عمّال مصر تحت خطّ الفقر
تخلص دراسة صادرة عن «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، في أيلول/سبتمبر الماضي، بعنوان «نحو أجر منصف للجميع في مصر: خيارات تعميم الحد الأدنى للأجور» إلى أن ثمّة «صورة كئيبة» تغلب على سوق العمل في مصر. لكن قبل التطرّق إلى مضمون الدراسة يجدر النظر إلى خلفية علاقة الحركة العمّالية في مصر بالحدّ الأدنى للأجور.
«عايزين نوصل خطّ الفقر»
في 17 شباط/فبراير 2008، تظاهر أكثر من عشرة آلاف عامل من شركة «مصر للغزل والنسيج» في مدينة المحلة بدلتا مصر، من أجل رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1,200 جنيه شهرياً للعامل. ويجب التوقّف هنا عند أكثر من نقطة ارتبطت بهذا الاحتجاج.
ارتفعت نسبة الفقراء بين العاملين في الحكومة من 13% في عامي 2010-2011، إلى 19% في عامي 2017-2018، وارتفعت النسبة نفسها بين عمّال القطاع الخاص في المنشآت من 22% إلى 28.5% في الفترة نفسها، ومن 33% إلى 43.1% بين العاملين خارج المنشآت
أولى تلك النقاط، أن هذا الاحتجاج، الذي أعقب إضرابين لعمّال غزل المحلة، في عامي 2006 و2007، يعدّ الأول من نوعه الذي ينظّمه العمّال من أجل مطلب قومي للعمّال وليس مطلباً متعلّقاً بعمّال الشركة فحسب. ارتبطت احتجاجات العمّال عادة بمطالب تتعلّق بأوضاع العمّال في شركة بعينها، وانصبّت على تحسين الأجر المتغيّر مثل بدل طبيعة العمل والحوافز والمكافآت والأرباح، ولم يكن رفع مطلب مراجعة الأجر الأساسي مُعتاداً ولا مراجعة الحدّ الأدنى للأجور، ولا أن يطالب عمّال إحدى المنشآت بما يصبّ في مصلحة العمّال على مستوى الجمهورية ككلّ.
تبرز نقطة ثانية وهي أن المظاهرة العمّالية التي نُظِّمت في الأول من شباط/فبراير 2008، وسبقت اجتماعاً للمجلس القومي للأجور كان مُقرّراً في اليوم التالي، جاءت بعد خمس سنوات من صدور قانون العمل في العام 2003، والذي نصّ على تشكيل مجلس قومي للأجور لمراجعة الحدّ الأدنى للأجور بشكل دوري وضمان مواكبته لارتفاع الأسعار. والواضح من احتجاجات العمّال أن القانون لم يحدث فارقاً حقيقياً في قضية الحدّ الأدنى للأجور على مدار السنوات الخمس التالية.
ثمّة نقطة أخرى تبدو هامّة، خصوصاً في علاقتها بدراسة «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، وهي قيمة الحدّ الأدنى للأجور التي طالب بها العمّال وتبلغ 1200 جنيه. وقد رفع العمّال في تلك الفترة شعار «عايزين نوصل خطّ الفقر» تعبيراً عن ضرورة أن يضمن الحدّ الأدنى للأجور ألا يسقط العامل وأسرته تحت خطّ الفقر. ووفق خطّ الفقر المُقدّر من البنك الدولي بدولارين في اليوم للفرد في حينها، وباحتساب معدّل الإعالة، اعتبر العمّال أن الحدّ الأدنى للأجور الذي يبقي العامل وأسرته على حافة الفقر وليس تحته هو 1200 جنيه شهرياً وفقاً لسعر الصرف وقتها.
5,557 جنيه خط الفقر
تكشف دراسة «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، على نحو قاسي، أن هذه النقطة الأخيرة تمثّل العمّال الأكثر كآبة في مصر، ولا سيّما فيما يتعلّق بالحدّ الأدنى للأجور.
