تدمير الاقتصاد كفعل إبادة أيضاً
إن حرب الإبادة الجماعية المستمرّة منذ ستة أشهر على قطاع غزّة، والإجراءات التقييدية التي تتّخذها دولة الاحتلال في الضفّة الغربية، تتركان آثاراً خطيرة على الفلسطينيين والفلسطينيات واقتصادهم لعقود مقبلة، وتسهّل بالتالي تحويل الأراضي الفلسطينية إلى مكان غير صالح للعيش. فهي أدّت حتى الآن إلى فقدان نحو 507 آلاف وظيفة تدرّ دخلاً يومياً بقيمة 25.5 مليون دولار. ومن المتوقّع أن تلقي بآثارها على سوق العمل في المستقبل، إذ يقدّر أن ترتفع البطالة إلى 45.5% في العام 2024، وأن تتراجع نسبة المشاركة في القوى العاملة بسبب التدمير المنهجي لكل القطاعات الاقتصادية. وهذه خسائر يصعب تعويضها في ظل استمرار الاحتلال.
تدمير ممنهج للقطاعات الاقتصادية كافة
بحسب منظّمة العمل الدولية، قدّر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني انكماش الناتج المحلي الإجمالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزّة) بنسبة 25% في الربع الرابع من العام 2023. ويأتي هذا الانكماش الحادّ مدفوعاً بتدهور اقتصاد غزة بنسبة 80% نتيجة الحرب، واقتصاد الضفة الغربية بنسبة 22% نتيجة القيود التي تفرضها دولة الاحتلال. وتتوقّع منظّمة العمل الدولية أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 10% إضافية في خلال العام 2024 في حال استمرّت الحرب حتّى نهاية آذار/مارس الحالي، على أن يتراجع الاقتصاد المحلّي بنسبة 15% في حال استمرّت الحرب حتى منتصف السنة.
يعود تدهور الناتج المحلي الإجمالي إلى انكماش القيمة المضافة في جميع القطاعات الاقتصادية في كلّ من الضفّة الغربية وقطاع غزة، مع ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على مستويات المعيشية والتوظيف والدخل، التي قد تصعّب حياة الفلسطينيين والفلسطينيات أكثر.
يعدّ قطاع البناء المتضرّر الأكبر، فقد تراجعت القيمة المضافة التي ينتجها بنسبة 27% في الضفة الغربية وبنحو 96% في قطاع غزّة في خلال الربع الرابع من العام الماضي، بالمقارنة مع ما كان عليه في خلال الفترة نفسها من العام 2022. علماً أن التراجع ينسحب بالقدر نفسه على قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات.
25 عاماً إلى الوراء...
لا شك أن التعامل مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبشر بمنطق المؤشّرات والمتوسّطات يعزّز الأوهام التي تخلقها الإحصاءات نظراً للتفاوتات الطبقية والمعيشية القائمة داخل أي مجتمع. لكن ذلك لا ينفي أن التدهور المسجّل في الناتج المحلي الإجمالي، أي في حجم الاقتصاد، لا ينعكس على تدهور حصّص الأفراد منه. ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، سوف يؤدّي انكماش الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 10% في العام 2024، إلى انخفاض دخل الفرد بنسبة 12% ذلك في حال استمرّت الحرب حتّى نهاية الشهر الحالي. أما في حال استمرّت حتى نهاية حزيران/يونيو المقبل، فسوف تتراجع حصّة الفرد من الناتج المحلي بنسبة 17%، وهو يعني تراجعاً إلى ما دون المستوى الذي كان عليه في العام 1998.
تدمير فرص العمل وسبل العيش
إن الدمار الذي لحق بقطاع غزة ومنشآته الاقتصادية، وتعطيل الحياة الاقتصادية في الضفّة الغربية، أدّيا إلى خسائر كبيرة في فرص العمل وسبل العيش. وبحسب منظمة العمل الدولية، خسرت الضفة الغربية وقطاع غزّة نحو 507 آلاف وظيفة بحلول كانون الثاني/يناير 2024. لكن تأكل دخل الفلسطينيين والفلسطينيات يمتدّ إلى ما هو أبعد من فقدان الوظيفة المباشر، ويشمل الاقتطاع من رواتبهم. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، حصل العاملون والعاملات في القطاع العام على 60% من رواتبهم بسبب حجب دولة الاحتلال جزء من حقوق السلطة الفلسطينية من عوائد الضرائب. وحتى نهاية شباط/فبراير الماضي، وصل إجمالي مستحقات موظّفي وموظفات القطاع العام غير المدفوعة إلى 151.1 مليون دولار. أما في القطاع الخاص، فقد تراجع دخل العاملين ما بين 20% إلى 40%. وهو ما يترجم في الحصيلة بفقدان 25.5 مليون دولار من دخل العمل اليومي نتيجة دفع جزء من الرواتب في القطاعين العام والخاص والفقدان الكامل للوظيفة.
