الإكراه على العمل في ظل «الاقتصادات الحرة»
27.6 مليون إنسان في العالم يجري استغلالهم في العمل الجبري
يُقال إنه في ظل الاقتصاد الحر، يأتي إلى السوق دائماً بائع حر وواعٍ من جهة، وشارٍ حر وواعٍ من جهة أخرى، ويتبادلان ما بينهما برضى تام، بعقد طوعي متفق عليه من دون إكراه أو تهديد. ووفق هذه النظرية، يتميّز النظام الرأسمالي عن الأنظمة التي سبقته بأن العامل/ة فرد حر يبيع قوّة عمله إلى الرأسمالي بملء إرادته، في مقابل أجر، ومن دون إجبار من أحد أو تهديد بعقاب. ومن جهته، يشتري الرأسمالي عمل العامل بشكل طوعي أيضاً لاستخراج المزيد من الأرباح.
يجري تقديم هذه الفكرة الخيالية كانتصار أخلاقي، حيث ينام الرأسمالي والعامل كل يوم هانئين بعلمهما أن كلّ ما حقّقاه في عالم الأعمال قد حدث بالتراضي من دون إجبار، ومن دون إكراه، ومن دون تهديد. هذا في المخيّلة، ماذا عن الواقع الحقيقي؟
عودة إلى الواقع
في العام 2021، كان هناك 27.6 مليون شخص يعملون بشكل جبري حول العالم، أي أنه في عصرنا الحالي يوجد 3.5 شخص من كل ألف شخص يعملون في ظروف قريبة من العبودية أو السخرة، وفق ما كشف عنه تقرير لمنظمة العمل الدولية بعنوان «الأرباح والفقر، اقتصاد العمل الجبري».
يقدّر هذا التقرير قيمة الأرباح (أو فائض القيمة) التي يستخرجها الرأسماليين من استغلال العمّال والعاملات في العمل الجبري بنحو 236 مليار دولار، وهو رقم أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لغالبية دول العالم. وعلى سبيل المقارنة، يساوي هذا الرقم 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لبلد مثل لبنان.
يأتي تقرير منظّمة العمل الدولية في مناسبة مرور 100 عام تقريباً على اتفاقية العمل الجبري لمنظّمة العمل الدولية، الموقّعة في العام 1930، والتي تتعهد فيها الدول الأعضاء بـ«قمع استخدام العمل الجبري أو الجبري بجميع أشكاله في أقصر فترة ممكنة»، ولكن نظرة معمّقة إلى شكل العمل ونوعيته وظروفه في ظل «الاقتصاد الحر» تبيّن أن العمل الجبري ما زال يُمارس بكثافة في العالم، في اقتصادات الشمال كما في اقتصادات الجنوب على حدّ سواء.
اتجاه صاعد
قد يخال البعض أن المسألة ما هي إلا مسألة وقت حتّى تصفّر هذه الأرقام، كونها ليست أكثر من رواسب عبودية سالفة أو استغلال تميّزت به أماكن العمل في القرنين السابقين قبل فرض المكتسبات العمّالية على الشركات والدول في القرن الماضي. إلا أن تطوّر الأرقام يشير الى عكس ذلك. بين عامي 2016 و2021، ارتفع عدد الأشخاص الذين يجري استغلالهم في العمل الجبري بمقدار 2.7 مليون شخص. وهذا الارتفاع ليس محصوراً بالقيمة المطلقة بل بالنسبة من عدد السكان كذلك. فقد ارتفع معدل انتشار العمل الجبري من 3.4 إلى 3.5 من كل ألف شخص في العالم، علماً أن الأرباح من استغلال العمّال والعاملات في العمل الجبري ارتفعت أيضاً بنحو 64 مليار دولار أميركي بالمقارنة مع التقديرات السابقة المنشورة في العام 2014 (المعدلة حسب التضخّم)، هذا من دون أن تشمل الأرقام الأرباح المتأتية من العمل الجبري الذي تفرضه الدول. وارتفعت الأرباح السنوية التي تُنتج من كل ضحية من 8,269 دولار أميركي في العام 2014 (معدلة لمراعاة التضخم) إلى 9,995 دولار أميركي في العام 2021.
القطاع الخاص رائد الاستغلال
لا تحدث معظم حالات العمل الجبري في سجون أو معسكرات اعتقال تديرها أنظمة سلطوية في مخفى عن أعين شرطة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، بل أكثر حالات العمل الجبري تفرضها كيانات خاصة، إذ أن 9 تقريباً من كلّ 10 ضحايا في العمل الجبري، أو ما نسبته 86% من الضحايا، يجري استغلالهم من القطاع الخاص، 27% منهم في الاستغلال الجنسي لأغراض تجارية، علماً أن العمل الجبري يمسّ جميع قطاعات الاقتصاد الخاص تقريباً، حيث تمثّل الصناعة والخدمات والزراعة والعمل المنزلي 89% من حالات العمل الجبري المعروفة.
يُنتج من استغلال العمل الجبري في قطاع الصناعة أرباحاً إجمالية سنوية تبلغ 35.4 مليار دولار أميركي، بمعدّل 4,944 دولاراً من كل ضحية في العمل الجبري في الصناعة. تليها الأرباح المستلبة في قطاع الخدمات (20.9 مليار دولار أميركي) بمعدّل 3,407 دولار أميركي من كل عامل/ة مُستغل، ومن ثم الأرباح من الزراعة (5.0 مليار دولار بمعدّل 2,113 دولار من كلّ شخص) وأخيراً العمل في الخدمة المنزلية (2.6 مليار دولار بمعدّل 1,507 دولارات من كل شخص)، وتشكل القطاعات الأخرى حصصاً أقل، علماً أنها تضم مئات الآلاف من الأشخاص، من ضمنهم الأشخاص الذين أُجبروا على التسول في الشوارع وممارسة أنشطة غير مشروعة.
