انحيازات الموازنة العامّة المصريّة
توزيع العبء على الفقراء
- تبدو ملامح الانحياز واضحة في الموازنة العامّة من ناحية الإيرادات، فالحكومة تعتمد في تمويل الموازنة العامّة على فرض الضرائب على المُستهلكين. وهي ضريبة تخلو من أي عدالة، وتتحمّلها الطبقات الأفقر، وتظهر آثارها واضحة على أسعار السلع والخدمات.
- العبء الهائل الذي تشكِّله الديون على موازنة الدولة هو النتيجة المباشرة لسياسات الحكومة المُتبعة على مدار السنوات السابقة، والتي اعتمدت على التوسّع في الاستدانة للإنفاق على مشروعات ضخمة غير إنتاجية وسدّ الفجوة التمويلية.
تقدِّم الحكومة الموازنة العامّة، عادة، كمعضلة حسابيّة تحاول من خلالها التوفيق بين الإيرادات المُحتملة والنفقات، بحيث تكون قادرة على توفير الموارد لتغطية الإنفاق من دون عجز أو بعجز محدود. وعلى الرغم من الطابع المحاسبي للموازنة العامّة، وتضمّنها الكثير من المعضلات الحسابيّة، إلّا أنّ هناك فارق هام بين الموازنة العامّة وأي معضلة حسابيّة أخرى؛ فعلم الحساب يتسم بالتجريد والحياد التامّ، وبالتالي إنّ حاصل جمع أو ضرب أو قسمة أو طرح الأرقام لا يكترث بمن سيحصل على الناتج أو من سيتكلّف الفارق، بينما تعبّر أرقام الموازنة العامّة عمن سيدفع الإيرادات ومن سيستفيد من النفقات.
من أين تأتي الإيرادات؟
الجانب الأول في الموازنة العامّة هو الإيرادات ومصادرها. يوضح البيان التحليلي لمشروع الموازنة العامّة للعام المالي 2023/2024، أن إجمالي الإيرادات المتوقّعة ارتفع بنسبة 41%، وبلغ نحو 2.142 تريليون جنيه بالمقارنة مع 1.517 تريليون جنيه في العام المالي السابق 2022/2023.
كانت الضرائب المباشرة تزيد على الضرائب غير المباشرة، إلّا أن نسبة هذه الأخيرة استمرّت بالارتفاع حتّى تجاوزت الضرائب المباشرة، في تحوّل واضح لانحيازات الموازنة العامّةتشكّل الضرائب الجانب الأكبر من إيرادات الموازنة، وقد قدّرت بنحو 1.529 تريليون جنيه، وهو ما يمثّل أكثر من 71% من إجمالي الإيرادات. وفي تفصيلٍ للإيرادات الضريبية، يتبيّن أن الضرائب على السلع والخدمات تشكّل النسبة الأكبر منها - نحو 43% - وتبلغ 664 مليار جنيه، في حين تمثّل الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية نحو 594 مليار جنيه، أي أقل من 39% من إجمالي الإيرادات الضريبية.
تعبّر هذه النسب عن انحياز في تحصيل الإيرادات، فالنسبة الأكبر من الضرائب تُحصَّل من المستهلكين، وهي ما يمكن تسميتها بالضريبة العمياء، لأنها لا تميِّز بين الدخول المتفاوتة لدافعي الضرائب، والجميع يدفع الضريبة نفسها على السلع والخدمات المُستهلكة بمعزل عن دخلهم ومستوى معيشتهم. فيما تأتي ضريبة الدخل في مرتبة أدنى، في حين يُفترض أن تتسم بشيء من العدالة، لأنّها ضريبة مُتدرّجة (تصاعدية)، وبالتالي يفترض بالأعلى دخلاً أن يتحمّل العبء الضريبي الأكبر.
بطبيعة الحال، مهما كان معدّل استهلاك الشرائح الميسورة في المجتمع، تبقى الضرائب المُحصّلة من الطبقات الفقيرة أعلى مهما تراجعت معدّلات استهلاكها، لأنّ أعدادهم هي أضعاف عدد الشرائح الغنية. عدا أن استهلاكهم يستنفد كلّ دخولهم، ولذلك تمثّل الضرائب على الاستهلاك عبئاً كبيراً على أصحاب الدخل المحدود والمتدنّي، على عكس أصحاب الدخل المرتفعة.
