معاينة e-waste

هاوية أُسيّة

إنڤيديا، آخر شركة في سوق التقنية تبلغ صفوة شركات الرأسمالية السيبرانية. تتخصّص هذه الشركة في صناعة وحدات معالجة الرسوميات، تلك الأدوات التي باتت عصباً لا غنى عنه في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. تأسّست الشركة في العام 1993، ولم يكن لها في الأسماء شريك، إذ استوحت لقبها من جبابرة الميثولوجيا، فكان لها من «إنڨيديا» اسم، وهي في المأثور اللاتيني تقابل «نيميسيس» عند اليونان، إلهة الحسد، وعنها أخذت الشركة «عين الشرّ» الخضراء شعاراً لها. واليوم، تقف بين كبرى شركات الكوكب، ثانية لا أولى، إذ استقرّ سوقها على 3.54 تريليون دولار، تتأخّر عن «آبل» بخطوة، وتسبق «مايكروسوفت» و«أمازون» و«ألفابت». منذ أواخر العام 2022، تضاعفت قيمتها السوقية 10 أضعاف. وفورة الذكاء الاصطناعي اليوم ليست إلّا آخر ما أتت به الأمولة المستفحلة، وكانت قد ابتدأت قبل 50 عاماً، يوم أخذت السيبرانية بمقاليد الرأسمالية العالمية، ثمّ تعاظم شأنها مع ما كان من تيسيرٍ كمّي في أعقاب الأزمة المالية.

قضت إنڨيديا جلّ أعوامها الـ32 تصنع وحدات معالجة الرسوميات للحواسيب المخصّصة للألعاب. ولما جاءت فورة الذكاء الاصطناعي، قلبت لها صناعتها، فصار لها بدل كثرة الزبائن قلّة، لكنها قلّة من العمالقة

قضت إنڨيديا جلّ أعوامها الـ32 تصنع وحدات معالجة الرسوميات للحواسيب المخصّصة للألعاب. ولما جاءت فورة الذكاء الاصطناعي، قلبت لها صناعتها، فصار لها بدل كثرة الزبائن قلّة، لكنها قلّة من العمالقة. وفي آخر بيان تنظيمي ربع سنوي، ذكرت الشركة: «شهدنا فترات استأثر فيها عدد محدود من الزبائن بجزء كبير من إيراداتنا، وقد يستمر هذا الاتجاه.» لكن قولها السابق غلب عليه التواضع، فقد جاء في البيان عينه أن 4 شركات فحسب - لم تصرّح باسمها - تستأثر بنصف إيراداتها تقريباً. وأغلب الظن أن هذه الأربعة ليست سوى العمالقة الآخرين في مضمار التقنية، ممن تسابق الزمن لابتلاع أضخم حصة من وحدات إنڨيديا، تكدّسها في مراكز بيانات مترامية، وتُشبَك الآلاف منها في منظومات جبّارة، تدفع بعجلة البحوث الذكية إلى آفاق أبعد. وقد باعت الشركة سلفاً كامل دفعة معالجات بلاكويل، الجيل القادم من معالجات إنڨيديا المرتقب إطلاقها في العام 2025، ولمّا ترَ الأسواق بعد. ثمن الواحدة منها يقارب 40 ألف دولار. تعتمد إنڨيديا في ريادتها، شأنها في ذلك شأن عمالقة التقنية، على الحفاظ على قصب السبق في العلوم التقنية، وتستمد قوّتها من تصدّرها البحث والتطوير في السيبرانيات. وقد رفعت ميزانية البحث والتطوير في العام 2024 قرابة النصف.

