الأعباء أكبر، وفي لحظة ما لن يكون السداد ممكناً. تلك اللحظة لا تحدّدها الحسابات الاقتصادية فقط، بل تتدخّل الكثير من العوامل السياسية الإقليمية والدولية فيها، وقد يكون التدخل مفاجئاً.

يبدو أن السبيل الوحيد لسدّ الفجوة التي تخلقها استحقاقات الدين الخارجي هو المزيد من الاقتراض، لتستمر معها الدائرة المغلقة

في اللحظة الحالية تبدو جملة المؤشّرات على درجة عالية من الخطورة، ما دفع بنك «جي بي مورغان» إلى استبعاد السندات المصرية من مؤشره للسندات الحكومية للأسواق الناشئة، والذي يعد بمثابة توصية بعدم الاستثمار في السندات المصرية، كذلك خفّضت وكالة «موديز» التصنيف الائتماني لمصر ومنحتها نظرة مستقبلية سالبة، وهو ما ينعكس على جاذبية السوق المصرية للاستثمارات، ويرفع كلفة الاستدانة.

أصبحت الأزمة الاقتصادية ملازمة لكل حديث عن الشأن المصري. تفاقمت الأزمة على نحو غير مسبوق، وانعكست في مظاهر الحياة كافة، سواء بوصول معدّل التضخم إلى مستوى قياسي بلغت 34% في العام 2023 بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أو ندرة النقد الأجنبي التي دفعت سعر الدولار في السوق الموازية إلى أكثر من ضعف سعره الرسمي، أو تسجيل مستويات دين خارجي تجاوزت 165 مليار دولار بما يشكّل 40.3% من الناتج المحلي الإجمالي. مع ذلك، لا يبدو أن الأزمة بلغت ذروتها بعد، ولا يزال العام 2024 يحمل أنباءً سيئة للاقتصاد المصري.

يعد هذا العام ثقيلاً بالفعل، وقد بدأت آثاره تظهر من الآن، بقرارات حكومية قضت برفع أسعار الكهرباء والاتصالات، في إشارة واضحة إلى الأعباء التي ستلقي بها أقساط الديون الضخمة التي تنتظر السداد في خلال العام، وبالعوامل غير المواتية التي تهاجم اقتصاداً يعاني بالأساس من الهشاشة. وبينما ترى قواعد الاقتصاد أن أزمة الديون توشك على الانفجار، ترى قواعد السياسة أن استقرار مصر ضروري للمنطقة والعالم، والعام 2024 هو الذي سيشهد أي القواعد ستحسم الموقف.