في الواقع، تطوّرت نسبة الضرائب غير المباشرة، ومن ضمنها الضرائب على السلع والخدمات، على نحو درامي عل مدار السنوات الماضية. شكّلت الضرائب على السلع والخدمات نحو 126.5 مليار جنيه فقط في العام المالي 2013/2014، في مقابل 194.7 مليار جنيه للضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية، ما يعني أنّ الضرائب المباشرة كانت تزيد على الضرائب غير المباشرة، إلّا أن نسبة هذه الأخيرة استمرّت بالارتفاع حتّى تجاوزت الضرائب المباشرة، في تحوّل واضح لانحيازات الموازنة العامّة. ومع ذلك، تُعدُّ الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسماليّة مُنحازة أيضاً عند النظر إليها بتفصيل أكثر.
الضرائب على الدخل
يُقدّر مشروع الموازنة العامة حجم الضرائب على الدخول بنحو 594 مليار جنيه، منها نحو 130 مليار جنيه ضرائب على المرتبات، أي أنها ضرائب تحصَّل من العاملين بأجر. في المقابل، تبلغ الضرائب على أرباح الشركات نحو 370 مليار جنيه، علماً أن نحو 45% منها تأتي من مصدرين وهما الضرائب المُحصّلة من شركة قناة السويس المملوكة للدولة والتي تُقدّر بنحو 103.7 مليار جنيه، والضرائب المفروضة على هيئة البترول المملوكة للدولة أيضاً بالإضافة إلى الشريك الأجنبي وتدرُّ ضرائب بقيمة 64.5 مليار جنيه. أمّا باقي الشركات، التي تضمّ شركات القطاع الخاص بالإضافة إلى شركات عامة، فتقدّر الضرائب المفروضة عليها بنحو 202 مليار جنيه.
يتحمّل العاملون بأجر العبء الأكبر منها، بحيث يموّلون الموازنة بنحو 131 مليار جنيه، فيما تقدّر الضرائب على الدخل من النشاط التجاري والصناعي الخاص بنحو 77 مليار جنيهتعتمد الحكومة في تمويل الموازنة العامّة على فرض الضرائب على المستهلكين بشكل أساسي، وهي ضرائب تخلو من أي عدالة، وتتحمّلها الطبقات الأفقر في المجتمع، وتظهر آثارها واضحة على أسعار السلع والخدمات. وحتّى الضرائب على الدخل، التي تتضمّن درجة أعلى من العدالة، يتحمّل العاملون بأجر العبء الأكبر منها، بحيث يموّلون الموازنة بنحو 131 مليار جنيه فيما تقدّر الضرائب على الدخل من النشاط التجاري والصناعي الخاص بنحو 77 مليار جنيه. والأمر نفسه يسري على الشركات، خصوصاً أن الشركات والهيئات المملوكة للدولة تتكلّف بالقسم الأكبر من ضرائب الشركات.
وكما أشرت سابقاً، تغيّرت تركيبة الضرائب على مدار السنوات العشر الماضية، وأصبح العبء الأكبر من الإيرادات مُلقى على عاتق الطبقات الفقيرة على شكل ضرائب غير مباشرة، لصالح تخفيف الأعباء الضريبية المباشرة عن الطبقات الغنّية. أمّا الملاحظة التي لا يجب إغفالها فتتمثّل بكون الضرائب التي يتحمّلها الفقراء، سواء الضرائب غير المباشرة أو الضرائب على المرتبات أو حتّى الضرائب على شركات وهيئات الدولة، هي ضرائب مؤكد تحصيلها، لأنها تحسم من المنبع مباشرةً ولا يمكن أن تخضع لأي تلاعب أو تهرّب ضريبي.
عبء الديون الثقيل
إنّ الانحياز الذي تظهر ملامحه في إيرادات الموازنة العامّة للعام المالي 2023/ 2024، يبدو أكثر وضوحاً في النفقات.
يوضح البيان التحليلي لمشروع الموازنة العامّة أن الفوائد تشكّل البند الأكبر في النفقات. وفي حين يبلغ حجم النفقات للعام المالي المقبل بنحو 3 تريليون جنيه (2.99 تريليون جنيه)، استحوذت فوائد الديون على نحو 1.12 تريليون جنيه منها، ما يعني أن هذه الفوائد التهمت وحدها نحو 37.5% من إجمالي النفقات. ويلاحظ أيضاً أنها ارتفعت بنسبة 44.5% بالمقارنة مع العام السابق حين بلغت نحو 775 مليار جنيه.