وبتفصيل أكبر، خسرت العمالة الفلسطينية في الضفّة الغربية نحو 306 آلاف وظيفة حتى كانون الثاني/يناير الماضي. في الواقع، توقّفت العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كامل منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهي تقدّر بنحو 171 ألف وظيفة. وفي كانون الثاني/يناير 2024، تفيد التقارير إلى عمل 10 آلاف فلسطيني فقط من الضفة الغربية في الاقتصاد الإسرائيلي. أيضاً خسر القطاع الخاص في الضفة الغربية نحو 25% من عمالته، أي ما يعادل 144 ألف وظيفة، بسبب القيود التي تفرضها دولة الاحتلال على التنقل وتأثيرها على وصول العمّال إلى أماكن عملهم، وكذلك تأثيرها على سلاسل التوريد.
أما قطاع غزّة، فقد فقد نحو 201 ألف وظيفة. انخفضت العمالة في القطاع الخاص في قطاع غزّة بنسبة 90% بسبب الانخفاض المستمرّ في القدرة الإنتاجية بحكم الدمار الذي تسبّبت به الحرب. كما انخفضت العمالة في القطاع العام بنسبة 15%، فيما خسرت العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي كل الفرص التي كانت متاحة لها قبل اندلاع الحرب والتي تبلغ نحو 20 ألف وظيفة.
تقويض فرص المستقبل
لا يبدو أن الآثار المترتبة على التوظيف والعمالة بسبب الحرب الحالية سوف تنتهي لحظة انتهائها، بل سوف تترسّخ بشكل بنيوي في الاقتصاد الفلسطيني طالما بقي خاضعاً للاحتلال.
في حال استمرّت الحرب حتى نهاية حزيران/يونيو، تتوقّع منظّمة العمل الدولية أن تنخفض مشاركة الرجال في القوى العاملة بنسبة 3.6% في خلال العام 2024 بالمقارنة مع ما كانت عليه في العام 2023، وأن تنخفض نسبة مشاركة النساء بنسبة 1.2%. علماً أن تغيير هذا الاتجاه يتطلّب سنوات عدّة بحسب معدّي التقرير. على سبيل المثال، استغرق الأمر أكثر من 30 عاماً حتى تنمو مشاركة الإناث في القوى العاملة من 11% في أوائل التسعينيات إلى 19% في العام 2023.
أيضاً، من المتوقّع أن يرتفع معدل البطالة بنحو 12% في حال استمرّت الحرب حتى نهاية الشهر الحالي، وبالتالي سوف تعطّل ما لا يقل عن 600 ألف شخص عن العمل. أما في حال استمرّت الحرب حتى نهاية حزيران/يونيو، فقد يرتفع معدّل البطالة بنسبة 15%، وهو ما سوف يرتّب تعطّل ما لا يقل عن 650 ألف شخص عن العمل.
ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع معدلات البطالة إلى ممارسة ضغوط هبوطية على الأجور اليومية، التي يتوقع أن تنخفض بنسبة 7% في ظل السيناريو الأول وبنسبة 9% في ظل السيناريو الثاني.
تغيير بنية الاقتصاد
إن التأثيرات الناجمة عن الحرب تطال أيضاً بنية الاقتصاد نفسه. من المتوقّع أن ينخفض معدّل التوظيف في القطاع الصناعي بشكل كبير، وأن يكون التأثير أكبر كلّما طالت الحرب. ويعود هذا الانخفاض إلى الأضرار التي لحقت بوسائل الإنتاج في غزة، وانقطاع سلاسل التوريد وتحدّيات النقل في جميع أنحاء الضفة الغربية نتيجة القيود الإسرائيلية على الحركة.
وفي قطاع الخدمات، من المتوقّع أن ينخفض معدل التوظيف بشكل أكبر في ظل السيناريو الأول (استمرار الحرب حتى نهاية هذا الشهر) مقارنة بالسيناريو الثاني (استمرار الحرب حتى نهاية حزيران/يونيو). ويرجع ذلك إلى أن العمّال الذين يفقدون وظائفهم في قطاعات أخرى من المرجح أن ينتقلوا إلى العمل الحر في قطاع الخدمات، كلما طالت الحرب.
في المقابل، من المتوقع أن يرتفع معدل التوظيف في القطاع الزراعي في العام 2024 مقارنة بالعام 2023، إذا انتهت الحرب بنهاية آذار/مارس 2024. لكنه سينخفض إذا امتدّت الأعمال العدائية إلى حزيران/يونيو 2024. ويعود ذلك إلى قدرة القطاع على تأمين الغذاء في ظل الحرب والحصار، ولكن لا ينظر إليه كمصدر للعمالة طويلة الأجل.
أما بالنسبة للعاملين في قطاع البناء، فمن المتوقّع أن يتعرّضوا لفقدان وظائفهم بشكل أكبر كلّما طال أمد الحرب.