شعار «عايزين نوصل خط الفقر» الذي رفعه عمّال المحلة في العام 2008، قبل 15 عاماً من صدور الدراسة الحالية، بدا بسيطاً للغاية ومنطقياً. فأبسط حقوق العامل أن يوفِّر له العمل احتياجاته الأساسية، بل إن أبسط مبادئ السوق الرأسمالية أن تكون عمليتيْ الإنتاج والتوزيع قادرتين على إعادة إنتاج قوّة العمل، حتى يتمكّن العامل من الاستمرار في العمل، وهذا ما لا يمكن أن يحدث إلّا عبر أجور تكفي الاحتياجات الأساسية.
وإن كان هذا ما طالب به العمّال في العام 2008، فإن أوضاع الأجور لاحقاً اتجهت نحو الأسوأ. بحسب الدراسة ارتفعت نسبة الفقراء بين العاملين في الحكومة من 13% في عامي 2010-2011، إلى 19% في عامي 2017-2018، وارتفعت نسبة الفقراء بين عمّال القطاع الخاص في المنشآت من 22% إلى 28.5% في الفترة نفسها، بينما ارتفعت نسبة الفقراء بين العاملين في القطاع الخاص خارج المنشآت من 33% إلى 43.1%.
66% على الأقل من العاملين في القطاع الخاص يتقاضون أقل من 4 آلاف جنيه شهرياً وبالتالي سيكونون وأسرهم تحت خطّ الفقر
اللافت في تلك الفترة هو اتجاه الحكومة إلى مراجعة الحدّ الأدنى للأجور مرّات عدة تحت ضغط المطالبات الاجتماعية وأيضاً تحت ضغط موجات التضخّم المتتالية. وأجريت آخر مراجعة قبل أسابيع بعد إعلان رئيس الجمهورية عبد الفتّاح السيسي عن رفع الحدّ الأدنى للأجور للعاملين في الحكومة من 3,700 جنيه إلى 4 ألاف جنيه، من دون أن يشمل القرار العاملين في القطاع الخاص الذين يشكَّلون غالبية من العاملين بأجر في سوق العمل، فيما يشكّل العاملون في الحكومة 20% من مجمل العالمين بأجر وفق ما تورده الدراسة. أمّا بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص فقد استقرّ الحدّ الأدنى للأجور عند 3 آلاف جنيه شهرياً، علماً أن تطبيقه فعلياً يواجه مقاومة شديدة من رجال الأعمال، الذين فتح لهم القانون أبواب الالتفاف عليه عبر التظلّمات والشكاوى والاستثناءات.
لا تتوقّف حسابات الدراسة عند ذلك. بعد قرارات زيادة الحدّ الأدنى للأجور الأخيرة، وما سبقها وتلاها من معدّلات تضخّم، تخلص الدراسة إلى أن خطّ الفقر للأسرة المكوّنة من أربعة أفراد يساوي 5,557 جنيه شهرياً، أي أن العامل لدى الحكومة، الذي يعيل أسرة ويتقاضى الحدّ الأدنى للأجور البالغ 4 آلاف جنيه شهرياً، سيكون هو وأسرته تحت خطّ الفقر. أمّا بالنسبة لخطّ الفقر المُدقع فكان وفقاً لحسابات الدراسة 3,566 جنيه، وهو ما يعني أن العامل في القطاع الخاص الذي يتقاضى الحدّ الأدنى للأجور البالغ 3 آلاف جنيه شهرياً ويعيل أسرة من أربعة أفراد سيكون هو وأسرته تحت خطّ الفقر المدقع وفقاً لمؤشّرات التضخّم التراكمية حتى آب/أغسطس الماضي كما حسبته الدراسة.
ينتج عن هذه الحسابات التي أوردتها الدراسة أن 66% على الأقل من العاملين في القطاع الخاص يتقاضون أقل من 4 آلاف جنيه شهرياً وبالتالي سيكونون وأسرهم تحت خطّ الفقر، كما أشارت الدراسة إلى أن النساء العاملات في القطاع الخاص يتقاضين أقل من 4 آلاف جنيه شهرياً، وهذا ما يعني أن النسبة الأكبر من العاملين في القطاع الخاص، أي الغالبية العظمى من العمّال في مصر يقعون وأسرهم تحت خطّ الفقر.