يبلغ إجمالي عبء الدين على الموازنة العامّة نحو 2.44 تريليون جنيه، ويستحوذ على نحو 56% من إجمالي استخدامات الموازنة العامّةمع ذلك، لا يتضمّن هذا البند كل أعباء الديون، إذ يخلو من الجزء الأكبر منها وهو أقساط الديون التي قدِّرت بنحو 1.32 تريليون جنيه بالمقارنة مع 965.5 مليار جنيه في العام السابق، أي بنسبة ارتفاع تصل إلى 36.7%. وبالتالي، يبلغ إجمالي عبء الدين على الموازنة العامّة نحو 2.44 تريليون جنيه، ويستحوذ على نحو 56% من إجمالي استخدامات الموازنة العامّة.
يُعدُّ هذا العبء الهائل للديون على موازنة الدولة النتيجة المباشرة لسياسات الحكومة على مدار السنوات السابقة، والتي اعتمدت على التوسّع في الاستدانة للإنفاق على مشروعات ضخمة غير إنتاجيّة وسدّ الفجوة التمويلية. عدا أنّ سياسة التشديد النقدي التي أدّت إلى رفع معدّلات الفائدة بهدف جذب الاستثمارات في أدوات الدَّيْن، خلقت تشوّهات واضحة في ماليّة الدولة، بحيث أصبح الجانب الأكبر من الموازنة العامّة موجّهاً نحو أعباء الدَّيْن الخارجي والعام.
أمّا البند الثاني في مشروع الموازنة من حيث وزنه في النفقات فهو الاستثمارات، التي قُدِّرت بنحو 587 مليار جنيه، ممّا يشكّل نحو 20% من إجمالي النفقات. ارتفع هذا البند أكثر من ثلاثة أضعاف في خلال السنوات السابقة من أجل تمويل المشروعات الكبرى للدولة، ومعظمها غير منتج، مثل القطار الكهربائي وشبكات الطرق والمحاور الجديدة التي تسهل الوصول إلى العاصمة الإدارية الناشئة.
تقشّف على الفقراء
إذا كانت الديون والفوائد المترتبة عليها والاستثمارات في البنية التحتية والمشاريع غير المنتجة تعبّر عن سياسات الدولة وما تنتجه من أعباء على الموازنة العامّة، فإن بندي الدعم والأجور يُعبران أكثر عن انحيازات الدولة.
يبلغ نصيب الفرد من الدعم أكثر من ألفي جنيه سنوياً بقليل، أي نحو 170 جنيه شهرياً أو 5.5 دولارات أميركية، وهو رقم هزيل قياساً إلى مستويات أسعار السلع الحاليةيُقدّر مبلغ الدعم في مشروع الموازنة العامّة بنحو 529.7 مليار جنيه، وهو ما يمثّل نحو 17.7% من إجمالي النفقات. وفي حين ارتفع قيمة الدعم بنسبة 24% عن موازنة العام المالي السابق، إلّا أن الدعم الأهمّ الموجّه للفقراء شهد انخفاضاً من نحو 130 مليار جنيه في موازنة العام المالي الجاري 2022/2023 إلى 127.7 مليار جنيه في مشروع موازنة العام المقبل.
يعدّ دعم السلع التموينيّة أكثر أشكال الدعم ارتباطاً بالفقراء، وبحسب البيان المالي للموازنة العامّة يبلغ عدد المستفيدين منه نحو 62.2 مليون نسمة. وعلى الرغم من أن الانخفاض في قيمة مخصّصات دعم السلع التموينيّة قد يبدو محدوداً، إلّا أن إضافة أثر التضخّم سوف يجعله أكثر تعبيراً وأكثر تأثيراً على الفقراء. فضلاً عن ذلك، تُعدُّ قيمة الدعم نسبة إلى عدد المستفيدين هزيلة للغاية. عملياً، يبلغ نصيب الفرد من الدعم أكثر من ألفي جنيه سنوياً بقليل، أي نحو 170 جنيه شهرياً أو 5.5 دولارات أميركية، وهو رقم هزيل قياساً إلى مستويات أسعار السلع الحالية.