قضية نسوية أساسية
يقدّر عدد الأشخاص الذين كانوا في حالة استغلال جنسي قسري لغرض تجاري في يوم من أيام العام 2021 بنحو 6.3 مليون شخص، علماً أن 4 من كل 5 أشخاص تقريباً هم فتيات ونساء، ويمثل الأطفال واحداً من كل 4 حالات. وعلى الرغم من أن الاستغلال الجنسي التجاري الجبري يمثل 27% فقط من جميع الأشخاص في العمل الجبري المفروض من القطاع الخاص، إلا أنه يمثل كذلك 73% من إجمالي الأرباح غير المشروعة من العمل الجبري. من أصل 236 مليار دولار من الأرباح الناتجة عن استغلال العمل الجبري، تم تحقيق ما يقرب من 173 مليار دولار من الاستغلال الجنسي التجاري الجبري.
أزمة على مستوى العالم
من جهة أخرى، واستباقاً لحجج متعلّقة بتفاوت رسوخ حقوق الإنسان أو التنمية البشرية بين مناطق الكوكب، فإنه لا توجد منطقة في العالم بمنأى عن العمل الجبري، حيث تستضيف آسيا والمحيط الهادئ أكثر من نصف المجموع العالمي (15.1 مليون شخص)، تليها أوروبا وآسيا الوسطى (4.1 مليون شخص)، ثم أفريقيا (3.8 مليون شخص)، والأميركيتين (3.6 مليون شخص)، والدول العربية (0.9 مليون شخص)، ولكن هذا الترتيب الإقليمي يتغيّر بشكل كبير عندما يتم التعبير عن العمل الجبري كنسبة من إجمالي السكان. بهذا المقياس، تكون نسبة العمل الجبري هي الأعلى في الدول العربية (5.3 من كل ألف شخص)، تليها أوروبا وآسيا الوسطى (4.4 من كل ألف شخص)، ثم الأميركيتين وآسيا والمحيط الهادئ (بنسبة 3.5 من كل ألف شخص). وتأتي أفريقيا في المرتبة الأخيرة (2.9 من كل ألف شخص) على الرغم من تاريخ هذه القارة الأشد قتامة على صعيد الاستعباد والاستعمار.
يبلغ إجمالي الأرباح غير المشروعة من العمل الجبري أعلى مستوياته في أوروبا وآسيا الوسطى (84.2 مليار دولار أميركي)، ثم آسيا والمحيط الهادئ (62.4 مليار دولار)، ثم الأميركيتين (52.1 مليار دولار)، ثم أفريقيا (19.8 مليار دولار)، وأخيراً الدول العربية (18.0 مليار دولار)
ما هو العمل الجبري؟
تنص اتفاقية العمل الجبري لمنظمة العمل الدولية لعام 1930 (رقم 29)، المادة 2، على أن العمل الجبري هو كل عمل أو خدمة تُغتصب من أي شخص تحت التهديد بعقوبة ما، مع عدم تطوع هذا الشخص بأدائها بمحض اختياره.
أما لأغراض القياس والإحصاء، فيُعرّف العمل الجبري بحسب تقرير المنظمة، بأنه العمل غير الطوعي تحت طائلة العقوبة أو التهديد بالعقوبة (الإكراه)، ويشير العمل غير الطوعي إلى أي عمل يتم القيام به من دون موافقة العامل الحرة وعلمه المسبق، ويشير الإكراه إلى الوسائل المستخدمة لإجبار شخص ما على العمل من دون موافقته الحرة وعلمه المسبق، لكن ما هو هذا الإكراه الذي يجبر فيه العمّال أن يعملوا ضد إرادتهم؟
بحسب تقرير منظمة العمل الدولية، يُعد الاحتجاز المنهجي والمتعمّد للأجور أكثر أشكال الإكراه شيوعاً (36%)، حيث يستخدمه أصحاب العمل المتعسفون لإجبار العمال على البقاء في العمل خوفاً من فقدان الدخل الذي راكموه سابقاً، ويلي ذلك إساءة استغلال حالة الضعف من خلال التهديد بالفصل من العمل، وهو ما تعرّض له واحد من كل 5 من العاملين بشكل قسري، أما أشكال الإكراه الأكثر حدة، بما في ذلك الحبس الجبري والعنف الجسدي والجنسي والحرمان من الاحتياجات الأساسية، فهي أقل شيوعاً ولكنها ليست قليلة الحدوث.
هل هذه هي أشكال الإكراه الوحيدة؟ مثلاً، هل يعد الابتزاز المادي الذي تمارسه الشركات تجاه العمال عند الاوضاع الاقتصادية الصعبة إكراهاً؟ لعل إعادة التأمل في مصطلح «الإكراه» ومدى سعته الواقعية هو الطريق لإعطاء إشكالية العمل الجبري عمقاً حقيقياً، بالذات في الإجابة على السؤال التالي «هل من الممكن قيام سوق عمل من دون إكراه؟»، ونحن نعلم تمام العلم بتفاوت قدرات البائعين والشارين المستعدين لاستخدام كل الأساليب التي في جعبتهم لتحقيق وضعية أفضل عند إبرام «العقود الطوعية».