ومَن أراد تشريح الرأسمالية السيبرانية في أحدث أطوارها له أن يتأمّل مصير وحدات معالجة الرسوميات التي جلبت لإنڨيديا ثروة طائلة. هذه الأجهزة عماد الحسابات التي تُمكّن الذكاء الاصطناعي من طيّ نماذج البروتينات، وإزاحة كلفة العمالة البشرية بالأتمتة، وإعداد قوائم الاغتيال لمساعدة الصهاينة على ارتكاب الإبادة، وانتحال المقالات، والمضاربة المالية، وصنع محاكاة زائفة للطغاة الراحلين، وسائر عجائب الذكاء الاصطناعي. ثمّ لا تلبث هذه الآلات أن تسقط ضحية تقادمها المبرمج سلفاً، فتتحقّق غايتها الأخيرة في هيئة نفايات إلكترونية سامّة. وهذا هو الوجه القاتم لـ«قانون مور»، القاضي بأن عدد الترانزستورات القابلة للرصّ في رقاقة إلكترونية يتضاعف كل عامين تقريباً. تتعاظم القدرة الحاسوبية أسياً، وكذلك تتعاظم النفايات. بحسب معهد الأمم المتّحدة للتدريب والبحوث، أنتج العالم نحو 62 مليون طن من النفايات الإلكترونية في العام 2022، وهو ضعف ما أُنتج في العام 2010. وهذه الكتلة الهائلة بحسب التقرير الأخير للمعهد تعادل وزن 107 آلاف طائرة ركاب من أضخم الطائرات (853 مقعداً) وأثقلها (575 طناً)، أي ما يكفي لمدّ صفّ متّصل من نيويورك إلى أثينا، ومن نيروبي إلى هانوي، ومن هونغ كونغ إلى أنكوريج.

أنتج العالم نحو 62 مليون طن من النفايات الإلكترونية في العام 2022، وهو ضعف ما أُنتج في العام 2010. وهذه الكتلة الهائلة بحسب التقرير الأخير للمعهد تعادل وزن 107 آلاف طائرة ركاب من أضخم الطائرات

ووحدة معالجة الرسوميات هذه، شأنها شأن سائر الآلات الحاسوبية، يستعصي الوقوف على تركيبها المادي الدقيق، إذ يلفّه الغموض بفعل تداخل سلاسل التوريد، وقوانين الملكية الفكرية، وما يكتنف العلوم التقنية من «انغلاق». لكن يكفي القول إنّ هذه الوحدات مزيج معقّد من المركّبات الكيميائية، تضمّ معادن أرضية نادرة (مثل التنتالوم والبلاديوم والبورون والكوبالت والتنغستن والهافنيوم) إلى جانب معادن ثقيلة (مثل الرصاص والكروم والكادميوم والزئبق)، فضلاً عن اللدائن المتقدمة (مثل أكريلونيتريل-بوتادين-ستايرين وميثاكريلات البولي ميثيل) ومركّبات صناعية (مثل تترابروم بيسفينول-أ وتترافلورو سيكلوهيكسان). ولنعطيك فكرة تقارب بها هذا التعقيد، لك أن تعلم أن جسم الإنسان يتألّف من قرابة 30 عنصراً من أصل 118 في الجدول الدوري، وفي المقابل يحتوي هاتف «آيفون» على 75 عنصراً. كلّ هذه المواد الخام تُستخرَج من باطن الأرض، ثم تُكرّر ويُعاد تركيبها وتجري عليها عمليات تصنيع معقّدة، مخلّفة نفايات سامّة لا حصر لها، هذا ولم نتكلّم بعد عمّا تُلحقه بصحّة العمّال على امتداد سلاسل التوريد. ويعمل هذا الجهاز الهائل للرأسمالية السيبرانية في غياب شبه تام لأي مراعاة للصالح العام أو القواعد التنظيمية البيئية.

في الآونة الأخيرة، بدأ أحد أوجه هذا الهدر الهائل الذي تفرزه الرأسمالية السيبرانية يسترعي انتباه الدوائر العامة، ألا وهو ما تلتهمه هذه الآلات المتشابكة من طاقة كهربائية. تذكر الوكالة الدولية للطاقة أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء مرشّح للتضاعف بين عامي 2022 و2026، ليصل إلى نحو 1,000 تيراواط/ساعة، أي ما يعادل استهلاك بلد بحجم ألمانيا. وبالنظر إلى مجموع هذه المراكز، فإنّ استنزافها للطاقة يفوق ما تستهلكه أي دولة في العالم باستثناء الصين والولايات المتحدة والهند. غير أن مراكز البيانات ليست إلا جزءاً من المنظومة الكوكبية لهذه الآلات المتشابكة، وقوامها اليوم قرابة 30 مليار جهاز متصل بالإنترنت. زِد على هذا أن هذه الأرقام لا تحصي الطاقة المهدورة في استخراج المواد الخام وتكريرها لصنع هذه الآلات نفسها، فضلاً عن «الآثار الجانبية» السامّة التي لا تجد سبيلاً إلى الحسبة.