كرم مع الأغنياء
المفارقة أنّ الحكومة كانت أكثر كرماً في مشروع الموازنة العامّة مع الأغنياء. قفز دعم المصدّرين، الموجّه إلى رجال الأعمال، من 6 مليارات جنيه في العام السابق إلى أكثر من 28 مليار جنيه في مشروع الموازنة. في حين استقر دعم المزارعين عند القيمة نفسها، التي بلغت نحو 544.5 مليون جنيه، على الرغم من الارتفاع الكبير في أسعار مدخلات الزراعة ولا سيّما الأسمدة والوقود، وهو ما ينعكس بدوره على أسعار السلع الزراعية بشكل مباشر.
الزيادة الأكبر في مخصّصات الدعم كانت من نصيب المنتجات البترولية، التي ارتفعت من 58 مليار جنيه إلى 119 مليار جنيه نتيجة طفرة أسعار الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. لا يميّز هذا النوع من الدعم بين الفقراء والأغنياء، إذ يدعم أسعار المنتجات البترولية للمصانع ورجال الأعمال مثلما يدعمها للفقراء. لكن الملاحظ أنّ دعم نقل الركّاب، الذي يستهدف الفقراء مستخدمي المواصلات العامّة مباشرة، بقي ثابتاً عند 1.78 مليار جنيه، ما يعني في الواقع رفع كلفة النقل على الفقراء نتيجة ارتفاع معدّلات التضخم.
تخفيض الأجور الحقيقية
البند الآخر الذي يمثل أهمّية حقيقية للطبقات الفقيرة هو بند الأجور. ففي بلد يقترب فيه عدد العاملين بالحكومة من 6 ملايين عامل وموظّف، يصبح بند الأجور في الموازنة العامّة أداة تحكّم في مستويات معيشة نسبة كبيرة من السكّان. بحسب مشروع الموازنة العامة، تقدّر مخصّصات الأجور بنحو 470 مليار جنيه، أي ما نسبته 15.7% من إجمالي النفقات.
إذا أضفنا الأثر التضخمي الذي قدّرته الموازنة العامة بنسبة 16% سنجد أن الأجور الحقيقية انخفضت بالفعل في مشروع موازنة العام المالي المقبلوالملاحظ أن الأجور في الموازنة العامة للعام السابق بلغت 410 مليار جنيه، أي أنها ارتفعت في مشروع الموازنة بنسبة نحو 14.6%. لكن إذا أضفنا الأثر التضخمي الذي قدّرته الموازنة العامة بنسبة 16% سنجد أن الأجور الحقيقية انخفضت بالفعل في مشروع موازنة العام المالي المقبل، هذا إذا اتفقت معدلات التضخم مع تقديرات الموازنة العامة، لأن الكثير من المؤشرات، وفي مقدمتها سعر الصرف وأسعار الطاقة العالمية ترجّح أن معدّلات التضخّم سوف تتجاوز تقديرات الموازنة.
السياسات نفسها على الرغم من الأزمة
في الحصيلة، هناك أزمة واضحة تعبّر عنها الموازنة العامة في مصر، ففي الوقت الذي تتضخّم فيه أعباء الدَّيْن وتستحوذ على أكثر من نصف استخدامات الموازنة العامة، إلّا أن سياسات الحكومة التي راكمت الديون ورفعت أسعار الفائدة تستمرّ هي نفسها عبر السنوات، وعلى الرغم من الأزمة يستمرّ أيضاً تخصيص ثاني أكبر بند في الموازنة للاستثمارات غير الإنتاجية.
تكشف طريقة معالجة الحكومة للأزمة انحيازاً واضحاً، فالضرائب والدعم والأجور، هي أدوات الحكومة لتوزيع أعباء الأزمة بدرجة من العدالة، بحيث تسهم في تخفيف آثار الأزمة عن الفقراء، ولكن الملاحظ أن الموازنة العامة استخدمت الضرائب والدعم والأجور لتحميل الطبقات الفقيرة العبء الأكبر من الأزمة وتخفيفه عن المستثمرين ورجال الأعمال.
بلغ سعر الصرف الرسمي وفقاً للبنك المركزي 30.9 جنيه للدولار