تكمن المفارقة هنا أن الأقل استفادة من الحدّ الأدنى للأجور، هم العمّال الذين يخضعون لقانون العمل 12 لسنة 2003، أي عمّال القطاع الخاص وعمّال شركات قطاع الأعمال، وهي الشركات المملوكة للحكومة ممثّلة في وزارة قطاع الأعمال ويخضع عمّالها لقانون القطاع الخاص. افتتح هؤلاء العمّال احتجاجات المطالبة برفع الحدّ الأدنى للأجور تحت شعار «عايزين نوصل خطّ الفقر» في المحلة في شباط/فبراير 2008، والتي خلصت إلى صدور حكم عن محكمة مجلس الدولة في العام 2010 لصالح عمّال شركات قطاع الأعمال يلزم الحكومة بتفعيل مواد الحدّ الأدنى للأجور في قانون العمل.
الصورة الكئيبة
بقدر كآبة الصورة التي ترسمها دراسة «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» عن الأجور في مصر، خصوصاً في علاقتها بالحدّ الأدنى للأجور، تأتي الصورة واضحة، وأهم ما يميّزها هي قدرتها على تحديث الأرقام بإضافة المؤشّرات الحديثة للبيانات السابقة، ليس في العلاقة بين مستويات الأجور ومستويات الفقر وعدم قدرة الأجور على تلبية الحاجات الأساسية فحسب، ولكن أيضاً تراجع الأجور الحقيقية على الرغم من الزيادات النقدية، إذ ترصد الدراسة تراجع الأجور الحقيقية بنسبة 40% في السنوات الثلاث التالية على قرار تحرير سعر الصرف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016.
تراجع الأجور الحقيقية على الرغم من الزيادات النقدية بنسبة 40% في السنوات الثلاث التالية على قرار تحرير سعر الصرف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016
بالإضافة إلى الصورة القاتمة التي تعكسها الدراسة عن أوضاع العاملين بأجر في مصر، والتي يشعر بها العمّال فعلاً ويعبّرون عنها في احتجاجاتهم، تقدّم الدراسة إحصائيات دقيقة وحسابات محكمة تحدِّث بها الأرقام المتقادمة. ومن المعطيات المهمة التي تقدّمها الدراسة هو ما يمكن تسميته «المرشد المطلبي للحركة العمّالية». افتقرت الحركة العمّالية، عادة، نتيجة الضعف وغياب التنظيم والتماسك إلى القدرة على بناء برامج مطلبية وصياغة أهداف متوسطة وبعيدة المدى، تبعاً لما تحتاجه فعلياً ووفقاً للمعطيات الواقعية. أدّى نقص البيانات وتراجع التنظيم إلى رفع الحركة العمّالية مطالب جزئية وآنية في غالبية الاحتجاجات فيما عدا استثناءات قليلة، كما أدّى إلى افتقاد المفاوض العمّالي لقاعدة بيانات متينة تمكّنه من بناء مطالب متماسكة.
تقدّم دراسة المبادرة مادة غنية للحركة العمّالية والنقابية والمفاوضين منها من أجل صياغة مطالب مباشرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وأيضاً لتدعيم القدرة على إقناع الأطراف المختلفة، وأولهم العمّال أنفسهم، بأحقية العمّال في تحسين أجورهم ولكن بواقعية تطبيق تلك الحقوق. وهذه الدراسة التي تبرز الأوضاع البائسة للعمّال، تشير أيضاً إلى أن نصيب عمّال القطاع الخاص من القيمة المضافة لا يتجاوز 20%، فيما يحصل أصحاب الأعمال على 80% علاوة على استردادهم كل ما دفعوه في العملية الإنتاجية، بما فيه قيمة استئجار مكان العمل، أي أن التدنّي الشديد في أجور العمّال وتدهور أوضاعهم ليس نتاج ضعف الإنتاج وإنما غياب العدالة في توزيع ثماره.
وعلى الرغم من أن الحركة العمّالية والنقابية في مصر ليست في كامل لياقتها، إلّا أن مجرّد وجود هذا النوع من الدراسات بما تتضمّنه من دقة علمية وموضوعية في استخلاص النتائج، يعدّ في ذاته سدّاً لفجوة هائلة عانت منها الحركة العمّالية طويلاً، والأكيد أن توفير هذا النوع من المعرفة سيكون له أثر كبير عندما تكون الحركة العمّالية مستعدة للاستفادة منه.