إنّ التلوث البيئي يتسبّب بالفعل في وفاة واحدة من كل ست وفيات مبكرة، وهي نسبة مرشّحة للارتفاع مع زيادة إنتاج هذه السموم وتراكمها

وإذ عزّزت السيبرانية قدرة الرأسمالية الصناعية، فقد خلّفت في أثرها كمّيات هائلة من النفايات السامّة، تتسرّب عبر سلاسل التوريد وتتراكم في السلاسل الغذائية. ومن أشهر الأمثلة على ذلك المركّبات المعروفة بـ«المواد الكيميائية الخالدة»، وهي مجموعة تضمّ نحو 15 ألف مركّب فلوري عضوي مصنّع لا تتحلّل طبيعياً. ظهرت هذه السموم للمرة الأولى في الخمسينيات، وهي اليوم حاضرة في جميع الآلات الحاسوبية، إلى جانب عدد لا يحصى من المنتجات المنزلية، حتى باتت تُرصد بانتظام في أجساد البشر، بل إن تراكمها يبدأ منذ تكوّن الجنين في الرحم. وقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بارتفاع احتمالات الإصابة بالسرطان، وتراجع عدد الحيوانات المنوية، والتهابات الأمعاء، والاختلالات الإدراكية، والتشوّهات الخلقية، وأمراض الكلى والغدة الدرقية والكبد. وبحسب لجنة لانست المعنية بالتلوث والصحة، فإنّ التلوث البيئي يتسبّب بالفعل في وفاة واحدة من كل ست وفيات مبكرة، وهي نسبة مرشّحة للارتفاع مع زيادة إنتاج هذه السموم وتراكمها.

لم تقتصر آفة التلوّث الكيميائي على البشر، بل امتدّت لتفتك بالكائنات الأخرى، فطالت بآثارها النظم والعلاقات والعمليات البيئية، أو قل باختصار الحياة برمّتها. وفي الحقيقة، يُعدّ الإنتاج الهائل لهذه المركّبات المصنّعة من أبرز معالم الحقبة الجديدة التي دُشّنت بأوّل تفجيرات نووية في العام 1945، عند فجر الأنثروبوسين المبهر حدّ العمى. في العام 2019، بلغت قيمة المبيعات العالمية للكيماويات الصناعية (باستثناء الأدوية) زهاء 4.363 تريليون دولار. وأمّا حجم الانبعاثات الكيميائية من الصناعة فهو مذهل بحق، إذ تبلغ بأقل تقدير 220 مليار طن سنوياً، لا تشكّل منها الغازات الدفيئة سوى 20% فحسب.

المفاجأة الكبرى أنّ الاهتمام بتداعيات هذا التلوّث يكاد يكون معدوماً. على سبيل المثال، من بين نحو 23 ألف مادة كيميائية سُجّلت في العام 2020 على أساس لائحة الاتحاد الأوروبي التنظيمية الرائدة عالمياً، «تسجيل وتقييم وتفويض وتقييد المواد الكيميائية» (REACH)، لم يخضع نحو 80% منها لتقييمات سلامة، دع عنك أكثر من 300 ألف مادة كيميائية صناعية قيد الإنتاج عالمياً لا ترد في هذه القائمة. بل إنّ تقييمات السلامة تُعرَّف تعريفات ضيّقة تستثني معها آثار الخلائط والتشابكات البيئية. وقد خلُصت دراسة شاملة إلى أنّ التلوّث الكيميائي «يمثل خطراً كارثيّاً مُحتملاً على مستقبل الإنسان، ويستحق تدقيقاً علمياً عالمياً يضاهي في حجمه وضرورته ما يُخصّص لمكافحة تغيّر المناخ».

كان العام 2020 العام الذي فاقت فيه كتلة ما صنعه الإنسان 1.1 تيراطن، فبلغت بذلك أكثر من الكتلة الحيوية على الأرض. وبمعنى آخر، ما أوجده الإنسان اليوم أثقل من شبكة الحياة كلها

الحال أنّه من الصعب استيعاب حجم النفايات السيبرانية. فقد أظهرت دراسة متعمقة أنّ في مطلع القرن العشرين كان وزن ما ينتجه البشر من أشياء (من الخرسانة والطوب والأسفلت والمعادن والبلاستيك ونحوها) يساوي نحو 3% من الكتلة «الحيوية الكونية»، وهي مجموع وزن شبكة الحياة: من نبات وحيوان وبكتيريا وفطريات وأركيا وكائنات أخرى. وبيّنت الدراسة أن كتلة هذه المواد التي يخلقها الإنسان كانت تتضاعف كل عشرين عاماً طوال القرن الماضي. وبذلك، كان العام 2020 العام الذي فاقت فيه كتلة ما صنعه الإنسان 1.1 تيراطن، فبلغت بذلك أكثر من الكتلة الحيوية على الأرض. وبمعنى آخر، ما أوجده الإنسان اليوم أثقل من شبكة الحياة كلها. أما وزن مملكة الحيوان بكل ما فيها من أبقار وشُعب مرجانية وقريدس، ومن الناس والحمام إلى الخنافس بأنواعها البالغة 350 ألفاً، فيساوي نحو 0.5% من الكتلة الحيوية للأرض، أي نحو 4 غيغاطن من الحياة. وفي العام 2020، أنتج البشر من اللدائن وحدها 8 غيغاطن، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول العام 2040.

تخبرنا المنحنيات الأسّيّة من هذا القبيل عما ينزل من الخراب على الطبيعة المحدودة. لكن قلّما يتصدّى اليسار الراديكالي بتحليلٍ شامل يجيب به عن سؤال لانغدون وينر البالغ الأهمية: «أين وكيف بدأت الابتكارات في العلم والتكنولوجيا تغيّر شروط الحياة نفسها؟» ويقع الكثير من المعلقين الراديكاليين في فخّ الوهم القائل بأنّ آلات الحوسبة لا ثقل لها على العالم. وتكشف لنا بعض العناوين الأخيرة في مجلة جاكوبن (منها: «مشكلة الذكاء الاصطناعي هي السلطة لا التكنولوجيا»، و«المشكلة مع الذكاء الاصطناعي هي مشكلة مع الرأسمالية»، و«الأتمتة قد تُحرّرنا إذا لم نكن نعيش في ظلّ الرأسمالية») عن تصوّر «أداتي» للتكنولوجيا يرى أنّ الآلات المتقدّمة للرأسمالية السيبرانية ليست مسألة إشكالية، ويقتصر في نقده على انتقاد سيطرة الرؤساء عليها. ويقترح كثر من اليسار، ضمناً أو صراحة، أنّ الحل في «السيطرة الجماعية على المنصّات»: تخلّصوا من الرؤساء، تخلّصوا من المشكلة. غير أن هذا قد يفضي إلى «تبييض» الجهاز الملوّث للرأسمالية السيبرانية على يد العمّال، والتصوّر بأن إزاحة الرئيس التنفيذي لشركة إنڨيديا وتعيين مجلس عمّالي محله، على سبيل المثال، كافٍ لتحقيق مستقبل اشتراكي مستدام.

يقترح كثر من اليسار، ضمناً أو صراحة، أنّ الحل في «السيطرة الجماعية على المنصّات»: تخلّصوا من الرؤساء، تخلّصوا من المشكلة. غير أن هذا قد يفضي إلى «تبييض» الجهاز الملوّث للرأسمالية السيبرانية على يد العمّال

نحن بحاجة، بلا شك، إلى مجالس عمّالية، بل إلى الكثير منها في أرجاء المجتمع كلّه. ولعلّنا لن نرغب أيضاً في التخلّي عن بعض الآلات الحاسوبية القويّة والمواد الكيميائية الصناعية التي أنتجتها الرأسمالية السيبرانية. لكن ينبغي لنا أن نتأمّل موقعها في عالم يمكن فيه للناس أن يعيشوا حياةً مزدهرة ذات معنى في حدود الممكن بيئياً. فالتوسّع الأسي للتقنيات السيبرانية، وما أفرزته من تجريدات استلبتنا، بمثابة كارثة مُحقّقة. وبات لزاماً علينا – وليس رفاهية – أن نطوّر بأسرع ما يمكن نقداً مادياً لهذه التكنولوجيا، لا بغرض إصلاحها فحسب، بل سعياً إلى إرساء سياسة مختلفة جذرياً، ورؤية أرحب تتجاوز علاقات السلطة والملكية إلى التدفّقات المادية للرأسمالية السيبرانية وما أحدثته من تحوّل في شروط الحياة نفسها. وإزاء جسامة الأزمة، هذا أضعف الإيمان.

نُشِر هذا المقال في NewLeftReview - Sidecar في 18 كانون الثاني/يناير 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.